الأحداث في باكستان تتطور بشكل سريع. يوم أمس [28 نوفمبر] استقال الجنرال مشرف من رئاسة الجيش، وسارع في نفس اليوم بأداء القسم الرئاسي. يتمنى الجنرال أن ينال بهذه الطريقة شيئا من الاحترام في خضم الحملة الانتخابية المتوقع إجرائها يوم الثامن من يناير المقبل. الشيء الذي يفتح الباب لحدوث انعطافة كبيرة للأحداث في باكستان. توفر الانشقاقات والصراعات التي تحدث في القمة ثغرة ستمكن الغضب الجماهيري المتراكم من الاندفاع إلى السطح. عندها ستسير الأحداث وفق منطقها الخاص.
لقد تم تركيع الدكتاتورية على ركبتيها بفعل المظاهرات والاحتجاجات الجماهيرية والتناقضات العصية التي تخترق باكستان على جميع الأصعدة. وكما سبق لنا أن توقعنا، أدت عودة بينازير بوتو إلى إخراج ملايين العمال والفلاحين إلى الشوارع. لم يكن ذلك بسبب، بل بالرغم من، سياسة وممارسات بينازير، التي هي حليف للإمبريالية الأمريكية والتي كانت حتى اللحظة الأخيرة تحاول التوصل إلى اتفاق مع مشرف.
أعلنت عودة بينازير بوتو ونواز شريف والخروج الرسمي للجنرال مشرف من الجيش عن بداية نهاية النظام الدكتاتوري، الذي استنفذ كل قواه وصار ينهار تحت وطأة ثقله الخاص. وبالرغم من أن نظام الأحكام العرفية لا يزال مطبقا لحدود الآن، فإن الدكتاتورية انفضحت باعتبارها مجرد نمر من ورق. لقد صارت أيامها معدودة.
نواز شريف، الذي كان قد رُحّل إلى السعودية بعد أربعة ساعات فقط من وصوله إلى باكستان، سُمح له الآن بالعودة إلى دياره بضغط من السعوديين، حلفاء وممولي كل من مشرف وشريف. كانت الأسرة المالكة في السعودية قد أعادت استقبال شريف عندها لعلمها بأنه لن يكون مسموحا لبينازير بوتو هي أيضا بالمشاركة في الانتخابات. لكن مشرف سمح لها بالعودة، بسبب الضغط الأمريكي. لذا طالب السعوديون بإعادة نواز شريف إلى باكستان هو أيضا. إن السعوديين يريدون الحيلولة، بأي ثمن، دون فوز حزب الشعب الباكستاني ويريدون أن يميل مشرف نحو الرابطة الإسلامية من أجل منع بينازير من الوصول إلى الحكومة.
في البداية تحملت واشنطن مسألة ترحيل شريف شهر شتنبر الماضي، لكنهم الآن، وبعد أن شهدوا التحركات الجماهيرية الكثيفة التي أثارتها عودة بينازير، سعداء برؤيته يعود إلى باكستان. سيحاول الإمبرياليون ومشرف أن يضعوا نوعا من التوازن بين شريف وبوتو. سيحاولون دفعهما إلى تشكيل ائتلاف بينهما ليشكلا معا واق صدمات في وجه الجماهير.
تعرض الجنرال مشرف إلى الضغط من جانب واشنطن لكي يبقي على الانتخابات، لكن نظام الأحكام العرفية، بما في ذلك منع التجمعات السياسية، الذي فرض يوم الثالث من نوفمبر، لا يزال ساري المفعول. ويبدو لحد الآن أن الانتخابات قد تنعقد في ظل قانون الطوارئ الحالي. لقد عمل الجنرال على إقالة جميع القضاة، الذين أبانوا عن نوع من الاستقلالية، من المحكمة العليا وعين أتباعه عوضا عنهم. وبطاعة تامة عمل هؤلاء الأخيرون على إلغاء جميع العراقيل القانونية التي تقف في وجه إعادة ترشح الجنرال لولاية انتخابية أخرى. هؤلاء السادة أنفسهم هم من سيكلفون بمهمة ضمان نزاهة الانتخابات المقبلة.
“الديمقراطية” بالنسبة للمحاميين والسياسيين المحترفين هي مسألة الحصول على مواقع برلمانية ووزارية مربحة. لا يتعلق السبب الرئيسي لاعتراضهم على مشرف بمسألة مبدأ بل فقط لكون الجيش يستحوذ على جزء كبير من الكعكة ولا يترك لهم الشيء الكثير. بالنسبة “للطبقة السياسية” تتمثل المسألة بمجملها في صراع من أجل تقرير من سيأكل الكعكة.
لكن البورجوازية الأمريكية لديها مصالح أخرى. لديها في بلدها كعكتها (الأكبر) الخاصة بها. إن الدفاع عن ما يسمونه “المصالح الأمريكية” مرتبط في آخر المطاف بتلك الكعكة. لكن من أجل حماية “المصالح الأمريكية” (أي مصالح المؤسسات البنكية والشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية) يتوجب عليهم التركيز على السياسة الخارجية.
لدى السياسة الخارجية الأمريكية إدارتان اثنتان: الإدارة الأولى هي الجيش، سلاح البحرية والقوات الجوية والإدارة الثانية هي السلك الدبلوماسي. تستخدم الأولى القوة السافرة لسحق الأعداء بينما تستخدم الثانية خليطا يجمع بين التهديدات والرشاوي والإفساد من أجل الحصول على دعم “الحكومات الصديقة”، على اعتبار أن الصداقة هي بدورها ليست سوى سلعة ويمكن شراءها مثل جميع السلع الأخرى.
لكن مع الأسف يمكن للأصدقاء مثل جميع السلع الأخرى أن يصبحوا بدون جدوى ومن ثم تتناقص قيمتهم في السوق. لقد تناقصت الآن قيمة صداقة الجنرال مشرف في السوق إلى حد كبير. وهذا ما يدفع واشنطن إلى البحث عن أصدقاء جدد لها في إسلام أباد.
الانقلاب الثاني الذي قام به مشرف، في محاولة يائسة لفرض نفسه رئيسا بشكل مسبق خلال انتخابات شهر يناير، أربك كثيرا حسابات واشنطن التي كانت تسعى إلى عقد اتفاق بين الجنرال وبينازير بوتو.
تعتبر باكستان عنصرا حاسما في السياسة الخارجية الأمريكية في آسيا الوسطى. لكنها تعيش فوض عارمة، محاصرة بخليط خطير يتكون من الانهيار الاقتصادي والتمرد الإسلامي والإرهاب والتصدعات داخل بنية الدولة والفوضى السياسية. ومن المستحيل التوقع بشكل دقيق للنتيجة التي سينتهي إليها هذا الوضع. لكن هناك شيء واحد واضح: إن الاضطراب سيزداد وبالموازاة معه سيزداد التقاطب الاجتماعي والسياسي الذي سيعطي دفعة قوية لكل من التيارات الثورية والرجعية.
على المدى القريب سيفوز “الوسط” على شكل حكومة ترئسها بينازير بوتو، ربما في ائتلاف مع الرابطة الإسلامية. لكن سرعان ما ستبدو هذه الحكومة مشلولة وعاجزة عن حل المشاكل الجوهرية التي يتخبط فيها المجتمع. سينفضح هذا “الوسط” باعتباره مجرد صفر كبير.
ليس الإمبرياليون والطبقة السائدة في باكستان خائفون من بينازير، بل هم مرعوبون من الجماهير التي تقف ورائها ووراء حزب الشعب الباكستاني. هذه الجماهير تريد تحقيق تغيير جذري للمجتمع ولن تكتفي بالخطابات الفارغة والوعود. إنها تريد روتي، كابرا أور ماكان (الخبز، الملبس والمأوى)، وهي الأشياء التي لا يمكن للرأسمالية الباكستانية أن توفرها لهم.
بينازير وشريف كلاهما خائفان من أخذ السلطة في ظل هذه الظروف. وهذا ما يجعل شريف يثير ضجة حول كونه سيعمل على مقاطعة الانتخابات ما لم تتم الاستجابة لبعض شروطه. لكنه بالرغم من ذلك كان حريصا على تسجيل اسمه في قائمة المترشحين قبل انتهاء الأجل القانوني. من الصعب اعتبار هذه ممارسة جديرة بديمقراطي ثوري يحضر نفسه لقيادة حملة مقاطعة الانتخابات! إنها بالأحرى ممارسة تاجر سياسي منخرط في فن المساومة. نفس الشيء نجده لدى بينازير التي لم يمنعها خطابها المرائي بخصوص مقاطعة الانتخابات من ملئ ورقة الترشح في الوقت المحدد.
ليس كل هذا سوى ادعاءات. سوف يمارس الأمريكيون ضغطا قويا على جميع الأحزاب من أجل دفعها إلى المشاركة في الانتخابات وأوامر واشنطن لا ترد. من المحتمل أن يقدم النظام بعض التنازلات وعندها ستنظم الانتخابات. سيتم إخراس صوت شريف بإعطائه بعض المناصب الوزارية المربحة داخل حكومة ائتلافية.
لم يعد نواز شريف إلى باكستان من أجل قيادة حملة جماهيرية من أجل الديمقراطية، بل عاد من أجل ملئ جيوبه. إنه يريد استعادة حزبه الذي أفرغته الانسحابات نحو الرابطة الإسلامية ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال الوعد بتقديم مبالغ طائلة من الأموال نقدا أو على الأقل بأذونات دفع يمكن صرفها مستقبلا. جزء من هذه المبالغ متوفر لديه بفضل التمويل الذي يأتيه من مسانديه السعوديين (السعوديون شديدو الكرم دائما عندما يتعلق الأمر بتمويل القوى الرجعية).
إلا أن الطريقة الوحيدة لكسب قلوب وعقول السياسيين المحترفين في باكستان هي بريق المناصب (أي بعبارة أخرى: التوفر على رخصة سك النقود). لكن وبما أنه من الواضح أن حزب الشعب الباكستاني هو الذي سيفوز بالانتخابات، فإن هذا يخلق مشكلة صغيرة للسيد شريف. الشيء الذي دفعه ليزمجر مثل أسد بخصوص مقاطعة الانتخابات وما إلى ذلك من أجل الضغط على بينازير لكي تعمل على عقد اتفاق معه وتمكنه من اقتسام ما يسمى في التجارة بـ “ثمار المنصب”.
بينازير بوتو بدورها منخرطة في نفس اللعبة، حيث أنها تعطي بطائق الحزب ليس لهؤلاء العمال مناضلي الحزب الشرفاء والمخلصين الذين بقوا في باكستان للنضال من أجل الديمقراطية والاشتراكية، بل لجميع أنواع الملتحقين الأثرياء الذين لا تجمعهم أية صلة بحزب الشعب أو بالاشتراكية. يتمنى مشرف أن يدفع بينازير بوتو ونواز شريف إلى الاصطدام ببعضهما البعض. لكن إذا ما انعقدت الانتخابات في يناير المقبل، ولم تتعرض إلى تزوير شامل، فإن حزب الشعب سيكسبها.
من الممكن أن تقبل بينازير، بالرغم من كرهها الشخصي لشريف، بالدخول في ائتلاف معه لأنها في حاجة إلى حجة لكي تبرر بها سبب عدم تطبيق سياسة تخدم مصالح العمال والفلاحين. لكن العمال والفلاحين لن يقبلوا بأية مبررات. سوف يضغطون من أجل الاستجابة لمطالبهم الملحة. الشيء الذي سيؤدي إلى خلق وضع جديد للصراع الطبقي في باكستان.
تحدث في القمة جميع أنواع الدسائس والمناورات. يشعر الصحفيون والمعلقون بالإعجاب اتجاه هذه “الدراما السياسية” التي تشبه الصراع الصاخب بين أقزام السيرك. ليست كل هذه التداخلات اللامنتهية والاتفاقات سوى الزبد الذي يتكون فوق أمواج المحيط والتي هي المؤشرات الظاهرة عن التيارات القوية المعتملة في العمق. هذه الأخيرة هي المحددة وليس الزبد.
ليست الأزمة في باكستان مجرد أزمة سياسية سطحية بل هي أزمة النظام نفسه. الرأسمالية الباكستانية الضعيفة، الفاسدة والمتعفنة حتى النخاع، دفعت بلدا شاسعا يضم 160 مليون نسمة إلى مأزق رهيب. لقد أبانت البورجوازية الباكستانية المنحطة، طيلة أكثر من نصف قرن، عن كونها عاجزة عن قيادة البلد إلى الأمام. وهي الآن تجد نفسها في مأزق مما يهدد بسحبها إلى قاع الهاوية.
فقط الجماهير وحدها من يمكنها، بقيادة الطبقة العاملة، أن تقدم مخرجا من هذا الكابوس. القاعدة الحقيقية لحزب الشعب هي الجماهير: ملايين العمال والفلاحين، والشباب والعاطلين والنساء الثوريين والمثقفين التقدميين، الذين خرجوا إلى الشوارع قبل بضعة أسابيع، يتحدون التفجيرات الإرهابية وعصي الشرطة من أجل الترحيب بزعيمة حزب الشعب. إنهم لم يكونوا يرحبون بشخص بل برمز: رمز لديمقراطية حقيقية ولباكستان عادلة، باكستان بدون أغنياء وفقراء، بدون مضطهِدين ومضطهَدين، باكستان اشتراكية.
سيتوجب على الجماهير أن تعود، خلال المرحلة المقبلة، إلى مدرسة بينازير بوتو حيث ستتعلم بعض الدروس القاسية. لكن الجماهير عموما لا تتعلم دائما إلا من خلال تجربتها الخاصة. كيف لها أن تتعلم ما عدا بهذه الطريقة؟ ستكون المرحلة المقبلة مرحلة العواصف والقلق. سرعان ما ستتعرض حكومة حزب الشعب لضغوط هائلة من جميع الجهات: فالجماهير ستطالب باتخاذ إجراءات تخدم مصالحها، والإمبرياليون وكبار الملاكين العقاريين والرأسماليين سيطالبون باتخاذ إجراءات تخدم مصالح الأغنياء وذوي النفوذ. سوف تقع الحكومة بين حجري الرحى.
تيارنا هو التيار الوحيد الذي فهم هذه التطورات وتوقع حدوثها. وقد كانت عصب أقصى اليسار كعادتها دائما عاجزة كليا عن فهم الطريقة التي تفكر بها الجماهير وتتحرك. وكما هو الحال دائما شارك الماركسيون في الحركة الجماهيرية الحقيقية الحية وناضلوا من أجل نفس الأهداف الملموسة وضد نفس الأعداء الطبقيين. نحن لا نعطي الدروس للعمال والفلاحين بنفس طريقة معلم مدرسة مع تلاميذه الصغار. نحن نشرح بصبر، خطوة خطوة ونساعد العمال على استخلاص الدروس بأنفسهم.
في النهاية سيتعلم العمال والفلاحون كيف يميزون هؤلاء القادة الذين يدافعون عن مصالح الطبقة العاملة عن هؤلاء الذين لا يقومون بذلك. سيعارض الماركسيون داخل حزب الشعب الباكستاني جميع المحاولات الرامية إلى تشكيل أي ائتلاف أو عقد أي اتفاق مع الرابطة الإسلامية. نحن نطالب بتطبيق البرنامج الأصلي لحزب الشعب، البرنامج الاشتراكي المبني على مصادرة أملاك كبار ملاكي الأرضي والرأسماليين. وسنطور المطالب الانتقالية الضرورية من أجل ربط كل نضال ملموس بالنضال من أجل هدف التغيير الاشتراكي للمجتمع.
المتاريس صارت أكثر فأكثر وضوحا: إما انتصار الرجعية السوداء أو انتصار الثورة الاشتراكية في باكستان والهند وكل شبه القارة. فلنجعل من باكستان أول بلد ينجز الثورة الاشتراكية ويشعل شرارة الثورة في كل شبه القارة!
آلان وودز
الخميس 29 نوفمبر 2007
عنوان النص بالإنجليزية:
Musharraf takes off his uniform: Pakistan enters a new phase of the class struggle