أعلن الوزير الأول ارييل شارون، الذي يحتل واجهة الأحداث بسبب مشرعه الرامي إلى فك الارتباط مع غزة في متم السنة الجارية، انه يعتبر إن اقتصار مشروعه هذا لفك الارتباط مع غزة وحدها، دون مصاحبته بانسحاب من الضفة الغربية، راجع إلى «المعارضة المتزايدة للمشروع في صفوف وزراء الليكود».
ليس لهذا الموضوع طبعا أي علاقة مع المعارضة داخل حزب الليكود. آخذ يعلم شارون انه يمكنه الاستمرار كوزير أول، حيث أن حزب العمال سوف يكون مسرورا للدخول في حكومة ائتلافية معه ومع أنصاره. وكما صرح وزير الخارجية شالوم سيلفان لإذاعة الجيش يوم الخميس الماضي، «إذا ما صوتت الحكومة لصالح المشروع، فان الوزراء التابعيين للحزب القومي الديني والاتحاد الوطني سوف يقدمون استقالتهم (من الائتلاف)، وسوف يؤدي هذا إلى حدوث احتمالين: أما التحاق حزب العمال (بالائتلاف)، أو تنظيم انتخابات جديدة».
سوف يكون شارون ومعه العديد من الأعضاء داخل دوائر الحكم، مسرورين لمغادرة غزة، تلك الرقعة الصغيرة والشديدة الفقر والتي تعتبر اشد مناطق العالم اكتضاضا. كل ما يشغله هو أن المعارضة، بما فيها حماس قوية جدا في غزة، سوف تتحكم في المنطقة بمجرد أن تغادرها إسرائيل.
وحسب مسودة للمشروع نشرت مؤخرا في صحيفة معاريف بوم الخميس، فان إسرائيل يمكن أن تظل داخل ثلاثة مستوطنات شمال قطاع غزة وفي جميع الحالات سوف ترابط في الممر الموسع المدعو “طريق فيلادلفيا” بين غزة ومصر. من جهة أخرى يريد شارون الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة بمستوطنات ارييل Ariel ومعالييه ادوميم Ma’aleh Adumim وغوش اتزيون Gush Etzion، التي تريد إسرائيل ضمها.
هكذا، نجد أن مشكلة شارون ليست في المعارضة داخل حزب الليكود، أو الحزب القومي الديني، أو الاتحاد الوطني، بل في البيت الأبيض الذي يبدي قلقه من آن يؤدي ضم هذه المستوطنات إلى خلق اضطرابات متزايدة في المنطقة، خاصة في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة، على زيادة ضغوطها على سوريا، لتسريع عملية خوصصة اقتصادها الذي لا يزال مؤمما.
ولقد صرح نائب مساعد وزير الدولة المكلف بالشرق الأوسط، دافيد ساترفيلد David Satterfield، يوم الخميس (11 مارس)، إن الولايات المتحدة لم تحدد بعد موقفا من مشروع فك الارتباط، وهي لن تقوم بذلك إلا بعدما تتلقى مزيدا من الأجوبة من إسرائيل. لكنه أضاف أن واحد من اكبر الأسئلة هو مدى الانسحاب المقرر من الضفة الغربية، الذي ترى فيه أمريكا مكملا ضروريا للانسحاب من غزة.
في الوقت الذي التقى فيه شارون يوم الخميس (11 مارس) في القدس ثلاثة من المبعوثين الأمريكيين الذين جاءوا لسماع المزيد من التفاصيل حول مشروع فك الارتباط، كان وزير الدفاع شاؤول موفاز Shaul Mofaz يناقش المشروع مع قادة الإدارة الأمريكية. إذ التقى موفاز مع نائب الرئيس ديك شيني Dick Cheney ووزير الدولة كولن باول ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس Condoleezza Rice. وحسب صحيفة هآرتس Haaretz (11/03/2004) فان «موفاز قد اخبر محاوريه أن الدعم الأمريكي للمشروع أساسي، لأنه سوف يساعد شارون على تسويقه داخل إسرائيل وكذلك بين الفلسطينيين والعالم اجمع».
في غضون ذلك كانت السلطة الفلسطينية تطالب بفرصة ثانية، إذ وعدت شارون بأنها سوف تسحق المقاومة في غزة، لكنها تطلب في المقابل، أن تقوم إسرائيل عقب فك الارتباط بالسماح لرئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات بالتنقل بحرية بين رام الله وغزة، بحجة أن ذلك ضروري لقوات أمن السلطة الفلسطينية لكي تبسط سيطرتها على غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي. لحد اللحظة لا يزال شارون يرفض هذا الطلب. لان سجل عرفات والسلطة الفلسطينية ليس مشجعا جدا. إذ انهم عجزوا عن القيام بالعمل الذي وعدوا به، كما يذل على ذلك واقع عجزهم عن الحيلولة دون حدوث انتفاضة وعجزهم، بعد حدوثها، عن سحقها.
وقد عمل النظام المصري، الذي يعتبر ثاني أهم دعامة للسيطرة الإمبريالية في الشرق الأوسط، على عرض خدماته بكل سرور. فلا مبارك ولا وزير خارجيته عبرا عن أي معارضة لمشروع ارييل شارون لفك الارتباط، كما قدمه لهما شالوم. إذ أعلنت مصر استعدادها لنشر قواتها على طول الحدود مع قطاع غزة، إذا ما انسحبت منها قوات الدفاع الإسرائيلية. وطبعا، غلف مبارك موافقته على دعم إسرائيل ضد الجماهير الفلسطينية، بقوله إن فك الارتباط لابد وان يكون جزءً من “مسلسل سلام” يقود إلى تشكيل دويلة فلسطينية.
لقد أتى هذا التصريح خلال الزيارة التي قام بها، للعاصمة المصرية، وزير الخارجية سيلفان شالوم، الذي أجرى لقاءً وديا مطولا مع الرئيس حسني مبارك، وأجرى محادثات مع نظيره احمد ماهر ورئيس المخابرات المصرية، عمر سليمان.
حسب مبارك فان الهدف من نشر القوات المصرية، سوف يكون منع تهريب الأسلحة الموجهة لدعم النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. «إننا اليوم نقوم بعمل نشيط في اكتشاف الإنفاق» وأضاف «سوف نواصل هذا في المستقبل، سوف ندخل تعديلات طفيفة على الاتفاقية وسننشر في المنطقة شرطة الحدود التي تمتلك قوة اكبر وخبرة أكثر..» (هآرتس: 11/03/2004).
وقد اخبر مبارك ضيفه الإسرائيلي بأنه بالرغم من ذلك فان مصر لن ترسل قواتها إلى داخل غزة. وقال «لقد تحدثنا بهذا الصدد مع الفلسطينيين وقلنا لهم انه عليهم أن يقوموا بمسؤولياتهم في حفظ الأمن هناك، اعتمادا على قواتهم الخاصة».
وهذا ما عملت السلطة الفلسطينية على تأكيده، إذ صرح مستشار الرئيس الفلسطيني لشؤون الأمن، جبريل الرجوب، في لقاء صحفي، إن المصريين يريدون تجهيز الفلسطينيين لتمكينهم من القيام بمسؤولياتهم الأمنية في قطاع غزة التي ستنسحب منه إسرائيل. وقال الرجوب للصحيفة الفلسطينية “الأيام” إن هذا الوعد قدمه، للسلطة الفلسطينية، رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان.
وأضاف الرجوب للصحيفة قوله، إن سليمان «أخبر الرئيس ياسر عرفات، بان الرئيس المصري حسني مبارك عازم على إعادة تأهيل وتدريب قوات الأمن الفلسطينية لكي تتمكن من مواكبة التطورات المستقبلية». وأكد الرجوب بان مصر «تلح على انسحاب مخطط له بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية». وقال بأنها «مستعدة لمساعدة السلطة الفلسطينية، على فرض القانون والنظام، في حالة حدوث انسحاب إسرائيلي من قطاع غزة».
أما السلطة الفلسطينية فإنها تطالب، من جهتها، بإعطائها بضعة شهور كمهلة، لكي تتمكن من تحضير قواتها لمرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي. وقد تم إبلاغ سليمان بهذا الموقف. إن التدخل الأمني الوحيد الذي مصر مستعدة للقيام به، هو مساعدة السلطة في تدريب قواتها وإرسال خبراء لنصح السلطة الفلسطينية حول كيفية منع أي عملية ضد إسرائيل في القطاع.
وهكذا يتضح، لكل من له عقل يفكر به، إن الصراع القائم بالمنطقة لا يدور بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل بينهم وبين حكام الولايات المتحدة وحلفائها، أي الطبقة الرأسمالية في مصر وإسرائيل الممثلة في شارون ومبارك، والسلطة الفلسطينية التي تحاول الالتحاق بهم. وعندما ستُلعب هذه اللعبة الرهيبة، سوف تستعمل الجماهير العربية والإسرائيلية، كبيادق لضمان استمرار هذا النظام السياسي المهتز المؤسس على الاستغلال الرأسمالي.
إن الماركسيين في إسرائيل يدعمون حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ويعارضون الاحتلال. إننا نريد أن يغادر الجيش الإسرائيلي جميع الأراضي المحتلة. إلا أن مخطط شارون ليس خطوة في اتجاه إعطاء الفلسطينيين الحق في تقرير المصير. ففي ظل الشروط الحالية، سوف يؤدي انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من غزة، إلى حدوث حرب أهلية بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، بل داخل حركة فتح نفسها، وإلى حدوث، مجازر مشابهة لتلك التي تحصد أرواح العديد من المدنيين في العراق، وليس إلى تحقيق أي نوع من الاستقلال الحقيقي.
يمكننا منذ الآن التنبؤ بما سوف يحدث. فيوم الثلاثاء الماضي (09/03/2004) وبعد ساعات قليلة من قيام مجموعة من الأشخاص الملثمين، باغتيال خليل الزبين – صحفي مقرب من ياسر عرفات، وكان واحدا من مديري مكتبه في قطاع غزة – استعاد مسؤول رفيع بفتح ذكريات الأيام الأولى التي تلت توقيع إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، في حديقة البيت الأبيض، (13/09/1993).
فخلال تلك الفترة، تم اغتيال ثلاثة من ابرز قادة فتح في قطاع غزة، وهم الذين كانوا يباشرون الحوار بين إسرائيل وفلسطين: أسعد السفتاوي، أحد قادة فتح في غزة ومحمد أبو شعبان، رئيس جمعية المحامين في غزة ومساعده محمد كحال.
كان خليل الزبين (59 عاما)، قبل اغتياله الأسبوع الماضي أمام مدخل بناية حكومية، يشغل منصبين اثنين. ولقد كان الصحفي الذي يحرر المقالات لصالح وكالة الأنباء الفلسطينية ويدير موقع الانترنيت التابع للسلطة الفلسطينية (e-zine A-Nishara) الذي مهمته الأساسية، الرد على معارضي عرفات، بما فيهم المنظمات الإسلامية والوزير الأول السابق أبو مازن ومنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية. كما كان يشغل كذلك منصب مستشار عرفات لشؤون الإعلام وحقوق الإنسان ويدير مكتب الرئيس في غزة.
إن اغتياله يُنسب إلى الصراعات الداخلية داخل فتح نفسها. فحسب ذلك المسؤول الرفيع من فتح، أدى الحصار المتواصل على عرفات في المقاطعة وانقسام السلطة الفلسطينية بين الضفة وقطاع غزة، إلى ظهور معسكرين رئيسيين في غزة، يحاول كل منهما بسط سيطرته. فمن من جهة هناك قائد الأمن السابق، محمد دحلان، الذي لا يشغل الآن أي مهمة رسمية لكن قوته مستمدة من دعم رشيد أبو شبك رئيس وحدة الأمن الوقائي (وهي الوحدة الأكثر تنظيما والأفضل بين وحدات الأمن) ومساندة بعض المجموعات المسلحة داخل فتح. ولقد لجأ هذا المعسكر إلى استعراض قوته في قطاع غزة، خلال الأشهر القليلة الماضية، ليرسل هكذا رسالة واضحة إلى عرفات وإلى حكومة الوزير الأول، احمد قريع، (أبو العلاء) بأنهم لا يمتلكون أي فرصة للعمل في قطاع غزة دون موافقة دحلان.
غالبا ما تقف باقي المنظمات المعارضة المتواجدة في غزة، بما فيها حماس والجهاد الإسلامي، جانبا لتتابع تطور الأحداث داخل فتح. لقد سجلت حماس منذ إعلان مشروع فك الارتباط، إن قرار شارون إنما يستهدف المقاومة الفلسطينية المسلحة وبالخصوص جناحها المسلح. وكما هو الشأن بالنسبة للصراع بين دحلان وعرفات، فان حماس تستعمل تكتيكا إعلاميا مبنيا على تسعير الخلافات داخل فتح عبر خلق صورة مبالغ فيها عنها، مستعملة في ذلك الإعلانات والبيانات الصحفية وكذلك موقعها على الانترنيت. بينما يدعو الناطقون باسم المنظمة، وخاصة إسماعيل هنية، رئيس مكتب زعيم حماس الشيخ احمد ياسين، إلى المبادرة القديمة – الجديدة للحوار بين المجموعات الفلسطينية، والتي يعلمون أنها مستحيلة في الوقت الحالي، لكن الفكرة تجد صدى واسعا بين الجماهير.
كما تساهم حماس بدورها في الفوضى. إذ في إحدى الليالي قيل أسبوعين، انفجرت عبوة شديدة الانفجار داخل المكاتب الفارغة لجمعية خيرية في دير البلح، يديرها قادة سابقون في حماس، ويبدو أن المتسببين في هذا التفجير يريدون وقف نشاطاتها التي تنافس حماس.
إن المطلوب ليس هو دعم الإمبرياليين وخدامهم المحليين، بل المطلوب هو سياسة مستقلة للطبقة العاملة في مواجهة الحكام الذين يتلاعبون بأرواحنا. ففي غياب نضال موحد بين الطبقة العاملة العربية والإسرائيلية، يقود نحو حسم السلطة لصالح الطبقة العاملة وبناء فدرالية اشتراكية في الشرق الأوسط، لن تقود كل “مشاريع السلام” هذه سوى إلى اتجاه واحد، ألا وهو تعميق وتوسيع مدى القمع ضد الفلسطينيين واستمرار الفخ المميت الذي يعلق فيه الإسرائيليون.
يوسي شوارتز
12 مارس 2004
عنوان النص بالإنجليزية :