منذ الحملة ضد الدستور الأوروبي، لم تتوقف العصبة الشيوعية الثورية عن التلويح بموقف “وحدوي” اتجاه الحزب الشيوعي الفرنسي. وبالنظر لموقف العصبة من الحزب الشيوعي إلى حدود سنة 2004، يعتبر هذا الموقف الأخير انقلابا بـ °180. هل تكون العصبة قد “استخلصت دروسا من أخطائها” العصبوية، كما نسمع أحيانا من أفواه مناضليها؟ إن الواقع أكثر سوداوية، إذ بمجرد ما نزيح عنها الطلاء “الوحدوي” الباهت، نجد نفس الميولات القديمة للعصبة، المتمثلة في تقسيم صفوف اليسار في الانتخابات، الشيء الذي يفتح الطريق أمام صعود الأحزاب اليمينية.
لقد حاولت العصبة، خلال الانتخابات الرئاسية، سنة2002، أن تستفيد من الرفض الموجه ضد حكومة ليونيل جوسبان، التي بنت سياستها، فيما يخص جميع القضايا الجوهرية، على قاعدة الدفاع عن مصالح الرأسماليين. وحتى تلك الإصلاحات الايجابية التي طبقتها، لم تكن كافية لوقف تراجع مستوى العيش سنوات 1997-2002، وذلك بالرغم من النمو الاقتصادي، القوي نسبيا، الذي حققه الاقتصاد الفرنسي خلال تلك الفترة. فالعمل الهش عرف ازدهارا ملفتا للنظر، وتفاقم معدل الفقر.
إن قادة الحزب الاشتراكي هم، بالدرجة الأولى، من يتحمل مسؤولية هذه السياسة. لكن قيادة الحزب الشيوعي، هي أيضا، تتحمل جزءا من المسؤولية. إذ أن قادة الحزب، وبمبرر التضامن الحكومي، لم يعملوا، طيلة تلك السنوات، على التعبير عن أي معارضة جدية لا لسياسة الخوصصة الكثيفة ولا للسياسة الخارجية الرجعية، بما فيها قصف صربيا، ثم المشاركة إلى جانب الإمبريالية الأمريكية في غزو أفغانستان.
من وجهة نظر العصبة، قدمت هذه الوضعية لها فرصة من ذهب للاستفادة من “التصويت العقابي”. وعندما نعيد قراءة مناشير وخطب العصبة خلال الحملة الانتخابية، سنة 2002، نجد فكرة معاقبة اليسار حاضرة بشكل كبير. لقد تمثلت إستراتيجيتها أساسا في مهاجمة الحزب الشيوعي، الذي كانت تعتبره منافسها الرئيسي. وعلى سبيل المثال، أعلن أوليفر بسنسنوت (Olivier Besancenot)، يوم 8 مارس 2002، في لقاء مفتوح بأنتيب (Antibes)، أن الانتخابات سوف «تمكن من معاقبة اليسار المتعدد (la gauche plurielle) والحزب الشيوعي الذي لم يعمل، عندما كان في الحكومة، على إعطاء الدليل على قدرته على توجيه السياسة الاجتماعية.»
إن رغبة العصبة في تخفيض نقاط الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي إلى أدنى المستويات لم تتوقف عند الدور الأول. إذ وباتفاق مع منظمة النضال العمالي (Lutte Ouvrière)، أعلنت العصبة أنها لن تعطي أية تعليمات للتصويت في الدور الثاني. لقد رفضت بشكل قاطع ضرورة إقامة سد في وجه اليمين عبر التصويت لمرشح اليسار، وقالت أن اليسار المتعدد واليمين “شيء واحد”. وهكذا فإن العصبة تتحمل – إلى جانب كل من النضال العمالي وحزب العمال (PT)- جزءا غير يسير من المسؤولية في مرور لوبين (Le Pen) إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لسنة 2002. وتتمثل سخرية القدر في أنه غداة 21 أبريل 2002، وبعد رفضها دعم المرشح “الأخف ضررا” جوسبان، انتهت العصبة بالدعوة إلى التصويت على مرشح “أخف ضررا” آخرا اسمه جاك شيراك!
في الانتخابات التشريعية سنة 2002، انتهجت العصبة نفس الإستراتيجية. إذ لم تعطي أية تعليمات للتصويت خلال الدور الثاني، وقالت لكل من يريد الإنصات إليها: أن مرشحا الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، ليسا، إذا ما قورنا مع مرشح إتحاد الحركات الشعبية (UMP) أو مرشح UDF، «سوى الوجه الآخر لعملة واحدة».
لقد فتح انتصار اليمين مرحلة جد عصيبة في تاريخ فرنسا الاجتماعي. إذ مكن الحكومة وحزب (MEDEF) من شن هجوم كبير ضد شروط عيش العمال والشباب والمتقاعدين. لقد كانت حكومة رافران (Raffarin)، بدون شك، هي الحكومة الأكثر رجعية في تاريخ فرنسا، منذ حكومة فيشي خلال الاحتلال الألماني.
غير أن النتيجة المرتفعة نسبيا، التي حققتها العصبة في الانتخابات الرئاسية 2002، أقنعت قادتها بكونهم يمتلكون أخيرا القدرة على الحلول محل الحزب الشيوعي، الذي كانوا يعتبرونه آنذاك في أوج “انحطاطه التاريخي”. وهذا هو السياق الذي جعل التحالف بين العصبة والنضال العمالي يتحقق خلال الانتخابات الأوروبية والجهوية سنة 2004. لكن وبعد المرور من تجربة سنتين من وجود اليمين في السلطة، وخاصة بعد التحركات الكبيرة ضد إصلاح قانون المعاشات، صوت ناخبو اليسار بشكل مكثف على الحزب الاشتراكي، ليس بدافع تأييد حقيقي لبرنامج القادة الاشتراكيين، بل لأجل تكبيد اليمين هزيمة ساحقة. كما تمكن الحزب الشيوعي، “في أوج انحطاطه التاريخي”، من كسب العديد من النقاط مقارنة بالمعدل الذي حققه سنة 2002، تاركا التحالف: ع. ش. ث– ن. ع، بعيدا ورائه.
لم يعد ناخبو اليسار، في أغلبيتهم الساحقة، يريدون لعب دور الانقسام و”التصويت العقابي”. لقد اعتبر أرليت لغويي (Arlette Laguiller) الارتفاع الكبير لعدد الأصوات التي حصل عليها الاشتراكيون والنسبة الجد ضعيفة التي حصلت عليها لائحة ع. ش. ث- ن. ع، “أسوء السيناريوهات المحتملة”. بينما اكتشف أوليفر بسنسنوت، فجأة، أن العصبة قد أدت، على حد تعبيره، “ثمن أحداث 21 ابريل 2002”. نعم لقد كانت تجربة 21 ابريل 2002، درسا قاسيا جدا تلقاه ناخبو اليسار، وهو الدرس الذي سوف يتذكرونه خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة.
لكن العصبة والنضال العمالي، عاجزون تماما عن فهم الدروس الحقيقية لهذه الأحداث التي تحطم ليس فقط أسس إستراتيجيتهم الانتخابية الحالية، بل كذلك تضرب مبرر وجودهم كمنظمة “ثورية” تحاول منافسة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي.
حتى قبل الانتخابات الأوروبية والجهوية لسنة2004، كنا نحن قد توقعنا وشرحنا مسبقا أن اليسار سينتصر. لقد كتبنا في أحدى المقالات المنشورة في أكتوبر 2002: «يصاب اليسراوي بالإحباط بشكل مستمر بسبب أن الطبقة العاملة، وبالرغم من كل ما عاشته، “لا زالت لم تفهم” أنه يجب عليها التخلي عن الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، والخضوع لأوامره هو. ويمكن لهذا الغضب الدائم أن يتحول عنده إلى هستيريا. إنه عاجز عن أن يفهم أن العمال، في مواجهة الوسائل الهائلة المتوفرة لدى أعدائهم، وحتى عندما يكونون ساخطين بشكل كبير على منظماتهم التقليدية، لا يستطيعون أن يضيعوا الوقت في البحث عن عنوان هذه المجموعة الهامشية أو تلك، و”البدء من جديد”. ليس لديهم، عمليا، أي خيار آخر سوى التوجه نحو الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والمنظمات النقابية الأكثر أهمية والأكثر تمثيلية، نحو رايات ظاهرة ومعروفة بامتلاكها لقوى كافية لإلحاق الهزيمة بالعدو. هذا هو ما حدث سنة 1997 ولم يرق لليسار المتطرف، وهذا ما سوف يتكرر حتما خلال الانتخابات المقبلة.
بمجرد ما سوف ينخرط العمال في نضال جدي وعلى مستوى عال ضد أعدائهم، لا سواء عبر الإضرابات أو على الصعيد الانتخابي، سوف يشعرون بشكل غريزي بضرورة توفر أكبر قسط ممكن من الوحدة، وسينظرون إلى هؤلاء الذين يقفون في وجه تلك الوحدة باعتبارهم عائقا. وهكذا، بدل أن يتخلى العمال عن المنظمات الجماهيرية للالتحاق بإحدى العصب الهامشية، سيعملون على ممارسة الضغط على بنيات تلك المنظمات بهدف تغييرها لكي تصبح متجاوبة مع متطلبات النضال. يمكن لجميع من له عينين أن يرى أن هذه الصيرورة قد بدأت داخل الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وداخل النقابات، وبالضرورة سوف تتخذ، في المستقبل، مدى أكبر وقوة أكبر.»
إن هذه المنظورات التي وضعتها La Riposte بخصوص الانتخابات، قد تأكدت بشكل كامل. نعم، يمكن لمجموعات اليسار المتطرف، من قبيل العصبة الشيوعية الثورية، أن تزيد مؤقتا من عدد الأصوات الانتخابية التي تحصل عليها، خاصة عندما يتعرض الحزب الاشتراكي والشيوعي لتراجع هام. لكن عليها أن تضع دائما في اعتبارها أنها، خارج الحقل الانتخابي، ليست سوى منظمة ميكروسكوبية إذا ما قورنت مع الحزب الشيوعي، ليس فقط من حيث عدد الأعضاء (لا يمثل عدد أعضاء العصبة الشيوعية الثورية سوى حوالي 3% من عدد أعضاء الحزب الشيوعي)، بل خصوصا من حيث الاحتياطي الاجتماعي الذي يتوفر عليه. إذ وبالرغم من جميع الصعوبات التي تعرض لها الحزب الشيوعي خلال المرحلة الأخيرة، فإنه لا توجد في فرنسا أية منظمة سياسية يمكنها أن تدعي امتلاك قدرة على التعبئة في مثل قدرته هو. بل حتى على المستوى الانتخابي، يجب أن نأخذ بحذر مسألة أن العصبة الشيوعية الثورية، باستغلالها لظروف سياسية استثنائية، سيمكنها تجاوز الحزب الشيوعي، أو أن أحد استطلاعات الرأي تضع بسنسنوت “قبل” ماري جورج بوفي (Marie George Buffet). إن الحزب الشيوعي لا يزال بعيدا كل البعد عن استخدام كل قوته التنظيمية، بينما اضطر كل من النضال العمالي والعصبة الشيوعية الثورية، إلى استنزاف كل قواهم من أجل الحصول، مؤقتا، على نسبة الـ 5% أو الـ 6% من الأصوات. وكما يقول المثل الروسي القديم: «يحدث للنسر أحيانا أن يطير في مستوى أدنى من الدجاج.»
لكي يبرروا موقفهم العصبوي اتجاه الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، عادة ما يقدم قادة اليسار المتطرف الحجة التالية: «إذا ما نحن حملنا اليسار إلى الحكم، فإنه سوف لن يعمل سوى على إدارة أزمة الرأسمالية. ما الفائدة إذن؟». هذه هي الحجة النموذجية لجميع هؤلاء الذين يحددون “إستراتيجيتهم” على أساس موقفهم الشخصي من قادة اليسار، دون أن يأخذوا في الحسبان موقف جماهير العمال ومستوى وعيهم. وعلى عكس هؤلاء “المنظرين” العصبويين المكتفين بكونهم “فهموا”، يضع الماركسي على عاتقه مهمة تسهيل تطور وعي جماهير العمال لإدراك إفلاس الإصلاحيين. إلا أن تطور وعي الأجراء لا يتحقق داخل حلقات النقاش الصغيرة، بل فقط في مدرسة التجربة العملية الجماعية. ومن هنا فإنه عبر المرور بتجربة وجود اليسار في السلطة، حيث يتعلم العمال والشباب بشكل أسرع. فعندما يكون قادة الحزب الاشتراكي في الحكومة، يكونون عاجزين عن تلميع صورتهم من خلال توجيه الانتقادات ضد اليمين أو من خلال إطلاق الوعود الفارغة. إذ أن العمال يرونهم وهم يشتغلون ويحكمون عليهم في الممارسة.
وغالبا ما يرد على حجتنا هذه بالقول: أن هذه التجربة “قد سبق خوضها في الماضي”، وأن هذا “لم يغير في الوضع شيئا”. لكن هذا خاطئ كليا. طبعا، إن انعكاس تجربة الإصلاحيين في الحكم في وعي العمال والشباب لا يكون متساويا. إذ لا يتأثر وعي جميع الأجراء بنفس الدرجة، كما أن وعيهم لا يتطور بنفس السرعة ولا في نفس الاتجاه. حيث أن بعض العمال الذين تصيبهم ممارسات قادة اليسار في السلطة بالاشمئزاز، يمكنهم أن يصلوا إلى خلاصات رجعية. وعلى سبيل المثال، إن تخلي حكومة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، منذ 1982، عن سياسات الإصلاحات الاجتماعية، هو من فتح الطريق أمام صعود الجبهة الوطنية. لكن الأمور تطورت أيضا في الاتجاه الآخر، أي في اتجاه اليسار. وهكذا، تقلصت السلطة المعنوية والسياسية للقادة الإصلاحيين، بفضل التجارب المتتالية لوجود اليسار في السلطة. لقد أظهر استفتاء داخلي أن 42% من المناضلين الاشتراكيين يؤيدون التصويت بـ”لا”، والأزمة الحالية داخل الحزب هي تعبير واضح. طبعا، من وجهة نظر المؤيدين لتصور قادة العصبة الشيوعية الثورية والنضال العمالي أو حزب العمال، كل هذا لا يسير بسرعة كافية. إلا أنه لا يجب بناء مقاربة ماركسية للأحزاب الجماهيرية على أساس العوامل النفسية وفقدان الصبر، بل على أساس تقييم جدي للمسار الواقعي للأشياء.
المسعى الجديد للعصبة
لقد حطمت نتائج الانتخابات الجهوية، الحسابات الخاطئة التي بنت عليها العصبة والنضال العمالي إستراتيجيتهما وتوقف التحالف بينهما وسط تبادل للاتهامات. لقد كانت الصدمة قوية حتى على المستوى المالي. منذ مدة والمنح الانتخابية التي تقدمها الدولة، تشكل مصدر التمويل الأساسي للعصبة، مما يمكنها من الظهور بمظهر “القوة الجماهيرية” دون أن يكون لذلك أية علاقة مع قوتها الحقيقية. مع تراجع عدد الأصوات التي حصل عليها اليسار المتطرف في انتخابات 2004، غرقت في الديون. وبعد حدوث القطيعة مع النضال العمالي وتأزم وضعيتها السياسية والمالية، هاهي العصبة اليوم تبحث عن حليف بديل. مما يفسر هذه الاستدارة الأخيرة نحو الحزب الشيوعي.
فجأة، صار مجرد التقاء العصبة مع الحزب الشيوعي في نفس الموقف من الاستفتاء على الدستور الأوروبي، أساسا لحملة من الخطب المؤيدة للتحالف الانتخابي مع الحزب الذي كان يشبه، منذ سنة واحدة فقط، أحزاب اليمين! والموقف العدائي الذي كان قادة العصبة يتبنونه اتجاه الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، إلى حدود سنة 2004، لم يعد الآن موجها سوى إلى القادة الاشتراكيين المساندين للتصويت بـ “نعم” وكذلك إلى الفابيوسيين، على ما يبدو. والتأطير “النظري” الذي من المفروض أن يقنع الحزب الشيوعي بالموافقة على عرض العصبة، هو أنه سوف يكون هنالك منذ الآن “يساران” في فرنسا: الأول يسار حقيقي يوجد فيه، من بين آخرين، العصبة والحزب الشيوعي ; ويسار مزيف، يشكله الجناح “الاشتراكي اللبرالي” للحزب الاشتراكي. وعليه يجب، على القوى اليسارية التي صوتت بـ “لا”، أن تأخذ بالحسبان هذا «الانقسام الذي لا يتطابق مع طبيعة الحدود الحالية للأحزاب» – على حد تعبير العصبة- ورفض تقديم أي دعم للـ “اليسار المزيف”. وقد قال آلان كريفان (Alain Krivine)، في (le Rouge)، لشهر يونيو 2005، سوف يكون على رفاقنا في الحزب الشيوعي أن يختاروا بين الدخول في ائتلاف مع كل اليسار، بما فيه هؤلاء المدافعين عن الدستور اللبرالي، وبين جبهة القوى المعادية للرأسمالية التي نشأت خلال الحملة الموحدة من أجل التصويت بـ”لا”».
لقد تعاملت أغلبية مناضلي الحزب الشيوعي مع هذه “الالتفاتة الوحدوية” التي قامت بها العصبة، بكثير من اللامبالاة. نعم لم يمر سوى عام واحد منذ أن كانت العصبة تتنبأ وتعمل على التسريع في القضاء على الحزب الشيوعي، لكن، رغم ذلك، لماذا على المرء أن يتعامل بحقد معها؟ إن المشكلة تكمن في أن هذا الموقف “الوحدوي” ينسجم مع العديد من الأهداف، ليس أقلها:
فيما يخص الانتخابات الرئاسية المقبلة، لن يكون من الخطأ افتراض أن توافق العصبة، بالنظر إلى تقزم حجمها مقارنة مع الحزب الشيوعي، على دعم مرشح الحزب الشيوعي للرئاسيات. لكن من الواضح أن حماسها “الوحدوي” لن يصل إلى هذه الحدود. إنها وبكل وقاحة تطالب مناضلي الحزب الشيوعي بألا يقدموا أي مرشح لحزبهم، وذلك لصالح ترشيح “شخصية” أقرب إلى العصبة!
أما فيما يخص الانتخابات التشريعية، فإن العصبة تلح أيضا على أن يرفض الحزب الشيوعي التحالف مع الاشتراكيين المؤيدين لـ “نعم”، لا سواء في الدور الأول ولا في الدور الثاني.
إن إيجابيات هذه المقترحات من وجهة نظر العصبة واضحة للعيان. لكن من وجهة نظر النضال من أجل طرد اليمين، ومن وجهة نظر الحزب الشيوعي، سوف يكون لها تأثيرات جد سلبية ولهذا يجب رفضها من طرف المناضلين الشيوعيين. ولقد عملت قيادة الحزب الشيوعي، التي رأت أنه لا يوجد أي سبب لكي تسمح بأن يفرض عليها مرشح “بديل”، على رفض هذا الاقتراح الغريب. فضلا عن ذلك، سوف لن يعمل رفض عقد اتفاقات مع الحزب الاشتراكي، إلا على تقسيم اليسار، مما سوف يخدم مباشرة مصالح اليمين. ونقول في هذا السياق، أن هذا سوف يؤدي إلى القضاء، الشبه الكلي، على تمثيلية الحزب الشيوعي في البرلمان. وهي الحالة التي سوف لن تصيب قادة العصبة بالحزن، لكن يجب أن يفهموا أن المناضلين الشيوعيين سوف يكونون أقل تحمسا لمثل هذه النتيجة.
الطبيعة الطبقية للحزب الاشتراكي
بعد أن عملت العصبة على المساهمة في هزيمة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي في انتخابات 2002، بمبرر معاقبة حكومة جوسبان، يبدو أنها لا تزال مستعدة لتكرار نفس الخطأ خلال الانتخابات المقبلة، برفضها هذه المرة دعم مرشحي الحزب الاشتراكي الذين أيدوا التصويت بـ “نعم” على الدستور. فلنكن واضحين: إن هذا المسعى سوف يخدم بشكل مباشر أعداء الناخبين والمناضلين الاشتراكيين والشيوعيين، أي سيخدم الأحزاب اليمينية. إن هذا لا يهم مطلقا قادة العصبة، الذين يشرحون لنا منذ سنوات أن: الحزب الاشتراكي واليمين “هم شيء واحد”. إلا أن هذا الادعاء خاطئ تماما. إن الحزب الاشتراكي حزب الأجراء، هذا بالرغم من أن قيادته الحالية مشكلة من أشخاص لا علاقة لهم بالاشتراكية، والذين هم في الواقع عملاء، واعون إلى هذا الحد أو ذاك، لمصالح الرأسماليين داخل الحركة العمالية.
بالرغم من جميع الجهود المبذولة، من طرف قيادة الحزب الاشتراكي، لفرض موقف الـ “نعم” خلال الاستفتاء الداخلي، فإن 42% من المناضلين قد صوتوا، رغم ذلك، بـ “لا”. ولو أن هذا الاستفتاء حدث فيما بعد، لكانت نسبة المصوتين بـ “لا” أكبر بكل تأكيد. هذا دليل واضح على الضغط الذي تمارسه الحركة العمالية، داخل صفوف الحزب الاشتراكي، وعلى بداية تملك العمال للوعي. لقد رفضت الأغلبية الساحقة من ناخبي الحزب الاشتراكي إتباع تعاليم القيادة. وهذا يعني أن شريحة واسعة من أعضاء الحزب الاشتراكي تتبنى موقفا أكثر يسارية من قيادتها، وأن ناخبي الحزب الاشتراكي يتبنون، موقفا أكثر يسارية من أعضاء الحزب.
إن اعتبار الحزب الاشتراكي “حزبا رأسماليا” بسبب السياسة الموالية للرأسمالية التي تنهجها قيادته الحالية، إنما يعبر عن مقاربة بعيدة كليا عن الديالكتيك وعن الماركسية. لتحديد طبيعة حزب ما، لا يجب الاكتفاء بتحديد الأفكار السياسية السائدة في صفوفه خلال فترة معينة. يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار الدور التاريخي الذي يلعبه الحزب المعني خلال المسلسل الواقعي والدينامي للصراع الطبقي. لقد نشأ الحزب الاشتراكي، تاريخيا، كتعبير سياسي عن مصالح العمال كطبقة، كما هي موجودة في الواقع، وليس في شكلها المثالي المجرد الموجود في ذهن ” ثوري” من اليسار المتطرف، أي كطبقة تتنازعها جميع أنواع الأفكار، ليس الإصلاحية فحسب، بل حتى الرجعية أيضا.
لقد سبق لماركس أن شرح أنه خلال المراحل التاريخية “العادية”، تكون الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة السائدة. وهكذا، نجد، في وعي العمال، إلى جانب التطلعات التقدمية، التي تتميز بهذا النوع أو ذاك من الغموض، جميع أنواع الأحكام المسبقة والشكوك والترددات. إن ضغوطات الطبقة الرأسمالية تمارس فعلها خصوصا على قيادة الحزب الاشتراكي، على المنتخبين والبرلمانيين والمرشحين ومختلف التيكنوقراطيين. لكن هذه الضغوطات تقابلها، من الجانب الآخر، الضغوطات المعبرة عن مصالح وتطلعات الشغيلة. وهكذا، غرق الحزب الاشتراكي خلال فترات مختلفة من تاريخه، في الشوفينية ونزعة الدفاع عن مصالح الإمبريالية – كما كان عليه الحال إبان الحرب العالمية الأولى، أو أيضا إبان حرب الجزائر. لكنه في فترات تاريخية أخرى، انتقل فجأة نحو اليسار، كما كان عليه الحال أثناء الموجة الثورية لشهري ماي/ يونيو1968.
من تروتسكي إلى “التروتسكيين”
عادة ما يتم اعتبار العصبة الشيوعية الثورية منظمة “تروتسكية”، لكن الواقع هو أن برنامجها وممارساتها ليس لها أية علاقة بالأفكار التي دافع عنها تروتسكي. وبهذا الخصوص، كان لأوليفر بسنسنوت النزاهة الكافية للاعتراف علنا بأن الماركسية لا تعني له الشيء الكثير، وبأنه يحس بنفسه أقرب إلى أفكار الفوضوي باكونين، أي نفس تلك الأفكار التي ناضل ضدها ماركس في العديد من المرات.
إن عقودا من الافتراءات الستالينية ضد تروتسكي – والتي تواصلت حتى بعد اغتياله على يد عميل ستاليني، سنة 1940- لا تزال، حتى يومنا هذا، تنيخ بثقلها على سمعته السياسية. لكن ممارسات مختلف المجموعات والمنظمات، التي تسمي نفسها تروتسكية – من قبيل النضال العمالي والعصبة الشيوعية الثورية – تتحمل هي أيضا جزءا غير قليل من المسؤولية في الموقف السيئ الذي يتبناه العديد من المناضلين الشيوعيين من ذلك الثوري الروسي العظيم.
لكن لو أن هؤلاء المناضلين الشيوعيين عملوا على دراسة كتابات تروتسكي، لوجدوا فيها كنزا نظريا حقيقيا يمكن من استيعاب أفكار الماركسية الثورية بكل غناها. وهذا ليس صحيحا فقط فيما يخص تطبيق المنهاج الماركسي على العديد من المسائل الاقتصادية والسياسية والفلسفية، بل أيضا فيما يخص موقف الماركسيين اتجاه الحركة العمالية ومنظماتها الجماهيرية، وهو الموقف الذي ليس له أية علاقة مع الموقف العصبوي القصوي، الذي تتبناه المجموعات اليسارية المتطرفة.
يمكننا أن نورد العديد من الحالات التي يعارض فيها تروتسكي بالماركسية، أفكار وطرق عمل العصبويين. لكننا سوف نكتفي هنا بواحدة تشبه بشكل واضح الموقف الحالي الذي تقفه العصبة. فسنة 1935، في بريطانيا، عمل الحزب العمالي المستقل، الذي كان يقف على يسار الحزب العمالي البريطاني، على إقامة فصل بين المرشحين العماليين على أساس موقفهم من الحرب. كان قادة الحزب العمالي المستقل قد قرروا ألا يدعموا، خلال الانتخابات التشريعية، سوى المرشحين العماليين الذين لم يصطفوا إلى جانب السياسة الإمبريالية لعصبة الأمم، خاصة فيما يتعلق بمسألة “العقوبات” على ايطاليا بسبب اجتياحها لإثيوبيا.
عندما سُئل تروتسكي، في أحد الحوارات الصحفية، إن كان يَِعتبر هذه السياسة صحيحة، رد بوضوح لا وأنه: «كان يجب على الحزب العمالي المستقل أن يقدم دعمه النقدي لجميع مرشحي الحزب العمالي، في الأماكن التي لا يقدم فيها هو[الحزب العمالي المستقل] مرشحين عنه. لقد قرأت في(New Leader) أن فرعكم في لندن قد قرر ألا يدعم مرشحي الحزب العمالي، إلا إذا كانوا يتبنون موقفا رافضا للعقوبات[ العسكرية]. وهذا خاطئ أيضا. يتوجب تقديم دعم نقدي للحزب العمالي، ليس بسبب أنه كان مؤيدا أو معارضا للعقوبات، لكن لأنه يمثل الجماهير العمالية. […] إن أزمة الحرب لا تغير واقع كون الحزب العمالي حزبا للعمال.» إن هذا التحليل ينطبق تماما على الانتخابات المقبلة، التي سوف تشهدها فرنسا. إن العصبة برفضها المسبق دعم المرشحين الاشتراكيين الذين أيدوا التصويت بـ “نعم” على الدستور الأوروبي، ترتكب نفس الخطأ الذي سبق للحزب العمالي المستقل أن ارتكبه.
أما لينين، فقد خصص كتابا لهذه المسألة: “اليسراوية”، أو المرض الطفولي للشيوعية. وفي رده على المناضل الشيوعي الاسكتلندي ويلي غالاغير (Willie Gallagher)، الذي رفض، أثناء الانتخابات، تقديم الدعم للحزب العمالي بحجة أن قيادة الحزب قد خانت قضية العمال، كتب لينين قائلا: « أن نعتبر أن هندرسون وأنصاره، ماك دونالد وأنصاره وسنودن وأنصاره [ الذين يمثلون ما يمثله ستراوس- كان، الخ في هولندا.] رجعيين غير قابلين للإصلاح، فهذا صحيح. وصحيح أيضا أنهم يريدون “الحكم” على أساس نفس القواعد البرجوازية القديمة، ويتصرفون بالضرورة، عندما يكونون في السلطة، مثلهم مثل شيدمان وأنصاره ونوسك وأنصاره. لكن لا يعني هذا أن دعمهم، يساوي خيانة الثورة. إن هذا يعني أنه يجب على ثوريي الطبقة العاملة أن يقدموا، لما فيه مصلحة الثورة، نوعا من الدعم الانتخابي لهؤلاء السادة». إذا ما أراد الشيوعيون أن يوصلوا أفكارهم إلى الطبقة العاملة، يقول لينين، «وهو الشيء الذي نبقى بدونه مجرد ثرثارين، يتوجب علينا، أولا، أن نساعد هندرسون (Henderson) أو سنودن (Snowden) على هزم لويد جورج وتشرشل [ الذين كانوا يمثلون نفس ما يمثله اليوم شيراك وساركوزي وفيلبان، الخ.]»
هل يوجد أي نوع من أنواع التشابه بين موقف لينين وتروتسكي وبين موقف العصبة من الحزب الاشتراكي؟ كلا، على الإطلاق. من وجهة النظر الماركسية، يعتبر دعم مرشحي الحزب الاشتراكي ضد مرشحي الأحزاب اليمينية – بما في ذلك تقديم التنازلات المتبادلة- ليس مسألة مقبولة فقط، بل ضرورية أيضا. إن العصبة توبخ الحزب الشيوعي وتحرضه على «عدم تكرار خطأ 1997». لكن عن أي خطأ بالضبط يتحدثون؟ إن ما أضر حقا بالحزب الشيوعي، سنة 1997، ليس هو عقده لاتفاقات انتخابية مع الحزب الاشتراكي. إن «الخطأ الذي يجب عليه ألا يكرره» هو عدم دفاعه عن سياسة مستقلة وشيوعية حقيقية، وكذا قبوله المشاركة في الحكومة على أساس برنامج الخوصصة والدفاع عن مصالح الطبقة الرأسمالية.
إن موقف La Riposte من هذه المسألة، واضح تماما. إننا نشرح ضرورة تمكين الحزب الشيوعي من برنامج شيوعي حقا، يربط بين النضال من أجل الدفاع عن المكاسب الاجتماعية للجماهير الشعبية وتحسين شروط عيشها، وبين النضال من أجل مصادرة كبريات المؤسسات الصناعية والبنكية، التي يجب أن يتم إخضاعها للرقابة والتسيير الديمقراطي للعمال، في إطار برنامج تخطيط ديمقراطي للاقتصاد. لا يمكن للعمال أن يتحرروا من الاستغلال وأن يقضوا نهائيا على البؤس الاجتماعي، إلا ببنائهم للمجتمع الاشتراكي. وعليه، تعمل La Riposte اعتمادا على الأرقام والحجج، على إقناع مناضلي الحزب الشيوعي بصحة هذا البرنامج. لكن مثل هذا البرنامج لازال، لحد الآن، لم ينل دعم الأغلبية من مناضلي الحزب الشيوعي وأقل أيضا بين مناضلي الحزب الاشتراكي. ما العمل في هذه الحالة؟ هل يجب علينا أن نركن إلى الهامش ونمضي وقتنا في الحديث عن أنه مادام الاشتراكيون والشيوعيون لم يتبنوا أفكارنا، فإننا سنرفض دعمهم في مواجهة اليمين؟ لا. إن واجب الماركسيين هو المشاركة النشيطة والنزيهة في جميع المعارك التي تخاض ضد الرأسماليين، مع الحرص على شرح مواقفهم بصبر ورفاقية.
يتصادف الموقف “المعادي للحزب الاشتراكي” الذي تتبناه العصبة، مع ظهور موقف في صفوف بعض مناضلي الحزب الشيوعي، الذين بدئوا يشعرون بالسخط اتجاه الاتفاقات الفوقية التي تتم بين قيادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، والذين يتملكهم الإحساس بأن الحزب الشيوعي إنما يقيد نفسه بعقده لمثل تلك الاتفاقات. لكننا نوصي هؤلاء الرفاق بأن يضعوا فرقا بين الدعوة إلى عقد اتفاقات مع حزب يساري آخر وبين التخلي عن برنامج الحزب تحت مبرر تلك الاتفاقات. يتعلق الأمر هنا بموقفين مختلفين. إذ أن هناك فرق شاسع بين الاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة بين الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والالتزام بخوض حملة انتخابية موحدة خلال الدور الثاني، لتمكين المرشح اليساري، الأوفر حظا، من الفوز وبين تقديم التنازلات السياسية لصالح قادة الحزب الاشتراكي بهدف الحصول على مناصب وزارية. وفي هذا السياق نتذكر أن روبرت هو (Robert Hue) كان قد وصل، سنة 1997، إلى حد القول بأن الخوصصة لم تعد “طابو” بالنسبة للشيوعيين. وذلك في إطار التجهيز لدخول الحزب الشيوعي في حكومة جوسبان.
يجب أن يتم رفض أي سيناريو من هذا القبيل مستقبلا. لكن الوسيلة الوحيدة، لفك ارتباط الحزب الشيوعي عن السياسة الإصلاحية التي تنهجها قيادة الحزب الاشتراكي، لا تتمثل في رفض القيام بأي اتفاق مع الحزب الاشتراكي، بل في تبني برنامج شيوعي حقا. هذه هي المشكلة المركزية التي يتوجب على مناضلي الحزب أن يصبوا اهتمامهم عليها. ونقول في هذا السياق: أنه على مناضلي العصبة بدورهم أن ينجزوا نفس المهمة، على اعتبار أنه لا يوجد في جريدتهم ولا في مناشيرهم ولا في خطاباتهم العمومية، أي أثر للأفكار الاشتراكية أو للبرنامج الاشتراكي. إن ما ميز العمل “الوحدوي” للعصبة مع الحزب الشيوعي، أثناء حملة الاستفتاء على الدستور الأوروبي، هو بالضبط عدم رفعها لأي شعار ولا لأي موقف يميزها عن الشعارات والمواقف الإصلاحية لقيادة الحزب الشيوعي.
إن الشروط التي تضعها العصبة في إطار مسعاها “الوحدوي” مع الحزب الشيوعي، سوف تؤدي إلى إضعافه بشكل كبير، إذا ما هو قبل بها. يتوجب على المناضلين الشيوعيين أن يرفضوا هذه الشروط. إن كل هذا الحديث عن “الوحدة” ليس سوى تفاهات، خاصة وأن العصبة لا تشكل، بالنظر إلى درجة انغراسها وقوتها الانتخابية، سوى مجموعة هزيلة. إن المنظمة الصغيرة تقترح “الوحدة” مع المنظمة الكبيرة، وفي نفس الوقت تملي عليها شروطها. لكن الحزب الشيوعي ليس بحاجة مطلقا “لدجاجة” المثل الروسي لكي يقوم بخطوة كبيرة. إن ما يحتاجه الحزب الشيوعي حقا هو أن يستعيد هويته الثورية، أي العودة إلى البرنامج والأفكار الماركسية. فقط عبر تقديمه لبديل حقيقي للرأسمالية، سوف يتمكن الحزب الشيوعي الفرنسي من الارتفاع إلى مستوى مهمته التاريخية: مهمة التغيير الاشتراكي للمجتمع.
غريك أوكسلي
الخميس: 14 يوليوز 2005
عنوان النص بالفرنسية: