لقد أدى الهجوم الجديد والخطير على الحقوق الأساسية للعمال والشباب إلى اندلاع موجة هائلة من الاحتجاجات والنضالات في فرنسا. مرة أخرى خرج ملايين الطلاب والعمال إلى الشوارع للدفاع عن مصالحهم ضد أكثر الحكومات التي عرفتها فرنسا، رجعية منذ حكومة فيتشي (Vichy) أثناء الحرب العالمية الثانية.
تأتي موجة الاحتجاجات هذه بُعيد تمرد الشباب اليائس والفقير، الذي انفجر غضبه بأحياء الضواحي العمالية، في أكثر من 200 مدينة خلال الأشهر الأخيرة من 2005. آنذاك ادّعى وزير الداخلية، نيكولا ساركووزي، أن تلك الأحداث كانت من تدبير “عصابات الجريمة المنظمة”، وهو ما تم تكذيبه مباشرة من طرف مصالح مخابراته نفسها التي اعتبرت رسميا الأحداث “شكلا عفويا من أشكال الاحتجاج الشعبي” ناتجة عن “تراكم العوامل الاجتماعية والتمييز العنصري”. وقد اضطر الرئيس شيراك أيضا إلى الاعتراف بوجود “تذمر عميق” في المجتمع.
لكن شيراك وحكومة دوفيلبان اليمينية حاولوا بطريقتهم المخادعة والكلبية المعهودة استغلال La révolte des banlieues (انتفاضة الضواحي)، لشن هجومات جديدة على حقوق وظروف عيش العمال عموما والعمال الشباب منهم على وجه الخصوص. فطرحوا قانونا (برروه بكونه وسيلة للحد من البطالة) ينص على عقود عمل جديدة للعمال البالغين أقل من 26 سنة، يحولهم إلى مجرد مادة خام للاستغلال ويضعهم كليا تحت رحمة المشغلين. إن هذا القانون الجديد المسمى: “عقد العمل الأول” (Contrat première embauche أو CPE)، يعطي الحق للمشغلين في طرد العمال مباشرة وبدون أي مبرر خلال فترة سنتين. وبالرغم من الاسم الذي أعطي لهذا العقد فإنه لا علاقة له مع “العمل الأول” إذ يمكن تطبيقه على جميع العمال الشباب. في ظل هذا القانون سيصبح أي شاب يشتكي من شروط العمل أو يلتحق بالنقابة أولا يروق لمشغله لسبب ما – ولو كان المرض – معرضا للطرد فورا وبكل بساطة. ليس على المشغل، وفق هذا القانون، أن يقدم أي تفسير لقراره. ليس هنالك من شك في أنه إذا ما تم السماح لهذا القانون بأن يطبق، فإن مسألة امتداده إلى باقي شرائح الطبقة العاملة لن تكون سوى مسألة وقت فقط.
إن حدة رد الفعل ضد هذه الهجومات – التي تأتي استمرارية للعديد من الاحتجاجات الأخرى شهدتها السنوات القليلة الماضية- تعطينا مثالا جديدا عن تقاليد النضال العمالي والطلابي الرائعة في فرنسا. ليس بدون سبب سميت فرنسا “أم الثورات”.
خلال الشهر الماضي، اجتاحت فرنسا العديد من المظاهرات العارمة. وحتى النقابات العمالية الأشد محافظة وجدت نفسها مجبرة – بالنظر إلى قوة الضغط الذي مارسته الطبقة العاملة والغضب المتأجج في صفوفها- على اتخاذ موقف حازم في هذه القضية. يوم السبت 18 مارس – الذي هو أيضا يوم ذكرى كمونة باريس – خرج حوالي 1,5 مليون شخص إلى الشوارع. باريس شهدت تظاهر 350.000 عامل وطالب. مرسيليا (التي تعرضت فيها عدة إضرابات كفاحية، للدفاع عن مناصب الشغل ومنع الخوصصة (شركة كورسيكا للرحلات وعمال النقل والموانئ) إلى هزيمة ساحقة، خرج فيها 130.000 شخص في المسيرات.
من بين أهم مميزات هذه المسيرات هو قلة لافتات وأعلام المنظمات العمالية والطلابية التقليدية، مقارنة مع العدد الهائل للمتظاهرين، مما يبين أنها ليست مظاهرات للمناضلين بل هي مظاهرات للجماهير الغير منظمة لحد الآن. لقد عمل الطلاب على تنظيم جموعات عامة على صعيد واسع، وهي من يقرر مسار الحركة. هناك 65 جامعة على الأقل منخرطة في النضال. تلاميذ المدارس بدورهم مشاركون في الانتفاضة، إذ حتى بالأرقام الرسمية المصرح بها من طرف وزارة التعليم، هنالك 313 مدرسة منخرطة في الحركة، بينما تؤكد المنظمات الطلابية أن الرقم الحقيقي يشكل ضعف الرقم المصرح به على الأقل.
من المقرر، يوم 28 مارس المقبل، تنظيم المزيد من المظاهرات الجماهيرية والإضرابات في القطاع العام والخاص. إن لهذه الأزمة انعكاسات عميقة على المجتمع في جميع الأصعدة. مسيرات عفوية وأعمال احتجاج تنفجر كل يوم في مختلف أنحاء البلد. وقد عبرت الهيئات الإدارية الجامعية والعديد من المؤسسات والشخصيات المعروفة عن معارضتها للقانون الجديد وشددوا على ضرورة تراجع الحكومة عن هذه الإجراءات. وقد أكد استطلاع للرأي نشر يوم 20 مارس أنه فقط 22% من الناس يعتبرون النضالات الحالية مجرد “احتجاجات مؤقتة” بينما يعتبر 71% من الناس أن فرنسا قد دخلت “مرحلة أزمة اجتماعية عميقة ودائمة”. وتبين استطلاعات أخرى أن مابين 60% و75% من الناس – وأكثر من 90% من الشباب – يتفقون مع مطالب الحركة المعادية لقانون “عقد العمل الأول”.
أعلن قادة الحزب الاشتراكي – الذين لا يميلون عادة إلى إطلاق الخطابات والأفعال – أنهم سوف يعملون على إلغاء القانون السيئ الذكر إذا ما فازوا بالانتخابات التشريعية المنتظر تنظيمها ربيع 2007. إن فوز اليسار بالانتخابات المقبلة يمكن اعتباره مسألة مؤكدة، كما هو مؤكد عداء الجماهير للحكومة الحالية. لكن هناك العديد من الأِشياء التي يمكنها أن تحدث خلال الفترة التي تفصلنا عن موعد انعقاد الانتخابات. إن القادة الاشتراكيين يحاولون بجهد حصر المعارضة للحكومة في مسار برلماني وانتخابي خالص، لكنهم لا يتحكمون ولا يستطيعون التحكم في الحركة الجارية لحد الآن.
بالنظر إلى الاحتقان السائد في المجتمع وحده الصراع الدائر، يمكن للأحداث أن تتطور إلى وضع ثوري مشابه لذلك الذي عرفته سنة 1968. جميع العناصر الضرورية لحدوث انعطاف مشابه متوافرة. إذا لم تتراجع الحكومة عن قرارها فمن الممكن أن يتسع نطاق الحركة وأي حادثة يمكنها أن تقود إلى تصعيد أكبر. خلال الاحتجاجات التي وقعت في ظل حكومة شيراك 1986 – 1988، تعرض أحد الشباب للضرب من طرف البوليس مما أدى إلى مقتله، ففجر ذلك تظاهرة لما لا يقل عن مليون شخص في شوارع العاصمة. في ظل الشروط الحالية، يمكن لحادثة من هذا النوع أن تؤدي إلى عواقب أوخم، بعد عدة سنوات من الهجومات المتواصلة على حقوق ومستوى عيش الطبقة العاملة، مما خلف ما بين 5 ملايين و7 ملايين شخص يعيشون تحت الفقر.توجد الحكومة اليوم في وضع حرج. إذ أن التراجع الآن سيعتبر هزيمة حقيقية لها. دوفيلبان سيفقد كل مصداقية بعيد تسعة أشهر من طرد سابقه جون بيير رافران، إثر هزيمة الدستور الأوربي خلال استفتاء 29 ماي الماضي. ومن جهة أخرى فإن التشبث بهذا القانون، في ظل الظروف الحالية، سوف يزيد من صب الزيت على نار حركة الاحتجاجات ويهدد بخلق أزمة ثورية. كما قال نابليون بونابرت «هنالك أوضاع، في السياسة والحرب، يكون خلالها أي شيء تقوم به خاطئا» ودوفيلبان يوجد بالضبط في وضع من هذا القبيل.
إن المأزق الحالي واتساع الهوة باستمرار بين الطبقات، هو مؤشر آخر عن اللااستقرار الاجتماعي والسياسي المتزايد في فرنسا، على قاعدة ركود اقتصادي ودين عمومي كبير – عجز الدولة وصل الآن إلى أكثر من 1.100 مليار أورو! – وانهيار حاد لمستوى العيش. وفي جميع المجالات (سواء تعلق الأمر بالعمل أو الأجور أو ظروف العمل أو السكن أو التقاعد أو الضمان الاجتماعي أو الصحة أو التعليم أو الخدمات الاجتماعية) يشهد المجتمع تراجعا إلى الوراء.
هذا الوضع لا يمكنه أن يستمر إلى الأبد. المسيرات الجماهيرية التي اندلعت سنة 2003 للدفاع عن نظام التقاعد، الإضرابات الطويلة والكفاحية التي عرفتها السنوات الأخيرة، رفض الدستور الرأسمالي للإتحاد الأوروبي، تمردات السنة الماضية، ثم حركة الاحتجاجات الحالية ليست سوى إشارات لا تخطئ، (مثلها مثل الارتجاجات التي تسبق الهزة الأرضية) عن بزوغ مرحلة جديدة في تاريخ فرنسا، ستكون مرحلة ثورية سيصبح خلالها الاتجاه نحو الاشتراكية قضية آنية على جدول الأعمال. نقول هذا لأنه بكل بساطة لا يمكن إيجاد أي طريق آخر على قاعدة الرأسمالية. يجب علينا أن نفهم أن العمال والطلاب لن يصلوا إلى هذه الخلاصة إلا بصعوبة، عبر تحسس طريقهم والتعرض للكبوات بينما هم يسيرون. لكن عندما سيقررون، في النهاية، على قاعدة تجربتهم الخاصة، أنه من الضروري القيام بتغيرات جوهرية، فإنه لن تكون هناك قوة على وجه الأرض بإمكانها إيقافهم.
غريك أوكسلي
lariposte.com
الثلاثاء: 21 مارس 2006
عنوان النص بالإنجليزية :
Mass protests and strikes in France: the dawning of a new era