الرئيسية / البلشفية: الطريق نحو الثورة / البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل السادس: سنة الثورة

البلشفية: الطريق نحو الثورة – الفصل السادس: سنة الثورة

ثورة فبراير

استهل عام 1917 بموجة من الإضرابات في بتروغراد، بعد فترة هدوء قصيرة في نوفمبر ودجنبر 1916. وفقا لأرقام مفتشية المصانع شارك في الإضرابات، في شهر يناير وحده، 270.000 عامل، من بينهم 177.000 في بتروغراد وحدها. كانت الحرب قد خلقت وضعا لا يطاق بالنسبة للجماهير، وانضافت إلى كابوس الحرب أهوال الأزمة الاقتصادية العميقة. فبحلول دجنبر 1916، كان 39 مصنعا في بتروغراد متوقفا عن العمل بسبب نقص الوقود و11 مصنعا آخر بسبب انقطاع التيار الكهربائي. كان قطاع السكك الحديدية على وشك الانهيار. ولم يكن هناك لحم وكان هناك نقص مهول في الدقيق. اجتاح الجوع البلد وأصبحت طوابير الخبز مظهرا طبيعيا للحياة اليومية. وإلى كل هذا يجب أن نضيف توالي أخبار الهزائم العسكرية وروائح الفضائح التي تأتي من البلاط وعصابة راسبوتين وحكومة النبلاء- الملكيين والمائة السود. النظام الذي يسيطر عليه الأرستقراطيون الجشعون والمضاربون المحتالون وكل أنواع الطفيليات، وقف عاريا بفساده أمام شعب مستاء بشكل متزايد. أمام هذا الوضع ناشد الليبراليون البرجوازيون، من “الكتلة التقدمية”، القيصر نيكولا بأن يقوم بإصلاحات، وحاولوا تخويفه بالثورة.

تحت السطح كان مزاج الجماهير يتغير ببطء. وصف تروتسكي تلك السيرورة بأنها “السيرورة الجزيئية للثورة”. إنها سيرورة تتقدم بشكل تدريجي بحيث تكون غير محسوسة في غالب الأحيان، حتى بالنسبة للثوار، الذين يستخلصون أحيانا الاستنتاجات الخاطئة من مظاهر اللامبالاة وعدم وجود تعبيرات ملموسة عن الإحباط المتراكم والغضب والمرارة. إنها تشبه إلى حد كبير الارتفاع التدريجي للضغط تحت سطح الأرض قبل وقوع الزلزال. فهذه السيرورة بدورها تكون غير مرئية بالنسبة للمراقب السطحي الذي لا ينظر إلى ما هو أعمق، ولا يأخذ في الاعتبار سيرورات الضغط التي تتراكم في أعماق الأرض. لكن عندما يحدث الانفجار يؤدي إلى دهشة عامة. يتقدم مختلف أنواع “المتعلمين” بتفسيرات كثيرة، عادة ما لا تتجاوز السبب المباشر، ولا تفسر شيئا على الإطلاق. وهكذا فإنه يقال إن ثورة فبراير ناجمة عن ندرة الخبز. لكن هذا التفسير يتجاهل حقيقة أن النقص في الخبز، خلال السنوات التي تلت ثورة أكتوبر، كان أسوأ بكثير من ذي قبل، نتيجة للحرب الأهلية التي أثارتها الثورة المضادة وغزو روسيا من طرف واحد وعشرين جيشا أجنبيا. لماذا لم تنتج عن ذلك ثورة جديدة؟ لم يتم طرح هذا السؤال مطلقا، ولا يمكن الإجابة عليه إذا ما واصلنا الخلط بين السبب المباشر الذي أشعل الحركة وبين أسبابها الكامنة الأعمق؛ أي الخلط بين الحدث العرضي وبين الضرورة، مثل تلك الكتب المدرسية القديمة التي كانت تؤكد أن الحرب العالمية الأولى اندلعت بسبب اغتيال الأرشيدوق فرديناند في سراييفو، وليس بسبب تراكم التناقضات بين القوى الإمبريالية الرئيسية قبل عام 1914.

كان إضراب 09 يناير 1917 أكبر إضراب شهدته بتروغراد منذ اندلاع الحرب. كان الإضراب عاما في مقاطعتي فيبورغ ونيفسكي، وضرب قطاع الصناعات الحربية بشدة. شارك فيه حوالي 145.000 عامل، كشكل من أشكال “الحركات التسخينية” السابقة للثورة. كان الإضراب مصحوبا باجتماعات ومظاهرات جماهيرية. صارت بتروغراد تشبه معسكرا مسلحا بفعل احتلالها من طرف قوات الجيش والشرطة، لكن إجراءات القمع لم تعد كافية لكبح الثورة. حاول الليبراليون البورجوازيون درء الثورة من خلال تقديم التماس للقيصر لكي يقوم بإصلاحات. توسل رودزيانكو للقيصر لكي يطيل عمر مجلس الدوما ويقوم بتعديل حكومي. وقد دعت مجموعة العمل في لجان الصناعة الحربية، التي كان يهيمن عليها المناشفة، عمال بتروغراد إلى الذهاب في 14 فبراير -يوم افتتاح الدوما- إلى قصر توريد لإظهار “تضامنهم” مع الدوما ودعم المعارضة الليبرالية. بينما ندد المكتب البلشفي بسياسة التعاون الطبقي ودعا إلى إضراب ليوم واحد في ذكرى محاكمة النواب البلاشفة. وقد استجاب لدعوة الإضراب 90.000 عامل في 58 مصنعا. كما تظاهر عمال بوتيلوف بشعارات: “تسقط الحرب!”، “تسقط الحكومة!”، “عاشت الجمهورية!”. ولم يكلف أحد نفسه عناء الذهاب إلى قصر توريد. اعترف رودزيانكو بأن مجلس الدوما تحول إلى مجرد “متفرج سلبي تقريبا”، في حين كان المتظاهرون يمرون تحت أنظار النواب على طول شارع نيفسكي.

أظهرت هذه الأحداث المتعاقبة أن مزاج الجماهير قد وصل إلى نقطة الغليان. زار مندوبون عن عمال مصنع بوتيلوف جميع المصانع الأخرى في مقاطعتي نارفا وفيبورغ، مما أدى إلى اندلاع حركة إضراب عام. كما حدثت انتفاضات خبز شارك فيها عدد كبير من النساء.

إضراب عمال مصنع بوتيلوف العملاق، الذي اندلع في البداية في 18 فبراير بمبادرة من بضع مئات من العمال في إحدى الورشات، والذي كان على خلفية المطالبة برفع الأجور وإعادة بعض زملائهم المفصولين إلى مناصبهم، فاجأ العمال المنظمين والثوريين على حد سواء. قام 30.000 عامل في هذا المصنع العملاق بتشكيل لجنة إضراب، وخرجوا إلى الشوارع وناشدوا العمال الآخرين من أجل الدعم. في 22 فبراير ردت إدارة بوتيلوف بإغلاق المصنع. تبين لاحقا أن هذا القرار كان خطأً كبيرا، حيث خرج آلاف العمال الغاضبين إلى الشوارع، في الوقت الذي كانت فيه العديد من نساء الطبقة العاملة يصطفن في الشوارع المتجمدة للحصول على حصص ضئيلة من الخبز. اتضح أن هذا المزيج أكثر انفجارا من تلك القذائف التي ينتجها مصنع بوتيلوف. وبالصدفة كان اليوم التالي، 23 فبراير، هو اليوم الأممي للنساء. أعطى هذا زخما إضافيا للحركة الجماهيرية. إن السرعة الهائلة التي تحركت بها النساء والشباب، الذين كانوا في السابق فئات متخلفة وغير منظمة، فاجأت حتى المناضلين. وكما قال المؤرخ السوفياتي، بيردزالوف، فإن شباب الطبقة العاملة «ساروا في الصفوف الأولى للمتظاهرين وكانوا حاضرين في الاجتماعات وشاركوا في الاشتباكات مع الشرطة، [و]… قاموا بدور كشافي الثورة إذ كانوا أول من يخبر العمال [الكبار] عن مكان تجمع قوات الجيش والشرطة، إلخ»[1].

في 24 فبراير، انخرط 200.000 عامل -أكثر من نصف عمال بتروغراد- في الإضراب. كانت هناك لقاءات وتظاهرات ضخمة في المصانع، حيث بدأ العمال يتخلصون من خوفهم القديم ويقفون في مواجهة مضطهِديهم. لقد بدأت الثورة. وبمجرد أن بدأت، اكتسبت الحركة زخما خاصا بها، واجتاحت كل ما يوجد أمامها. رافقت الإضرابات مظاهرات حاشدة انتشرت كالنار في الهشيم من منطقة فيبورغ إلى المناطق الصناعية الأخرى. وكنست حشود المتظاهرين قوات الشرطة والجيش للوصول إلى وسط المدينة، حتى عبروا نهر نيفا المتجمد، وهم يهتفون: “الخبز!”، “السلام!” و“ليسقط الاستبداد!”.

في يوم الخميس 23 فبراير، عقدت اجتماعات للاحتجاج على الحرب وارتفاع تكاليف المعيشة والظروف السيئة التي تعيشها العاملات. وهذا بدوره تطور إلى موجة إضرابات جديدة. لقد لعبت النساء دورا رئيسيا في الحركة، فقد سرن إلى المصانع وطالبن العمال بأن يوقفوا العمل ويخرجوا. تلت ذلك مظاهرات حاشدة في الشوارع. وظهرت الأعلام واللافتات بشعارات ثورية: “تسقط الحرب!”، “يسقط الجوع!”، “عاشت الثورة!”. وفجأة ظهر المحرضون في الشوارع. كثير منهم كانوا بلاشفة، لكن آخرين كانوا عمالا عاديين، رجالا ونساء، اكتشفوا فجأة، وبعد سنوات من الصمت القسري، أن لديهم عقل يفكر ولسان ينطق.

في صباح ذلك اليوم، أطل فيودور فيودوروفيتش إيلين (راسكولنيكوف)، وهو بحار يبلغ من العمر 25 عاما، من النافذة وتساءل: “اليوم هو يوم النساء. هل سيحدث شيء ما في الشوارع اليوم؟”. وبالفعل كان هناك شيء يحدث، فقد كان 128.000 عامل في إضراب. وكانت المدينة كلها تغلي بالحياة.

«لقد تطورت الأحداث بحيث أن يوم النساء صادف اليوم الأول للثورة. كانت النساء العاملات، اللائي دفعهن اليأس بسبب ظروفهن القاسية وعذابات الجوع، أول من خرج إلى الشوارع للمطالبة بـ“الخبز والحرية والسلام”. في ذلك اليوم، عندما كنا محجوزين في ثكناتنا، تمكنا من أن نرى من النوافذ مشهدا غير عادي. كانت حافلات النقل العام متوقفة عن العمل، مما يعني أن الشوارع كانت فارغة وهادئة بشكل غير معهود. لكن في زاوية شارعي بولشوي وغافانسكايا، استمرت مجموعات من النساء العاملات في التجمع. حاول رجال الشرطة تفريقهن، وكانوا يدفعونهن بقسوة باستعمال خيولهم ويضربوهن بالطرف المسطح لسيوفهم. عندما يصعد الحرس القيصري الأوبريشنيكي[2] إلى الرصيف، كانت المتظاهرات يتفرقن مؤقتا، دون أن يفقدن رباطة جأشهن، وهن يوجهن للقوات اللعنات والتهديد؛ لكن بمجرد عودة رجال الشرطة إلى الطريق، كان الحشد يتحول مرة أخرى إلى كتلة صلبة. كان هناك بعض الرجال، لكن الغالبية العظمى كانت تتألف من نساء عاملات وزوجات عمال»[3].

في 25 فبراير، التقى ما بين 30 و35 من قادة العمال في مقر اتحاد بتروغراد لتعاونيات العمال من أجل إنشاء مجلس سوفييت. وعلى الرغم من أن نصف هؤلاء العمال تعرضوا للاعتقال في نفس الليلة، فإنه بعد يومين فقط، عندما ارتفع مد الحركة، أعلن عدد منهم أنفسهم بكونهم اللجنة التنفيذية المؤقتة لسوفييت بتروغراد. تم انتخاب عضو الدوما المنشفي تشخيدزه رئيسا للجنة، رغم أنه لم يكن يمثل أي مصنع. لكن وعلى كل حال فإن أغلبية الـ150 شخصا الذين حضروا الجلسة الافتتاحية للسوفييت قدموا أوراق اعتماد مشكوك فيها. وقد حددت اللجنة أهدافها بأنها “تنظيم قوات الشعب والنضال من أجل تعزيز الحرية السياسية والحكومة الشعبية”. وفي مساء اليوم نفسه أصدر نيكولا أمرا قاطعا لخابالوف يأمره بـ“وضع حد للاضطرابات في العاصمة بحلول يوم غد”. في المساء فتحت القوات النار على المحتجين. وذكر تقرير للشرطة أنه «وحده إطلاق النار مباشرة على قلب الحشود، هو ما مكن من تفريق الغوغاء، الذين كانوا في معظم الأحيان يختبئون في أفنية المنازل القريبة، ثم يعودون إلى الشوارع عندما يتوقف إطلاق النيران». عندما تتخلص الجماهير من خوفها من الموت، تكون اللعبة قد انتهت. لكن وحتى تلك اللحظة بقي قادة البلاشفة في بتروغراد عاجزين عن فهم الطبيعة الحقيقية للوضع. قال عضو اللجنة البلشفية في منطقة فيبورغ، ف. كايوروف، “الشيء الوحيد الأكيد هو أن التمرد يخبو”[4]. لكن في الواقع كانت تلك مجرد البداية.

استمرت بتروغراد لبضعة أيام (من 25 إلى 27 فبراير) في قبضة إضراب عام. يطرح الإضراب العام مسألة السلطة على جدول الأعمال، لكنه في حد ذاته لا يمكنه حلها. إنه يطرح السؤال التالي: من يحكم؟ من هو رب المنزل؟ والشيء الحتمي هو أن الإجابة النهائية تحسم بالقوة. النظام الذي كان قد بدأ يتعافى من الصدمة الأولى، صار ينظم رد الفعل. أصدر القيصر شخصيا الأمر التالي: “أطلب منكم أن تضعوا حدا للاضطراب في العاصمة بحلول يوم غد ودون تأخير”. وقد تلقى الجنود والشرطة الأمر مباشرة من نيكولا الدموي بإطلاق النار على المتظاهرين. في 26 فبراير بدأ إطلاق النار. معظم الجنود أطلقوا النار في الهواء، لكن الشرطة، التي هي دائما أكثر تخلفا ورجعية من الجنود، أطلقت النار على الحشود. سقط الكثير من القتلى والجرحى. وقد كانت هذه نقطة تحول حاسمة في وعي الجنود، ففي ذلك اليوم بالذات قام جنود فوج بافلوفسك، الذين تلقوا الأمر بإطلاق النار على العمال، بإطلاق النار على الشرطة عوض ذلك. على الورق كانت لدى النظام قوى وافرة تحت تصرفه، لكن في لحظة الحقيقة تبخرت تلك القوى. ذهبت الدعوات اليائسة بإرسال التعزيزات أدراج الرياح. وفي هذا السياق يستشهد تروتسكي باستبيان أرسله الجنرال إيفانوف إلى الجنرال خابالوف، جاء فيه:

«سؤال إيفانوف: كم تحت تصرفك من القوات المنضبطة وكم هو عدد الجنود الذين يسيئون التصرف؟

جواب خابالوف: لدي تحت تصرفي أربع كتائب من الحرس، وخمسة أسراب من سلاح الفرسان والقوزاق، وفريقين من المدفعية؛ أما بقية القوات فقد انتقلت إلى صفوف الثوار، أو أنها، بالاتفاق معهم، بقيت على الحياد. والجنود يتجولون في المدن منفردين أو في فرق ويعملون على تجريد الضباط من سلاحهم.

س: ما هي محطات السكك الحديدية التي تخضع للحراسة؟

ج: جميع المحطات هي في أيدي الثوار وهم يحرسونها بعناية.

س: أي جزء من المدينة يخضع للنظام؟

ج: المدينة كلها في أيدي الثوار. الهاتف لا يعمل، ولا يوجد اتصال بين مختلف أطراف المدينة.

س: ما هي السلطات التي تحكم مختلف أطراف المدينة؟

ج: لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال.

س: هل جميع الوزارات تعمل بشكل صحيح؟

ج: لقد تم اعتقال الوزراء من طرف الثوار.

س: ما هي قوات الشرطة التي توجد تحت تصرفكم في الوقت الحاضر؟

ج: لا شيء على الإطلاق.

س: ما هي المؤسسات التقنية والتموينية التابعة لوزارة الحرب التي تسيطرون عليها الآن؟

ج: ليس لدي شيء.

س: ما هي كمية المؤونة التي هي تحت تصرفكم؟

ج: لا توجد تحت تصرفي أي مؤونة. يوم 05 فبراير كان في المدينة 5.600.000 رطل من الدقيق في المخازن.

س: هل سقطت العديد من الأسلحة والمدفعية والمخازن العسكرية في أيدي المتمردين؟

ج: كل المدفعية في أيدي الثوار.

س: ما هي القوات ومن هم الضباط الذين ما زالوا تحت سيطرتك؟

ج: ما زال رئيس قائد المنطقة تحت إمرتي. لكن لم تعد لي أي اتصالات مع بقية الإدارات المحلية الأخرى»[5].

كان هناك تآخي واسع النطاق بين القوات والمضربين. اتجه العمال إلى الثكنات لمناشدة الدعم من إخوانهم بالزي العسكري. وكان المقر الرئيسي للبلاشفة يشهد مناقشات مستمرة وغالبا حادة حول التكتيكات، في ظل وضع كان يتغير ليس كل يوم بل كل ساعة. عارض شليابنيكوف إنشاء فصائل مسلحة، وركز على ضرورة كسب قوات الجيش. بينما جادل تشوغورين وآخرون بأن كلتا المهمتين ضروريتان، الخ. كان الوضع يتحرك بشكل أسرع بكثير من مناقشات القادة البلاشفة في بتروغراد. كان العمال قد بدأوا في الواقع يسيطرون على المدينة، وعوضوا النقص في الأسلحة والتدريب العسكري بالأعمال البطولية والأعداد الكبيرة.

بعد 27 فبراير صارت معظم أنحاء العاصمة في أيدي العمال والجنود، بما في ذلك الجسور ومخازن الأسلحة ومحطات السكك الحديدية والتلغراف ومكتب البريد. فعندما دقت ساعة الحقيقة تبخرت في الهواء كل القوة الجبارة التي كان النظام يمتلكها على الورق. وبحلول ليلة الثامن والعشرين، وجد خابالوف نفسه بدون أي قوات تحت تصرفه، صار جنرالا بدون جيش. وتم نقل وزراء حكومة القيصر الأخيرة إلى قلعة بطرس وبولس، باعتبارهم أسرى الثورة! وبالاستناد إلى تجربة عام 1905، قام العمال بإنشاء السوفييتات لتولي إدارة المجتمع. لقد صارت السلطة في أيدي الطبقة العاملة والجنود.

كان هناك شيء واحد واضح تماما: وهو أن الإطاحة بالنظام القيصري كان بفضل الطبقة العاملة، التي قادت خلفها الفلاحين بالزي العسكري. وقد أنجزت الثورة، في الواقع، في مدينة واحدة فقط -بتروغراد- والتي كانت لا تمثل سوى 1,75% من سكان روسيا. نرى هنا، بأكثر الصور وضوحا، الثقل الحاسم للبروليتاريا مقارنة بالفلاحين، وللمدينة مقارنة مع القرية. لقد كانت ثورة فبراير سلمية نسبيا لأنه لم تكن هناك أي قوة جادة مستعدة للدفاع عن النظام القديم. وبمجرد أن بدأت البروليتاريا في التحرك، لم يكن هناك شيء قادر على إيقافها. وعن ثورة فبراير كتب تروتسكي:

«لن يكون من المبالغة القول إن بتروغراد هي من حققت ثورة فبراير. بينما بقية البلاد التحقت بها. لم تكن هناك أي مواجهات في أي مكان إلا في بتروغراد. لم يكن من الممكن العثور في أي مكان في البلد على أي مجموعة من السكان أو أي أحزاب أو مؤسسات أو وحدات عسكرية مستعدة للقتال من أجل النظام القديم. وهذا يوضح تفاهة مزاعم الرجعيين، التي ظهرت لاحقا، حول أنه لو كانت هناك قوات فرسان في حامية بيترسبورغ، أو لو أن إيفانوف قام بإحضار لواء موثوق فيه من الجبهة، لكان مصير النظام الملكي مختلفا. لم يكن لا في الجبهة ولا في الخلف أي لواء أو كتيبة على استعداد لخوض المعركة من أجل نيكولا الثاني»[6].

لقد صارت السلطة الآن في يد العمال، لكنهم، كما أوضح لينين لاحقا، لم يكونوا منظمين بما فيه الكفاية ولا واعيين بما فيه الكفاية لإنجاز الثورة حتى النهاية. كانت تلك هي المفارقة الرئيسية لثورة فبراير. كانت الطبقة العاملة هي التي قامت بالثورة، وقادت خلفها الفلاحين بالزي العسكري الرمادي. لماذا كانت إذن ثورة برجوازية؟ صحيح أن مضمونها الموضوعي، من حيث برنامجها ومطالبها المباشرة، كان برجوازيا ديموقراطيا. لكن ما هو الدور الذي لعبته البرجوازية فيها؟ لقد لعبت دورا معاديا للثورة، ولم تفشل في مساعيها الرجعية إلا لأن السياسيين الليبراليين، مثلهم مثل قوى الاستبداد نفسها، افتقروا إلى الوسائل المادية لوضعها موضع التنفيذ. وبعد إدراكهم لاستحالة إغراق الثورة في الدم، سارعوا إلى فبركة “حكومة مؤقتة” لمحاولة السيطرة على الحركة وإخراجها عن مسارها. انبثقت الحكومة المؤقتة عن اللجنة المؤقتة لمجلس الدوما التي أطلقت على نفسها لقب: “لجنة إعادة النظام والعلاقات مع المؤسسات والشخصيات العامة”. ترأس اللجنة رئيس مجلس الدوما السابق، ميخائيل رودزيانكو، الذي أعترف بأنه استقبل تنازل القيصر بـ“حزن لا يوصف”. ومن أعضائها البارزين أيضا كان هناك شولجين، عضو الكتلة التقدمية، الذي تمنى لو أتيحت له فرصة الحصول على البنادق “من أجل تصفية الحساب مع هؤلاء الغوغاء”. وقد فضح شولجين، عن غير قصد، الأسباب الحقيقية وراء تشكيل الحكومة المؤقتة، عندما قال: «إذا لم نأخذ السلطة، فسوف يأخذها الآخرون بدلا منا، سيأخذها هؤلاء الرعاع الذين قد انتخبوا بالفعل جميع أنواع الأوغاد في المصانع».[7]

كان يقصد بـ “الأوغاد في المصانع” أعضاء مجالس العمال (“السوفييتات”)، أي لجان النضال التي كانت ذات قاعدة عريضة، وكانت منتخبة ديمقراطياً في أماكن العمل، والتي ظهرت بسرعة على الساحة. لقد بدأ العمال من النقطة التي توقفوا عندها في عام 1906. وخلال مسار الثورة أعادوا اكتشاف كل التقاليد القديمة وأنشأوا مجالس منتخبة في كل المصانع. في الواقع لقد كانت السلطة في أيديهم بالفعل منذ فبراير. لكن المشكلة كانت هي عدم وجود حزب وقيادة يقفان إلى جانب الثورة. القادة الإصلاحيون، الذين وجدوا أنفسهم في الخط الأمامي عند بداية الثورة، والذين شكلوا الجزء الأكبر من اللجنة التنفيذية السوفياتية، لم يكن لديهم أي منظور للاستيلاء على السلطة، بل كانوا مستعجلين لتسليم السلطة للبرجوازية، على الرغم من أن هذه الأخيرة لم تلعب أي دور في الثورة وكانت خائفة منها.

لم تكن لدى الليبراليين قاعدة دعم جماهيرية حقيقية داخل المجتمع. وقد كان السبب الوحيد لقدرة الحكومة المؤقتة على البقاء هو الدعم الذي تلقته من زعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين. أدرك ممثلو الشركات الكبرى أنهم لا يستطيعون الصمود إلا من خلال الاعتماد على دعم القادة السوفييت، خاصة وأن هذا سيكون، على كل حال، مجرد إجراء مؤقت. فالجماهير سوف تتعب قريبا من هذا الجنون، وسوف تخبو الحركة تدريجيا، ومن ثم يمكنهم ببساطة توجيه رصاصة الرحمة لهؤلاء “الاشتراكيين”. لكنهم في الوقت الحالي كانوا شرا لا بد منه، لتفادي الأسوأ. لذلك فإن ممثلي الرأسماليين ابتلعوا سخطهم وقاموا بالمبادرات اللازمة. عقد القادة الإصلاحيون اجتماعا عاجلا في قصر توريد مع أعضاء مجموعة العمل التابعة للجان الصناعة الحربية ونواب الدوما المناشفة ومختلف أشكال الصحفيين والمثقفين من المعسكر المنشفي. وسرعان ما خرج المناشفة بموقف التعاون الطبقي. كان ذلك متوقعا بالتأكيد لأنه كان النتيجة المنطقية لكل مسار تطورهم السابق. نشرت صحيفتهم الرسمية بيانا في 01 مارس يدعو إلى تشكيل حكومة مؤقتة “توفر الظروف اللازمة لبناء روسيا حرة جديدة”. كان العمال قد ضحوا بدمائهم لأجل الاستيلاء على السلطة، في حين كانت البرجوازية في الهامش تراقب برعب. لكن وبالرغم من ذلك فإن المناشفة -الممثلين المنتخبين لهؤلاء “الأوغاد في المصانع”- أرادوا تسليم السلطة للبرجوازية!

لم يكن العمال والجنود يثقون في البرجوازية، لكنهم كانوا يثقون في قادتهم، وخاصة أولئك الذين كانت لديهم صورة القادة “اليساريين” الأكثر جذرية، مثل كيرنسكي. كان ذلك الوصولي المنحدر من الطبقة المتوسطة بخطابه القانوني وميله إلى الديماغوجية المسرحية، يجسد بشكل مثالي المرحلة الأولى لاستيقاظ الجماهير بما تميزت به من تشوش وارتباك وسذاجة. سمح السوفيات لكيرنسكي بالمشاركة في الحكومة المؤقتة. وهنا تكمن المفارقة الرئيسية لثورة فبراير وهي أنها جلبت إلى السلطة أولئك الذين لم يلعبوا أي دور على الإطلاق في نجاحها والذين كانوا يخشونها مثلما يخشى الشيطان الماء المقدس، أي الكاديت وحلفاؤهم الأكتوبريين. تم تشكيل الحكومة المؤقتة في 02 مارس، وكانت مكونة أساسا من كبار الملاكين العقاريين والرأسماليين. تم تعيين الأمير لفوف رئيسا لمجلس الوزراء. وكان رئيس حزب الكاديت، ميليوكوف، هو وزير الخارجية. كان وزير المالية هو بارون صناعة السكر والملاك العقاري الثري، تيريشنكو. كانت وزارة التجارة والصناعة في يد صاحب مصنع النسيج، كونوفالوف. وذهبت وزارة الحرب والبحرية إلى الأوكتوبري غوتشكوف. بينما أعطيت وزارة الزراعة إلى الكاديتي شينغاريف. كانت هذه العصابة الرجعية من المحتالين، هي من سلم لهم السوفييت زمام الحكم في روسيا!

لم يكن لدى قادة السوفييت البرجوازيين الصغار الثقة في قدرة الجماهير على إنجاز الثورة. وبسبب اقتناعهم الراسخ بأن البرجوازية هي الطبقة الوحيدة المؤهلة للحكم، فقد كانوا حريصين على تسليم تلك السلطة، التي انتزعها العمال والجنود، إلى القسم “المستنير” من الرأسماليين في أقرب فرصة ممكنة. وقد سعى المناشفة والاشتراكيون الثوريون بكل جهدهم لإقناع الجماهير بأن الحكم دون الرأسماليين كان يعني “تدمير ثورة الشعب”[8](!). لقد استمروا في تكرار أن الطبقة العاملة أضعف من أن تتمكن من إنجاز الثورة وأنه عليها ألا “تعزل” نفسها. وقد أوضح بوتريسوف الموقف المنشفي بشكل كامل عندما قال: «البرجوازية هي (الطبقة) الأكثر استعدادا اجتماعيا ونفسيا لحل المشكلات الوطنية، خلال مرحلة الثورة البرجوازية». وفي 07 مارس، كتبت جريدة المناشفة في بتروغراد، رابوتشايا غازيتا: «يا أعضاء الحكومة المؤقتة! إن البروليتاريا والجيش ينتظرون أوامركم لتوطيد الثورة وجعل روسيا ديمقراطية»[9].

لم تكن هذه الأفكار تتعارض مع ما كان الزعماء البرجوازيون في الحكومة المؤقتة يفكرون فيه. لقد كانت غريزتهم تحثهم، كما رأينا، إلى اللجوء إلى القمع، لكن ذلك كان مستحيلا في ظل الظروف القائمة، فاضطروا إلى المناورة واللعب على الوقت. لذلك “أعطوا” للجماهير ما كان العمال والجنود قد حققوه بالفعل في خضم النضال. كان الهدف الوحيد لليبراليين هو وقف الثورة عن طريق إجراء تغييرات شكلية من فوق تحافظ على أكبر قدر ممكن من النظام القديم. كان النظام القديم، رغم أنه تقوض وتداعى بشدة، ما يزال قائما وذلك بفعل استمرار القوة الاقتصادية لكبار الملاكين العقاريين وأصحاب الأبناك والرأسماليين، والجهاز البيروقراطي الضخم، وقيادة الجيش والدوما، والنظام الملكي. كانت البرجوازية الليبرالية مرعوبة للغاية من الثورة إلى درجة أنها تشبثت مثل غريق بالنظام الملكي باعتباره أقوى حصن للملكية الخاصة والنظام. ومن أجل الحفاظ على النظام الملكي، لجأت الحكومة المؤقتة إلى المناورة من أجل استبدال نيكولا الثاني بابنه، تحت وصاية شقيقه الأمير ميخائيل، على أمل تعويض أحد أعضاء آل رومانوف بآخر. في هذه الكوميديا ​​البشعة من الأخطاء، قام العمال، الذين قدموا دماءهم للإطاحة بآل رومانوف، بتسليم السلطة لزعمائهم، الذين سلموها بدورهم إلى الليبراليين البرجوازيين، الذين قاموا بدورهم بإعادتها إلى آل رومانوف!

لم يكن ذلك بسبب العمال والجنود، وخاصة النشطاء منهم، الذين تميز موقفهم بعدم الثقة تجاه السياسيين البرجوازيين في الحكومة المؤقتة. لكنهم وثقوا في قادتهم، المناشفة والاشتراكيين الثوريين، هؤلاء “الاشتراكيين المعتدلين” الذين شكلوا غالبية اللجنة التنفيذية السوفياتية والذين استمروا يقولون لهم إنه عليهم التحلي بالصبر، وإن المهمة الأولى هي توطيد الديمقراطية، والاستعداد لعقد الجمعية التأسيسية، وهلم جرا. كانت الجماهير تنصت وتفكر. وكانوا يقولون لأنفسهم ربما يجب علينا أن ننتظر لنرى؛ إن قادتنا يعرفون أفضل منا. ومع ذلك فإن الشعور بعدم الثقة كان ينمو أكثر فأكثر مع مرور كل يوم.

البلاشفة في فبراير

كان البلاشفة قد فقدوا الكثير من المواقع منذ عام 1914، وكانوا قد تعرضوا مؤخرا للقمع الشديد. يوضح الجدول 6.1، المأخوذ من Istoriya، كيف كانت قوة الحزب في فبراير.

المنطقةالعدد
بتروغراد2.000
موسكو600
الأورال500
ييكاتيرينوسلاف400
نيجني- نوفوغورود300
روستوف أريا170
تفير150- 120
إيفانوفو- فوزنيسينسك200- 150
خاركوف200
سامارا150
كييف200
ماكييفسك200- 180
(6.1) العدد التقريبي لأعضاء الحزب البلشفي حسب المناطق، في فبراير 1917 – المصدر: Istoriya KPSS

عندما نضع في اعتبارنا أننا نتحدث عن بلد ضخم، يبلغ عدد سكانه حوالي 150 مليون نسمة، نرى أن الحزب في بداية الثورة كان متناهي الصغر. لكن من الواجب علينا هنا أن نأخذ عوامل أخرى في الاعتبار: لقد كانت جودة الكوادر البلشفية أعلى بلا شك من بقية التيارات الأخرى. كانوا في معظمهم من الطبقة العاملة، وكانوا قد تلقوا تدريبا أفضل، وأكثر انضباطا من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. كانت نسبة عالية منهم تتكون ممن يمكن أن نسميهم بـ “القادة الطبيعيين” في أماكن عملهم، أي تلك العناصر الأكثر وعيا ونضالية الذين يتمتعون بثقة زملائهم العمال. كان كل واحد منهم على اتصال مع عدد أكبر من العلاقات. وكان في إمكانهم، قبل كل شيء، أن يعتمدوا على التقاليد البلشفية التي خلفتها فترة 1912-1914، وخاصة في المراكز الصناعية الكبرى. من الناحية التنظيمية كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون في حالة أسوأ بكثير. كان البلاشفة من حيث المبدأ متفوقين على بقية التيارات الأخرى. سوخانوف، الذي كان منشفيا، يشير إلى البلاشفة بأنهم التيار العمالي الرئيسي في بتروغراد في فبراير. لكن ينبغي أن نأخذ في الاعتبار هنا نوعية القيادة البلشفية في بتروغراد. ففي فبراير كان قادة البلاشفة في المدينة هم شليابنيكوف وزالوتسكي والطالب الشاب مولوتوف.

في المجلد الأول من تاريخه الزاخر بالمعلومات، يقدم المنشفي اليساري، سوخانوف، الذي كان حاضرا بدوره في الاجتماعات، الصورة التالية عن القادة البلاشفة في بتروغراد: «لقد كان لجمودهم، أو بعبارة أصح عدم قدرتهم على التفكير بطريقة صحيحة في المشاكل السياسية وصياغتها، تأثير محبط علينا».

ويعطي سوخانوف التقييم التالي لشليابنيكوف، الذي كان أحد العناصر القيادية: «شديد الدفاع عن الحزب، يمكن القول إنه متعصب، ومستعد لتقييم الثورة بأكملها من وجهة نظر نجاح الحزب البلشفي. إنه مناضل متمرس في العمل السري، ومنظم تقني ممتاز وعضو عملي جيد في الحركة العمالية، لكنه بالتأكيد ليس سياسيا قادرا على استيعاب وتعميم دروس الظروف الراهنة. فإذا وجدنا أي أفكار سياسية هنا، فإنها تعود إلى تلك القرارات الحزبية القديمة ذات الطابع العام، لكن هذا الزعيم المسؤول عن أكثر المنظمات العمالية نفوذا لم يكن لديه أي فكر مستقل، ولا القدرة أو الرغبة في العمل على أساس التحليل الملموس للحظة الحالية»[10].

لا شك أن المنشفي سوخانوف يستهين بميزات شليابنيكوف، التي يقدمها بطريقة أحادية الجانب. ومع ذلك فإن هناك ذرة من الحقيقة، على الأقل، في هذه اللوحة التي تلخص العديد من الصفات النفسية لمحترفي الحزب البلشفي. وكما حدث في عام 1905، سرعان ما فقد أعضاء اللجان هؤلاء بوصلتهم عندما واجهوا موقفا جديدا وتخلفوا عن الحركة إلى أن أعاد لينين تسليح الحزب بمنظور ثوري جديد. لطالما تم إخفاء هذه الحقيقة من خلال كتب التاريخ السوفياتية. فهي تزعم، على سبيل المثال، أن الحزب أصدر منشورا في 26 فبراير. لكن التحريات الجديدة أظهرت أن لجنة بتروغراد أصدرت أول نشرة لها في 27 فبراير. إلا أنه بحلول ذلك الوقت كانت بتروغراد في قبضة إضراب عام وكان انتشار التمرد داخل صفوف الجيش والبحرية قد حسم مصير النظام. أي، بعبارة أخرى، كانت القيادة البلشفية في بتروغراد تتبع الحركة ولا تقودها.

كيف كان رد فعل الحزب تجاه أحداث فبراير؟ يقول كتاب التاريخ الضخم للحزب الشيوعي، الذي صدر في عهد خروتشوف، إن المكتب البلشفي اجتمع، في صباح يوم 25 فبراير، وقرر اتخاذ خطوات نشيطة لنشر الحركة في جميع أنحاء البلاد. لكن تحقيقات أخرى تقدم صورة مختلفة بعض الشيء. ثورة فبراير لم تفاجئ لينين وحده، بل فاجأت الحزب بأكمله. في بداية الثورة كان الحزب ما يزال في وضع ضعيف للغاية. كان ضعيفا لدرجة أن لجنة بتروغراد، كما يشير مارسيل ليبمان في دراسته، لم تكن قادرة حتى على إصدار منشور بمناسبة ذكرى يوم الأحد الدامي في يناير 1917. ومع ذلك ففي غضون بضعة أشهر ارتفع عدد أعضاء الحزب البلشفي أكثر من عشر مرات، مما حوله إلى قوة حاسمة داخل الطبقة العاملة. يعتبر النمو الذي حققه الحزب البلشفي في عام 1917 الأكبر من نوعه في تاريخ الأحزاب السياسية بأكمله. لكن، ومع ذلك، ففي بداية الثورة أظهر الحزب أنه كان غير مستعد. لقد أخذه النهوض الجماهيري على حين غرة. قال مارسيل ليبمان: «بسبب افتقار البلاشفة إلى قيادة قوية وواضحة الرؤية، تعاملوا مع المظاهرات العمالية الأولى في العاصمة بقدر كبير من الاحتياط، بل وحتى الشكوك التي تذكرنا بموقفهم في يناير 1905. لقد كانوا معزولين إلى حد ما في المصانع التي كانوا يعملون فيها».

في بداية الثورة لم يقدم البلاشفة صورة جيدة عن أنفسهم. لقد تجاوزتهم الحركة إلى درجة أن بلاشفة بتروغراد حاولوا في البداية كبح الحركة في اليوم العالمي للنساء. ويتذكر ف. ن. كايوروف، وهو عضو في اللجنة الرئيسية لمقاطعة فيبورغ، كيف تدخل في اجتماع للعاملات في 22 فبراير: «شرحت معنى “اليوم العالمي للنساء” والحركة النسائية بشكل عام، وعندما توجب علي الحديث عن اللحظة الراهنة، سعيت أولا وقبل كل شيء إلى حث النساء على الامتناع عن أي مظاهرات والتصرف بناء على تعليمات لجنة الحزب». لكن العاملات لم يكن في مزاج الانتظار. فرأى كايوروف “بدهشة” و“سخط” كيف تم تجاهل شعارات الحزب. «لقد غضبت من سلوك المضربات. فقد كان من الواضح، في المقام الأول، أنهن تجاهلن القرارات التي اتخذتها لجنة المقاطعة التابعة للحزب، ومقترحاتي. كنت في الليلة السابقة قد دعوت النساء العاملات إلى التحلي بضبط النفس والانضباط -فإذا بنا الآن أمام هذا الإضراب»[11].

يؤكد تروتسكي في تاريخه أنه “بالنسبة إلى البلاشفة كانت الأشهر الأولى من الثورة فترة من الحيرة والتذبذب”[12]. وهناك الكثير من الأدلة لدعم هذا القول. كان أكثر القادة خبرة والأكثر نضجا من الناحية السياسية إما في السجن أو في سيبيريا أو في الخارج. وكانت قيادة بتروغراد، كما رأينا، غير مستعدة للمهام المطروحة عليها. كان المكتب الروسي مؤلفا من شليابنيكوف ومولوتوف وزالوتسكي، والذين كانوا على اتصال مع لينين من خلال المراسلات. يتذكر عضو لجنة مقاطعة فيبورغ، كايوروف، أنهم «لم يتلقوا على الإطلاق أي توجيهات من الأجهزة القيادية للحزب. كان أعضاء لجنة بتروغراد قد تعرضوا للاعتقال، ولم يتمكن الرفيق شليابنيكوف، الذي يمثل اللجنة المركزية، من إعطاء توجيهات للنشاط المستقبلي»[13].

بعد أن تجاوزوا الصدمة الأولى وبمجرد أن أصبحت آفاق النضال العمالي واضحة، بدأ البلاشفة في الرد بشكل صحيح، من خلال دعم الإضرابات والعمل على توسيع مداها. بدأ المزيد من العمال ينخرطون في حركة الإضرابات، وبحلول 25 فبراير وصل عدد المضربين في بتروغراد إلى 300.000. وبمبادرة من العاملات تحولت موجة الإضرابات تدريجيا إلى إضراب سياسي عام انخرط فيه عمال الترام والورشات الصغيرة والمطابع والمحلات التجارية. صدرت منشورات تحمل شعارات من قبيل: “فلننخرط جميعا في النضال!”، “فلنخرج إلى الشوارع!”، “فلتسقط الملكية القيصرية!”، “فلتسقط الحرب!”.

وتدريجيا بدأ البلاشفة في بتروغراد يتعافون من ارتباكهم الأول وانخرطوا في العمل. في اليوم الذي بدأ فيه إطلاق النار، تم إلقاء القبض على ثلاثة أعضاء في اللجنة المركزية البلشفية، فتولت اللجنة المحلية في فيبورغ مهمة قيادة العمل في بتروغراد. وابتداء من صباح يوم 27 فبراير، تم إرسال جميع قوى منظمة بتروغراد إلى المصانع والثكنات. تم الاستيلاء على مخازن الأسلحة. نظم البلشفي ألكسييف العمال الشباب بمصنع بوتيلوف في مجموعة هجومية لمهاجمة رجال الشرطة والاستيلاء على أسلحتهم. وفي مساء يوم 27، اجتمعت القيادة البلشفية، التي كانت مشكلة أساسا من أعضاء لجنة فيبورغ، لمناقشة الإجراءات اللازمة لتحويل الإضراب العام إلى انتفاضة مسلحة. وصدر الأمر بالتآخي مع الجنود ونزع سلاح الشرطة ومداهمة مخازن الأسلحة والعتاد وتسليح العمال.

وبمجرد تعافيهم من عدم استعدادهم الأولي، اتخذ بلاشفة بتروغراد موقفا أكثر هجومية. نددوا بالاتفاقيات مع الليبراليين البرجوازيين، وانتقدوا دعاة الدفاع عن الوطن وطالبوا العمال بالتحرك الفوري. ذهب العمال إلى الثكنات وتآخوا مع الجنود وكانوا يستقبلون في كل مكان بتضامن حماسي. الجنود، الذين كان بعضهم من عمال بوتيلوف السابقين، كانوا في مزاج ثوري. وكانت القوات تأتي تباعا فوجا تلو آخر. نفس الشيء كان يحدث في موسكو. وجنبا إلى جنب مع العمال استولى الجنود المتمردون على الترسانة المركزية في بتروغراد. وسرعان ما صارت 40.000 بندقية و30.000 مسدس تحت تصرف العمال. لم يكن انتقال الجيش إلى صف الثورة من قبيل الصدفة، بل كان نتيجة سنوات من الخبرة القاسية في الخنادق، وكذلك نتيجة الاستياء المتراكم للفلاح الروسي الذي طالت معاناته، والذي أوصلته الحرب إلى أقصى حدود تحمله. لكن لا يمكن إنكار الدور الذي قام به عدد هائل من الأبطال المجهولين.

الرواية التي عادة ما يحكيها المؤرخون البرجوازيون هي أنه بينما كانت ثورة أكتوبر مجرد “انقلاب”، فإن ثورة فبراير كانت حركة بدائية عفوية للجماهير. الاستنتاج الضمني لهذا الزعم هو أن “ثورة أكتوبر كان شيئا سيئا”، «مؤامرة أقلية صغيرة، أدت بشكل حتمي إلى الديكتاتورية، في حين أن ثورة فبراير… حسنا، فباعتبارها ثورة فإنه لا ينبغي للمرء، بالطبع، أن يوافق على حدوثها، لكن النظام القيصري لم يكن جيدا، لذا فقد مثلت حركة ديمقراطية، حركة للأغلبية». هذين التصريحين كلاهما خاطئ. فثورة أكتوبر لم تكن انقلابا ولا مؤامرة، بل كانت تعبيرا منظما عن إرادة الأغلبية الساحقة التي ناضلت لمدة تسعة أشهر لإيجاد حل لمشاكلها من خلال سلطة السوفييتات. ومن ناحية أخرى فإن وصف ثورة فبراير بأنها مجرد حركة “عفوية”، تصور سطحي أحادي الجانب. لا يمكن للمرء أن يقول عنها ذلك إلا بمعنى أنه لم يقم أي حزب بتنظيمها. لكن هذا غير كاف. إذ أنه يعطي الانطباع بوجود نوع من النهوض الأعمى، مثل تدافع قطيع من الثيران بدون نظام أو سبب. إن استخدام كلمة “عفوية” في هذا السياق لا يفسر شيئا، وهو مجرد غطاء لعدم وجود تفسير، أو لما هو أسوأ من ذلك، أي احتقار “الجماهير الجاهلة” التي تعزى أفعالها إلى مجرد “غريزة القطيع”.

لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إن الحزب البلشفي قد قاد ثورة فبراير. لكن ومع ذلك فإن هناك من قادها. أحد ما أخذ زمام المبادرة، ودعا إلى الإضرابات ونظم المظاهرات. يعرف كل عامل أنه حتى الإضراب لمدة ساعتين لا بد له من قيادة. هناك دائما شخص ما يأخذ زمام المبادرة. يتعين على شخص ما الدخول إلى مكتب المدير لتقديم مطالب العمال. وذلك الشخص يتم اختياره من طرف العمال. والاختيار ليس “عفويا” (أي عرضيا). يختار العمال ممثليهم من بين الأكثر وعيا والأكثر شجاعة، يختارون الرجل أو المرأة الأكثر التزاما لتمثيلهم. ويكون لهذا الشخص تاريخ لم يبدأ بالأمس فقط. يكون أو تكون شخصا معروفا عند العمال بكونه يعرف جيدا وضعهم ومطالبهم. هؤلاء هم القادة الطبيعيون للطبقة العاملة. ويكونون غالبا، لكن ليس دائما، أعضاء في النقابات والأحزاب السياسية اليسارية. وفي حالة روسيا، كانوا أساسا من البلاشفة.

على الرغم من أن البلاشفة كانوا ما يزالون أقلية صغيرة من الناحية العددية، فإنهم بحلول ذلك الوقت كان لديهم مئات الأعضاء في المصانع الرئيسية: ما بين 75 و80 عضوا في مصنع ليسنر، وحوالي 30 عضوا في أحواض بناء السفن “روسو- بلطيق” و“إيجورسكي”، ومجموعات أصغر في مصانع أخرى. وفي مصنع بوتيلوف، بعماله البالغ عددهم 26.000، كان هناك 150 بلشفيا. كانت تلك أعداد صغيرة جدا، لكن وبفضل سياساتهم الطبقية الثورية الحازمة، فإن البلاشفة الأفراد لعبوا في أحداث فبراير دورا أكبر بكثير من قوتهم العددية. وبدون انتظار توجيهات من الحزب، تحرك العمال البلاشفة في المصانع والثكنات، حيث وفروا قيادة حاسمة للمضربين والمتظاهرين. لقد زودهم نشاطهم السياسي السابق برصيد سياسي وضعهم في قيادة الجماهير التي التفت حولهم.

ليس هناك شك في أن العمال البلاشفة الأفراد، الذين كانوا أكثر العناصر تنظيما وكفاحية في المصانع، قد لعبوا دورا رئيسيا في الثورة، حيث أعطوا لشعارات الحركة محتوى طبقيا ثوريا وأعطوها شكلا منظما، وذلك دون انتظار أوامر القيادة البلشفية. لم يكونوا قد قرأوا الكثير من النظرية، وفي معظم الحالات كانوا بالكاد يتذكرون الشعارات الحزبية الأساسية حول الحرب والأرض والجمهورية ويوم العمل من ثماني ساعات. لكن هذا القدر المحدود من الأفكار، المرتبط بالغريزة الطبقية الأساسية والروح الثورية، كان كافيا لمنحهم تفوقا هائلا وجعلهم يتحولون إلى عمالقة في أماكن عملهم وفي الشوارع. لقد عاد المحرض الحزبي الآن إلى وسطه الطبيعي.

كان هؤلاء القادة المحليون قادرين بما يكفي على قيادة العمال للإطاحة بالقيصر، لكن ليس أكثر من ذلك. ومن أجل المضي قدما، كانوا في حاجة إلى توجيهات حازمة وواضحة من طرف قيادة الحزب. لكن القيادة البلشفية في بيترسبورغ، التي كانت ما تزال متمسكة بشعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، الخاطئ والمتجاوز، لم يكن لديها أي منظور لمساعدة الطبقة العاملة على حسم السلطة. حتى أكثرهم راديكالية لم يكن ينظر إلى أبعد من إقامة جمهورية برجوازية. وبالتالي فإن الإطاحة بالقيصر تركتهم في حيرة من أمرهم. وهكذا فرغم أن الدور القيادي في انتفاضة فبراير كان للعمال البلاشفة أساسا، فإن قادة البلاشفة في بتروغراد فقدوا المبادرة نتيجة ترددهم. لقد أثبت العمال والقواعد، كما كرر لينين في كثير من الأحيان، أنهم أكثر ثورية بكثير من الحزب الأكثر ثورية.

في الثكنات، كما الحال في المصانع، كان العديد من “القادة الطبيعيين” للجنود من البلاشفة الذين عادوا إلى وسطهم الطبيعي، مثل عمال بوتيلوف السابقين الذين كانوا قد انضموا إلى الجيش خلال الحرب. كانت الأقسام الرئيسية الأكثر تقدما بين صفوف الحرس تحت تأثير البلاشفة. لم تمر دروس السنوات سدى. كان معظم هؤلاء من البلاشفة الذين تدربوا في المدرسة الثورية لسنوات 1905 و1912-1914. لكن الجماهير كانت مختلفة تماما. لقد غيرت الحرب تكوين العاملين في المصانع، لكونها جرت إلى المصانع عددا كبيرا من الفئات المتخلفة وغير المنظمة والتي تفتقر إلى الخبرة. لذلك فإنه لكي تستخلص تلك الجماهير، المشكلة من عشرات الملايين، جميع الاستنتاجات الضرورية، كان من الضروري لها المرور من تجربة أخرى. من الطبيعي أن يبحث الناس عن الطريق الأسهل والأقل مقاومة، حتى خلال الثورة. ولهذا السبب بالذات دائما ما تتشبث الجماهير بعناد بمنظماتها الجماهيرية التقليدية. إن تفكير الجماهير اقتصادي للغاية: لماذا نتخلص من أداة قديمة قبل محاولة استعمالها؟ كان الاختلاف الوحيد الذي يميز روسيا في عام 1917 عن بقية البلدان هو أن الجماهير العريضة لم يكن لديها أي حزب معترف به ولا نقابة عمالية جماهيرية، بل كانت لديها فقط فكرة غامضة عن “الاشتراكيين الديمقراطيين”. صحيح أن أكثر العمال تقدما كانوا بلاشفة، وقد كانوا في الفترة التي سبقت الحرب مباشرة يشكلون غالبية العمال، المنظمين منهم على الأقل. لكن الجماهير التي كانت قد استيقظت للتو على الحياة السياسية لم تكن تستطيع بعد التمييز بين اليسار واليمين. لم يكونوا مهتمين بعد بالتفاصيل البرنامجية، بل تحركوا بفعل رغبة عامة في التغيير. لقد كانوا قادرين على القيام بالثورة لكنهم لم يكونوا قادرين على منع السلطة من الانزلاق من بين أيديهم. كانت ممارساتهم أكثر تقدما من وعيهم. لقد تطلب الأمر المرور من تجربة الأحداث العظيمة إضافة إلى العمل الصبور من جانب البلاشفة لرفع وعي الجماهير إلى المستوى الذي يتطلبه الوضع الحقيقي.

وهذا ما يفسر أيضا لماذا لم تكن الحدود التي تفصل بين العمال البلاشفة والعمال المناشفة واضحة تماما. فجأة بدت الاختلافات بينهم أقل أهمية. ألم يدافع كلا التياران عن جمهورية برجوازية ديموقراطية؟ وعلى أي حال فقد كانت هناك رغبة قوية في توحيد الصفوف نتيجة للثورة نفسها. لقد ناضل العمال المناشفة، الذين جرفتهم الموجة الثورية، جنبا إلى جنب مع البلاشفة. وكانت فكرة الوحدة الميدانية بين جميع المجموعات الثورية واسعة الانتشار في ذلك الوقت. على مستوى القواعد كان العمال البلاشفة والمناشفة وحتى الاشتراكيين الثوريين يتعاونون ميدانيا دون أية صعوبات. بل في العديد من المناطق اندمجت المجموعات الاشتراكية الديمقراطية بشكل تلقائي. هذه الحقيقة مهمة للغاية. إنها توضح مدى قوة فكرة الوحدة داخل الطبقة العاملة كما توضح مدى تعقيد مهمة بناء حزب ثوري.

على الرغم من أن البلاشفة كانوا قد نجحوا خلال سنوات 1912-1914 في كسب أكثر من أربعة أخماس العمال المنظمين في روسيا، وعلى الرغم من أن المناشفة لم يلعبوا أي دور خلال فترة الحرب، فإنه خلال أيام فبراير- أبريل العاصفة، اندمج التياران مرة أخرى في منظمة واحدة في كل المقاطعات، باستثناء موسكو وبتروغراد. بل إنهم في الواقع استمروا متحدين، في العديد من المناطق، حتى اندلاع ثورة أكتوبر. هذا دليل على قوة الراية القديمة للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، على الرغم من كل ما حدث سابقا. حتى في روسيا عام 1917، لم يحقق كفاح لينين من أجل فصل التيار الثوري الحقيقي النجاح بسهولة أو بضربة واحدة. في روسيا، كما هو الحال في كل بلد آخر، لم تنزل القوات البلشفية والأممية الشيوعية المستقبلية من السماء، بل تشكلت في خضم الصراع بين التيارات المتناقضة داخل المنظمات التقليدية للطبقة العاملة (الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية) وأسفرت، بعد فترة طويلة من الصراع مع العديد من التقلبات، عن حدوث الانشقاق وتشكيل حزب جديد. هذه السيرورة، التي حاولنا شرح خطوطها العريضة في كتابنا هذا، لم تنتهِ إلا في أكتوبر 1917، عندما تمكن الجناح الثوري أخيرا من كسب أغلبية حاسمة داخل السوفييتات وقاد الطبقة العاملة إلى الاستيلاء على السلطة.

المناشفة وثورة فبراير

الثورة، بطبيعتها، حدث يحرك المجتمع من أعماقه، ويوقظ ملايين الجماهير المتخلفة سياسيا والخاملة إلى العمل السياسي. وفي بلد متخلف، يغلب عليه الفلاحون مثل روسيا، كان هذا يعني إيقاظ الفلاحين وغيرهم من فئات البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف. وقد لعب ضغط الجماهير البرجوازية الصغيرة دورا هائلا خلال المراحل الأولى للثورة. انعكس ذلك في نظام الانتخاب داخل السوفييتات. في البداية، كان يحق للعمال في بتروغراد الحصول على ممثل واحد مقابل كل 1.000 ناخب، بينما كان الجنود ينتخبون ممثلا واحدا عن كل سرية. وقد أعطى نظام التصويت هذا غلبة ساحقة للجنود، أي الفلاحين، على ممثلي العمال داخل السوفييتات. كان هناك 2.000 ممثل عن الجنود مقابل 800 عن العمال. غرق البلاشفة في بداية الثورة في هذا البحر من الفلاحين المفتقدين لأي تكوين سياسي والذين كانوا أميين في أغلبهم. وبدافع من عقليتهم البرجوازية الصغيرة كانوا يميلون إلى انتخاب ممثليهم من بين “المثقفين” و“السادة الذين يعرفون كيف يتحدثون”، والذين كانوا في أغلبيتهم الساحقة من أبناء الطبقة الوسطى الديمقراطية (كان كثير منهم من صغار الضباط) الذين انجذبوا على نطاق واسع إلى الأحزاب الاشتراكية والإصلاحية المعتدلة، أي المناشفة والاشتراكيين الثوريين.

كان أبرز قادة المناشفة -دان وتشخيدزه و تسيريتيلي- من أنصار الدفاع عن الوطن، إلا أنه كانت هناك مجموعة صغيرة من المناشفة الأمميين -مارتوف ومارتينوف وغيرهما- الذين عارضوا الحرب. في البداية انتقلت هذه العناصر الإصلاحية اليسارية أو “الوسطية” (الوسطية بمعنى أنها تقف بين الماركسية والإصلاحية) إلى معسكر اليسار، لكنها، كما هي العادة دائما، لم تكن تريد القطيعة التامة مع أنصار الدفاع عن الوطن، وبالتالي انتقلت لاحقا إلى معسكر اليمين. كان الجناح اليميني للمناشفة هو الذي حدد خطهم السياسي في عام 1917، على عكس ما كان عليه الحال في عام 1905. لم يلعب “اليسار” عندهم أي دور مستقل، ولم يكن يمكنه ذلك. كان التيار الثوري الوحيد المنسجم هو الحزب البلشفي، الذي استقطب إلى صفوفه، كما لاحظ لينين لاحقا، أفضل العناصر داخل الحركة العمالية الروسية. وقد وجد أفضل الإصلاحيين اليساريين طريقهم، بشكل أو بآخر، إلى صفوف الحزب البلشفي. بينما اختفى الآخرون دون أن يتركوا أي أثر.

الزعماء المناشفة والاشتراكيون الثوريون، الذين سيطروا على السوفييتات في البداية، كانوا من الناحية العملية قد وصلوا إلى القيادة دون أن ينتخبهم أحد. لكنهم في البداية تفوقوا على البلاشفة بفعل مجموعة من المزايا: كانت لديهم “الأسماء الكبيرة” من برلمانيي الدوما، والأشخاص المعروفين عند الجماهير من خلال الصحافة الشرعية خلال سنوات الحرب. كما أنهم عرضوا ما بدا وكأنه “الطريق الأسهل للحل” على جماهير العمال والفلاحين المفتقدين للوعي السياسي والذين تدفقوا للتو على الساحة وهم مشبعون بالأوهام بخصوص الديمقراطية البرجوازية. كان هؤلاء الزعماء البرجوازيين الصغار مرعوبين من الثورة وكانوا منذ الوهلة الأولى حريصين على تسليم السلطة إلى القادة “الطبيعيين” للمجتمع، أي البرجوازية[14].

كانت هناك أسباب أخرى لتمكن المناشفة والاشتراكيين الثوريين من احتلال الصدارة بعد فبراير. فبروليتاريا بتروغراد، التي كانت متأثرة بشدة بالبلشفية سنوات 1912-1916، تعرضت لتغيير عميق في تكوينها خلال الحرب، فلم يكن لتلك الفئات التي دخلت المصانع مؤخرا نفس مستوى الوعي أو التقاليد الذي كان يتمتع به عمال عام 1905 الذين حلت محلهم. يشرح تروتسكي ذلك قائلا: «كانت هيمنة مثقفي الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى انعكاسا لحقيقة أن الفلاحين، الذين استدعوا فجأة إلى المشاركة في الحياة السياسية المنظمة، من خلال آلية الجيش، قد اكتسحوا بأعدادهم الهائلة البروليتاريا ودفعوها جانبا. والأكثر من ذلك هو أنه عندما ارتفع قادة الطبقة الوسطى إلى الذروة على يد جماهير الجيش القوية، فإن الطبقة العاملة نفسها، باستثناء أقسامها المتقدمة، صارت بشكل حتمي مشبعة بنوع من الاحترام السياسي لهم وحاولت الحفاظ على العلاقات السياسية معهم خوفا من أن تجد نفسها منفصلة عن الفلاحين، وهو الشيء الذي كان خطيرا للغاية، لأن الجيل الأكبر سنا ما يزال يتذكر درس 1905، عندما تعرضت البروليتاريا للسحق، بسبب أن جماهير الفلاحين الهائلة لم تأت في الوقت المناسب للمشاركة في المعارك الحاسمة. هذا هو السبب الذي جعل الجماهير البروليتارية، خلال المرحلة الأولى من الثورة الجديدة، تظهر قبولها للأيديولوجيا السياسية للاشتراكيين الثوريين والمناشفة، خاصة وأن الثورة كانت قد أيقظت الجماهير المتخلفة من العمال، وبذلك جعلت من التجذر اللفظي للمثقفين ما يشبه مدرسة إعدادية لها»[15].

كانت الشخصيات البارزة في سوفييت بتروغراد: تشخيدزه، وكيرنسكي -رئيس مجلس السوفييت- وسكوبيليف، جميعها من المناشفة وأنصار الدفاع عن الوطن. وفي اللجنة التنفيذية للسوفييت، كان هناك 12 آخرين، إلى جانب اثنين فقط من البلاشفة: شليابنيكوف وزالوتسكي. وبناء على اقتراح من البلاشفة تم توسيع اللجنة التنفيذية لتشمل ثلاثة ممثلين من كل حزب: المناشفة والبلاشفة والاشتراكيين الثوريين. وبهذه الطريقة تمت إضافة مولوتوف وك. إ. شتوكو، للبلاشفة وب. إ. شتوخكا عن الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين. في 09 مارس، صار العدد الإجمالي للبلاشفة داخل السوفييت هو 40. كان الجيش بدوره ممثلا داخل السوفييت. أرسل الجنود مندوبين عنهم إلى قصر توريد، بمن فيهم ممثلون عن الجنود في الجبهة. كان ذلك يعني، في الواقع، أنه ولأول مرة يجلس ممثلو الفلاحين إلى جانب إخوانهم البروليتاريين. وكان هذا بالفعل تطبيقا عمليا للوحدة الثورية بين البروليتاريا والفلاحين.

أصدر السوفييت جريدته الخاصة، إيزفستيا (الخبر)، والتي صدر العدد الأول منها في 28 فبراير تحت إشراف ي. م. ستيكلوف. وهكذا تشكل أخيرا برلمان الشعب الثوري المسلح! لم يكن في إمكان أي قوة على الأرض أن تمنعه من الاستيلاء على الأرض والمصانع وإنشاء جمهورية ديمقراطية حقيقية للكادحين. كان يكفيه أن يقرر فعل ذلك. لكن كانت هناك عقبة واحدة فقط وهي أنه تعين على العمال والفلاحين أن يكونوا واعين بقوتهم. إلا أن هذا الوعي كان ما يزال مفقودا. وبهذه الطريقة ظهر وضع “ازدواجية السلطة” الغريب.

شرح تروتسكي أسباب ازدواجية السلطة قائلا: «كانت “الجبهة الموحدة” المشكلة من المناشفة والاشتراكيين الثوريين تسيطر على السوفيات وكانت السلطة في أيديها في الواقع. كانت البرجوازية مصابة بالشلل السياسي التام لأن العشرة ملايين جندي، الذين أرهقتهم الحرب، وقفوا بأسلحتهم إلى جانب العمال والفلاحين. لكن أكثر ما كان قادة “الجبهة الموحدة” يخشونه هو “إخافة” البرجوازية و“دفعها” إلى معسكر الردة الرجعية. لم تجرؤ الجبهة الموحدة على معارضة الحرب الإمبريالية ولا على مس البنوك أو الملكية الإقطاعية للأراضي أو المتاجر أو الشركات. كانت تضيع الوقت وتطلق الجمل العامة بينما كانت الجماهير تفقد صبرها. بل وأكثر من ذلك، فقد قام المناشفة والاشتراكيون الثوريون بنقل السلطة مباشرة إلى حزب الكاديت، الذي كان الكادحون يرفضونه ويحتقرونه»[16].

تشبث المناشفة والاشتراكيون الثوريون بالليبراليين البرجوازيين، بينما تشبث هؤلاء الأخيرون بما تبقى من النظام القديم. العمال والفلاحون، الذين كانوا قد استيقظوا للتو على الحياة السياسية، كانوا يسعون جاهدين لإيجاد طريقهم، وكانوا ما يزالون يفتقرون إلى الخبرة والثقة بالنفس للاعتماد على قوتهم الخاصة. لقد أدرك لينين على الفور أهمية السوفييت باعتباره “حكومة شعبية حقيقية”، لكن هذا التصور كان كتابا مغلقا بالنسبة لقادة جميع الأحزاب، بمن فيهم البلاشفة أنفسهم في البداية. كانت الأولوية الرئيسية بالنسبة لليبراليين البرجوازيين هي استعادة “النظام” و“إعادة الأمور إلى طبيعتها”. إلا أن العمال والجنود رفضوا بشكل غريزي إلقاء سلاحهم أو التراجع خطوة إلى الوراء، بعد أن قطعوا شوطا طويلا، واتجهوا نحو السوفييت بحثا عن التوجيه والقيادة. ومع تزايد الشكوك، جاء وفد من الجنود ونواب البحارة إلى قصر توريد لتقديم مطالبهم إلى السوفييت. كان اثنان من أعضاء هذا الوفد (أ. م. باديرين وأ. د. سادوفسكي) من البلاشفة.

لم تكن تقلبات قادة البلاشفة في بتروغراد تعكس موقف العمال البلاشفة الذين كانوا على اتصال أكثر بالمزاج السائد داخل المصانع والثكنات. طالب البلاشفة في منطقة فيبورغ باستيلاء السوفييت على السلطة. وبطبيعة الحال رفض قادة السوفييت ذلك بمبرر أن الثورة كانت “برجوازية” وأن الطبقة العاملة “غير مستعدة” بعد لتولي السلطة. كان السياسيون البرجوازيون يناورون من أجل هزيمة الثورة. وبينما دعا الشوفينيون الصريحون إلى انضمام قادة السوفييت إلى حكومة مع البرجوازية، فضّل المتسترون منهم (تشخيدزه وسوخانوف وستيكلوف) البقاء خارج الائتلاف، لكنهم عارضوا في نفس الوقت استيلاء السوفييت على السلطة، وعوض ذلك قالوا بأنه على السوفييت أن “يراقب” الحكومة البرجوازية من الخارج. كانت هذه المحاولة للجمع بين النار والماء استباقا للموقف الذي اتخذه فيما بعد الوسطيون الألمان الذين دافعوا عن خلق نظام مختلط تتواجد فيه مجالس العمال (السوفييتات) جنبا إلى جنب مع الحكومة البرجوازية. وهو نفس الموقف الذي دافع عنه ستالين وكامينيف.

كانت سياسة المناشفة تتعارض مع رغبة الجماهير، لكن هذه الأخيرة كانت ما تزال تفتقر إلى الخبرة السياسية وساذجة وشديدة الثقة في قادتها. كان الخطباء المناشفة و“الأسماء الكبيرة” يثيرون الرهبة عندها ويسكتون شكوكها. وباسم “الوحدة” و“الدفاع عن الديمقراطية” ووحدة جميع “القوى التقدمية”، وما إلى ذلك، أكدوا على أن الطبقة العاملة لا يمكنها أن تحول المجتمع “من تلقاء نفسها”، وكل تلك السلسلة من الخزعبلات التي يستعملها بشكل دائم القادة الإصلاحيون لإقناع العمال بأنهم عاجزون عن تغيير المجتمع، وأنه يجب عليهم أن يتحملوا إلى الأبد حكم رأس المال. لقد جادلوا بأن السوفييت سوف “يضغط على الليبراليين البرجوازيين” من أجل أن يعملوا لمصلحة العمال.

البلاشفة والحكومة المؤقتة

في مواجهة تحول جديد وغير متوقع للأحداث، شعر قادة البلاشفة في بتروغراد بالضياع التام. وبدأوا ينتظرون بفارغ الصبر وصول القادة المنفيين ليوفروا لهم التوجيه الضروري. يعترف شليابنيكوف بأن البلاشفة، الذين ركزوا كل جهودهم على كسب المعركة المباشرة من أجل السلطة، لم يفكروا كثيرا في مسألة معنى السلطة وكيف سيتم بشكل ملموس تشكيل “الحكومة الثورية المؤقتة”. كان ذلك، في آخر التحليل، نتيجة للنظرية الخاطئة التي لخصتها صيغة “الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، والتي تسببت في شل القادة البلاشفة وإرباكهم بشكل كامل بعد الإطاحة بالقيصر. لم يكن حتى لأكثرهم تجذرا منظور آخر سوى تعزيز النظام البرجوازي. كتب أولمنسكي قائلا: “يجب أن تكون الثورة القادمة ثورة برجوازية فقط”، مضيفا إن: «ذلك كان موقفا إلزاميا لكل عضو في الحزب، كان المبدأ الرسمي للحزب وشعاره الدائم الذي لم يتغير حتى ثورة فبراير 1917، بل ولفترة من الزمن بعد ذلك». وقد عبرت برافدا عن نفس تلك الفكرة بشكل أكثر فظاظة، في عددها الصادر يوم 07 مارس 1917، أي حتى قبل أن يعطيها ستالين وكامينيف توجها أكثر يمينية، حيث كتبت: «بالطبع ليس لدينا أي وهم بخصوص راهنية سقوط حكم رأس المال، إن ما يجب أن يسقط هو فقط الحكم الاستبدادي والإقطاع»[17].

وعلى عكس هؤلاء القادة فقد أظهر العمال البلاشفة في المصانع موقفا صحيا تمثل في عدم الثقة في الحكومة المؤقتة منذ البداية. لم يقم منظورهم للثورة على الشعارات القديمة، بل على غريزتهم الطبقية والثورية. لقد كانوا في كل مرحلة يقفون على يسار اللجنة المركزية، التي كانت تتأرجح كثيرا قبل أن يتولى لينين زمامها. ومن المفارقات هي أن غياب القادة في بتروغراد في البداية سمح لصوت القواعد أن يصير مسموعا بشكل أكثر وضوحا. كانوا بمجرد ما يتجاوزون فترة الارتباك الأولي، يعودون فيتبنون موقفا صحيحا إلى حد ما. وهكذا فقد أصدر بلاشفة بتروغراد بيانا، رحب به لينين بحرارة، تحت عنوان “إلى جميع مواطني روسيا”، حيث طالبوا بإقامة جمهورية ديمقراطية وإقرار يوم عمل من ثماني ساعات، والاستيلاء على ممتلكات الملاكين العقاريين ووضع حد فوري للحرب الامبريالية.

كان من شأن ذلك الموقف أن يضع البلاشفة في مواجهة جميع التيارات الأخرى داخل “المعسكر التقدمي” الذي كان يحاول كبح الثورة من أجل الوصول إلى تسوية مع الليبراليين البرجوازيين. وعلى الرغم من أنه لم يشر إلى السوفييت، فإنه قال: «يجب على عمال المصانع والجنود الثوريين انتخاب ممثليهم على الفور لتشكيل حكومة ثورية مؤقتة، والتي يجب أن تقوم تحت حماية الشعب والجيش الثوري».

كما دعا البيان إلى إنشاء السوفييتات، حيث قال: «انتقلوا مباشرة إلى انتخابات لجان الإضراب في المصانع. ممثلو تلك اللجان سوف يشكلون سوفييت نواب العمال، الذي سيتولى الدور التنظيمي داخل الحركة والذي سيشكل حكومة ثورية مؤقتة».

لقد انعكس الموقف الثوري الغريزي للقواعد البلشفية ومعارضتها للتعاون الطبقي في ذلك الموقف الجذري الذي تبنته برافدا خلال الأيام الأولى للثورة، قبل وصول ستالين وكامينيف. كتبت برافدا يوم 09/03/1917: «يجب على سوفييت نواب العمال والجنود أن يتخلص فورا من هذه الحكومة المؤقتة البرجوازية الليبرالية ويعلن نفسه أنه الحكومة الثورية المؤقتة»[18].

لكن وصول القادة المنفيين غير الأمور على الفور إلى الأسوأ. فنظرا لأن لينين كان قد تقطعت به السبل في سويسرا حيث كان محاصرا، بسبب رفض الحلفاء السماح له بالسفر إلى روسيا عبر أراضيهم، فقد كان أول من عاد إلى روسيا هم أولئك الذين كانوا منفيين في سيبيريا، ومن بينهم كامينيف وستالين، اللذان قاما على الفور بتوجيه الحزب في اتجاه اليمين، مما جعله يقترب من المناشفة.

انضم زعماء البلاشفة في روسيا إلى المناشفة والاشتراكيين الثوريين في دعم الحكومة المؤقتة، برئاسة الأمير لفوف، على الرغم من كل تحذيرات لينين ضد التكتل مع البرجوازية الليبرالية. كانت هناك اختلافات حادة بين بلاشفة الداخل حتى قبل عودة ستالين وكامينيف. وعندما عرض مولوتوف على لجنة بتروغراد، قرارا باسم اللجنة المركزية، ينتقد الحكومة المؤقتة ويدين سياستها المناهضة للثورة ويدعو إلى استبدالها بـ “حكومة ديمقراطية”، تم رفضه. وبدلاً من ذلك أصدرت لجنة بتروغراد قرارا تعلن فيه الامتناع عن شن أي هجمات على الحكومة المؤقتة «طالما كانت ممارساتها تتوافق مع مصالح البروليتاريا وعموم جماهير الشعب الديمقراطية»[19]. وعوض أن يعملوا على الظهور كقوة ثورية مستقلة، اكتفى قادة البلاشفة في بتروغراد بلعب دور العجلة الخامسة في عربة “الديمقراطيين التقدميين”. كان ذلك يعكس ضغط الرأي العام البرجوازي الصغير. كان المزاج العام السائد في أعقاب الإطاحة بالقيصر شهر فبراير هو النشوة والابتهاج العام. ازداد الضغط المكثف من أجل وحدة جميع “القوى التقدمية”، ونزل بثقله على كاهل الشريحة القيادية للجناح الأكثر راديكالية، الذي كان يتم حثه باستمرار على تعديل مواقفه والتوافق مع الأغلبية. لقد أدى ذلك إلى إرباك القادة البلاشفة، وجعلهم يتجهون نحو التقارب مع المناشفة. حيث شهدت العديد من المناطق دمج اللجان المحلية البلشفية والمنشفية بشكل تلقائي. يتذكر تروتسكي ذلك قائلا: «لقد سقطت الحواجز بين البلاشفة والمناشفة، بين الأمميين وبين الوطنيين. واجتاحت البلد بأسره نزعة توفيقية نشيطة لكنها قصيرة النظر وكثيرة الاطناب. كان تخبط الناس في فوضى من العبارات البطولية هو الميزة الرئيسية لثورة فبراير خاصة خلال الأسابيع الأولى. كانت مجموعات المنفيين قد بدأت تصل من جميع أطراف سيبيريا واندمجت في تيار واحد تدفق غربا في جو من العدوى السامة»[20].

أدى وصول المنفيين من سيبيريا على الفور إلى إضفاء ميل يميني حاد على المواقف السياسية التي اتخذتها القيادة البلشفية في بتروغراد. حتى ذلك الوقت كانت القيادة المحلية، المؤلفة من شليابنيكوف وزالوتسكي ومولوتوف، قد سلكت مسارا أكثر راديكالية. لقد وقف هؤلاء القادة الثلاثة في الجناح اليساري للحزب. لكن القادمين الجديدين، كامينيف وستالين، استخدما منصبيهما لدفع خط الحزب بحدة نحو اليمين، وهو ما انعكس على الفور في صفحات الجريدة المركزية للحزب. ففي مقال افتتاحي في برافدا، يوم 14 مارس، أي بعد يومين على عودته، كتب كامينيف متسائلا: «ما الغرض من تسريع الأمور أكثر، في حين أنها تسير بالفعل بسرعة كبيرة»[21]. وفي اليوم التالي كتب مقالة أخرى علق فيها على بيان كيرينسكي قائلا بأن روسيا “ستدافع بكل فخر عن حرياتها” وأنها لن “تتراجع أمام حراب المعتدين”. وأضاف بحماس، وبلغة ناقضت بشكل مطلق سياسة لينين المعارضة للحرب: «عندما يواجه جيش جيشا آخر، يكون من أكثر السياسات جنونا أن يقترح المرء على أحدهما أن يلقي سلاحه ويعود إلى المنزل. لن تكون تلك سياسة سلام، بل سياسة عبودية، سيتم رفضها باشمئزاز من قبل أي شعب حر»[22].

وقد تبنى ستالين نفس موقف كامينيف، لكن بحذر أكبر. نشر مقالا يوافق فيه على الموقف الذي عبر عنه السوفييت في بيانه (الذي انتقده لينين بشدة) وقال إن المطلوب هو “الضغط على الحكومة المؤقتة لجعلها تعلن موافقتها على بدء مفاوضات السلام على الفور”. ووفقا لستالين فإنه “مما لا جدال فيه” أن «الشعار المتصلب “فلتسقط الحرب!”، شعار غير مناسب على الإطلاق من الناحية العملية»[23].

انعقد أول كونفرانس لسوفييتات عموم روسيا لنواب العمال والجنود في نهاية مارس 1917. وفي نفس الوقت أصدرت اللجنة المركزية البلشفية دعوة لعقد كونفرانس لعموم روسيا لعمال الحزب، والذي افتتح في 28 مارس. كان ذلك أول كونفرانس تمثيلي حقًا للحزب يعقد منذ الإطاحة بالقيصر. كان لينين ما يزال يكافح من أجل العودة من منفاه السويسري، وبالتالي فقد كان غائبا. لذلك فإن المواقف السياسية المعبر عنها فيه تمثل انعكاسا دقيقًا لرؤية القادة البلاشفة في بتروغراد للثورة. من بين القضايا الرئيسية التي نوقشت في الكونفرانس كان الموقف من الحرب والحكومة المؤقتة، وكذلك العلاقات مع الأحزاب الأخرى. قدم ستالين التقرير عن الموقف من الحكومة المؤقتة، وهو التقرير الذي جاء بأكمله مشبعا بنزعة التكيف والتوفيقية الانتهازية، ومعارضا بشكل جذري للخط الذي دعا إليه لينين بإصرار.

الفكرة الأساسية لموقف ستالين هي أنه على البلاشفة أن يقدموا دعما نقديا للحكومة المؤقتة البرجوازية، وأن يشتغلوا كنوع من المعارضة الشرعية التي، رغم بقائها خارج الحكومة، وإبدائها لبعض التحفظات، تستمر في تقديم الدعم لها: «يجب علينا أن ندعم الحكومة المؤقتة طالما استمرت تحصّن خطوات الثورة؛ لكن وبمجرد ما تصير معادية للثورة يصير دعمها غير مقبول».

لم يحظ هذا الموقف بالإجماع في الكونفرانس. في الواقع إن القرار الذي اتخذته اللجنة المركزية، وعلى الرغم من أنه غير مرضٍ بشكل كاف، قدم على الأقل بعض النقاط الصحيحة: «إن الحكومة المؤقتة، التي أقامتها الطبقات البرجوازية المعتدلة في مجتمعنا والتي كل مصالحها مرتبطة بالرأسمالية الأنجلو-فرنسية، غير قادرة على حل المهام التي تفرضها الثورة».

ويضيف القرار: «وبالتالي فإن المهمة الآنية هي: توحيد جميع القوى حول سوفييت نواب العمال والجنود باعتباره جنين السلطة الثورية، التي هي وحدها القادرة على التصدي لمحاولات الردة الرجعية القيصرية والبرجوازية وكذلك تحقيق مطالب الديمقراطية الثورية وشرح الطبيعة الطبقية الحقيقية للحكومة الحالية.

إن المهمة الأكثر إلحاحا والأكثر أهمية للسوفييت، والتي فقط تحقيقها ما سيضمن الانتصار على جميع قوى الثورة المضادة ومواصلة تطوير الثورة وتعميقها، هي من وجهة نظر الحزب التسليح الشامل للشعب، وعلى وجه الخصوص التشكيل الفوري للحرس الأحمر العمالي في كل أنحاء البلد».

وتذكر المحاضر أن ستالين قد أعلن صراحة معارضته لقرار اللجنة المركزية هذا: «لقد قرأ الرفيق ستالين القرار الخاص بالحكومة المؤقتة الذي اعتمده مكتب اللجنة المركزية، لكنه أكد على أنه لا يتفق معه بشكل كامل، وأنه يتفق بالأحرى مع قرار نواب سوفييت كراسنويارسك للعمال والجنود».

كان قرار كراسنويارسك، الذي يعكس تفكير المقاطعات الأكثر تخلفا، ذا طابع انتهازي كامل، حيث استند على فكرة أن السوفييتات يمكنها أن تتعايش مع الحكومة البرجوازية المؤقتة، وتدفعها، عن طريق الضغط، إلى الخضوع لإرادتها، حيث جاء فيه:

«2) أن نوضح بشكل كامل أن المصدر الوحيد لسلطة الحكومة المؤقتة وسيادتها هو إرادة الشعب الذي أنجز هذه الثورة والذي يتعين على الحكومة المؤقتة الخضوع له بالكامل.

3) أن نوضح بالمثل أن خضوع الحكومة المؤقتة للمطالب الأساسية للثورة لا يمكن تأمينه إلا من خلال الضغط المتواصل من طرف البروليتاريا والفلاحين والجيش الثوري، الذين عليهم أن يحافظوا بكل حيوية على التفافهم حول سوفييتات نواب العمال والجنود النابعة من الثورة، من أجل تحويلها إلى سلطة حقيقية للشعب الثوري.

4) أننا ندعم الحكومة المؤقتة في أنشطتها فقط بقدر ما تتبع مسار الاستجابة لمطالب الطبقة العاملة والفلاحين الثوريين خلال هذه الثورة».

وفي تدخل لا يصدق في سياق النقاش، جعل ستالين الوضع السيء يزداد سوءا، حيث قال: «هل يمكن للمرء، في مثل هذه الحالة، أن يتحدث عن دعمنا لمثل هذه الحكومة؟ على المرء بالأحرى أن يتحدث عن دعم هذه الحكومة لنا. ليس من المنطقي التحدث عن دعم الحكومة المؤقتة، بل على العكس من الأنسب الحديث عن عدم قيام الحكومة بإعاقتنا عن تنفيذ برنامجنا».

كيف يمكن للبلاشفة “تنفيذ برنامجهم” مع السماح لحكومة برجوازية بالبقاء في السلطة؟ كيف كان من الممكن الحصول على السلام من حكومة مقيدة الأيدي والأرجل بالرأسمال البريطاني والفرنسي؟ كيف يمكن نقل الأرض إلى الفلاحين من قبل حكومة يسيطر عليها “أصحاب الملكية”؟ لقد كانت الفكرة القائلة بأنه يمكن لسوفييتات العمال والجنود أن تتعايش لفترة طويلة مع حكومة الرأسماليين، ناهيك عن إلزامها بالعمل ضد مصالحها الحيوية الخاصة، تتناقض بشكل صارخ ليس فقط مع أبجديات الماركسية، بل ومع بديهيات التفكير السليم. وقد استخدمت هذه الصيغة نفسها في وقت لاحق من قبل القادة الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان لعرقلة وتدمير الثورة الألمانية في نوفمبر 1918. لو أن خط ستالين وكامينيف انتصر، لكانت الثورة الروسية ستنتهي بالتأكيد إلى هزيمة مماثلة.

إن الطبيعة المشوشة لهذه الخطب والقرارات والارتباك الذي عاشه البلاشفة في ذلك الوقت، يجد جذوره في الطبيعة المشوشة والمتناقضة للشعار البلشفي القديم: “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، وهو ما كان تروتسكي قد نبه إليه قبل زمن بعيد. حيث أن تعريف البلاشفة للطبيعة الطبقية للثورة بأنها ديمقراطية برجوازية، جعلهم يواجهون معضلة ما الذي يجب عليهم فعله، إذ لم يكن من المفترض أن تستولي الطبقة العاملة على السلطة. استنتج ستالين وكامينيف أنه على الطبقة العاملة أن تدعم البرجوازية “التقدمية”، على الرغم من كل عبارات “إلا” و“حتى”.

لقد تسببت سياسة الاستسلام للطبقة الوسطى “الديمقراطية”، التي دعا إليها ستالين وكامينيف، في تمييع الحدود بين البلاشفة والمناشفة، إلى درجة أن كونفرانس مارس ناقش بالفعل مسألة الاندماج بين الحزبين. في الواقع لو تم القبول بسياسة ستالين-كامينيف، لما كان هناك أي سبب وجيه للإبقاء على وجود حزبين منفصلين. وفي جلسة 30 مارس، قدم كامينيف تقريرا عن اتصالاته بالمناشفة، كما يظهر في المحاضر: «قدم كامينيف تقريرا عن أنه دخل في مفاوضات مع الاشتراكيين الثوريين الأممين والمناشفة الأممين. وطالما من الواضح أنه سيتم تمرير قرار غير مقبول مطلقا من طرف اللجنة التنفيذية [للسوفييت]، فمن الضروري معارضته بقرار مشترك من جانب الأمميين. الاشتراكيون الثوريون (22) يشكلون أقلية، ولن يصوتوا ضد قرار البلاشفة وسيسحبون قرارهم. بينما المناشفة يسعون إلى تقديم قرار موحد ومؤيدون للاتفاق على قرار مشترك. وفي حالة ما تم فرض الانضباط لإجبار الأقلية على الخضوع للأغلبية، فإن الأمميين سيؤيدون قرارنا».

لكن هؤلاء المتدخلين من يسار الحزب الذين عارضوا هذه التحركات نحو الوحدة والذين تجرأوا على إثارة مسألة استيلاء العمال على السلطة، لم يتم إعطائهم سوى فترة قصيرة للحديث خلال النقاش. وهكذا فإنه عندما تدخل كراسيكوف على هذا الأساس، منعه رئيس الجلسة من مواصلة الحديث:

«قال كراسيكوف: إن جوهر المسألة ليس في التعديلات وليس في عرض توضيحي للشعارات الاشتراكية الديمقراطية، بل في اللحظة الراهنة. فإذا اعترفنا بالسوفييتات باعتبارها الأجهزة التي تعبر عن إرادة الشعب، فإن السؤال المطروح أمامنا لن يكون هو النظر في التدابير الملموسة التي يجب اتخاذها بشأن هذه القضية أو تلك. إذا كنا نعتقد أن الوقت قد حان الآن لإقامة ديكتاتورية البروليتاريا، فعلينا أن نطرح المسألة بهذه الطريقة. لدينا بلا شك القوة المادية للاستيلاء على السلطة. وأعتقد أنه ستكون لدينا القوى المادية الكافية في بتروغراد وكذلك في مدن أخرى. [ضجة في القاعة. صراخ: “هذا غير صحيح”.] كنت حاضرا…

الرئيس (مقاطعا): إن السؤال قيد المناقشة يتضمن الخطوات العملية لهذا اليوم. أما مسألة دكتاتورية البروليتاريا فليست مطروحة للنقاش.

كراسيكوف (يتابع): إذا لم نطرح المسألة بهذه الطريقة، فعلينا أن نتخذ خطوات فيما يتعلق بالحكومة المؤقتة التي… الرئيس يحرمه من الكلمة».

على الرغم من أن مقترح كامينيف كان يبدو وكأنه يهدف إلى ربط الاتصال مع الجناح اليساري (الأممي) للمناشفة، فإن النية الحقيقية كانت هي تحقيق الاندماج في حزب واحد. كان هناك قادة مناشفة بارزون، مثل ليبر، حاضرين في الكونفرانس وشاركوا في أشغاله. وفي جلسة 01 أبريل، تم تقديم قرار، في الكونفرانس، بشأن الوحدة، كتبه الزعيم المنشفي الجورجي، تسيريتيلي. وعلى الرغم من أن ممثلي الجناح اليساري البلشفي، بمن فيهم آنذاك الطالب مولوتوف، عارضوا ذلك القرار، فإن ستالين أعرب عن اتفاقه مع القرار بعبارات إيجابية:

«جدول أعمال اليوم: مناقشة اقتراح تسيريتيلي عن التوحيد.

ستالين: يجب أن نذهب. من الضروري تحديد مقترحاتنا فيما يتعلق بشروط التوحيد. إن التوحيد ممكن على أساس قرارات زيمروالد- كينثال.

لوغانوفسكي: إن لجنة خاركوف تجري مفاوضات على هذا الأساس بالضبط.

مولوتوف: إن تسيريتيلي يريد توحيد عناصر غير متجانسة. يسمي تسيريتيلي نفسه “زيمروالديا” و“كينثاليا” ولهذا السبب فإن التوحيد على هذا الأساس غير صحيح من الناحيتين السياسية والتنظيمية. سيكون من الأصح طرح برنامج اشتراكي أممي محدد. سنقوم بتوحيد أقلية منسجمة.

قال لوغانوفسكي (في سياق دحضه للرفيق مولوتوف): في الوقت الحاضر لسنا على علم بأي خلافات. لقد امتنع المناشفة داخل السوفييت وتحدثوا بقوة أكبر مما فعل… البلاشفة الذين عارضوا. خلافات كثيرة صارت متجاوزة. ومن غير الصحيح التركيز على الاختلافات التكتيكية. إنه يمكننا عقد مؤتمر مشترك مع المناشفة والزيمروالديين والكنثاليين».

وعلى إثر الجدال الذي أثاره هذا الاقتراح، تدخل ستالين مرة أخرى في النقاش للدفاع عن الوحدة بعبارات لا لبس فيها، والتي على الرغم من حذره المعتاد، جاءت صدى لتعليقاته السابقة، التي وصف فيها الاختلافات بين البلشفية والمنشفية بأنها “عاصفة في كوب شاي”: «ستالين: لا فائدة من التسرع واستباق الخلافات. لا وجود لحياة حزبية دون خلافات. سوف نحل الخلافات التافهة داخل الحزب. لكن هناك مسألة واحدة مهمة: من المستحيل توحيد ما لا يمكن توحيده. سيكون لدينا حزب واحد مع أولئك الذين يتفقون على قرارات زيمروالد وكينثال…»[24].

إن وصف الاختلافات بين البلشفية والمنشفية بأنها “خلافات تافهة”، بعد كل الأحداث الكبرى، يدل على أن ستالين، “موظف الحزب”، لم يكن لديه أي استيعاب حقيقي للأفكار الأساسية للبلشفية. لقد كانت تلك “الخلافات التافهة” هي الاختلاف بين الإصلاح والثورة، وبين سياسة التعاون الطبقي والسياسة الطبقية المستقلة. وفي النهاية صوت الكونفرانس لصالح السماح للمفاوضات بالمضي قدما، وانتخب لجنة تفاوضية مؤلفة من ستالين وكامينيف ونوغين وتيودوروفيتش.

لينين وتروتسكي عام 1917

من منفاه البعيد في سويسرا، كان لينين يراقب بقلق متزايد تطور الخط الذي يتبعه قادة البلاشفة في بتروغراد. وفور سماعه نبأ الإطاحة بالقيصر، أرسل برقية إلى بتروغراد في 06 مارس، قال فيها: «تكتيكنا: لا ثقة ولا دعم للحكومة الجديدة؛ يجب الحذر من كيرينسكي بشكل خاص؛ إن تسليح البروليتاريا هو الضمانة الوحيدة؛ انتخابات فورية لمجلس مدينة بتروغراد؛ لا تقارب مع الأحزاب الأخرى».

وبمجرد أن عادت برافدا إلى الظهور مجددا، بدأ لينين يبعث رسائله الشهيرة “رسائل من بعيد”. عند قراءة تلك المقالات ومقارنتها بخطب كونفرانس مارس، يتضح أننا أمام عالمين مختلفين. لا عجب أنها وقعت مثل قنبلة على أعضاء اللجنة المركزية المدهوشين! قصف لينين برافدا بالرسائل والمقالات التي تطالب العمال بالقطيعة مع الليبراليين البرجوازيين والاستيلاء على السلطة بأنفسهم. تظهر “رسائل من بعيد” عبقرية لينين الثورية في أوضح صورها. تظهر قدرته على تلخيص جوهر الموقف في لمحة، وحماسه وطريقته في التحديد الدقيق للشعارات الملموسة التي تنطبق على الوضع، وكيفية الانتقال من نقطة إلى أخرى. أشار في رسالته الأولى إلى أن ثورة فبراير وضعت “في الوقت الحاضر” غوتشكوف وميليوكوف في السلطة، لكن الحكومة الرأسمالية لم تستطع حل مشاكل الشعب الروسي.

“لقد تم اسقاط المَلكية القيصرية، لكن لم يتم تحطيمها كليا”.

«وإلى جانب هذه الحكومة… ظهرت الحكومة العمالية غير الرسمية وغير المتطورة بعد والضعيفة نسبيا، والتي تعبر عن مصالح البروليتاريا وكل العناصر الفقيرة من سكان المدن والأرياف، أي سوفييت نواب العمال في بتروغراد، الذي يسعى إلى التواصل مع الجنود والفلاحين، وكذلك مع العمال الزراعيين، وخاصة، بالطبع وفي المقام الأول، مع هؤلاء الأخيرين، أكثر مما مع الفلاحين».

على حل هذا التناقض علق نظام “ازدواجية السلطة” مصير الثورة. ما هو الموقف الذي يجب على البلاشفة اتخاذه تجاه الحكومة المؤقتة؟

كتب لينين: «إن من يقول إنه على العمال أن يدعموا الحكومة الجديدة لصالح النضال ضد الرجعية القيصرية (وهذا ما يقوله، على ما يبدو، أمثال بوتريسوف وغفوزديوف وتشخينكيلي، وأيضا تشخيدزه رغم كل لفه ودورانه) هو خائن للعمال وخائن لقضية البروليتاريا ولقضية السلام والحرية».

وهو هنا يصل إلى موقف مماثل للموقف الذي دافع عنه تروتسكي منذ أكثر من عقد، حيث يقول: «إن ثورتنا هي ثورة برجوازية، لذا يجب على العمال أن يفتحوا أعين الشعب على الخداع الذي يمارسه السياسيون البرجوازيون، ويعلمونه ألا يثق في الكلمات، وألا يعتمد إلا على قوته الخاصة، وتنظيمه الخاص، ووحدته الخاصة، وأسلحته الخاصة».

وفي الرسالة الثانية وجه لينين انتقادات حادة للبيان الذي أصدره قادة السوفييت، الذي يختبئ وراء عبارات سلمية، ويعلن أن جميع الديمقراطيين يجب أن يدعموا الحكومة المؤقتة، ويأذن لكيرنسكي بالمشاركة فيها. رد لينين على ذلك قائلا: «ليست المهمة هي “إقناع” الليبراليين، بل هي أن نشرح للعمال لماذا يجد الليبراليون أنفسهم في مأزق، ولماذا هم مقيدو الأيدي والأقدام، ولماذا يخفون كلا من المعاهدات التي أبرمتها القيصرية مع إنجلترا وبلدان أخرى والصفقات بين الرأسمال الروسي والرأسمال الأنجلو – فرنسي، وما إلى ذلك»[25].

عندما وصلت رسائل لينين إلى زعماء البلاشفة في بتروغراد، شعروا بالصدمة. لقد ظنوا أن قائدهم قد جن تماما! أو أنه، على الأقل، بعيدا جدا بحيث لا يفهم الجوانب العملية للوضع في روسيا. فاندلع آنذاك صراع مرير بين لينين وبين أقرب رفاقه. كتب كامينيف في برافدا، عدد 27، قائلا: «بالنسبة للمخطط العام للرفيق لينين فإنه يبدو لنا غير مقبول، لأنه ينطلق من الافتراض بأن الثورة البرجوازية الديمقراطية قد اكتملت، ويستند إلى التحويل الفوري لهذه الثورة إلى ثورة اشتراكية»[26].

يبين هذا التصريح بدقة آراء كامينيف وستالين ومعظم “البلاشفة القدامى” الآخرين في ربيع عام 1917.

من بين جميع قادة الحركة الاشتراكية الديمقراطية، في ذلك الوقت، كان هناك واحد فقط من التقى موقفه مع الموقف الذي دافع عنه لينين. وكان ذلك الشخص هو ليون تروتسكي، الذي كثيرا ما اشتبك معه لينين في الماضي. عندما سمع تروتسكي لأول مرة عن ثورة فبراير، كان  ما يزال في المنفى في الولايات المتحدة. وقد بدأ فورا في كتابة سلسلة من المقالات لجريدة “نوفي مير” (العالم الجديد)، والتي نُشرت في أعدادها لأيام 13 و17 و19 و20 مارس 1917.

الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو حقيقة أنه وعلى الرغم من عدم وجود أي اتصال بين تروتسكي ولينين، الذي كان في سويسرا على بعد آلاف الأميال، فإن محتوى هذه المقالات كان مطابقا لمحتوى مقالات لينين “رسائل من بعيد”، التي كتبت في نفس الوقت. دعونا نتذكر أن رسائل لينين هذه قد صدمت القادة البلاشفة في بتروغراد لدرجة أن كامينيف وستالين قاما بحضرها أو نشرها في صورة مشوهة. في الوقت الذي كان فيه “البلاشفة القدامى” يعملون، على عكس نصيحة لينين، على التقارب مع المناشفة، بدت أفكار لينين لهم وكأنها “تروتسكية” خالصة، ولم يكونوا مخطئين في ذلك. لقد دفع منطق الأحداث لينين وتروتسكي إلى التقارب معا. لقد توصلا، بشكل مستقل، وانطلاقا من اتجاهات مختلفة، إلى نفس النتيجة وهي أنه: لا يمكن للبرجوازية أن تحل مشاكل روسيا. ويجب على العمال أن يستولوا على السلطة.

كتب تروتسكي في مقالته: “وجهان – القوى الداخلية للثورة الروسية” قائلا: «من الناحية الرسمية، أي بالأقوال، وافقت البرجوازية على ترك مسألة الشكل الذي ستكون عليه الحكومة لتقدير الجمعية التأسيسية. لكن من الناحية العملية، ستحول حكومة الأوكتوبريين-الكاديت المؤقتة جميع الأنشطة التحضيرية لتشكيل الجمعية التأسيسية إلى حملة لصالح المَلكية ضد الجمهورية. سوف تعتمد طبيعة الجمعية التأسيسية إلى حد كبير على طبيعة أولئك الذين سيدعون إليها. بالتالي فإنه من الواضح أنه يتعين على البروليتاريا الثورية الآن أن تنشئ أجهزتها الخاصة، أي مجالس العمال ونواب الجنود والفلاحين، ضد الأجهزة التنفيذية للحكومة المؤقتة. وفي خضم هذا الصراع يجب على البروليتاريا أن توحد حولها جماهير الشعب المنتفضة بهدف واحد وهو الاستيلاء على السلطة الحكومية. وحدها حكومة عمالية ثورية من ستكون لديها الرغبة والقدرة على تمكين البلد من تطهير ديمقراطي شامل خلال العمل التحضيري لتشكيل الجمعية التأسيسية، وإعادة بناء الجيش من أعلى إلى أسفل، لتحويله إلى ميليشيا ثورية، وإقناع الفلاحين الفقراء، في الممارسة العملية، أن خلاصهم الوحيد هو دعم النظام العمالي الثوري. إن الجمعية التأسيسية التي سيتم تشكيلها بعد هذا العمل التحضيري ستعكس بشكل حقيقي القوى الثورية والإبداعية للبلد وستصبح عاملا قويا في المزيد من تطوير الثورة»[27].

تعيد هذه الأسطر، التي هي مثال نموذجي عن الموقف الذي اتخذه تروتسكي في ذلك الوقت، إنتاج موقف لينين بالضبط. لكن لينين لم يكن على علم بذلك. لقد ضللته تلك التقارير الكاذبة عن موقف تروتسكي، التي أرسلتها له من أمريكا ألكسندرا كولونتاي، التي كانت قد انفصلت مؤخرا عن المناشفة، وبالتالي كانت حريصة على تقديم نفسها إلى لينين باعتبارها راديكالية متطرفة، وصورت تروتسكي كذبا بكونه “وسطيا”. صدق لينين ذلك الهراء وكتب في ردوده على كولونتاي، بعض الأشياء القاسية للغاية عن تروتسكي، والتي استخدمها الستالينيون بنذالة فيما بعد. لكن عندما عاد تروتسكي إلى روسيا وبدأ على الفور يلعب دورا بارزا في الجناح الثوري، غير لينين رأيه فيه، وقال عنه إنه: “ليس هناك بلشفي أفضل منه”. أما بالنسبة لكولونتاي، فإنها أوصلت نزعتها اليسراوية المتطرفة إلى نهايتها المنطقية، حيث دخلت في صراع مع كل من لينين وتروتسكي، قبل أن تصبح أخيرا خادمة خاضعة لنظام ستالين الشمولي.

إن التقارب التام لوجهات النظر بين لينين وتروتسكي، عندما دقت ساعة الحقيقة، لم يكن مصادفة. فمنذ عام 1909، كان ليون تروتسكي -الذي كان الوحيد من توقع أن الثورة إما ستنتصر كثورة عمالية أو أنها لن تنتصر على الإطلاق- قد حذر من أن الطبيعة المعادية للثورة لشعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين” لن تصبح واضحة إلا في اللحظة التي ستطرح فيها مسألة السلطة على جدول الأعمال. والآن اتضح أنه كان على صواب. كان الجانب الضعيف لنظرية لينين، وأثرها في الممارسة العملية، سببا في الأخطاء الجسيمة للغاية التي ارتكبها قادة البلاشفة في وقت ثورة فبراير، والتي لم يصححها لينين إلا بعد عودته وعلى أساس صراع داخلي حاد. حتى زينوفييف يعترف بذلك في كتابه المخادع  “تاريخ الحزب البلشفي”، الذي نُشر عام 1923 كجزء من الحملة ضد “التروتسكية”، على الرغم من أن اعترافه جاء، كما هي عادته دائما، ملتبسا وغير نزيه، حيث يقول: «لا يمكن إنكار هذا التطور الذي عرفته وجهات نظرنا على مدار الأعوام من 1905 إلى 1917، كما لا يمكن إنكار حقيقة أنها تطورت عبر تناقضات محددة أدت إلى خلق اختلافات خطيرة للغاية بيننا عشية أكتوبر 1917. البعض منا (بمن فيهم أنا) أيد لفترة طويلة فكرة أنه في بلدنا الفلاحي لا يمكننا أن ننتقل مباشرة إلى الثورة الاشتراكية، وأن نأمل فقط أنه إذا تزامنت ثورتنا مع بداية الثورة البروليتارية الأممية، فقد تصبح شرارة لها»[28].

تبين هذه الأسطر، وعلى الرغم من طابعها المراوغ، كل ما حدث داخل الحزب البلشفي خلال الأشهر القليلة الأولى بعد ثورة فبراير 1917. إن ما حدث لرسائل لينين يلقي الكثير من الضوء على علاقاته مع “البلاشفة القدامى”. لقد كانت صورة طبق الأصل لما حدث في 1912-1913. بل حتى الجهات الفاعلة كانت هي نفسها. فقد كان ستالين وكامينيف هما رئيسي التحرير مرة أخرى. ومرة أخرى اختارا الطريق الأقل مقاومة عبر ما يسمى بالتوفيقية. ومرة أخرى ردا على انتقادات لينين واحتجاجاته من خلال مقص الرقابة الصارمة. كان قادة البلاشفة يشعرون بالحرج الشديد من خطابات لينين لدرجة أنهم عندما أحضرت كولونتاي أول رسالتين إلى بتروغراد، في أواخر مارس، ترددوا لعدة أيام قبل النشر. وحتى في ذلك الحين لم ينشروا له سوى واحدة فقط من الرسالتين، وذلك بعد حذف كل تلك المقاطع التي يوضح فيها معارضته لأي اتفاق مع المناشفة. وكان نفس المصير ينتظر بقية مقالاته، كانوا إما يمنعون نشرها أو ينشرونها في شكل مشوه. وفي هذا السياق تقول كروبسكايا: «تم نشر الرسالة الأولى فقط في اليوم الذي وصل فيه لينين إلى سان بيترسبورغ، وكانت الرسائل الثلاثة الأخرى ترقد في مكتب المحررين، أما الخامسة فلم يكن قد تم إرسالها بعد إلى برافدا، حيث أن لينين كان قد بدأ في كتابتها قبيل رحيله إلى روسيا»[29].

كما يتذكر تروتسكي في سيرته الذاتية قائلا: «في نيويورك، في بداية شهر مارس عام 1917، كتبت سلسلة من المقالات تتناول القوى الطبقية للثورة الروسية ومنظوراتها. وفي ذلك الوقت بالذات كان لينين، في جنيف، يرسل إلى بتروغراد رسائله من بعيد. وكلانا، على الرغم من أننا كنا نكتب في أجزاء مختلفة من العالم ويفصلنا المحيط، قدمنا نفس التحليل ونفس التوقعات. كانت وجهات نظرنا متطابقة تماما حول كل مسألة من المسائل الرئيسية، مثل الموقف من الفلاحين والموقف تجاه البرجوازية والحكومة المؤقتة والحرب والثورة العالمية. هنا تم اختبار العلاقات بين “التروتسكية” وبين اللينينية على محك التاريخ. ونفذ الاختبار في ظروف تجريبية نموذجية. في ذلك الوقت لم أكن أعرف شيئا عن موقف لينين؛ لقد جادلت على أساس منطقي الخاص وتجربتي الثورية الخاصة، ورسمت نفس المنظور واقترحت نفس الخط الاستراتيجي الذين اقترحهما لينين.

لكن ربما كانت المسألة واضحة للجميع في ذلك الوقت، وكان الحل مقبولا من طرف الجميع؟ كلا، على العكس تماما؛ لقد كان موقف لينين في تلك الفترة، أي قبل 04 أبريل 1917، عندما ظهر لأول مرة على مسرح بتروغراد، موقفه الشخصي ولم يكن يشاركه فيه أحد. لم يكن لدى أي من قادة الحزب، الذين كانوا في روسيا، أي نية في جعل ديكتاتورية البروليتاريا -الثورة الاشتراكية- الهدف المباشر لسياسته. لقد أظهر كونفرانس الحزب، الذي انعقد عشية وصول لينين، وحضره حوالي 30 من البلاشفة، أن لا أحد منهم كان يتخيل شيئا آخر أبعد من الديمقراطية البرجوازية. لا عجب في أن محاضر هذا الكونفرانس ما تزال سرا لحد الآن! لقد كان ستالين مؤيدا لدعم حكومة غوتشكوف وميلوكوف المؤقتة، ومؤيدا لدمج البلاشفة مع المناشفة»[30].

لينين يعيد تسليح الحزب

يوم 03 أبريل، وبعد أسابيع من المفاوضات المرهقة لترتيب عودته عبر ألمانيا، وصل لينين أخيرا إلى محطة فنلندا في بتروغراد الثائرة. وقد تبنى منذ اللحظة الأولى لوصوله موقفا عدائيا تجاه الحكومة البرجوازية المؤقتة والسياسيين الإصلاحيين الشوفينيين الذين كانوا يدعمونها.

فور عودته إلى روسيا، شن لينين نضالا حازما ضد القادة البلاشفة الذين استسلموا لضغوط “الرأي العام” البرجوازي الصغير، وخرجوا لدعم الحكومة المؤقتة البرجوازية. لكنه لم ينجح في إعادة تسليح البلاشفة وتوجيههم إلا بعد معركة داخلية حادة للغاية. لقد اعتمد في هذا الصراع على الدعم من جانب قواعد الحزب والطبقة العاملة التي كانت، كما كان يكرر دائما، أكثر ثورية بمائة مرة من الحزب الأكثر ثورية. في الواقع لم تتقبل قواعد الحزب في بتروغراد مواقف كامينيف، الذي دعوا إلى طرده. كما طالبت قواعد الحزب في فيبورغ، التي كانت معقل البلشفية، بطرد ستالين أيضا[31].

وفي لحظة وصوله إلى محطة فنلندا، قدم لينين إشارة إلى نواياه الحقيقية. لقد تعمد إدارة ظهره للشخصيات البارزة الذين حضروا لاستقباله، وتوجه نحو العمال بالعبارات التالية: “عاشت الثورة الاشتراكية العالمية!”. أكدت هذه الجملة الافتتاحية على الفور أسوء مخاوف قادة الحزب: لقد تحول لينين إلى… “التروتسكية”. تلا ذلك اندلاع معركة فصائلية شرسة، بلغت ذروتها في كونفرانس أبريل الذي انتصر فيه لينين على طول الخط. وتتذكر كروبسكايا قائلة: «لقد تفاجأ الرفاق إلى حد ما. اعتقد الكثير منهم أن إيليتش كان يعرض القضية بطريقة فظة للغاية، وأنه من السابق جدا لأوانه الحديث عن ثورة اشتراكية»[32].

من الواضح أن كروبسكايا تعبر عن نفسها هنا بطريقة دبلوماسية. لقد كانت الاختلافات أكثر خطورة وكان الصراع، رغم أنه لم يستمر طويلا، مريرا جدا. وعندما دافع لينين عن موقفه بشكل علني لأول مرة، بقي الحاضرون مصدومين.

راسكولنيكوف، الذي كان شاهدا على ما حدث عندما دخل كامينيف إلى مقصورة لينين، كتب في مذكراته: «بمجرد ما دخل كامينيف المقصورة وجلس بادره فلاديمير إيليتش قائلا: “ما هذا الذي تكتبه في برافدا؟ لقد رأينا العديد من الأعداد وأقسم لك…”، وواصل لينين كلامه بنبرة تأنيب أبوية، خالية من أي إهانة».

ومباشرة بعد وصوله إلى محطة فنلندا، تم نقله إلى إقامة راقية، في ملكية راقصة باليه شهيرة، حيث تم استقباله في غرفة فسيحة تضم بيانو كبير، بخطابات ترحيبية، وهو الشيء الذي يكرهه. «أقيم هناك احتفال تكريم لإيليتش. وقد أعرب المتكلمون تباعا عن شعورهم بالفرح الكبير بعودة زعيم الحزب، الذي صقلته المعارك، إلى روسيا. جلس إيليتش واستمع إلى كل الخطب وهو يبتسم، منتظرا بفارغ الصبر أن ينتهو. وعندما انتهت قائمة المتحدثين، عادت الحياة إلى إيليتش، ووقف على قدميه وبدأ العمل. هاجم بحزم التكتيكات التي كانت تتبعها المجموعات القيادية للحزب والرفاق الأفراد قبل عودته. وسخر بشدة من الصيغة السيئة السمعة حول دعم الحكومة المؤقتة القائمة على: “بقدر ما… وإلى هذا الحد”، ورفع شعار: “لا دعم من أي نوع لحكومة الرأسماليين”، وفي الوقت نفسه دعا الحزب إلى النضال من أجل حسم السلطة من طرف السوفييتات، ومن أجل الثورة الاشتراكية.

وباستخدام بعض الأمثلة البارزة، أظهر الرفيق لينين ببراعة الزيف الكامل لسياسة الحكومة المؤقتة، والتناقض الصارخ بين وعودها وأفعالها، بين الأقوال والأفعال، مؤكداً أنه من واجبنا أن نكشف بلا رحمة ذرائعها وسلوكياتها المعادية للثورة والمعادية للديمقراطية. استمر خطاب الرفيق لينين قرابة الساعة، وقد بقي الجمهور يتابع باهتمام وقلق شديدين. كان أبرز عمال الحزب حاضرين هنا، لكن حتى بالنسبة إليهم كان ما قاله إيليتش بمثابة وحي جديد بشكل كامل. لقد أقام “روبيكون” بين تكتيكات الأمس وتكتيكات اليوم.

طرح الرفيق لينين السؤال بوضوح وصراحة: “ما العمل؟” ودعانا إلى التخلي عن موقف نصف الاعتراف ونصف الدعم للحكومة وتبني موقف عدم الاعتراف النهائي بها والكفاح الحازم ضدها.

الانتصار النهائي للسلطة السوفياتية، الذي كان الكثيرون ينظرون إليه كشيء ضبابي وينتمي لمستقبل غير محدد، اعتبره الرفيق لينين المكسب الملح والضروري للثورة، يجب تحقيقه في غضون فترة زمنية قصيرة للغاية. كان خطابه هذا تاريخيا بكل معنى الكلمة. قدم الرفيق لينين هنا لأول مرة برنامجه السياسي، الذي صاغه في اليوم التالي في أطروحات 04 أبريل الشهيرة. لقد أنتج هذا الخطاب ثورة كاملة في تفكير قادة الحزب، وشكل أساس كل عمل البلاشفة لاحقا. لم يكن من قبيل الصدفة أن تكتيكات حزبنا لم تتبع خطا مستقيما، لكنها تحولت بعد عودة لينين نحو اليسار»[33].

فوجئ المناشفة بمواقف الزعيم البلشفي، التي تختلف تماما عن مواقف رفاقه في بتروغراد، واتهموه بمحاولة إثارة العنف والحرب الأهلية. وعلى صفحات جريدته ييدينستفو، وصف بليخانوف أطروحات لينين بأنها “هذيان”. لكن مواقف القادة البلاشفة لم تكن مختلفة كثيرا، فعندما نُشرت أطروحات أبريل على صفحات برافدا، في 07 أبريل، ظهرت بتوقيع فرد واحد: توقيع لينين. لم يكن أي من القادة الآخرين على استعداد لربط اسمه بموقف لينين. ومباشرة في اليوم التالي نشرت برافدا مقالا لكامنيف بعنوان “خلافاتنا”، والذي يبرئ القيادة البلشفية من موقف لينين، موضحا أن تلك الآراء تخص لينين وحده ولا تشترك معه فيها لا هيئة تحرير برافدا ولا مكتب اللجنة المركزية.

لكن وعلى الرغم من ردود فعل المناشفة والقادة البلاشفة في بتروغراد، فإن لينين لم يكن مجنونا، بل كان في الواقع أكثر اتصالا بالوضع الحقيقي من رفاقه في روسيا. كان جوهر المسألة بالنسبة له بسيطا للغاية: كان من الضروري إعداد الطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة، ليس على الفور بطبيعة الحال، إذ أن لينين لم يكن مغامرا ومن أشد المعارضين لفكرة استيلاء أقلية على السلطة. كلا، لقد كانت مهمة الساعة بالنسبة له هي تسليح طليعة الطبقة العاملة -الفئات الأكثر تقدما بين العمال والشباب- بهدف كسب الجماهير إلى برنامج الثورة الاشتراكية باعتباره السبيل الوحيد للحل. كان هذا يلخص بشكل صحيح جوهر الوضع، لكنه تصادم بشكل كامل مع شعار “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين” التي كان الجميع يعرف أنه ليس شعار الثورة الاشتراكية.

تم حسم الأمر أخيرا في كونفرانس على مستوى المدينة، استمر ثمانية أيام، من 02 إلى 10 أبريل، والذي صار يعرف في التاريخ باسم كونفرانس أبريل. حضر الكونفرانس 149 مندوبا يمثلون 79.000 عضو – 15.000 منهم في بتروغراد. كانت تلك في حد ذاتها نتيجة رائعة بالفعل لحزب خرج للتو من السرية ويقف الآن في معارضة القادة العماليين الرئيسيين. نادرا ما كان لنتيجة اجتماع واحد أن تحدد مصير الكثير من الأمور، مثلما كان ذلك الاجتماع. دخل لينين في صراع مفتوح مع رفاقه القدماء الذين وقفوا إلى جانبه لسنوات عديدة، والذين تبين في اللحظة الحاسمة أنهم ألد خصومه. ومن المفارقات أن هؤلاء “البلاشفة القدماء” كانوا قد احتشدوا تحت شعار اللينينية! لقد قدموا أنفسهم كمدافعين عن الأرثوذكسية اللينينية كما تم تلخيصها في شعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، الذي كان لينين نفسه هو من رفعه عام 1905. لكن ذلك الشعار كان قد صار متجاوزا، وكان تطور الثورة ذاته قد جعل منه شيئا بلا قيمة.

لقد توصل كل من لينين وتروتسكي، كما رأينا، إلى نفس النتيجة. لقد أدركا أن حكومة كيرنسكي لا تستطيع تقديم حلول حقيقية للمشاكل التي تواجه العمال والفلاحين، وذلك بالتحديد لأنها كانت حكومة البرجوازية، وليست حكومة العمال والفلاحين. وحدها ديكتاتورية البروليتاريا، بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، بإمكانها أن تبدأ في حل مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية في روسيا. قال تروتسكي: «كان محكوما على “البلاشفة القدماء” -الذين تباهوا بهذه التسمية في أبريل 1917- بالهزيمة، وذلك على وجه التحديد لأنهم كانوا يدافعون عن ذلك الجزء من تراث الحزب الذي لم يتمكن من اجتياز الاختبار التاريخي».

كان الصراع داخل الحزب قصيرا لكنه كان حادا. كانت أكبر قوة تمتع بها لينين هي دعم العمال البلاشفة، الذين وقفوا على يسار القيادة. لقد شعروا منذ البداية بوجود خطأ ما في سياسة كانت، ضد فطرتهم الطبقية وكل تقاليدهم، تؤيد المصالحة مع المناشفة وتتبنى موقفا مهادنا تجاه الحكومة البرجوازية المؤقتة. لكن العمال لم يتمكنوا من الإجابة على الحجج “الذكية” للقادة، مثل كامينيف وستالين، الذين استخدموا سلطتهم لإسكات شكوك القواعد. أما لينين، فعلى النقيض من ذلك، اعتمد على دعم القواعد العمالية داخل الحزب الذين تقبلوا بشكل فطري أطروحاته الثورية: «كان هؤلاء العمال الثوريون يفتقرون فقط إلى الموارد النظرية للدفاع عن موقفهم. لكنهم كانوا على استعداد للاستجابة لأول دعوة واضحة. هذه الفئة من العمال، التي كانت قد نهضت بشكل حاسم خلال سنوات الصعود من 1912-1914، هي التي صار لينين يعتمد عليها الآن»[34].

بحلول الوقت الذي انعقد فيه كونفرانس أبريل، كان لينين وقواعد الحزب قد ربحوا المعركة بكل المقاييس. يقول زاليزكي، الذي كان عضوا في لجنة بتروغراد، “لقد صارت المقاطعات الواحدة تلو الأخرى تلتحق بها [أطروحات لينين]”.

أكد خطاب لينين الافتتاحي على البعد الأممي للثورة: «لقد نالت البروليتاريا الروسية الشرف العظيم لبدء الثورة. لكن يجب على البروليتاريا الروسية ألا تنسى أن حركتها وثورتها ليستا سوى جزء من حركة بروليتارية ثورية عالمية، والتي صارت في ألمانيا، على سبيل المثال، تكتسب زخما متزايدا مع مرور الأيام. من هذه الزاوية فقط يمكننا تحديد مهامنا».

كانت هذه هي النقطة الافتتاحية في النقاش وكان لينين يزن كل كلمة يقولها. ماذا كان يعني؟ لقد كان يرد على حجة المناشفة وكامينيف وستالين القائلة بأن العمال الروس لا يستطيعون تولي السلطة لأن الظروف الموضوعية في روسيا المتخلفة والإقطاعية لا تسمح بذلك. والجواب كان ما يلي: صحيح أن الشروط الموضوعية للاشتراكية غير موجودة في روسيا، لكنها موجودة على نطاق عالمي. ثورتنا ليست عملا مستقلا، بل هي جزء من الثورة العالمية. إذا كانت لدينا إمكانية تولي السلطة قبل العمال الألمان والفرنسيين والبريطانيين، فعلينا القيام بذلك. يمكننا أن نبدأ الثورة ونستولي على السلطة ونبدء في تحويل المجتمع على أسس اشتراكية، وهو ما سيعطي دفعة قوية للثورة التي تنضج بالفعل في أوروبا. يمكننا أن نبدأ، وبمساعدة عمال ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، سنكمل المهمة. بالطبع إذا لم يكن لدينا منظور للثورة الأممية، فإن مهمتنا ستكون بلا أمل. لكن هذا ليس هو الموقف. “من هذه الزاوية فقط يمكننا تحديد مهامنا”. وقد كرر لينين طرح نفس الموضوع طيلة أشغال الكونفرانس. «أجل نحن أقلية. حسنا، ماذا الضرر في ذلك؟ فأن تكون اشتراكيا في زمن الجنون الشوفيني، يعني أن تكون أقلية. أن تكون أغلبية يعني أن تكون شوفينيا».

وقال في توصيته بشأن الوضع الراهن: «إن البروليتاريا الروسية، التي تعمل في واحدة من أكثر البلدان تخلفا في أوروبا وسط عدد كبير من الفلاحين الصغار، لا يمكنها أن تهدف إلى تطبيق التغييرات الاشتراكية على الفور. لكن سيكون من الخطأ الجسيم، بل سيكون في الواقع استسلاما  كاملا للبرجوازية، أن نستنتج من ذلك أن الطبقة العاملة يجب أن تدعم البرجوازية، أو أن تبقي أنشطتها ضمن حدود مقبولة للبرجوازية الصغيرة، أو أنه يجب على البروليتاريا أن تتخلى عن دورها القيادي في مسألة أن تشرح للشعب الضرورة الملحة لاتخاذ عدد من الخطوات العملية نحو الاشتراكية».

«كان من المعتاد التوصل، انطلاقا من الفرضية الأولى، إلى استنتاج مفاده أن “روسيا بلد متخلف، وبلد برجوازي صغير، وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك أي ثورة اشتراكية”. لكن الناس ينسون أن الحرب وضعتنا في ظروف غير عادية، وإلى جانب البرجوازية الصغيرة لدينا رأس مال كبير. لكن ما الذي يجب على سوفييتات نواب العمال والجنود فعله عندما تتولى السلطة؟ هل عليها الانتقال إلى جانب البرجوازية؟ جوابنا هو: سوف تستمر الطبقة العاملة في صراعها الطبقي»[35].

«لكننا في هذه المرحلة نسمع احتجاجات من جانب أناس يطلقون على أنفسهم اسم “البلاشفة القدماء”. يقولون: ألم نكن دائما نقول إن الثورة البرجوازية الديمقراطية ستكملها فقط “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية”؟ هل انتهت الثورة الزراعية، التي هي أيضا ثورة برجوازية ديموقراطية؟ أليست الحقيقة، على العكس من ذلك، هي أنها لم تبدأ بعد؟

جوابي هو أن الشعارات والأفكار البلشفية قد أكدها التاريخ، على وجه العموم؛ لكن التطورات الملموسة سارت بشكل مختلف؛ فهي أكثر أصالة وأكثر غرابة وأكثر تنوعا مما كان في إمكان أي شخص أن يتوقع.

إن تجاهل هذه الحقيقة أو التغاضي عنها سيعني التشبه بهؤلاء “البلاشفة القدماء” الذين لعبوا أكثر من مرة دورا مؤسفا جدا في تاريخ حزبنا من خلال ترديدهم الصيغ التي حفظوها بغباء عن ظهر قلب، بدلا من دراسة المميزات الملموسة للواقع الجديد والحي»[36].

وردا على تلك العناصر التي أكدت أنه على البروليتاريا أن تطيع “قانون المراحل التاريخية الحديدي” وأنه لا يمكنها “تخطي فبراير” وأنه عليها أن “تمر بمرحلة الثورة البرجوازية”، والذين حاولوا بالتالي التستر على جبنهم وارتباكهم وعجزهم عن طريق التعلل بـ“العوامل الموضوعية”، قال لينين بسخرية: «لماذا لم يأخذوا السلطة؟ يقول ستيكلوف: “لهذا السبب وذاك”. هذا هراء. الحقيقة هي أن البروليتاريا ليست منظمة بما فيه الكفاية وليست واعية طبقيا بما فيه الكفاية. يجب الاعتراف بهذا؛ إن القوة المادية في أيدي البروليتاريا، لكن البرجوازية بدت أكثر استعدادا وأكثر وعيا. هذه حقيقة مروعة، لكن يجب الاعتراف بها بصراحة ووضوح، ويجب إخبار الشعب بأنه لم يستول على السلطة لأنه كان غير منظم بما فيه الكفاية وغير واع بما فيه الكفاية»[37].

لم يكن هناك أي سبب موضوعي لعدم تمكن العمال -الذين كانوا يمسكون بالسلطة بين أيديهم- من دفع البرجوازية جانبا في فبراير 1917، لم يكن هناك من سبب سوى عدم الاستعداد وعدم التنظيم والافتقار إلى الوعي. لكن هذا، كما أوضح لينين، كان مجرد نتيجة لخيانة الثورة من جانب جميع الأحزاب العمالية والفلاحية المزعومة. فبدون تواطؤ المناشفة والاشتراكيين الثوريين داخل السوفييتات، ما كانت الحكومة المؤقتة لتستمر ولو ساعة. كان هذا هو السبب الذي جعل لينين يسلط أشد الانتقادات على تلك العناصر من بين القيادة البلشفية التي ربطت الحزب البلشفي نفسه بعربة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، والتي أربكت الجماهير وضللتها، وابتعدت بها عن طريق السلطة.

«إن من لا يتحدث الآن إلا عن “دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية”، إنما يتأخر عن موكب الحياة، وبالتالي فإنه قد انتقل عمليا إلى صف البرجوازية الصغيرة ضد النضال الطبقي البروليتاري؛ ويجب إرساله إلى أرشيف التحف “البلشفية” لما قبل الثورة (والتي يمكن أن نطلق عليه أرشيف “البلاشفة القدماء”)».

وبالإشارة إلى قوة الطبقة العاملة وعجز الحكومة المؤقتة، قال لينين إن: «هذه الحقيقة لا تنسجم مع المخططات القديمة. يجب على المرء أن يعرف كيف يكيف المخططات مع الحقائق، بدلا من تكرار الكلمات التي صارت الآن بدون معنى حول “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين” عموما». وأضاف: «هل تعكس صيغة الرفيق كامينيف البلشفية القديمة، التي تقول إن “الثورة البرجوازية الديمقراطية لم تكتمل” هذا الواقع [واقع ازدواجية السلطة]؟ كلا. إن تلك الصيغة قد عفا عليها الزمن. ولم تعد صالحة على الاطلاق. إنها صيغة ميتة. وليس هناك من فائدة في محاولة إحياءها»[38].

كان لينين يؤكد بشكل خاص على نقطة واحدة، وهي أنه من الضروري على البلاشفة أن يحافظوا على استقلالهم التام عن جميع التيارات الأخرى. كان لينين يدرك تمام الإدراك أنه في تلك الأجواء العامة المفعمة بالنشوة، سيكون هناك ضغط قوي في اتجاه توحيد “جميع التيارات التقدمية”. لقد كان تاريخ النزعة التوفيقية بين البلاشفة القدماء، وخاصة كامينيف، يشعر لينين بالقلق. لهذا السبب كتب في برقيته الأولى: “لا تقارب مع الأحزاب الأخرى”. ومن ناحية أخرى كان ستالين قد اقترح، في كونفرانس مارس، التغلب على “الاختلافات التافهة” في إطار حزب موحد بين البلاشفة والمناشفة. كان ستالين بعقلية “الموظف الحزبي” الضيقة الأفق يفكر في كل شيء من وجهة النظر التنظيمية. حزب أكبر يعني عددا أكبر من الأعضاء والمزيد من الأموال وجهازا أكبر، وبالتالي ساحة أوسع لتطوير أنشطته. وبالمقارنة مع هذا لم تكن الاختلافات النظرية سوى “تفاهات”. نرى هنا بشكل واضح جدا الفرق بين سيكولوجية الثوري وسيكولوجية البيروقراطي.

لقد اعتقد البلاشفة القدماء أنه في إمكانهم تحقيق الوحدة مع المناشفة على أساس “مبادئ زيمروالد – كينثال”، وذلك بالتحديد عندما كانت حركة زيمروالد قد استنفذت مهمتها التاريخية وكانت في طور الانحلال. وعلى أي حال فقد كانت منذ البداية مجرد حد أدنى وخطوة انتقالية في اتجاه بناء أممية جديدة حقا وثورية حقا. كان لينين قد اتخذ قراره بالفعل. كان شعاره هو: لا “عودة إلى زيمروالد”، بل “إلى الأمام نحو الأممية الثالثة”. وقد كتب في رسالة إلى راديك، بتاريخ 29 ماي: «أتفق معك تماما على أن زيمروالد قد أصبح عائقًا وأننا كلما سارعنا بالانفصال عنه كلما كان ذلك أفضل (أنت تعرف أنني لا أتفق مع الكونفرانس حول هذه النقطة). يجب علينا تسريع عملية تنظيم اجتماع للتيارات اليسارية، لقاء أممي للتيارات اليسارية فقط».

وبعد أسبوع واحد كتب: «إذا كان صحيحا أن ذلك البائس المشوش غريم (لا عجب في أننا لم نثق أبدا في ذلك البيروقراطي الوغد!) قد سلّم جميع شؤون زيمروالد إلى اليسار السويدي وأن هؤلاء الأخيرين يحضرون لعقد كونفرانس زيمروالد خلال الأيام القليلة المقبلة، فعندئذٍ أنا شخصياً (أنا أكتب هذا باسمي فقط) سأنبه بشدة إلى عدم وجود أي علاقة لنا مع زيمروزالد. قال غريغوري اليوم: “يا لها من فرصة جيدة للاستيلاء على أممية زيمروالد الآن”. وهذا، في رأيي، تكتيك انتهازي للغاية وضار للغاية»[39].

الحكومة الائتلافية الأولى

كانت الحرب ومزاج السخط المتزايد بين صفوف الجنود هي القضية الأكثر إلحاحا التي واجهت الثورة. بعد انهيار النظام القديم تحرك الجنود بشكل تلقائي لتطهير الجيش من الضباط الذين عارضوا الثورة. طالب الجنود بحقهم في أن يعاملوا معاملة البشر، وليس الحيوانات. ومن هنا جاء “الأمر رقم واحد” الشهير، الذي وصفه تروتسكي بأنه “الوثيقة الوحيدة الجديرة بالاحترام لثورة فبراير”[40].  جاءت مبادرة صياغة هذه الوثيقة الرائعة من جانب الجنود أنفسهم. ويمكن للمرء أن يسمع فيها صوت الجبهة الحقيقي، صوت غضب وأمل الرجال الذين يحدقون في عين الموت مباشرة، والذين لم يفقدوا شعلة الكرامة الإنسانية والرغبة في أن يعاملوا مثل البشر. كما أنها كانت الوجه الحقيقي لثورة فبراير: ليس خطابات السياسيين المدروسة والمصطنعة، بل مطالب الجماهير التي استيقظت للتو على الحياة السياسية بحثا عن الحقوق الديمقراطية والحرية، بدل النظام القديم والعبودية. كان “الأمر رقم واحد” يعبر بشكل أفضل من أي شيء آخر عن التطلعات الديمقراطية والثورية للجماهير.

مثلت المطالب المطروحة في البيان ميثاق جنود حقيقي:

«لجان منتخبة على جميع مستويات الجيش والبحرية.

انتخاب ممثلين للسوفييت في الأماكن التي لم تشهد هذه الانتخابات.

لن يمتثل الجنود سوى للسوفييت ولجانه فقط.

لن يتم الامتثال لأوامر الحكومة المؤقتة إلا في حالة عدم تعارضها مع أوامر السوفييت.

يجب أن تكون جميع الأسلحة تحت رقابة لجان الجنود المنتخبة، ولن يتم منحها للضباط بأي حال من الأحوال.

لا بد من التحلي بالالتزام والانضباط الصارمين في أوقات الخدمة، أما عند الانتهاء من الخدمة والخروج من الثكنات فللجنود كل الحرية والحقوق المدنية.

إلغاء ألقاب الضباط؛ يُحظر على الضباط التصرف بوقاحة مع الجنود، وخاصة استخدام عبارة (“ty”) عند مخاطبتهم».

سمى الجنود مطالبهم هذه “الأمر رقم واحد”. وقد سقطت كقنبلة على الضباط الرجعيين وأصدقائهم السياسيين في الحكومة المؤقتة. كان ذلك تحديا لفئة الضباط “وحقهم المقدس” الاستبدادي في التحكم في الجنود، وبالتالي كان تحديا لأركان النظام البرجوازي القائم. وسرعان ما دخلت “لجنة الدوما المؤقتة” في المواجهة مع نواب الجنود الذين وضعوا “الأمر رقم واحد” لحامية بتروغراد. حاول الضباط الرجعيون، الذين صاروا الآن يرفعون شارات الجمهورية على صدورهم، منع تنفيذها في الجبهة، زاعمين أنها “مسألة خاصة ببتروغراد فقط”. وقد تلقوا في هذا الصدد الدعم من جانب الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، الذين كانوا حريصين على وضع حد “للجنون” الثوري واستعادة النظام (البرجوازي). لكن محاولتهم ذهبت سدى. انتشرت المطالبة بالحقوق الديمقراطية، الواردة في “ميثاق الجنود”، بين صفوف الجيش كانتشار النار في الهشيم. وقد كان الصراع حول “الأمر رقم واحد” صورة للتطورات التي ستحدث لاحقا.

كان مطلب الجيش هو التوصل إلى سلام فوري دون إلحاقات أو تعويضات. كان قادة السوفييتات يلقون خطابات حول “السلام العادل”، لكن طالما بقيت السلطة في أيدي أصحاب الأبناك والصناعيين، المرتبطين بالمصالح الأنجلو-فرنسية، فإن ذلك السلام كان مجرد حلم. خلال فصل الربيع ازداد استياء الجنود، لأن الحكومة استمرت تماطل بخصوص مسألة السلام. وقد أعلنت البرجوازية، من خلال كبير ممثليها في الحكومة، مليوكوف، اعتزامها مواصلة الحرب حتى “تحقيق النصر”، وهو ما أغضب الجنود وخلق وضعا متفجرا في بتروغراد.

يمكن ملاحظة السيرورات التي شهدتها ثورة فبراير في كل الثورات الأخرى. فقد استقبلت الجماهير سقوط النظام القديم بحماس، كانت هناك فرحة عامة، حيث استمتع الرجال والنساء بالحريات الجديدة. هذه هي مرحلة الأوهام الديمقراطية، وهي كرنفال يسكر فيه الشعب بإحساس التحرر والآمال التي لا تعرف حدودا. لكن للأسف ليس مقدرا لعيد الحب الجميل هذا أن يستمر. وسرعان ما يتحول الوهم إلى خيبة أمل عميقة حيث تصطدم التطلعات بجدار الواقع. “لقد جرحنا الثعبان، لكننا لم نجهز عليه”، هكذا صرخ ماكبث في مسرحية شكسبير. وبالتدريج بدأت الجماهير تفهم أنه وراء البهرجة والخطب لا شيء تغير فعلا. لم يقم النظام القديم سوى بتبديل مظهره، لكن نفس السادة القدامى استمروا في أماكنهم، وكذلك المشاكل القديمة نفسها.

لم يؤثر هذا المزاج على جميع الفئات في وقت واحد، بل ظهر أولا بين صفوف القسم الأكثر تطورا من الجماهير. وعندما بدأت تلك الطليعة تدرك، ولو بشكل غير واضح، أن السلطة التي حققوها بالكثير من الجهد والتضحية قد بدأت تفلت من بين أيديهم، قاموا برد فعل فطري. كانت تلك لحظة خطر شديد على الثورة. كانت الطليعة المتقدمة تفهم أكثر من بقية الجماهير، وكانت تدفع بفارغ الصبر إلى الأمام من أجل إجراءات متسرعة. لكنه كان من الضروري كسب بقية المجتمع، التي تتخلف عن الركب ولم تكن قد استخلصت النتائج الضرورية بعد. إذا انفصلت الطليعة المتقدمة عن بقية الطبقة، يمكن أن تصير معزولة وتتعرض للهزيمة على يد قوى الثورة المضادة. وفي ظل هذه الظروف يكون من واجب الحزب أن يحاول كبح العناصر المتقدمة، لتجنب خوض المعركة إلى أن تتم تعبئة بقية القوى.

بمجرد ما بدأت الثورة بدأت سيرورة الاختبارات المتتالية التي كانت تبحث الجماهير بواسطتها عن الحزب السياسي الذي يعبر بشكل أفضل عن تطلعاتها. كان هناك تعاقب لما يمكن أن نشبهه بالدوريات الاستطلاعية في المعركة، حيث كانت الجماهير تختبر دفاعات العدو وقوته. اتخذت تلك الدوريات شكل مظاهرات حاشدة، ابتداء من أبريل، عندما تدفق الآلاف من العمال والجنود والبحارة على شوارع بتروغراد، حاملين لافتات بشعارات من قبيل: “فليسقط ميلوكوف!”، “فلتسقط سياسة الإلحاقات!”، بل وحتى شعار “فلتسقط الحكومة المؤقتة!”. كانت تلك بلا شك شعارات البلاشفة، لكن المظاهرات نفسها لم تكن بدعوة من الحزب، كما يشرح ألكسندر رابينوفيتش قائلا: «مما لا شك فيه أن قواعد الحزب من الجنود والعمال ساعدوا في إثارة مظاهرات الشوارع في المقام الأول، رغم أن اللجنة المركزية لم تنخرط إلا بعد أن تطورت الحركة فعليا؛ بعد ذلك بدأت قيادة الحزب تؤيد المظاهرات. سارعت العناصر الكفاحية في منظمة الحزب ببتروغراد وفي المنظمة العسكرية البلشفية، مدفوعة بفطرتها الكفاحية والخوف من فقدان المواقع أمام اللاسلطويين، إلى اتخاذ مقاربة أكثر راديكالية؛ وقد نشر بعض المسؤولين في لجنة بطرسبرغ على نطاق واسع نداء باسم الحزب، يدعوا للإطاحة الفورية بالحكومة المؤقتة واعتقال الوزراء»[41].

كان الهدف المباشر للمظاهرة هو الاحتجاج ضد مخططات مواصلة الحرب. لكن هذه المسألة أثارت مسألة السلطة. كانت تحركات أبريل المظاهرات الجماهيرية الأولى من نوعها التي حاولت فيها الجماهير إجبار الحكومة وقادة السوفييتات على تنفيذ وعودهم. لقد لعبت من حيث الجوهر دورا مشابها لمهمة دورية الاستطلاع في الحرب، إذ قامت باكتشاف نقاط ضعف العدو والسماح للعمال والجنود باختبار قوتهم في الشوارع. ومن المعبر أن المتظاهرين لم يتفرقوا إلا عندما طلب منهم ذلك سوفييت بتروغراد، بعد أن كانوا قد تحدوا صراحة ​​أوامر الحكومة لهم بالتفرق. هذا التفصيل لوحده يقول كل شيء. لم تكن السلطة الحقيقية في أيدي الحكومة المؤقتة، التي كانت الجماهير تكرهها ولا تثق فيها، بل في أيدي القادة الإصلاحيين، “الاشتراكيين المعتدلين” في اللجنة التنفيذية السوفياتية، الذين كانوا يخشونها مثلما يخشى المرء الطاعون. كانت الجماهير مجبرة على أخذ الإصلاحيين من أعناقهم ودفعهم إلى سدة الحكم. هذا هو المعنى الحقيقي لمظاهرات أبريل. كان للاندلاع المفاجئ للمظاهرات الجماهيرية في الشوارع نتيجة فورية، حيث دخلت الحكومة في أزمة، إذ اضطرت البرجوازية على تمرير الجمرة المشتعلة إلى القادة الإصلاحيين.

كانت مظاهرة أبريل أول اختبار جاد للقوة بين العمال وبين الحكومة المؤقتة ومؤيديها الاشتراكيين اليمينيين. وقد كان اختبارا ناجحا. فقد تم إجبار اثنين من الوزراء البرجوازيين الممقوتين أكثر من غيرهم بسبب سياساتهم المؤيدة للحرب، أي غوتشكوف ومليوكوف، على الاستقالة، ودخل العديد من قادة السوفييتات إلى الحكومة. صار المنشفي الجيورجي، إراكلي تسيريتيلي، وزيرا للبريد والتلغراف، وأصبح الاشتراكي الثوري المخضرم، فيكتور تشيرنوف، وزيرا للزراعة، ورئيس الحزب الاشتراكي الشعبي، أليكسي بيشيكونوف، وزيرا للإمدادات الغذائية. كما شغل بافل بيرفيرزيف منصب وزير العدل، وأصبح كيرنسكي وزيرا للحرب والبحرية. وبهذه الطريقة صار قادة السوفييتات يتحملون المسؤولية المباشرة داخل الحكومة المؤقتة، بدلا من دعمها من الخارج. فتم تشكيل أول ائتلاف.

رحبت أغلبية الجماهير بهذه الخطوة أملا في أن يحدث وزراء“هم” تغييرا بطريقة ما داخل الحكومة. لكن لينين ندد على الفور بمشاركة المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الحكومة، مشيرا إلى أنهم من خلال انضمامهم إلى الحكومة المؤقتة البرجوازية، «قد أنقذوها من الانهيار وسمحوا لأنفسهم بأن يصبحوا خادمين لها ومدافعين عنها»[42]. لقد كان قادة السوفييتات، في الواقع، مجرد رهائن في يد الوزراء البرجوازيين الذين حددوا كل السياسات. لقد قبلوا بالحقائب الوزارية في حين استمرت السلطة الحقيقية في يد الملاكين العقاريين والرأسماليين، باستثناء أنه كانت هناك قوة بديلة أخرى تنتظر بقلق شديد حل مشاكلها الأكثر إلحاحا، لكن بدون جدوى! لقد شكل القادة الإصلاحيون، المرعوبون من الإساءة إلى البرجوازية، التي كانت هي من يجب أن يحكم وفقا لعقيدة “الثورة عبر مرحلتين”، مجرد غطاء يساري للحكومة المؤقتة، التي كانت بدورها مجرد واجهة تقوم قوى الردة الرجعية ورائها بإعادة تجميع صفوفها والاستعداد لهجوم مضاد، بمجرد أن تتعرض الجماهير للإحباط وخيبة الأمل بسبب سياسات الائتلاف.

واجه هذا الائتلاف بين القادة العماليين والبرجوازية تناقضات مستعصية أدت إلى شله منذ البداية. لقد كان يشبه  إلى حد كبير كل الحكومات الائتلافية المماثلة من حكومة ميليراند في فرنسا، مرورا بتحالف اللبراليين والعماليين في بريطانيا، إلى ما سمي بحكومات الجبهة الشعبية في فرنسا وإسبانيا خلال ثلاثينيات القرن الماضي. لقد تم تبريرها جميعا بشعار “وحدة القوى التقدمية” و“الوحدة الوطنية”، الذي هو أكثر الشعارات فراغا، والذي يعني “وحدة” الحصان مع راكبه. تستغل البرجوازية، في الواقع، هذه التحالفات من أجل استخدام القادة العماليين وتشويه سمعتهم لإحباط معنويات الجماهير، بينما تنظم وراء الكواليس صفوفها من أجل الهجوم المضاد. كانت الحكومة المؤقتة بعد أبريل نموذجا مثاليا لهذا النوع من الائتلافات. تم وضع القادة السوفييت في تلك الوزارات التي من شأنها أن تجعلهم في صراع مع تطلعات العمال والفلاحين، أي وزارات العمل  والزراعة، وهلم جرا. كما تم تكليف كيرنسكي، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في البداية، بضبط الجنود وجعلهم يتقبلون استمرار الحرب تحت اسم “السلام والتقدم والديمقراطية”، بالطبع.

كان دخول الوزراء “الاشتراكيين” إلى الحكومة المؤقتة نقطة تحول. إذ من الآن فصاعدا صار في إمكان العمال والفلاحين أن يقارنوا الكلمات بالأفعال. كانت الظروف تتحضر لكي يتم فضح القادة العماليين الإصلاحيين في الممارسة. كان ذلك أحد جوانب المسألة. لكن العنصر الأكثر أهمية كان هو أن البلاشفة ظلوا، بفضل توجيهات لينين، خارج الائتلاف وحافظوا على موقف معارضة شديدة تجاهه. وما بدا للبعض وكأنه موقف طوباوي وعصبوي، اتضح الآن أنه الموقف الواقعي الوحيد الذي على الحزب الثوري أن يتبناه. كان ذلك هو مفتاح نجاح البلاشفة والسبب الذي جعلهم يتطورون بسرعة كبيرة على حساب المناشفة والاشتراكيين الثوريين في الأشهر التالية. يقول رابينوفيتش: «بمجرد انضمامهم إلى الائتلاف الأول، أصبح الاشتراكيون المعتدلون مرتبطين في ذهن الشعب بأوجه قصور الحكومة المؤقتة. وحدهم البلاشفة، من بين كل المجموعات السياسية الروسية الرئيسية الأخرى، من بقوا بمنأى عن الحكومة، وبالتالي كانوا أحرارا بشكل كامل في تنظيم المعارضة لها، وهو الوضع الذي استفاد منه الحزب بشكل كامل»[43].

لكن الجناح الثوري واجه صراعا شاقا لا بد أنه بدا مستحيلا في البداية. كانت شعاراتهم تبدو متقدمة جدا بالنسبة للجماهير، بينما قدم لها زعماء المناشفة والاشتراكيين الثوريين، من ناحية أخرى، ما كان يبدو وكأنه الخيار الأسهل. فالثورة انتصرت، وصارت روسيا الآن أكثر البلدان حرية في العالم، وبالتالي فمع القليل من الصبر، سيتم حل كل المشاكل. الشيء المطلوب هو أن يتحد الجميع ويتجاوزوا خلافاتهم وكل شيء سيكون على ما يرام. كان الضغط الهائل من أجل الوحدة أحد أسباب استسلام كامينيف وستالين للمناشفة قبل عودة لينين. كان خطأهما هو اقتصارهما على رؤية الموقف الماثل أمامهما فقط، وعدم رؤية السيرورة العميقة التي ستقلب كل هذا رأسا على عقب. إن الأساس الفلسفي لجميع أنواع الإصلاحية هو التجريبية المبتذلة التي تختبئ تحت قناع “الواقعية”، أو كما أسماها تروتسكي ذات مرة، العبادة الخنوعة للواقع القائم. لكن ما هو “واقع” في لحظة ما، يمكن أن يصبح وهما في لحظة أخرى. ومن أجل أن تستخلص الجماهير الاستنتاجات الضرورية، هناك أمران ضروريان: أولا أن تصل الطبقة العاملة إلى أن تفهم، من خلال تجربتها الخاصة، وضعها الحقيقي، وثانيا وجود حزب ثوري له قيادة بعيدة النظر قادرة على خوض التجربة معهم وشرح أهميتها في كل مرحلة.

لكن الجماهير لا تستخلص جميعها نفس الاستنتاجات في نفس الوقت. فبحلول يونيو ويوليوز، كانت شريحة من العمال المتقدمين والبحارة في بتروغراد قد توصلت إلى تقييم للحكومة المؤقتة والزعماء السوفييت ووجدوا أنهم مفلسين. كما أراد قسم من أعضاء الحزب البلشفي، تحت تأثير نفاذ الصبر، المضي أبعد مما تسمح به الظروف وقبل الأوان؛ فقاموا تحت تأثير اليسراويين المتطرفين واللاسلطويين، برفع الشعار الثوري: “فلتسقط الحكومة المؤقتة”. كان هذا شعار الانتفاضة. ما هو الموقف الذي اتخذه لينين آنذاك؟ لقد رفض ذلك الشعار بالكامل. لماذا؟ لأن ذلك الشعار لم يكن يتطابق مطلقا مع المستوى الحقيقي الذي كانت قد بلغته الحركة. إن لينين، الذي كان ثوريا حتى النخاع، عارض ذلك الشعار بشدة، وبدلا من ذلك وجه الحزب نحو كسب الجماهير، وأصر على ضرورة “الشرح بصبر”. كانت المشكلة هي أن الجماهير الواسعة من الطبقة العاملة في المقاطعات الأكثر تخلفا لم تكن قد توصلت بعد لفهم الدور الحقيقي للقادة الإصلاحيين في السوفييتات، ناهيك عن الفلاحين الذين كانوا أكثر تخلفا. كان البلاشفة قد نجحوا في كسب الفئات الأكثر تقدما داخل الطبقة العاملة، لكنه كان من الخطأ الفادح أن يتم دفع هؤلاء إلى الاصطدام مع الأغلبية الأقل وعيا والتي كانت ما تزال لديها أوهام في المناشفة والاشتراكيين الثوريين. واستنادا إلى العمال المتقدمين كان على البلاشفة الآن أن يجدوا الطريق لكسب الأغلبية.

كان النمو العظيم الذي حققه الحزب البلشفي في الأشهر التسعة، من فبراير إلى أكتوبر، ظاهرة يصعب إيجاد أي شبيه لها في تاريخ الأحزاب السياسية. لقد لخص عام 1917 بشكل تام جوهر ومعنى تاريخ البلشفية. آنذاك خضعت جميع البرامج والسياسات والتكتيكات والاستراتيجيات أخيرا لمحك الاختبار في الممارسة. ليس هناك من تأكيد لصحة النظريات أفضل مما يحدث خلال الثورة.

وعن تجربة الثورة الروسية، قال تروتسكي: «علينا أن نتذكر أنه في بداية عام 1917، كان الحزب البلشفي يقود عددا ضئيلا فقط من الكادحين. لم يكن البلاشفة يشكلون عموما، ليس فقط في سوفييتات الجنود، بل أيضا في السوفييتات العمالية، سوى ما بين 01 إلى 02%، وفي أفضل الحالات 05%. كان لدى الأحزاب الرئيسية للبرجوازية الصغيرة الديمقراطية (المناشفة ومن يسمون بالاشتراكيين الثوريين) ما لا يقل عن 95% من العمال والجنود والفلاحين المشاركين في النضال. أطلق قادة تلك الأحزاب على البلاشفة تسمية عصبويين في البداية ثم… اسم عملاء القيصر الألماني. لكن كلا، لم يكن البلاشفة عصبويين! لقد كان كل انتباههم موجها إلى الجماهير، وعلاوة على ذلك ليس الفئة العليا منها فقط، بل تلك الملايين وعشرات الملايين من الجماهير الأكثر انسحاقا والأكثر اضطهادا، والتي عادة ما ينساها الثرثارون البرلمانيون. ومن أجل قيادة البروليتاريين وشبه البروليتاريين في المدينة والريف على وجه التحديد، رأى البلاشفة أنه من الضروري أن يميزوا أنفسهم بوضوح عن جميع الفصائل والمجموعات البرجوازية، بدءا من هؤلاء “الاشتراكيين” المزيفين الذين هم في الواقع عملاء للبرجوازية»[44].

كان الحزب البلشفي قبل الحرب قد نجح، كما رأينا، في كسب الأغلبية الحاسمة بين العمال المنظمين. لقد كان هو الحزب التقليدي للطبقة العاملة في روسيا. لكن ميزان القوى الطبقي تعرض خلال الحرب إلى تغيير كبير. كان الشباب، الذين يشكلون القاعدة الطبيعية للبلشفية قد ذهبوا إلى الجيش. كما أن جزءا كبيرا من الكوادر العمالية ذات الخبرة، كانوا في الجبهة بدورهم، حيث غرقوا في بحر من الفلاحين المتخلفين والأميين سياسيا. كانت المنظمات العمالية قد سحقت بفعل الاعتقالات. واضطر العمال إلى طأطأة رؤوسهم. وقد أدى تدفق عدد كبير من العناصر المفتقرة إلى الخبرة إلى المصانع -من الفلاحين والنساء والشباب الأميين- إلى جعل الأمور أسوأ في البداية. لم يكن من الممكن، في ظل تلك الظروف، تحقيق أي تقدم جدي. كان يكفي الحفاظ على ما تبقى من الكوادر مجتمعة معا وانتظار انفراج في الوضع.

من الصعب تقديم حساب دقيق لعضوية الحزب البلشفي في عام 1917. يقدم مؤلفون مختلفون تقديرات مختلفة. الرقم “الرسمي” الذي تقدمه موسوعة بولشويا سوفيتسكايا هو 23.600، في يناير 1917، قبل بداية الثورة، ولكن هذا التخمين هو بالتأكيد مبالغة. ربما يكون رقم 8.000 عضو في روسيا كلها ليس بعيدا عن الرقم الحقيقي. يدعي رابينوفيتش أنه في فبراير كان هناك 2.000 عضو في بتروغراد، وأن عضوية الحزب على الصعيد الوطني تضاعفت إلى 16.000 بحلول أبريل: «في شهر فبراير، كان هناك حوالي 2.000 من البلاشفة في بتروغراد. وعند افتتاح كونفرانس أبريل، ارتفعت عضوية الحزب إلى 16.000. وبحلول أواخر يونيو وصل العدد إلى 32.000، بينما انضم 2.000 جندي إلى المنظمة العسكرية البلشفية وانضم 4.000 جندي إلى “نادي برافدا”…».

كانت الغالبية الساحقة من المجندين الجدد في شكل خام للغاية، كما يشير المؤلف نفسه: «لقد أدى النمو السريع للحزب منذ شهر فبراير إلى إغراق قاعدة الحزب بمناضلين لم يكونوا يعرفون شيئا تقريبا عن الماركسية، والذين لم يكن يوحدهم تقريبا سوى نفاد الصبر للقيام بعمل ثوري فوري»[45].

كان التدفق السريع للمجندين الجدد، والذين كان الكثير منهم من الشباب اليافعين (كان المناشفة يطلقون على البلاشفة بازدراء اسم “حزب الأطفال”)، أحد الأسباب التي مكنت لينين من أن ينجح في التغلب على مقاومة “البلاشفة القدماء” المحافظين. وقد أدى هذا إلى تغيير الحزب. يقول مارسيل ليبمان: «ابتداء من أبريل 1917، بدأ الحزب البلشفي يتعزز بتدفق مستمر وواسع النطاق للأعضاء الجدد. أدى ذلك التدفق إلى سحق نواة “البلاشفة القدماء” الذين ادعوا أنهم حماة الأرثوذكسية اللينينية، حيث غرقوا تحت ثقل أعضاء جدد تجذروا بفعل الأحداث الثورية ولم تشلهم مبادئ تلك الأرثوذكسية»[46].

كانت أهم ميزة للحزب البلشفي في عام 1917 هي شبابه. فعلى سبيل المثال، كان سن جميع أعضاء مكتب الحزب في موسكو، باستثناء عضو واحد، أقل من 30 عاما. كان هناك تعارض بين المكتب وبين لجنة الحزب في موسكو، التي كانت مؤلفة من أعضاء أكبر سنا وأكثر محافظة. يصف ستيفن ف. كوهين في سيرته عن بوخارين وضع البلاشفة في موسكو قائلا: «في حين أن غالبية لجنة موسكو أيدت الانتفاضة في النهاية، فإن استجابتها للمسار الراديكالي الذي حدده لينين واليسار كانت بطيئة وبدون حماس. كان معظم أعضائها يعتقدون، كما أكد أحدهم، أنه: “لا توجد القوى، والظروف الموضوعية غير ناضجة لذلك”. قادة المكتب، الذين كانوا يحثون شيوخهم باستمرار، بقوا قلقين إلى وقت متأخر من شهر أكتوبر من أن المزاج “المحب للسلام” و“التذبذب الشديد” في لجنة موسكو سيكون قاتلا “عندما تحين اللحظة الحاسمة”. وبالتالي فعلى الرغم من الدعم الكبير من جانب بعض كبار السن من البلاشفة في موسكو، فإن شباب موسكو يميلون إلى اعتبار النصر النهائي في موسكو إنجازا شخصيا لهم، ودليلا على بطولة جيلهم. وكما قال أوسينسكي عنهم لاحقا، إنهم قادوا النضال من أجل السلطة “ضد مقاومة كبيرة من جانب جزء كبير من الجيل الأكبر سنا من مسؤولي الحزب في موسكو”»[47].

كل السلطة للسوفييتات

بعد أن تمكن لينين من كسب الحزب إلى منظور ثورة جديدة بقيادة الطبقة العاملة، انتقل إلى توضيح الخطوة التالية وهي كسب الجماهير. ليس هناك من ادعاء أبعد عن الحقيقة من ذلك الافتراء الذي يتكرر كثيرا حول أن لينين كان متآمراً مصمماً على الاستيلاء على السلطة من طرف أقلية من الثوريين، على النحو الذي دعا إليه الثوري الفرنسي العظيم، بلانكي، خلال القرن التاسع عشر. فلينين رغم أنه كان يقدر صدق وبطولة بلانكي، الذي طور رؤى مهمة حول أسلوب الانتفاضة، لم يكن يرى أبدا أن الثورة الاشتراكية يمكن أن تحدثها أقلية من الثوريين المصممين. وعلى النقيض من ذلك فقد حافظ لينين طوال حياته على إيمان قوي بالقدرات الثورية والإبداعية للطبقة العاملة. يجب أن تستند الاشتراكية إلى الحركة الذاتية للبروليتاريا، ومشاركتها النشطة ورقابتها على المجتمع منذ اللحظة الأولى. حتى قبل عودته إلى روسيا كان هناك عدد من البلاشفة الذين رفعوا، بدافع من نفاد الصبر، شعار: “فلتسقط الحكومة المؤقتة”. كان هذا شعارا يسراويا متطرفا، لأن جماهير العمال كانت ما تزال تحت تأثير القادة الإصلاحيين للسوفييتات، الذين كانوا يدعمون الحكومة المؤقتة. لم تكن المهمة المطروحة على الحزب البلشفي في تلك المرحلة هي الاستيلاء على السلطة، بل كانت المهمة هي كسب الجماهير. وقد لخص لينين هذه الفكرة في وصيته الشهيرة: “اشرح بصبر!”.

كان الحزب البلشفي قد نجح في كسب عدد كبير من العمال الأكثر وعيا وتقدما. وكان نفوذهم، خاصة في بتروغراد، ينمو كل ساعة. لكن ذلك لم يكن كافيا، فمن أجل تغيير المجتمع لا يكفي الحصول على دعم الطليعة وحدها، أو أن يضم الحزب بضع عشرات من الآلاف. بل من الضروري كسب ملايين العمال المتخلفين سياسيا، وفي حالة روسيا لا بد أيضا من كسب قطاع كبير، على الأقل، من الفلاحين، بدءا من الفلاحين الفقراء والبروليتاريا وشبه البروليتاريا الريفية. وفي ربيع عام 1917، كانت هذه المهمة العملاقة ما تزال في بداياتها المبكرة. كان من الضروري أن يفتح العمال البلاشفة طريقا نحو بقية الطبقة العاملة، وخاصةً في الأقاليم النائية، التي كانت ما تزال لديها أوهام حول القادة الإصلاحيين. كان من الضروري التحدث إليها بلغة تفهمها، وتجنب الممارسات اليسراوية المتطرفة التي من شأنها تنفيرها.

كان لينين يفهم أن الطبقة العاملة تتعلم من التجربة، وخاصة تجربة الأحداث الكبرى. والطريقة الوحيدة التي يمكن بها للتيار الثوري، الذي ما يزال أقلية، كسب الجماهير إلى صفه هي اتباع مجريات الأحداث إلى جانب الجماهير، والمشاركة معها في النضال اليومي الجاري، وطرح شعارات تتوافق مع المستوى الحقيقي لتطور الحركة، ويشرح بصبر الحاجة إلى إحداث تغيير كامل للمجتمع باعتباره السبيل الوحيد للحل. أما الدعوات المتطرفة إلى الانتفاضة والحرب الأهلية فلن تكسب الجماهير، ولا حتى الفئات المتقدمة، بل ستؤدي فقط إلى تنفيرها. يصدق هذا، كما رأينا أعلاه، حتى في خضم الثورة. وعلى العكس من ذلك من الضروري تحميل مسؤولية حدوث العنف والحرب الأهلية للقادة الإصلاحيين الذين يملكون القدرة على الاستيلاء على السلطة بطريقة سلمية، وبسبب رفضهم القيام بذلك يجعلون إراقة الدماء أمرا حتميا.

لينين، الذي أدرك أن الطبقة الحاكمة تريد استفزاز العمال لارتكاب أعمال عنف سابقة لأوانها، ندد بأولئك الذين زعموا أنه يدعوا إلى الحرب الأهلية. وقد نفى مرارا وتكرارا تهمة دعم البلاشفة للعنف، وألقى المسؤولية الكاملة عن العنف على كاهل الطبقة الحاكمة. لم يكن ذلك يعجب اليسراويين المتطرفين الذين عجزوا عن فهم أن تسعة أعشار مهام الثورة الاشتراكية هي العمل من أجل كسب الجماهير عن طريق الدعاية والتحريض والشرح والتنظيم. بدون ذلك، يصير كل حديث عن الحرب الأهلية والانتفاضة مجرد مغامرة غير مسؤولة، أو بلانكية، كما تسمى في المصطلحات العلمية للماركسية.

إليكم ما قاله لينين حول هذا الموضوع: «إن الحديث عن الحرب الأهلية قبل أن يدرك الشعب الحاجة إليها هو بلا شك سقوط في البلانكية»[48].

لم يكن البلاشفة هم الذين أثاروا باستمرار شبح العنف والحرب الأهلية، بل البرجوازية وحلفاؤها الإصلاحيون هم من كانوا يقومون بذلك. لقد أنكر لينين مرارا أي تلميح إلى أن البلاشفة يؤيدون العنف. وفي 25 أبريل، احتج في برافدا على “التلميحات الخبيثة” التي أطلقها “الوزير نيكراسوف” حول أن البلاشفة “يدعون للعنف”، وقال: «أنت تكذب، أيها السيد الوزير والعضو الجدير بحزب “حرية الشعب”. إن السيد غوتشكوف هو الذي يبشر بالعنف عندما يهدد بمعاقبة الجنود لتمردهم على السلطات. إن “روسكايا فوليا”، التي هي صحيفة محرضة على الشغب ولسان حال “الجمهوريين” الذين يروجون لأعمال الشغب، وهي صحيفة موالية لك، هي التي تدعو إلى العنف. أما برافدا وأنصارها فلا يدعون إلى العنف، بل على العكس من ذلك، إننا نعلن بوضوح تام، وبالتأكيد أن جهودنا الرئيسية ينبغي أن تتركز الآن على أن نشرح للجماهير البروليتارية مشاكلها البروليتارية، المتميزة عن البرجوازية الصغيرة التي استسلمت للسموم الشوفينية»[49].

يوم 21 أبريل (04 ماي –بالتقويم الجديد-)، أصدرت اللجنة المركزية البلشفية قرارا كتبه لينين، كان الهدف منه كبح جماح قيادة بتروغراد المحلية التي كانت تسبق الأحداث. وكان الهدف من ذلك تحميل المسؤولية في حدوث أي عنف للحكومة المؤقتة ومؤيديها، واتهام “الأقلية الرأسمالية برفض الخضوع لإرادة الأغلبية”. وفيما يلي فقرتان من ذلك القرار:

«1- يجب على دعاة الحزب والمتحدثين باسمه أن يدحضوا الأكاذيب الدنيئة التي تنشرها الصحف الرأسمالية والصحف الداعمة للرأسماليين بأننا ندعوا إلى الحرب الأهلية. هذه كذبة حقيرة، لأنه في الوقت الحالي، طالما أن الرأسماليين وحكومتهم لا يستطيعون ولا يجرؤون على استخدام القوة ضد الجماهير، طالما أن جماهير الجنود والعمال يعبرون بحرية عن إرادتهم وينتخبون ويعزلون بحرية جميع السلطات- سيكون في مثل هذه الظرفية أي تفكير في الحرب الأهلية ساذجا ولا معنى له، ولا فائدة منه؛ في مثل هذه الظرفية يجب أن يكون هناك الامتثال لإرادة غالبية السكان والانتقاد الحر لهذه الإرادة من قبل الأقلية الساخطة؛ وإذا ما تم اللجوء إلى العنف، فستقع مسؤولية ذلك على عاتق الحكومة المؤقتة ومؤيديها.

2- من خلال الاحتجاج ضد الحرب الأهلية تحاول حكومة الرأسماليين وصحفها إخفاء امتناع الرأسماليين، الذين يشكلون، باعتراف الجميع، أقلية ضئيلة من الشعب، عن الخضوع لإرادة الأغلبية»[50].

وقد أكد لينين في كل خطبه ومقالاته، التي كتبها في النصف الأول من عام 1917، على إمكانية وأفضلية الانتقال السلمي للسلطة إلى السوفييتات. بل إنه أشار حتى إلى إمكانية دفع تعويضات للرأسماليين الذين يتم الاستيلاء على مشاريعهم، شريطة أن يسلموا المصانع دون أي تخريب، والتعاون في عملية إعادة تنظيم الإنتاج: «لا تحاول تخويفنا، أيها السيد شولجين. فحتى عندما سنكون في السلطة، لن نأخذ منك قميصك “الأخير”، بل سنضمن أن تحصل على ملابس جيدة وطعام جيد، بشرط أن تقوم بالعمل الذي يتناسب مع قدراتك ومؤهلاتك!»[51].

يعلم الجميع أن هذا كان هو الشعار المركزي للينين والبلاشفة في عام 1917. لكن قلة قليلة من الناس فقط هم من فهموا المحتوى الحقيقي لهذا الشعار. ما هو المعنى الحقيقي لشعار: “كل السلطة للسوفييتات”؟ هل كان يعني الحرب الأهلية؟ الانتفاضة؟ الاستيلاء على السلطة من طرف البلاشفة؟ كلا على الاطلاق. لقد كان البلاشفة يمثلون أقلية داخل السوفييتات، التي كانت تسيطر عليها الأحزاب الإصلاحية، الاشتراكيون الثوريون والمناشفة. لم تكن المهمة المركزية هي الاستيلاء على السلطة، بل كسب الأغلبية التي كانت ما تزال لديها أوهام في الإصلاحيين. أقام البلاشفة “شرحهم الصبور” على أساس الفكرة، التي تكررت باستمرار في كتابات وخطب لينين، من مارس حتى عشية ثورة أكتوبر، بأن الزعماء الإصلاحيين يجب أن يأخذوا السلطة بأيديهم، وأن هذا سيضمن التغيير السلمي للمجتمع، وأن البلاشفة يؤيدون هذا بكل إخلاص، وأنه إذا قام القادة الإصلاحيون بالاستيلاء على السلطة، فإن البلاشفة سيقتصرون على النضال السلمي من أجل كسب الأغلبية داخل السوفييتات.

وفيما يلي بعض الأمثلة عن الكيفية التي طرح بها لينين المسألة (وهناك الكثير منها): «لم يكن جميع مؤيدي شعار “يجب نقل كل السلطة إلى السوفييتات” قد فكروا مليا، على ما يبدو، في حقيقة أنه كان شعارا للتقدم السلمي للثورة، سلميا ليس فقط بمعنى أنه لم يكن هناك أي أحد، ولا أي طبقة ولا أي قوة ذات أهمية، آنذاك (بين 27 فبراير و04 يوليوز) في إمكانه مقاومة ومنع نقل السلطة إلى السوفييتات. هذا ليس كل شيء. كان من الممكن أن يكون التطور سلميا حتى بمعنى امكانية اتخاذ صراع الطبقات والأحزاب داخل السوفييتات لشكل أكثر سلمية وبدون ألم، بشرط انتقال كامل سلطة الدولة إلى السوفييتات في الوقت المناسب»[52].

بعد فشل انتفاضة كورنيلوف، تبنى لينين مرة أخرى شعار “كل السلطة للسوفييتات”، في مقال بعنوان “بصدد المساومات”، ودعا إلى إجراء مساومة مع الزعماء الإصلاحيين، بحيث لا يقوم البلاشفة بالتحريض لفكرة الانتفاضة، شريطة أن يقطع قادة السوفييتات مع البرجوازية ويأخذون السلطة بأيديهم. كان هذا ممكنا جدا بعد هزيمة الهجوم المعادي للثورة. كان الرجعيون محبطين ومشوشين، بينما كان العمال واثقين في أنفسهم وأيدت الغالبية العظمى نقل السلطة إلى السوفييتات. كان من الممكن، في ظل تلك الظروف، تنفيذ الثورة بطريقة سلمية، دون عنف ولا حرب أهلية. لم يكن هناك شيء ليمنع ذلك. كانت كلمة واحدة من قيادة السوفييتات كافية لتحقيق ذلك. وبعد ذلك كان من الممكن تسوية مسألة من هو الحزب الذي سيحكم من خلال النقاش السلمي داخل السوفييتات. قال لينين: «لن يطرح البلاشفة، على ما أعتقد، أي شروط أخرى، واثقين من أن الثورة ستمضي بسلام وأن الصراع الحزبي داخل السوفييتات سيتم بطريقة سلمية بفضل الحرية الكاملة للدعاية والتطبيق الفوري لديمقراطية جديدة في تكوين السوفييتات (انتخابات جديدة) وفي أدائها. ربما قد صار هذا مستحيلا؟ ربما. لكن إذا كانت هناك ولو فرصة واحدة في المائة، فإن محاولة تحقيق مثل هذا الاحتمال تبقى جديرة بالاهتمام»[53].

كان لينين مقتنعا تماما بأن الثورة السلمية كانت ليس فقط ممكنة، بل مرجحة، بشرط واحد وهو أن يقوم الزعماء الإصلاحيون في السوفييتات بالاستيلاء على السلطة، بدلا من تكريس كل طاقاتهم لدعم حكم الملاكين العقاريين والرأسماليين. لكن رفضهم تولي السلطة، خاصة بعد هزيمة كورنيلوف، هدد روسيا بالكوارث. هذا هو التناقض الأبدي للإصلاحية، وهو أنه من خلال تمسكهم بمفهوم التحول البطيء التدريجي والسلمي للمجتمع، دائما ما يخلقون أكثر الأوضاع تشنجا وكارثية وعنفا، ويمهدون الطريق لانتصار الردة الرجعية. كان لينين ينتقد بشدة ترددات وتذبذبات المناشفة والاشتراكيين الثوريين الذين كانوا يرفضون الانفصال عن البرجوازية والاستيلاء على السلطة. وكما هو الحال دائما، حاول الإصلاحيون تخويف الجماهير بخطر الحرب الأهلية، وهو المبرر الذي تعامل معه لينين بكل احتقار وسخرية. وفي مقاله المعنون بـ “الثورة الروسية والحرب الأهلية” قام بالرد على هذه المبررات الواحدة منها تلو الأخرى، قائلا: «إذا كان هناك من درس أكيد بشكل مطلق للثورة، درس أثبتته الحقائق تماما، فهو أنه فقط التحالف بين البلاشفة والاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، فقط النقل الفوري لكل السلطة إلى السوفييتات، ما يمكنه أن يجعل من احتمال حرب أهلية في روسيا مسألة مستحيلة، لأن البرجوازية عاجزة عن شن حرب أهلية ضد هذا التحالف، ضد سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين؛ فمثل تلك “الحرب” لن تستمر ولو لمعركة واحدة؛ لن تتمكن البرجوازية من أن تحرك، للمرة الثانية منذ تمرد كورنيلوف، ولو “كتيبة همجية”، أو حتى ذلك العدد السابق من وحدات القوزاق لمهاجمة الحكومة السوفياتية!»[54].

لقد أكد أن أي حكومة تستند على جماهير العمال والفلاحين، حكومة تضع حداً للحرب، وتمنح الأرض للفلاحين وتتصرف لصالح الشعب العامل، سيكون في إمكانها أن تقضي على مقاومة الطبقات المالكة، وأنه على هذا الأساس سيكون: «تحقيق تطور سلمي للثورة مسألة ممكنة ومرجحة إذا تم نقل كل السلطة إلى السوفييتات. يمكن لنضال الأحزاب من أجل السلطة داخل السوفييتات أن يجري بطريقة سلمية، إذا كانت السوفييتات ديمقراطية بالكامل، وتم القضاء على تلك “السرقات الصغيرة” والانتهاكات ضد المبادئ الديمقراطية، مثل إعطاء الجنود الحق في ممثل واحد لكل 500 ناخب، في حين أن العمال لديهم ممثل واحد لكل 1.000 ناخب. يجب أن تختفي مثل هذه السرقات الصغيرة في ظل جمهورية ديمقراطية.

ليس هناك ما تخشاه السوفييتات التي تكون قد قدمت كل الأرض للفلاحين دون مقابل، وأعطت السلام العادل لجميع الشعوب، عندما تواجه تحالف البريطانيين والفرنسيين والبرجوازيين الروس والكورنيلوفيين والبوشانانيين والريابوشينسكيين والميلوكوفيين والبليخانوفيين والبوتريسوفيين.

إنه لأمر حتمي طبعا أن تقاوم البرجوازية نقل الأرض إلى الفلاحين دون مقابل، وبقية الإصلاحات المماثلة في مجالات أخرى من الحياة، والسلام العادل والقطع مع الإمبريالية. لكن لكي تصل هذه المقاومة إلى مرحلة الحرب الأهلية، يجب أن تتوفر جماهير من نوع ما، قادرة على القتال ضد السوفييتات وهزيمتها. إن البرجوازية لا تمتلك هذه الجماهير، ولا يمكنها أن تحصل عليها من أي مكان».

من المثير للدهشة أنه حتى الآن، لم يتم فهم مقاربة لينين تجاه مسألة السلطة. ليس فقط أعداء البلشفية البرجوازيون هم وحدهم من يسعون بإصرار إلى أن يصوروا لينين بكونه متعصبا عنيفا، محبا لسفك الدماء والفوضى (يعتبر أورلاندو فيغز آخر مثال عن هذا التشويه المثير للاشمئزاز)، بل، ويا للعجب، هناك العديد من العصبويين الذين يتخيلون، لسبب ما، أنهم لينينيون عظماء، والذين يكررون نفس الهراء الطفولي حول حتمية العنف والحرب الأهلية، دون حتى أن يدركوا أن موقف لينين كان هو عكس ذلك تماما. لقد أوضح لينين في عشرات المقالات والخطب خلال عام 1917، أن الفكرة القائلة بأن الثورة تعني بالضرورة إراقة الدماء هي مجرد كذبة رجعية، ينشرها البرجوازيون والإصلاحيون بشكل مقصود من أجل تخويف الجماهير: «يتحدث البعض عن “أنهار الدم” خلال حرب أهلية. هذا مذكور في قرار الكاديت الكورنيلوفي المذكور أعلاه. وتتكرر هذه العبارة بألف طريقة من قبل جميع البرجوازيين والانتهازيين. لكن ومنذ تمرد كورنيلوف صار جميع العمال الواعين طبقيا يضحكون من ذلك، وسوف يستمرون في الضحك ولا يمكنهم أن يتوقفوا عن الضحك»[55].

إذا درسنا تاريخ العالم على مدار المائة عام الماضية، سنرى أنه كان في إمكان الطبقة العاملة، في مناسبات لا حصر لها وفي العديد من البلدان، أن تستولي على السلطة بطريقة سلمية، كما حدث في عام 1917، لو أن قادة النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية أرادوا ذلك. لكنهم، مثلهم مثل المناشفة والاشتراكيين الثوريين، لم تكن لديهم أي نية للاستيلاء على السلطة. لقد وجدوا ألف حجة “ذكية” لإثبات أن “الوقت لم يحن بعد”، وأن “موازين القوى غير مواتية”، وبالطبع أن هناك خطر نشوب الحرب الأهلية والعنف، وإراقة الدماء في الشوارع وما إلى ذلك. كانت تلك هي حجة الزعماء العماليين الألمان في عام 1933، عندما تفاخر هتلر بأنه وصل إلى السلطة “دون أن تنكسر ولو نافذة زجاجية”، على الرغم من أن المنظمات العمالية الألمانية كانت الأقوى في العالم. إنها دائما نفس القصة مع هؤلاء السيدات والسادة، حيث أن “تدرجهم” الإصلاحي يؤدي دائما إلى الكارثة. إذا كانت هناك إراقة دماء، فإنها تكون دائما نتيجة لسياسات التعاون الطبقي، والغباء البرلماني، والجبهات الشعبية، التي تعتبر نفسها “واقعية” و“عملية”، لكنه يتضح دائما في النهاية أنها أسوأ أنواع اليوتوبيا.

قال لينين: «إن مهمتنا تتمثل في المساعدة على بذل كل ما هو ممكن من أجل تأمين الفرصة “الأخيرة” لتحقيق تطور سلمي للثورة، والمساعدة في ذلك من خلال طرح برنامجنا وتوضيح طابعه الوطني العام وتناغمه المطلق مع مصالح ومطالب الغالبية العظمى من السكان.

بعد الاستيلاء على السلطة، ما يزال بإمكان السوفييتات في الوقت الحاضر -وربما تكون هذه هي فرصتها الأخيرة- تأمين تطور سلمي للثورة، وإجراء انتخابات سلمية للنواب من قبل الشعب، والصراع السلمي للأحزاب داخل السوفييتات، واختبار برامج مختلف الأحزاب في الممارسة العملية، والتمرير السلمي للسلطة من حزب إلى آخر»[56].

وقد لخص تروتسكي ذلك الموقف في كتابه تاريخ الثورة الروسية، بالطريقة التالية: «نقل السلطة إلى السوفييتات كان يعني، بمعناه الفوري، نقل السلطة إلى المتنازلين. كان في إمكان ذلك أن يتم بطريقة سلمية، ببساطة عن طريق إقالة الحكومة البرجوازية، التي استمرت في الوجود فقط بسبب حسن نية المتنازلين وبقايا ثقة الجماهير بهم. لقد كانت دكتاتورية العمال والجنود واقعا حقيقيا منذ 27 فبراير. لكن العمال والجنود لم يكونوا [وهذا حتمي في تلك المرحلة] على علم بهذه الحقيقة. لقد سلموا السلطة للمتنازلين الذين قاموا بدورهم بتسليمها للبرجوازية. لقد استندت مساعي البلاشفة للتطور السلمي للثورة ليس على أمل أن تقوم البرجوازية بتسليم السلطة طواعية للعمال والجنود، بل على قيام العمال والجنود بمنع المتنازلين من تسليم السلطة للبرجوازية.

كان تركيز السلطة في يد السوفييتات، في ظل نظام الديمقراطية السوفياتية، سيفتح أمام البلاشفة الفرصة ليصبحوا أغلبية داخل السوفييتات، وبالتالي تشكيل حكومة على أساس برنامجهم. ولتحقيق هذه الغاية لم تكن الانتفاضة المسلحة ضرورية. كان بالإمكان أن يتم تداول السلطة بين الأحزاب بطريقة سلمية. كل الجهود التي بذلها الحزب من أبريل إلى يوليوز كانت موجهة نحو ضمان تطور سلمي للثورة من خلال السوفييتات. إشرح بصبر، كان هذا هو مفتاح السياسة البلشفية»[57].

لكن ربما كان لينين وتروتسكي مجرد مخادعين؟ ربما طرحا فكرة الانتقال السلمي فقط من أجل كسب ثقة العمال، من خلال استغلال أوهامهم الإصلاحية السلمية؟ إن تخيل مثل هذا الشيء يعني عدم فهم أي شيء عن نهج لينين وتروتسكي، الذي كان مبنيا على أساس الصدق الثوري. شرح تروتسكي، في شهادته أمام لجنة ديوي، هذا الأمر بوضوح شديد قائلا: «أعتقد أن السياسة الماركسية، والثورية عموما، هي سياسة بسيطة للغاية: “كن صريحا! لا تكذب! قل الحقيقة!” إنها سياسة بسيطة للغاية»[58].

لم يكن لدى الحزب البلشفي برنامجان مختلفان، أحدهما للأقلية المثقفة والآخر للعمال “الجاهلين”. لقد كان لينين وتروتسكي دائما يقولان الحقيقة للطبقة العاملة، حتى عندما كانت هذه الحقيقة مريرة وغير مستساغة. وبالتالي فإنهما عندما أكدا في عام 1917، في خضم الثورة، وعندما كانت مسألة السلطة على رأس جدول الأعمال، على فكرة أن التحول السلمي ممكن (ليس “من الناحية النظرية” بل ممكن فعليابشرط أن يتخذ القادة الإصلاحيون إجراءات حاسمة، فإنهما قاما بذلك لأن تلك هي الحقيقة بالفعل. وقد كانت كذلك. فلو تصرفت القيادة السوفياتية بشكل حاسم، لكانت الثورة ستتم بطريقة سلمية، دون حرب أهلية، لأنها كانت تحظى بدعم الأغلبية الساحقة من المجتمع. ومن خلال قولهما هذه الحقيقة البسيطة للعمال والفلاحين، لم يكن لينين وتروتسكي ينشران الأكاذيب، أو يتخليان عن النظرية الماركسية للدولة، بل كانا فقط يقولان ما كان واضحا لجماهير العمال والفلاحين.

من خلال إبراز التناقض الموجود بين أقوال الزعماء الإصلاحيين وأفعالهم، أعد البلاشفة الطريق لكي يكسبوا إلى صفوفهم الأغلبية الحاسمة داخل السوفييتات، وأيضا داخل الجيش (الذي كان ممثلا بدوره في السوفييتات). كانت هذه هي الطريقة الحقيقية التي استعد بها الحزب البلشفي لانتفاضة 1917، ليس من خلال الحديث عنها، بل من خلال التغلغل فعليا داخل صفوف الجماهير ومنظماتها بواسطة تكتيكات وشعارات مرنة تتوافق حقًا مع متطلبات الوضع ومتصلة مع وعي الجماهير، وليس من خلال أفكار مجردة محنطة تم تعلمها عن ظهر قلب من كتب الطبخ الثوري. لقد كان السبب الوحيد لعدم تحقيق ثورة سلمية على الفور في روسيا، كما أوضح لينين وتروتسكي مرارا، هو جبن وخيانة القادة الإصلاحيين داخل السوفييتات.

طالما لم يتمكن الحزب الثوري من كسب الجماهير، وإلى أن يتمكن من ذلك، سيكون من غير المجدي والمضر التأكيد على الحتمية المزعومة للعنف والحرب الأهلية. إن مثل هذا النهج، وعوض أن يعمل على “تثقيف” الكوادر أو إعدادهم للعمل الثوري الجاد (الذي في تلك المرحلة يقوم بالكامل تقريبا على العمل التحضيري الصبور لاكتساب نقاط الدعم بين صفوف العمال والشباب والحركة العمالية)، فإنه يؤدي إلى إرباك الكوادر وإحباطهم وتنفير العمال الذين نحاول كسبهم. لم يكن هذا أبدا نهج المفكرين الماركسيين العظماء في الماضي، بل كان دائما من سمات العصب اليسراوية المتطرفة الموجودة على هامش الحركة العمالية، والتي تعيش في عالم “ثوري” خيالي لا علاقة له بالعالم الحقيقي. في ذلك البيت الدافئ، بعيدا عن الواقع، يمكن لتلك المجموعات الصغيرة أن تضيع الوقت في نقاشات لا تنتهي عن “الانتفاضة” و“تحضير” أنفسهم معنويا لـ“حتمية الحرب الأهلية”، بينما لا ينتبهون نهائيا للمهمة الحقيقية المتمثلة في بناء المنظمة الثورية.

بأي طريقة يستعد التيار الماركسي بشكل ملموس لحسم السلطة؟ من خلال كسب الجماهير. كيف يمكن تحقيق هذه المهمة؟ من خلال وضع برنامج للمطالب الانتقالية التي تنطلق من الوضع الحقيقي للمجتمع والاحتياجات الموضوعية للطبقة العاملة والشباب، وتربط المطالب الفورية بالمطلب المركزي المتمثل في مصادرة ممتلكات الرأسماليين وتغيير المجتمع. إن تسعة أعشار مهمة الثورة تتمثل بالضبط في هذا، كما أوضح لينين وتروتسكي مرات عديدة. وما لم يتم فهم هذه الحقيقة سيبقى كل حديث عن الكفاح المسلح و“الاستعدادات العسكرية”، والحرب الأهلية مجرد ديماغوجية غير مسؤولة.

وكما أشرنا أعلاه، عندما كان البلاشفة أقلية صغيرة داخل السوفييتات، (التي كانت تسيطر عليها بالكامل الأحزاب الإصلاحية، أي المناشفة والاشتراكيون الثوريون، الذين كانوا يسعون من أجل التحالف مع البرجوازية) لم يلعبوا بالانتفاضة، بل شددوا على ضرورة كسب الأغلبية داخل السوفييتات، كان شعارهم: “إشرح بصبر”. تميل الجماهير إلى البحث عن ما يبدو أنه أسهل الحلول لمشاكلها وأكثرها اقتصادية. ولهذا السبب كان العمال والفلاحون الروس، آنذاك كما هو الحال الآن، يثقون بالقادة الإصلاحيين. وهي الحقيقة التي كان على البلاشفة أن يأخذوها نقطة انطلاق لهم. كان لينين يفهم بشكل عميق نفسية الجماهير. وفي 08 يوليوز، كتب: «ما تزال الجماهير تبحث عن “أسهل” مخرج، من خلال كتلة الكاديت مع كتلة الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. لكن لا يوجد أي مخرج»[59].

أيام يونيو

كان لينين قد رفع، منذ عام 1905، شعار بناء الميليشيات العمالية كمطلب رئيسي للثورة، وبالتالي فإنه لم يكن من قبيل المصادفة أن كان مطلب تسليح العمال أحد المطالب الأولى التي طرحها في برقيته التي بعثها إلى البلاشفة من سويسرا. لكن العمال الروس كانوا في الواقع قد شرعوا بالفعل بتنفيذ هذه المهمة دون انتظار أن يقولها لهم أحد.

خلال المصادمات المسلحة التي اندلعت في فبراير، قام العمال، بدءا من النشطاء، بالاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة: تم الاستيلاء على 40.000 بندقية و30.000 مسدس من المخازن، كما سلمتهم اللجنة العسكرية للحكومة المؤقتة، على مضض، 24.000 بندقية و400.000 خرطوشة ما بين بين 02 و03 مارس. وعلى هذا الأساس تم تشكيل الميليشيات العمالية، من أجل القيام أولا بدوريات في المناطق العمالية والحفاظ على النظام ومنع المذابح ونزع سلاح العناصر الإجرامية والمشاغبين. إلا أنها سرعان ما انتقلت إلى شن الهجوم ضد العناصر المعادية للثورة، بمن في ذلك مسؤولو الدولة القمعيون الممقوتون. لم تكن للميليشيات العمالية أي علاقة مع الإرهاب الفردي وحرب العصابات، بل نبعت من الحركة الجماهيرية وكانت تابعة لها، حيث كانت مرتبطة بشكل وثيق بالسوفييتات ولجان المصانع التي بدأت تظهر في كل مكان بعد ثورة فبراير. وإذا وافقنا على أن جهاز الدولة هو “هيئة لأناس مسلحين”، فإن السلطة في بتروغراد كانت في أيدي الشعب المسلح. بحلول 19 مارس، صارت هناك 85 مجموعة ميليشيا تعمل في المدينة، 20 منها تحت رقابة لجان المصانع أو الهيئات المماثلة. وكانت تضم حوالي 10.000 أو12.000 عضو مقابل 8.000 عضو في الميليشيات النظامية. وعن ذلك قال الشعبوي أ. بيشيكونوف: “إن السلطة في الواقع توجد بالكامل في أيدي الحشود”.

في 28 أبريل، وبمبادرة من المنشفي ن. روستوف، تم تنظيم كونفرانس لممثلين منتخبين من 156 مؤسسة من أجل إنشاء الحرس الأحمر. نص النظام الأساسي، الذي صاغه شليابنيكوف ووافق عليه سوفييت منطقة فيبورغ، التي يسيطر عليها البلاشفة، على أن أهداف هذه القوة الجديدة هي: «الكفاح ضد المؤامرات المعادية للثورة التي تقوم بها الطبقة الحاكمة [و] الدفاع، بواسطة الأسلحة، عن كل مكتسبات الطبقة العاملة»، لكن وفي الوقت نفسه «حماية حياة وأمن وممتلكات جميع المواطنين دون تمييز بسبب الجنس أو السن أو الجنسية». كانت العضوية مفتوحة لأي رجل أو امرأة يمكنه/ها إثبات عضويته/ها في أحد الأحزاب الاشتراكية أو النقابات، وتم انتخابه/ها أو التوصية به/ها في اجتماع عام لزملائه/ها في العمل. كانت الوحدة الأساسية هي فرقة العشرة (ديسياتوك) والتي كان من المفترض أن تجتمع فيما بينها لتشكيل “سوتنيا”، أو فرقة المائة، وكانت عشر فرق من هذه الأخيرة تتجمع لتشكيل كتيبة. كانت القوة بأكملها تحت رقابة سوفييت المنطقة (الذي كان في معظمه تحت رقابة البلاشفة). كان جميع الضباط منتخبين من طرف القواعد.

وهكذا اعتبرت الميليشيات العمالية دورها في البداية دورا دفاعيا بحتا. لكن ومن خلال التجربة، أصبح دورها يتحول، بشكل غير محسوس تقريبا، من الدفاع إلى الهجوم، حتى تمكنت بحلول نوفمبر، وتحت قيادة البلاشفة، من أن تطرح مطلب الاستيلاء على السلطة على رأس جدول الأعمال. قدر أحد المحللين المعاصرين أن تلك الميليشيات ضمت في صفوفها، عشية ثورة أكتوبر، ما بين 70.000 و100.000 عضو. ومن بين هؤلاء كان هناك ما يقرب من15.000 و20.000 عضو في بتروغراد والمنطقة المحيطة بها، وما بين 10.000 و15.000 في موسكو والمنطقة الصناعية الوسطى[60].

ومع كل يوم يمر كان دور القادة الإصلاحيين للسوفييتات ينكشف أكثر فأكثر. أصدر المؤتمر الأول لسوفييتات عموم روسيا، الذي عقد في بتروغراد في الفترة من 03 يونيو إلى 24 يونيو، قرارا يتعهد فيه بتقديم الدعم الكامل للحكومة. كان البلاشفة يمثلون أقلية صغيرة في المؤتمر: 105 مندوبا، مقابل 533 مندوبا للمناشفة والاشتراكيين الثوريين. لكن المزاج في المصانع والحاميات العسكرية بالعاصمة كان يصير أكثر فأكثر راديكالية. وقد مكنت تلك الأعداد الكبيرة من المنخرطين الجدد في الحزب البلشفي من إيصال هذا الشعور إلى داخل الحزب. في أوائل يونيو، وتحت تأثير هذه الحالة المزاجية، قررت المنظمة العسكرية البلشفية تنظيم مظاهرة مسلحة في بتروغراد لتتزامن مع انعقاد المؤتمر. كان الغرض من المظاهرة هو ممارسة الضغط على المؤتمر، لكنها كانت أيضا استجابة للضغط المتزايد من قبل العمال الطليعيين في بتروغراد والذين كانوا يتوقون للاستيلاء على السلطة. لو أن البلاشفة لم يتقدموا لقيادة العمال آنذاك، لكانت كل أنواع العناصر اليسراوية المتطرفة الفوضوية قد استغلت الوضع لإثارة مواجهات مسلحة سابقة لأوانها مع نتائج كارثية.

وجه عمال بتروغراد رسالة واضحة للزعماء السوفيات: «استولوا على سلطة الدولة! اقطعوا مع البرجوازية! أنهوا الائتلاف وقوموا بالاستيلاء على السلطة بأيديكم!»، لكن قادة السوفييتات البرجوازيين الصغار لم يكونوا يريدون السلطة، كما أن حركة عمال بتروغراد أرعبتهم. كانوا مقتنعين بأن البلاشفة يستخدمون المظاهرة المسلحة وسيلة للاستيلاء على السلطة. لكن هذه الفكرة كانت بعيدة كل البعد عن تفكير لينين في تلك المرحلة. وعلى العكس من ذلك، كان البلاشفة يحاولون كبح جماح عمال بتروغراد، مدركين أن وقت المواجهة الحاسمة لم يحن بعد. صحيح أن العمال كان بإمكانهم الاستيلاء على السلطة في بتروغراد في يونيو. لكن المقاطعات لم تكن قد وصلت إلى مستوى العاصمة. كانت جماهير العمال والفلاحين ستفسر ذلك بأنه هجوم على حكومتـ“ها”، وكانت ستلتف حول قادة السوفييتات الذين ما كانوا ليترددوا في إغراق الحركة في الدماء. كانت الثورة الروسية ستنتهي بهزيمة بطولية، مثلما كان حال كومونة باريس. لكن لينين لم يكن ينوي السير في هذا الطريق.

وكرد فعل شن قادة السوفييتات المذعورون حملة وحشية ضد المظاهرة المرتقبة. وبما أن البلاشفة فهموا ما يعنيه ذلك، فقد قرروا التراجع وتم إلغاء المظاهرة. لقد كانوا ما يزالون أقلية صغيرة داخل المؤتمر، وتصرفوا على ذلك الأساس. كانت المهمة الرئيسية ما تزال هي كسب الأغلبية داخل السوفييتات من خلال العمل الصبور والدعاية والتحريض. لم يطرح الحزب نهائيا مسألة الاستيلاء على السلطة عندما كان ما يزال أقلية صغيرة. وقد تبينت صحة قرار البلاشفة بتنظيم تراجع تكتيكي من خلال الأحداث التي وقعت بعد ذلك.

للرد على إلغاء مظاهرة البلاشفة، دعا الزعماء الإصلاحيون إلى مظاهرة “رسمية” خاصة بهم، وتلقوا صدمة حياتهم. في 01 يوليوز، تدفقت الجماهير على شوارع بتروغراد استجابة لدعوة القادة السوفييت، لكنهم حملوا في أيديهم لافتات بشعارات بلشفية: فلتسقط المعاهدات السرية! فلتسقط سياسة الهجمات الإستراتيجية! من أجل سلام مشرف! فليسقط الوزراء الرأسماليون العشرة! وكل السلطة للسوفييتات!

لم تكن في المظاهرة بأكملها سوى ثلاث لافتات تعبر عن الثقة في الحكومة المؤقتة: واحدة لفوج من القوزاق، وواحدة لمجموعة بليخانوف الصغيرة، وواحدة للبوند. لقد أثبتت هذه المظاهرة ليس للقادة الإصلاحيين فحسب، بل وأيضا للبلاشفة أنفسهم، بأنهم في بتروغراد أقوى بكثير مما كانوا يتصورون.

بذل لينين وتروتسكي، عندما كانا ما يزالان أقلية، قصارى جهدهما لكبح جماح العمال والجنود من أجل تجنب مواجهة سابقة لأوانها مع الدولة. كان كل تركيزهما منصبا على التحريض والدعاية السلميين. لم يكن هذا بالأمر السهل، حيث كثيرا ما تعرضا لغضب تلك القطاعات من العمال التي تقدمت أكثر من بقية الطبقة. وقد تعرضا لتهمة الانتهازية بسبب عدم طرحهما لمسألة الانتفاضة المسلحة على رأس جدول الأعمال. كان موقفهما من مثل تلك الانتقادات هو التجاهل. لقد كانا يدركان أن المهمة الأكثر إلحاحا هي كسب أغلبية العمال والجنود الذين ما زالوا تحت تأثير المناشفة والاشتراكيين الثوريين. كان ذلك هو الهدف الحقيقي من وراء شعار “كل السلطة للسوفييتات”. وقد حافظ لينين على هذا الموقف حتى يوليوز، عندما دعا إلى التخلي عنه لصالح شعار “كل السلطة للجان المصانع”.

ألقى لينين في مؤتمر السوفييتات، خطابا يلخص كل منهجيته في مسألة كسب العمال داخل السوفييتات. لم يتضمن خطابه أي أثر للاتهامات أو الشتائم، بل تضمن نداء بنبرة صبورة إيجابية للعمال، يأخذ في الاعتبار أوهامهم في القادة الإصلاحيين، لكنه في الوقت نفسه يقول الحقيقة كما هي. لقد نبه إلى أنه لا يوجد سوى اختياران ممكنان: «إما هذا الخيار أو ذاك: إما الحكومة البرجوازية المعتادة، وفي هذه الحالة فإن الفلاحين والعمال والجنود وأعضاء السوفييتات الآخرين سيكونون عديمي الجدوى، وبالتالي إما سيتم سحقهم على يد الجنرالات، الجنرالات المعادين للثورة، الذين يسيطرون على القوات المسلحة ولا يأبهون بخطب الوزير كيرينسكي الرنانة، أو أنهم سيتعرضون لميتة مذلة. ليس لديهم خيار آخر. فلكي تستمر هذه المؤسسات في الوجود لا يمكنها لا التراجع ولا الوقوف ساكنة، ليس أمامها إلا مواصلة التقدم»[61].

ثم وجه انتباهه إلى قضية الحرب الملتهبة. كان تحليله للوضع واضحا للغاية، ورسالته مباشرة، لدرجة أنه لم يكن من الممكن ألا تجد لها صدى عند المندوبين، على الرغم من أنهم كانوا في أغلبهم، آنذاك، مؤيدين للمناشفة والاشتراكيين الثوريين. وبدون أي أثر للأساليب البلاغية أو الديماغوجية، وبقوة المنطق الحديدي، شَرَّحَ لينين بلا رحمة كل الكلام الدبلوماسي لإظهار المصالح الطبقية التي تكمن تحته، حيث قال: «يواصل الرأسماليون نهب ممتلكات الشعب. الحرب الامبريالية ما زالت مستمرة. ومع ذلك فإنهم يعدوننا بالإصلاحات، والإصلاحات، والمزيد من الإصلاحات، التي لا يمكن تحقيقها على الإطلاق في ظل الظروف الحالية، لأن الحرب تسحق وتحدد كل شيء. لماذا لا تتفقون مع أولئك الذين يقولون إن الحرب لا تشن من أجل الأرباح الرأسمالية؟ ما هو المعيار؟ المعيار هو، أولا وقبل كل شيء، مسألة من هي الطبقة الموجودة في السلطة، من هي الطبقة التي ما زالت مسيطرة، من هي الطبقة التي ما زالت تجني مئات الآلاف من الملايين من العمليات المصرفية والمالية. إنها نفس الطبقة الرأسمالية، وبالتالي فإن الحرب ما تزال حربا إمبريالية. لم تغير لا الحكومة المؤقتة الأولى، ولا الحكومة الجديدة بمشاركة الوزراء شبه الاشتراكيين، أي شيء في جوهر المسألة. المعاهدات السرية ما زالت سرية. وروسيا تقاتل من أجل المضايق وتقاتل من أجل مواصلة سياسة لياخوف في بلاد فارس، وهلم جرا.

أعلم أنكم لا تريدون ذلك، أن معظمكم لا يريدون ذلك، وأن الوزراء لا يريدون ذلك، لأنه لا يمكن لأحد أن يريد ذلك، لأنه يعني ذبح مئات الملايين من الناس. لكن خذوا الهجوم الذي يتحدث عنه كثيرا المليوكوفيون والمكلاكوفيون. إنهم يعرفون تمام المعرفة ماذا يعني ذلك. إنهم يعلمون أن ذلك مرتبط بمسألة السلطة، بمسألة الثورة. يقال لنا إنه يجب علينا التمييز بين القضايا السياسية والاستراتيجية. إنه من السخيف طرح هذه المسألة أصلا. إن الكاديت يفهمون تماما أن المسألة المطروحة للنقاش هي مسألة سياسية.

من الافتراء القول إن الكفاح الثوري من أجل السلام الذي بدأ من الأسفل قد يؤدي إلى معاهدة سلام منفصلة. إن الخطوة الأولى التي يجب أن نتخذها إذا كنا في السلطة هي إلقاء القبض على الرأسماليين الكبار وقطع كل خيوط مؤامراتهم. بدون القيام بذلك سيبقى كل الكلام عن السلام دون إلحاقات أو تعويضات كلاما بدون معنى على الإطلاق. ستكون خطوتنا الثانية هي أن نعلن لجميع الشعوب فوق رأس حكوماتهم إننا نعتبر جميع الرأسماليين لصوصا: بدءا من تيريشنكو، الذي ليس أفضل من مليوكوف، بل فقط أقل غباء منه بقليل، وكذا الرأسماليين الفرنسيين والرأسماليين البريطانيين، وكل الآخرين.

لقد تورطت جريدتكم إيزفيستيا في حالة من التشوش وتقترح الحفاظ على الوضع الراهن بدلا من السلام دون إلحاقات وتعويضات. إن فكرتنا عن السلام “بدون إلحاقات” مختلفة. حتى مؤتمر الفلاحين اقترب من الحقيقة عندما تحدث عن جمهورية “فيدرالية”، وبذلك عبر عن فكرة أن الجمهورية الروسية لا تريد قمع أي أمة، سواء بالطريقة الجديدة أو القديمة، ولا ترغب في إخضاع أي أمة، لا فنلندا ولا أوكرانيا، واللذان يتم خلق صراعات غير مقبولة وغير محتملة معهما. إننا نريد جمهورية روسيا واحدة غير مقسمة وحكومة ثابتة. لكنه لا يمكن تأمين حكومة ثابتة إلا بالاتفاق الطوعي لجميع الشعوب المعنية. إن “الديمقراطية الثورية” كلمة عظيمة، إلا أنه يتم تطبيقها على حكومة تتسبب بأخطائها في تعقيد مشكلة أوكرانيا وفنلندا، اللتان لا تريدان الانفصال. إنهما تقولان فقط: “لا تؤجلوا تطبيق المبادئ الأساسية للديمقراطية حتى الجمعية التأسيسية!”.

لا يمكن إبرام معاهدة سلام بدون إلحاقات أو تعويضات حتى تتخلوا عن الإلحاقات التي قمتم بها. إنه أمر مثير للسخرية، إنها مهزلة​​، كل عمال أوروبا يضحكون علينا، قائلين: إنكم تتحدثون ببلاغة شديدة وتدعون الشعوب إلى الإطاحة برأسمالييهم، لكنكم ترسلون رأسمالييكم إلى الوزارة. اقبضوا عليهم، افضحوا حيلهم، اكشفوا مؤامراتهم! لكنكم لا تقومون بذلك رغم امتلاككم لمنظمات قوية لا يمكن مقاومتها. لقد مررتم من تجربة 1905 و1917. وتعلمون أن الثورة لا تصنع تحت الطلب، وأن الثورات في البلدان الأخرى قد تمت بطريقة الانتفاضة الشاقة الدموية، وأنه لا توجد في روسيا أي جماعة أو طبقة، قد تقاوم سلطة السوفييتات. في روسيا، وبفضل ظروف استثنائية، يمكن لهذه الثورة أن تكون ثورة سلمية. وإذا ما قامت هذه الثورة اليوم أو غدا، باقتراح السلام على جميع الشعوب عن طريق القطع مع كل الطبقات الرأسمالية، فإن كلا من فرنسا وألمانيا، أي شعبيهما، سيقبلان فورا لأن هذين البلدين قد هلكا، ولأن موقف ألمانيا ميؤوس منه، ولأنه لا يمكنها أن تنقذ نفسها ولأن فرنسا… [رئيس الجلسة: “وقتك قد انتهى”] سأنهي في نصف دقيقة. (ضجة؛ صيحات من الجمهور تطالب بالسماح للمتحدث بمواصلة كلامه؛ احتجاجات وتصفيق.)».

من المعبر أن الأغلبية قررت منح المتحدث مزيدا من الوقت، فواصل لينين خطابه، حيث قام بفضح الطبيعة الإمبريالية للحرب، لكنه أخذ في الاعتبار النزعة “الدفاعية النزيهة” لجمهوره، فعمل على تفسير الانهزامية الثورية بلغة يمكن أن تلقى صدى لها بين العمال والجنود. قال: نحن لسنا سلميين، نحن على استعداد للقتال ضد القيصر [الألماني]، الذي هو أيضا عدونا. لكننا لا نثق بالرأسماليين. تخلصوا من الوزراء الرأسماليين العشرة! اجعلوا القادة السوفييت يستولون على السلطة، عندها سنشن حربا ثورية ضد الإمبريالية الألمانية، في الوقت الذي سنحارب من أجل مد الثورة إلى ألمانيا وجميع القوى المتحاربة الأخرى. هذه هي الطريقة الوحيدة للحصول على السلام:

«عندما سنأخذ السلطة بين أيدينا، سنقيد الرأسماليين، عندها لن تكون الحرب من نوع الحرب التي تدور الآن، لأن طبيعة الحرب تحددها الطبقة التي تخوضها، وليس ما هو مكتوب على الورق. يمكنكم أن تكتبوا على الورق أي شيء تريدونه، لكن طالما بقيت للطبقة الرأسمالية أغلبية داخل الحكومة، فإن الحرب ستبقى حربا إمبريالية بغض النظر عما تكتبونه، وبغض النظر عن بلاغتكم، وبغض النظر عن عدد الوزراء شبه الاشتراكيين الذين لديكم…

ما تزال الحرب حربا إمبريالية، ومهما كانت رغبتكم في السلام، ومهما كان صدق تعاطفكم مع الشعب العامل ورغبتكم في السلام -أنا مقتنع تماما أنها صادقة إلى حد بعيد- فإنكم بلا حول ولا قوة، لأنه لا يمكن إنهاء  الحرب إلا بالمزيد من دفع الثورة إلى الأمام. عندما بدأت الثورة في روسيا، بدأ كذلك من الأسفل صراع ثوري من أجل السلام. إذا أخذتم السلطة بين أيديكم، وإذا ما تم نقل السلطة إلى المنظمات الثورية لاستخدامها في محاربة الرأسماليين الروس، فإن الشعوب العاملة في بعض البلدان سيصدقونكم ويمكنكم اقتراح السلام. بعد ذلك سيصير سلامنا مضمونا على الأقل مع طرفين، مع البلدين اللذان ينزفان وقضيتهما ميؤوس منها: ألمانيا وفرنسا. وإذا أجبرتنا الظروف آنذاك على شن حرب ثورية -لا أحد يدري، ونحن لا نستبعد هذا الاحتمال- سوف نقول: “نحن لسنا مسالمين، نحن لا ننبذ الحرب عندما تكون الطبقة الثورية في السلطة وتكون قد قامت بالفعل بحرمان الرأسماليين من أي فرصة للتأثير على الأمور من خلال مفاقمة الخراب الاقتصادي الذي مكّنهم من جني مئات الملايين”. إن الحكومة الثورية ستشرح لكل الأمم بالتأكيد أنه يجب أن تكون كل الأمم حرة، وذلك بألا تحارب الأمة الألمانية من أجل الحفاظ على الألزاس واللورين، كما أنه يجب على الأمة الفرنسية ألا تقاتل من أجل مستعمراتها. لأنه إذا قاتلت فرنسا من أجل مستعمراتها، فإن روسيا تمتلك خيفا وبخارى، اللتان هما أيضا بمثابة مستعمرتين. عندها سيبدأ تقسيم المستعمرات. كيف سيتم تقسيمها؟ على أي أساس؟ على أساس موازين القوى. لكن موازين القوى تغيرت. إن الرأسماليين في وضع حيث مخرجهم الوحيد هو الحرب. وعندما ستستولون على السلطة الثورية، سيكون بمقدوركم ضمان السلام بطريقة ثورية، أي عن طريق توجيه نداء ثوري إلى جميع الأمم وشرح تكتيكاتكم من خلال إعطاء المثال بأنفسكم»[62].

إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هنا هو الغياب التام لصيغة لينين السابقة حول “الانهزامية الثورية”، كما أنه لا توجد أي إشارة إلى الحرب الأهلية ولا دعوة الجنود لتحويل حرابهم ضد ضباطهم، وبالتأكيد لا تلميح إلى أن هزيمة روسيا ستكون “أهون الشرين”! هذا التغيير يعكس تحولا مهما في تفكير لينين بخصوص التكتيكات منذ فبراير. إن مسألة الدفاع عن الوطن مقابل الانهزامية الثورية، التي كثيرا ما طرحها بعبارات شديدة الوضوح في الفترة السابقة، تبين أنها ليست بتلك البساطة. إن موقف لينين من الحرب لم يتغير من حيث الجوهر بالطبع. لم يكن تغيير النظام من الاستبداد القيصري إلى الجمهورية البرجوازية الديمقراطية يعني أن الحرب من جانب روسيا صارت أقل إمبريالية من ذي قبل. لكنه عندما عاد إلى روسيا وجد، كما قال، إلى جانب الحشد الاشتراكي الشوفيني المعتاد، فئة واسعة من العمال النزيهين من أنصار الدفاع عن الوطن داخل السوفييتات والذين كان عليهم أن يتعلموا عن طريق التجربة والحجة ليفهموا الطبيعة الرجعية للحرب. إن مجرد تكرار الشعارات القديمة كان سيعني فصل البلاشفة تماما عن الطبقة العاملة. كانت هناك حاجة إلى مقاربة جديدة، مما يعكس الفرق بين الكتابة والتحدث لمجموعات صغيرة من نشطاء الحزب، وبين مخاطبة الجماهير الواسعة من العمال الذين استيقظوا للتو على الحياة السياسية.

أيام يوليوز

استقبل القادة الإصلاحيون للسوفييتات تلك النداءات بآذان صماء. وكان جبن المناشفة والاشتراكيين الثوريين ورفضهم تولي السلطة، يعني أن المبادرة ستنتقل حتما إلى معسكر الردة الرجعية. النظام القيصري لم يكن قد هزم بشكل حاسم، على الرغم من التغيير الذي كان قد حدث في شهر فبراير. وخلف ستار الجبهة الشعبية الروسية (الحكومة المؤقتة)، كانت الطبقة الحاكمة تعيد تجميع صفوفها وتستعد للانتقام. وكانت النتيجة هي ردة “أيام يوليوز” الرجعية. كانت النتيجة هي هجوم فاتح  يوليوز. ففي نفس اليوم الذي تظاهر فيه العمال والجنود في شوارع بتروغراد مطالبين بالسلام ونشر المعاهدات السرية، شن كيرينسكي هجوما جديدا. نظمت مظاهرات وطنية “عفوية” في شارع نيفسكي، حيث تنافست السيدات والسادة البرجوازيين الأنيقين مع الضباط والصحفيين في الهجوم على البلاشفة. وعاد الرجعيون يزحفون مرة أخرى بعد أن استعادوا شجاعتهم بأنباء الهجوم.

في مؤتمر السوفييتات، احتجت الأقلية البلشفية بشدة على ذلك الهجوم، مشيرةً إلى أنه سيؤدي إلى تقوية العناصر الرجعية داخل القوات المسلحة، التي ستستفيد من الموقف لمحاولة إعادة فرض الانضباط واستعادة السيطرة. وأن الثورة ستقع في خطر كبير. كتب لينين قائلا: «إن الهجوم، مهما كانت نتائجه من وجهة النظر العسكرية، سيعني تقوية المعنويات الإمبريالية سياسيا، وتعزيز المشاعر الإمبريالية، وترسيخ الافتتان بالإمبريالية. وهذا يعني تقوية موقف قادة الجيش القدامى الذين لم يتغيروا (“شن الحرب كما كنا نشنها حتى الآن”)، وتعزيز الموقف الرئيسي للثورة المضادة»[63].

وقد وجدت هذه التحذيرات تأكيدا لها في شخص الجنرال كورنيلوف. لو نجح الهجوم لكان سيشجع القوى الرجعية ويدفع بفئة من البرجوازيين الصغار والفلاحين نحو معسكر البرجوازية، ويعزل البروليتاريا الثورية. أما إذا فشل، فقد يؤدي إلى الانهيار التام للجيش، مما سينتج عنه إحباط معنويات الجماهير. وقد كان هذا الاحتمال هو ما حدث فعلا.

في 02 يوليوز اندلعت أزمة وزارية حول المسألة الأوكرانية، والتي كشفت عن عجز الحكومة المؤقتة المطلق عن حل القضية الوطنية. صارت ضرورة كسر الائتلاف وطرد الوزراء البرجوازيين أكثر وضوحا. لكن كلما ازدادت الأزمة تعمقا، كلما تمسك الوزراء “الاشتراكيون” بالليبراليين البرجوازيين. كان كيرنسكي يتحرك بسرعة نحو اليمين وأصبح من المستحيل تمييزه عن وزراء حزب الكاديت. كان القادة الإصلاحيون مرعوبين من الجماهير. وقد زادتهم مظاهرة يونيو رعبا، وكلما كانوا يرون زيادة تأثير البلاشفة، وكلما كانوا يرون تزايد الخطر على موقفهم من جهة اليسار، كلما تشبثوا بحماس باليمين. بينما قام البلاشفة، من جانبهم، بتكثيف حملتهم للمطالبة بأن ينفصل المناشفة والاشتراكيون الثوريون عن الرأسماليين وأن يأخذوا السلطة بأيديهم. كان موقف البلاشفة هذا هو الطريقة الوحيدة في الواقع لكي يتمكنوا من كسب الجماهير. حتى أن لينين أخبر قادة السوفييتات بأنهم إذا استولوا على السلطة، سيضمن لهم البلاشفة أن النضال من أجل السلطة سيقتصر على النضال السلمي لكسب الأغلبية داخل السوفييتات. يشرح تروتسكي ذلك قائلا: «بعد كل تجارب التحالف، صار يبدو أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى مخرج واحد، أي القطع مع الكاديت وتشكيل حكومة سوفياتية بحتة. كان من شأن مطلب تشكيل حكومة سوفياتية في ظل موازين القوى التي كانت سائدة داخل السوفييتات آنذاك أن يعني، من وجهة النظر الحزبية، تركيز السلطة في أيدي الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. كنا ندفع بشكل مقصود من أجل تحقيق هذه النتيجة، لأن إعادة انتخاب السوفييتات بشكل متكرر وفرت الآلية اللازمة لضمان تعبير صادق بما فيه الكفاية عن مزاج التجذر المتزايد لجماهير العمال والجنود. لقد توقعنا أن انهيار الائتلاف مع البرجوازية سوف يؤدي بالضرورة إلى تمكين التيارات الراديكالية من أن تكتسب الهيمنة داخل السوفييتات. وفي مثل هذه الظروف سوف يتحول نضال البروليتاريا من أجل السلطة بشكل طبيعي إلى نضال داخل المنظمات السوفياتية، وسيستمر بطريقة سلمية».

كان الضغط من أجل القيام بتحرك حاسم يتصاعد من جانب العمال والجنود في بتروغراد. ومرة أخرى دعا البلاشفة إلى تنظيم مظاهرة مسلحة للضغط على القادة السوفياتيين. يشرح تروتسكي دوافع البلاشفة قائلا: «كان ما يزال هناك بعض الأمل في أن تؤدي مظاهرة الجماهير الثورية إلى انهيار العناد العقائدي لأنصار الائتلاف وتجبرهم على أن يدركوا أخيرا أنهم لا يستطيعون البقاء في السلطة إلا إذا قطعوا بشكل كامل مع البرجوازية. وعلى عكس كل ما قيل وكتب في الصحافة البرجوازية آنذاك، لم تكن لدى حزبنا أي نية في الاستيلاء على مقاليد السلطة عن طريق تمرد مسلح. لقد كانت مجرد مظاهرة ثورية اندلعت بشكل عفوي على الرغم من أنها استرشدت سياسيا بنا»[64].

كان الجنود هم الأكثر سخطا. استقبل فوج المدفعية الأول، الذي يتمركز في حي فيبورغ العمالي، الأخبار التي تشير إلى أنه سيتم إرسال 500 من أفراد طاقم المدفعية إلى الجبهة بغضب عارم. عندها استخلص أعضاء الفوج، الذي كان تأثير البلاشفة عليهم قويا، النتيجة بأنفسهم: لا بد من الإطاحة بالحكومة المؤقتة. تعاطف العديد من البلاشفة -وخاصة منهم أعضاء المنظمة العسكرية- مع هذا الهدف. يميل العسكريون دائما إلى الإفراط في تقدير قوة السلاح. لكن اللجنة المركزية البلشفية عارضت بشدة أي محاولة للاستيلاء على السلطة في بتروغراد في تلك المرحلة. لم تكن الأقاليم الأخرى جاهزة بعد، وبالتالي فإن الاستيلاء على العاصمة سيكون بمثابة انقلاب. قال لينين: «يمكن لخطوة واحدة خاطئة من جانبنا أن تدمر كل شيء. إذا تمكنا الآن من الاستيلاء على السلطة، فمن السذاجة الاعتقاد بأننا سنكون قادرين على الاحتفاظ بها… ما زلنا أقلية ضئيلة حتى في سوفييتات العاصمتين، ناهيك عن بقية السوفييتات الأخرى… هذه حقيقة أساسية، وتحدد سلوك حزبنا… ينبغي ألا نستبق الأحداث. إن الوقت في صالحنا»[65].

لكن البلاشفة لم يتمكنوا من منع الانفجار الذي كان على وشك الحدوث. ففي 03 يوليوز، اندفع الجنود والبحارة والعمال، الغاضبين من سعي الحكومة لإرسالهم ليكونوا لحما للمدافع في الجبهة، إلى شوارع العاصمة. كانت تلك انتفاضة عفوية شارك فيها عدد كبير من الناس دون هدف أو استراتيجية واضحة. بدا القادة الإصلاحيون في حالة ذهول عندما حاصر حشد كبير من العمال والبحارة قصر توريد حيث كانت تجتمع اللجنة التنفيذية للسوفييت. جاءت المظاهرة بمبادرة من أسفل، من عمال وجنود بتروغراد، الذين أغضبهم تردد قادة السوفييتات، والذين زاد من سخطهم إعلان الحكومة عن هجوم يوليوز. لم يسع البلاشفة آنذاك للاستيلاء على السلطة بل بذلوا قصارى جهدهم لكبح جماح الجماهير، خوفا من عزل بتروغراد عن بقية روسيا.

كتب لوناتشارسكي إلى زوجته في اليوم الموالي: «لقد تطورت الحركة بشكل عفوي. وقد بث المئات السود ومثيرو الشغب والعملاء المندسون واللاسلطويون واليائسون قدرا كبيرا من الفوضى والعبث في المظاهرة»[66]. حاول اللاسلطويون وأعضاء المئات السود دفع المتظاهرين إلى مهاجمة المبنى واعتقال قادة السوفييت، وكانت هناك محاولة فعلية لإلقاء القبض على القيادي الاشتراكي الثوري تشيرنوف. مكن هذا الحدث الصحافة الرجعية لاحقا من وصف مظاهرة يوليوز بكونها محاولة انقلاب قام بها البلاشفة ضد الثورة والأغلبية السوفياتية. لا توجد ذرة حقيقة في هذه المزاعم. حيث أن اللجنة المركزية البلشفية كانت قد اجتمعت على الساعة الرابعة بعد زوال يوم 03 يوليوز وقررت أن تفعل كل ما هو ممكن لكبح الحركة التي كانت على وشك التحول إلى انتفاضة شاملة. تم إرسال المندوبين على عجل إلى المصانع والثكنات لإقناع الجماهير بالعدول عن الخروج إلى الشوارع، لكن بعد فوات الأوان. كانت الحركة قد بدأت ولم يكن هناك شيء يمكنه أن يوقفها.

وفي وقت متأخر من ليلة ذلك اليوم، قررت اللجنة المركزية، مع لجنة بتروغراد والمنظمة العسكرية، المشاركة في المظاهرة، مراعاة للحالة المزاجية للجماهير، وذلك من أجل منحها طابعا منظما وسلميا. كان لينين آنذاك في عطلة نقاهة لاستعادة قواه بعد الارهاق الذي عاناه خلال الأشهر القليلة الماضية. لكنه بعد أن علم بالتحول المفاجئ للأحداث، سارع إلى العاصمة حيث وجد حالة من الفوضى المنذرة بالخطر. في 04 يوليوز شارك عدد كبير من الناس في المظاهرات. احتشد أكثر من نصف مليون في شوارع بتروغراد دون دعوة ولا هدف ولا قيادة. كان ذلك العدد القليل من اللاسلطويين في بتروغراد مسرورين وكان شعارهم: “الشوارع ستنظمنا!”. لكن الأمور لم تكن بهذه البساطة، كما أظهرت الأحداث اللاحقة.

بحلول 04 يوليوز، اتخذت المظاهرة طابعا ضخما ومهددا. وكان البلاشفة يبذلون كل قواهم لإبقاء الأمور تحت السيطرة. يتذكر تروتسكي ذلك قائلا: «قمنا، نحن البلاشفة، باستقبال كل مجموعة جديدة من المتظاهرين، سواء في الشارع أو في القصر، بالخطابات الثورية ندعوهم إلى الهدوء  مؤكدين لهم أنه ما دامت الجماهير في مزاجها الحالي، سيكون أنصار التسويات غير قادرين على تشكيل حكومة ائتلافية جديدة. كان بحارة كرونشتادت هم الأشد عزما، وكان من الصعب علينا أن نبقيهم داخل حدود مظاهرة عادية».

تم إرسال تروتسكي لإنقاذ القيادي الاشتراكي الثوري تشيرنوف الذي “اعتقل” من قبل بحارة كرونشتادت. خلال “اعتقاله”، هز أحد العمال الغاضبين قبضته في وجه تشيرنوف وصاح فيه: “عليك أن تستولي على السلطة، يا ابن العاهرة، عندما تسلم إليك!”. ويتذكر تروتسكي مشاعر الشك والتجهم التي حاصرته من جميع الجوانب وهو يشق طريقه عبر صفوف البحارة المتمردين. كانوا ينتظرون من تروتسكي أن يعطيهم الأمر بالاستيلاء على السلطة، لكنه بدلا من ذلك طلب منهم إطلاق سراح سجينهم. صرخ البحارة بغضب في وجه تروتسكي، الذي شعر أنه كان من شأن أدنى كلمة خاطئة أو عمل خاطئ أن يعرضه للاعتداء أو حتى القتل. في الساعة السابعة مساء، اقتحم حشد من عمال مصنع بوتيلوف، المسلحين والغاضبين، اجتماعا للقادة السوفيات المرعوبين. صعد عامل يرتدي زيا أزرق اللون المنصة، ولوح بندقيته في الهواء، وصاح في النواب: «أيها الرفاق! كم من الوقت يجب أن نتحمل نحن العمال الخيانة؟ أنتم هنا جميعا تناقشون وتجرون الصفقات مع البرجوازية والملاكين العقاريين… أنتم منشغلون بخيانة الطبقة العاملة. حسنا عليكم فقط أن تفهموا أن الطبقة العاملة لن تتحمل ذلك! نحن هنا نمثل 30.000 عامل من مصنع بوتيلوف. وسنواصل طريقنا. كل السلطة للسوفييتات! إننا نتمسك بقوة ببنادقنا! أيها الكيرينسكيون والتسيريتيليون لن تخدعونا!»[67].

اضطر قادة السوفييت للتفاوض من أجل كسب الوقت، بينما كان كيرنسكي يعمل على جلب قوات “موالية” من الجبهة. لكن وصول القوات من الجبهة كان إشارة إلى انطلاق الردة الرجعية. لقد سعى البرجوازيون للانتقام من الخوف الذي عانوا منه. كان الهجوم المضاد من تنظيم قادة السوفييت، الذين استعادوا رباطة جأشهم لحظة وصول فيلق فولهنيان، وأحسوا أنه لم يعد لديهم أي سبب للتفاوض مع المتورطين المزعومين في “التمرد المسلح”. تم إعلان البلاشفة “حزبا معاديا للثورة”. وقامت قوات القوزاق والشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين من أسطح المنازل، مما تسبب في حالة من الذعر. وفي وقت لاحق، عندما وصلت القوات الموالية للحكومة ونزعت سلاح المتمردين، نفثت الطبقة الوسطى سموم غضبها. تعرض العمال للضرب على يد السيدات والسادة المحترمين في شارع نيفسكي. كانت هناك حملة من الغارات والاعتقالات والضرب وحتى القتل. في ليلة 04- 05 يوليوز، أعطى وزير العدل، ب. ن. بيريفيرجيف، للصحف وثائق تصور لينين كعميل ألماني. وفي ليلة 05 يوليوز، تعرض مقر برافدا للتحطيم من قبل القوات الحكومية، ومنعت الصحف البلشفية، وتم إرسال الفيالق المتمردة إلى الجبهة لكي تتعرض للذبح. وفجأة تأرجح البندول بعنف في اتجاه اليمين.

بعد أحداث يوليوز

كشفت مظاهرة يومي 02 و03 يوليوز أشياء كثيرة. لقد كشفت أن القادة الإصلاحيين فقدوا بشكل حاسم قاعدتهم في بتروغراد، لكنها كشفت أيضا أن بتروغراد، وكما سبق للبلاشفة أن أكدوا، ليست روسيا، وأن المناشفة والاشتراكيين الثوريين ما زالوا يمتلكون احتياطيات ضخمة من الدعم بين العمال والفلاحين في الأقاليم. بل وحتى في بتروغراد لم يكن الجنود على مزاج واحد. فعلى الرغم من أن غالبية الجنود، وخاصة البحارة، كانوا إلى جانب البلاشفة في ذلك الوقت، فإن بعض الوحدات بقيت سلبية أو أنها لم تحدد موقفها. ومع ذلك فإنه لم تكن في بتروغراد أي حامية عسكرية على استعداد للقتال دفاعا عن الحكومة المؤقتة أو حتى القادة السوفيات.

لكن العمال والجنود لم يخرجوا سالمين بشكل كامل. إذ لا بد دائما من أداء ثمن الأخطاء. سقط مئات القتلى، لكن لو أن البلاشفة لم يضعوا أنفسهم في قيادة المظاهرة من أجل إعطاءها طابعا منظما وسلميا، لسالت وديان من الدماء، وعلاوة على ذلك كان تأثير الحزب على العمال الأكثر تقدما سيتحطم كليا. في بعض الأحيان يكون من الضروري الذهاب مع العمال حتى عندما يكونون مخطئين، لكي يتعلموا بتجربتهم الخاصة ويستخلصوا النتائج الضرورية. كانت تجربة أيام يوليوز مؤلمة، لكن العمال تعلموا أن يثقوا في تقديرات البلاشفة الذين حذروهم مسبقا مما سوف يحدث، ثم لم يتخلوا عنهم بل وقفوا إلى جانبهم.

في 02 يوليوز، ونتيجة للانقسام الذي حدث داخل الحكومة حول المسألة الأوكرانية، استقال ثلاثة وزراء من الكاديت، تلاهم في وقت لاحق بيريفيرزيف، وفي 07 يوليوز استقال رئيس الوزراء الأمير لفوف. اتفق الوزراء المتبقون في الحكومة على تعيين كيرينسكي وعهدوا إليه بتشكيل حكومة جديدة – الائتلاف الثاني. لقد أدى الهجوم على اليسار إلى تقوية المعسكر المعادي للثورة الذي بدأ يشعر بأنه يمتلك المبادرة. وبعد قمع الحركة في بتروغراد، شعر البرجوازيون أن الوقت قد حان لـ“استعادة النظام”. طالب حزب الكاديت الوزراءَ الاشتراكيين بقطع علاقاتهم مع السوفييتات، وضرورة سحق الجناح اليساري، في شخص البلاشفة. يقدم أورلاندو فيغز صورة عن مزاج الهستيريا المعادية للبلاشفة الذي كان موجودا في ذلك الوقت، حيث يقول: «بحلول صباح يوم 05 يوليوز، استولت على العاصمة هستيريا مناهضة للبلاشفة. شرعت الصحف اليمينية الصفراء بالنباح طلبا للدم البلشفي، وصارت تُحَمِّل “العملاء الألمان” المسؤولية في الهزائم التي كانت تحدث في الجبهة. كما اتهمت البلاشفة بأنهم خططوا للانتفاضة لكي تتزامن مع التقدم الألماني. وقد أقر الجنرال بولوفتسوف، الذي كان مسؤولا عن عمليات القمع لأنه كان رئيس الدائرة العسكرية ببتروغراد، بأن الهجوم على البلاشفة تضمن “نزعة قوية من معاداة السامية”؛ لكن وبالطريقة المعتادة التي يبرر بها أمثاله من الروس المذابح ضد اليهود قال إن: “اليهود يتحملون المسؤولية، لأن النسبة المائوية لليهود بين القادة البلاشفة كانت أقرب من مائة في المائة. وقد كان الجنود منزعجين من رؤية اليهود يتحكمون في كل شيء، والملاحظات التي سمعتها في الثكنات أظهرت بوضوح ما كان الجنود يفكرون فيه”»[68].

وفي اليوم الذي تلا المظاهرات شنت الصحافة حملة هستيرية على لينين و“العملاء الألمان”، في حين أن الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، الذين كانوا يعرفون أن تلك مجرد أكاذيب، التزموا الصمت بجبن. لكن تواطؤهم مع الثورة المضادة لم ينته عند ذلك الحد، فقد دعا المناشفة والاشتراكيون الثوريون لينين والقادة البلاشفة الآخرين إلى “تسليم أنفسهم إلى العدالة”. كانت تلك بمثابة دعوة مفتوحة لهم لكي يضعوا رقابهم تحت مقصلة الجلاد. كان الرجعيون آنذاك يطالبون بالدم.

في 06 يوليوز، أصدرت الحكومة أمرا بالقبض على لينين وكامينيف وزينوفييف. بعض الكتاب (ومن بين أحدثهم نجد أورلاندو فيغز) يحاولون اتهام لينين بالجبن. هذا هراء. تظهر التقارير أن لينين كان قد قرر تسليم نفسه، لكنه تراجع عن ذلك بعد النقاش مع بقية قادة الحزب الآخرين. في اليوم التالي لإصدار أمر الاعتقال، وعلى إثر مداهمة الشرطة لبيت شقيقته، كتب لينين مذكرة موجهة إلى اللجنة التنفيذية المركزية للسوفييت، يطلب منها فتح تحقيق وعرض عليها تقديم نفسه للسلطات، شريطة أن تقر السلطة التنفيذية للسوفييت اعتقاله، إذ قال: «الآن فقط، في الساعة 15:15، من يوم 07 يوليوز، علمت أنه قد جرت عملية تفتيش في شقتي الليلة الماضية، على الرغم من احتجاجات زوجتي، وذلك على أيدي رجال مسلحين ودون أن يقدموا أي أمر بالتفتيش. إني أسجل احتجاجي على هذا وأطلب من مكتب السوفييت ومن لجنته التنفيذية التحقيق في هذا الانتهاك الصارخ للقانون.

وفي الوقت نفسه أعتقد أنه من واجبي أن أؤكد رسميا وخطيا ما لا يمكن لأي عضو من أعضاء اللجنة التنفيذية المركزية أن يشك فيه، وذلك أنه في حالة إصدار الحكومة أمرا بالقبض علي، وكان ذلك القرار مدعوما من طرف اللجنة التنفيذية للسوفييت، فإني سأقدم نفسي لاعتقالي في المكان الذي تحدده لي اللجنة التنفيذية المركزية.

فلاديمير إيليتش أوليانوف (ن. لينين)، عضو اللجنة التنفيذية المركزية للسوفييت»[69].

وفي مذكراتها عن لينين تشير كروبسكايا إلى أنه: «جادل بضرورة المثول أمام المحكمة. احتجت ماريا إليشنا [أخت لينين] بحرارة ضد ذلك. قال لي إيليتش: “لقد قررنا غريغوري [زينوفييف] وأنا الظهور، اذهبي وأخبري كامينيف”. كان كامينيف يقيم في شقة أخرى ليست بعيدة. نهضتُ على عجل. فضمني إيليتش وقال لي: “فلنقل وداعا، إذ قد لا نرى بعضنا مرة أخرى”»[70].

حاول أعضاء اللجنة المركزية إقناع لينين بأن ذلك غير وارد. وما جعل لينين يغير رأيه أخيرا هو قرار اللجنة التنفيذية السوفياتية إلغاء تحقيقها في أحداث يوليوز. عندما ذهب أوردجونيكيدزه ونوغين إلى قصر تورايد يحملان رسالة لينين وللتفاوض بشأن شروط اعتقاله، رفض ممثل السوفييت تقديم أي تأكيدات لهما، واكتفى بوعدهما بأنه “سيعمل ما في وسعه”. ووفقا لأوردجونيكيدزه، فحتى المعتدل نوغين “كان غير مرتاح لمصير لينين لو أنه سلم نفسه”. كان قد أصبح من الواضح آنذاك أن السوفييت لم يعد له أي نفوذ على الحكومة وأن القضاء، الذي كان ما زال تحت سيطرة العناصر القيصرية، سيكون بمثابة خادم مطيع للثورة المضادة. وقد أوضح لينين ذلك في خطاب كتبه للنشر، حيث قال: «لقد غيرنا رأينا بشأن تسليم أنفسنا للحكومة لأنه… من الواضح أن تهمة التجسس ضد لينين وغيره قد تم اختلاقها من طرف قوى الثورة المضادة بشكل متعمد… في هذا الوقت لا يمكن أن تكون هناك أي ضمانة بمحاكمة عادلة. شكلت اللجنة التنفيذية المركزية… لجنة للتحقيق في تهم التجسس لكن هذه اللجنة تم حلها تحت ضغط قوى الثورة المضادة… إن تسليم أنفسنا إلى السلطات الآن سيكون بمثابة وضع أنفسنا في أيدي الميلوكوفيين والأليكسينسكيين والبيريفيرزيفيين، أي في أيدي أشرس أعداء الثورة والذين ليست الاتهامات الموجهة ضدنا بالنسبة لهم سوى حلقة في الحرب الأهلية»[71].

في النهاية تمكن قادة الحزب من إقناع لينين بالاختباء. كان ذلك هو الموقف الصحيح بلا شك. كان لينين أكثر فائدة للثورة وهو على قيد الحياة مما لو قتل أو اعتقل. صحيح أن قسما من الحزب كان يؤيد ذهاب لينين إلى المحاكمة، حيث يقوم بالدفاع عن نفسه ضد التهم التي لفقت له، كما كان تروتسكي قد فعل في عام 1906. لكن تلك الفكرة كانت جنونية. وفي وقت لاحق، خلصت أغلبية مؤتمر الحزب السادس، الذي اجتمع في بتروغراد في نهاية يوليوز، إلى القرار الصحيح وقررت أن لينين لن يصل أبدا إلى قاعة المحكمة، إذ كانت قوات الثورة المضادة ستغتاله برصاصة قاتلة، “أثناء محاولة فرار”. وحتى لو كان ذلك مجرد احتمال، فإنه لم يكن للحزب أن يخاطر بحياة لينين بتلك الطريقة.

لا شك في أن حياة لينين كانت في خطر في تلك اللحظة. كانت الثورة المضادة قد انتقلت إلى الهجوم. في سوفييت بتروغراد قال أحد النواب المناشفة: «إن المواطنين الذين يبدو عليهم أنهم عمال أو يشتبه في كونهم من البلاشفة هم معرضون بشكل دائم لخطر الضرب». وأضاف آخر إن: «أشخاصا أذكياء للغاية يقومون بالتحريض على أفعال معادية للسامية»[72]. تعرضت العديد من مقرات الحزب البلشفي للمداهمة والتحطيم. حدث ذلك لمطبعة ترود، التي كانت تطبع الكثير من الأدبيات لصالح النقابات والبلاشفة. وتعرض إيفان فوينوف، البلشفي البالغ من العمر 23 عاما، للاعتقال أثناء توزيعه لجريدة ليستوك برافدي (المنشور البرافدي، الذي هو أحد الأسماء العديدة التي اضطرت جريدة الحزب لاستعمالها من أجل مراوغة الحظر). وأثناء “استجوابه”، تعرض السجين للضرب على رأسه بعنف، مما أدى إلى مقتله على الفور. وبالنظر إلى ذلك الجو المسموم بالهستيريا والاتهامات الموجهة ضد لينين شخصيا بأنه “عميل ألماني”، فقد كان من الجريمة تقديمه لعناية “القانون” الحنونة بينما الثورة المضادة في أوجها.

بعد ذلك بعامين، وأثناء انتفاضة سبارتاكوس في برلين -وهي حركة تشبه بشكل لافت للنظر أيام يوليوز- فشلت روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت في اتخاذ الاحتياطات اللازمة فتم اعتقالهما من قبل ضباط معادين للثورة. لم يتصورا أنهما سيقتلان بدم بارد، لكن هذا بالضبط ما حدث لهما. لقد كان لمقتل اثنين من أبرز قادة الطبقة العاملة الألمانية تأثير كارثي على كل الثورة الألمانية وتاريخ العالم. نعم لقد أظهرا شجاعة شخصية، لكن يا له من ثمن فظيع ذلك الذي تم تقديمه مقابل هذا العمل الخاطئ! لو أنهما كانا قد تحولا إلى السرية، كما فعل لينين، لكان مستقبل الثورة الألمانية سيكون في أيد أمينة، لكنها بدلا من ذلك تعرضت للإجهاض. لم تكن الطبقة العاملة الألمانية وحدها هي من دفعت ثمن تلك الكارثة، بل العالم بأسره دفع الثمن مع صعود هتلر وكل أهوال الفاشية والحرب التي تلت ذلك. يجب أن يتم اتخاذ كل هذه الاعتبارات بالحسبان قبل التفكير في الكلام التافه عن “الشجاعة الشخصية” وما إلى ذلك.

قادة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، الذين طالبهم لينين بضمانات بشأن اعتقاله، لعبوا دورا مثيرا للاشمئزاز. حيث اقترح دان إصدار قرار، أيدته غالبية الأحزاب الإصلاحية في السوفييتات، يتهم البلاشفة بارتكاب جرائم ضد الشعب والثورة، ووصف تهرب لينين من الاعتقال بأنه “غير مقبول”. وهو نفس الدور الذي لعبه الزعيمان الاشتراكيان الديموقراطيان الألمانيان نوسك وشيدمان، عام 1919، كشريكين لهيئة الأركان العامة والقوات شبه العسكرية في مقتل ليبكنخت ولوكسمبورغ. كما طالبوا البلاشفة بإدانة سلوك لينين، وقرروا تعليق عضوية اللجنة التنفيذية للسوفييت لجميع الأشخاص الخاضعين للتحقيق. وقد احتج نوغين قائلا: «يُطـْـلب منكم تبني قرار بشأن البلاشفة قبل محاكمتهم. يطلب منكم أن تضعوا خارج القانون قادة الفصيل الذي شارك في الثورة معكم»[73]. لكن الجناح اليميني داخل السوفييت لم يكن مهتما باحتجاجات نوغين، فتمت المصادقة على قرار دان بأغلبية ساحقة. وفي القاعة كانت الهجمات على البلاشفة أكثر حقدا.

الآن وبعد أن ازدادت شهية أعداء الثورة، بدأوا ينفثون غضبهم ضد الحركة العمالية بشكل عام، ولم يعودوا يهتمون بالتمييز بين يسارها ويمينها. خلال اجتماع للّجنة المؤقتة لمجلس الدوما، يوم 05 يوليوز، قام نواب مجلس الدوما اليمينيين من أمثال أ. م. ماسلينيكوف وفلاديمير بوريشكيفيتش (المعروف بدوره في اغتيال راسبوتين) بشن حملة ضد قادة السوفييتات المعتدلين، الذين وصفوهم بأنهم “حالمون”، و“مجانين يصورون أنفسهم على أنهم دعاة سلام”، و“الوصوليين الصغار”، و“مجموعة من المتعصبين، الغرباء [أي اليهود]، والخونة”. كما طالب ماسلينيكوف بإعادة السلطة لمجلس الدوما وبأن تكون الحكومة مسؤولة أمامه وحده. كان ذلك طلبا بتصفية ازدواجية السلطة، وبأن تتوقف السوفييتات عن لعب أي دور. بل ذهب بوريشكيفيتش أبعد من ذلك، حيث عبر صراحة عن النوايا الحقيقية للثورة المضادة قائلا: «لو أنه تمت تصفية ألف أو ألفين أو خمسة آلاف من الأوغاد في الجبهة، وبضعة عشرات من الأوغاد في الداخل، لما كنا لنعاني من هذا الخزي غير المسبوق»[74].

كما طالب بإعادة تطبيق عقوبة الإعدام، ليس في الجبهة فقط، بل وفي الداخل أيضا. وقد تصاعدت الأصوات المطالبة بهذا الإجراء بشكل سريع خلال الأسابيع التي تلت هزيمة يوليوز. كان معنى ذلك واضحا، حيث كانت البرجوازية تسعى جاهدة لإعادة “النظام” -أي استعادة سيطرتها على المجتمع والدولة التي هي، في أخر المطاف، كما أوضح لينين، هيئة من الأشخاص المسلحين-. كانت إعادة فرض الانضباط داخل صفوف الجيش باستعمال أكثر الوسائل وحشية، بما في ذلك عقوبة الإعدام، هي الشرط المسبق لتصفية ازدواجية السلطة وإعادة بناء الدولة القديمة. وكان ذلك يعني بناء نظام ديكتاتوري، كما أثبتت الأحداث اللاحقة.

غيرت هزيمة يوليوز موازين القوى الطبقية. ومع كل خطوة كانت تخطوها الثورة إلى الوراء، كانت الثورة المضادة تصير أكثر فأكثر جرأة. كما أن مزاج العمال والجنود في العاصمة كان يصير أكثر فأكثر تشاؤما. كانوا قد تعلموا درسا قاسيا. كانت الأقاليم الأخرى تقف ضدهم. وكان الشعور بالعزلة والعجز يسيطر على العاصمة. اضطر العمال إلى طأطأة رؤوسهم وانتظار الفرصة التالية. وفي خضم كرنفال الردة الرجعية هذا، وعندما كان البلاشفة يتعرضون للمطاردة والاضطهاد من جميع الجهات، ارتفع صوت واحد جريء وواضح: صوت ليون تروتسكي، الذي أصدر رسالة مفتوحة إلى الحكومة المؤقتة، بتاريخ 10 (23) يوليوز 1917، كتب فيها:

«الوزراء المواطنون:

لقد علمت أنه في علاقة مع أحداث 16-17 يوليوز، صدر أمر قضائي بالقبض على لينين وزينوفييف وكامينيف، لكن ليس علي. وأود، بالتالي، أن ألفت انتباهكم إلى ما يلي:

أنا أتفق مع الأطروحات الرئيسية للينين وزينوفييف وكامينيف، ودعوت لها في جريدة “فبريود” وفي خطاباتي العامة.

كان موقفي تجاه أحداث 16-17 يوليوز نفس موقفهم.

لم نعلم، كامينيف وزينوفييف وأنا، بالخطط المقترحة لفرقة سلاح المدفعية وغيرها من الفرق إلا خلال الاجتماع المشترك للمكاتب [اللجان التنفيذية] في 16 يوليوز. وقد اتخذنا خطوات فورية لمنع الجنود من الخروج. أبلغ زينوفييف وكامينيف البلاشفة، وأبلغت أنا تنظيم ما بين الجهات [أي مجموعة ميزرايونتسي] الذي أنتمي إليه.

لكن عندما خرجت المظاهرات، على الرغم من الجهود التي بذلناها، ألقينا، رفاقي البلاشفة وأنا، العديد من الخطب أمام قصر تورايد، والتي دافعنا خلالها عن الشعار الرئيسي للجماهير: “كل السلطة للسوفييتات”، لكننا، في الوقت نفسه، دعونا هؤلاء المتظاهرين، سواء منهم الجنود أو المدنيين، إلى العودة إلى ديارهم وثكناتهم بطريقة سلمية ومنظمة.

وخلال كونفرانس انعقد في قصر تورايد، في وقت متأخر من ليلة 16-17 يوليوز، بين بعض البلاشفة ومنظمات الأحياء، دعمت فكرة كامينيف بأنه ينبغي القيام بكل شيء لمنع تكرار التظاهر يوم 17 يوليوز. لكن عندما علمنا من المحرضين، الذين وصلوا من مختلف الأحياء، أن الفيالق وعمال المصانع قد قرروا بالفعل أن يخرجوا، وأنه كان من المستحيل منع الحشود من الخروج حتى انتهاء الأزمة الحكومية، اتفق جميع الحاضرين على أن أفضل شيء يفعلونه هو توجيه المظاهرة في مسارات سلمية، وأن يطلبوا من الجماهير ترك أسلحتهم في المنزل.

خلال يوم 17 يوليوز، والذي قضيته في قصر تورايد، قمنا، أنا والرفاق البلاشفة، أكثر من مرة بحث الجماهير في هذا الاتجاه.

واقع أنني لست مرتبطا بـ “برافدا” ولست عضوا في الحزب البلشفي لا يعود إلى وجود خلافات سياسية بيننا، بل لظروف معينة في تاريخ حزبنا فقدت الآن كل معنى.

محاولة الصحف خلق الانطباع بأنني “لا علاقة لي” بالبلاشفة لا تملك من الحقيقة إلا ما يملكه ذلك التقرير الذي يزعم أنني طلبت من السلطات حمايتي من “عنف الغوغاء”، ومئات الشائعات الكاذبة الأخرى التي تنشرها تلك الصحافة نفسها.

بناء على كل ما قلته، من الواضح أنه لا يمكنكم منطقيا استبعادي من أمر القبض الذي أصدرتموه على لينين وكامينيف وزينوفييف. ولا يمكن أيضا أن يخامر أذهانكم أي شك في أني معارض سياسي عنيد مثل هؤلاء الرفاق المذكورين أعلاه. إن تركي في الخارج يؤكد فقط على الطغيان المعادي للثورة الذي يكمن وراء الهجوم على لينين وزينوفييف وكامينيف»[75].

وبالتالي وجدت السلطات نفسها ملزمة باعتقاله، فاعتقلته وسجنته في قلعة كريستي.

لينين يغير رأيه

كان لينين وهو في مكان اختباءه في قرية رازيليف الصغيرة على خليج فنلندا، على بعد حوالي 30 كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة، يتتبع الأحداث بمزاج كئيب. لقد تركت أحداث يوليوز وما أعقبها انطباعا قويا عليه. وسيكون من المفيد لأولئك الذين يتخيلون أن الثورة الروسية، عام 1917، قد اتبعت مسارا تصاعديا نحو النصر تحت القيادة المطلقة لرجل لم يكن يخامره أي شك في نجاحه، أن يدرسوا تطور فكره في ذلك الوقت. لم يكن ذلك معروفا بشكل عام، لكن لينين في البداية كان يميل إلى المبالغة في تقدير قوة الثورة المضادة واستخلص استنتاجات متشائمة.

أشار ألكسندر رابينوفيتش في كتابه المهم عن الثورة البلشفية، الذي كتبه بالاعتماد على مذكرات كل من شوتمان وزينوفييف، إلى ما يلي: «يتذكر شوتمان أن لينين قد بالغ لفترة من الزمن في تقدير مدى قوة وتأثير الردة الرجعية وكان متشائما بشأن الآفاق المباشرة للثورة في روسيا. لقد اعتبر أنه لم تعد هناك فائدة من الحديث عن الجمعية التأسيسية لأن “المنتصرين” لن يعقدوها؛ وبالتالي يجب على الحزب أن ينظم القوى التي ما زال يمتلكها ويستعد للعمل السري “على محمل الجد ولفترة طويلة”. وقد عززت التقارير الكئيبة التي نقلها شوتمان في البداية إلى لينين في رازليف من هذه القناعات. مرت عدة أسابيع قبل أن تبدأ الأخبار في التحسن. وقد أكد زينوفييف تشاؤم لينين في أعقاب أيام يوليوز، حيث كتب في أواخر العشرينات أن لينين في ذلك الوقت افترض بداية فترة ردة رجعية أطول وأعمق مما حدث بالفعل»[76].

وقالت ماريا سوليموفا، وهي عاملة بلشفية استقر عندها لينين يوم 06 يوليوز، إنها عندما أبلغته آخر الأخبار، رد قائلا: «أنت، أيتها الرفيقة سوليموفا، قد يعتقلونك، أما أنا فسيشنقونني». والدليل على أن تلك الفكرة كانت تخامره هو الرسالة التي بعثها لكامينيف حيث كتب: «Entre nous [بينك وبينك]: إذا اعتقلوني، أطلب منك أن تنشر دفتر ملاحظاتي “الماركسية والدولة”»[77].

دفتر الملاحظات المشار إليه هنا هو كتابه الشهير “الدولة والثورة”، الذي هو أحد أهم الأعمال النظرية الماركسية وأكثرها تأثيرا، والذي كتبه في ذلك الوقت. ظل لينين على اتصال وثيق بالعاصمة من خلال الرسائل، وكتب العديد من المقالات والبيانات، ونقّب في الصحف بحثا عن الأخبار. لكن ذلك لم يكن كافيا لإبقائه على اتصال بنبض الحركة في ذلك الموقف الذي كان يتغير بسرعة كل يوم، وأحيانا كل ساعة. وقد دفعه الانطباع العميق الذي تركته أحداث يوليوز عليه إلى الدعوة إلى تغيير التكتيكات، مما أدى إلى اندلاع جدال حاد آخر داخل الحزب.

توصل لينين، على أساس أيام يوليوز، إلى استنتاج مفاده أن المسار السلمي للثورة صار مستحيلا الآن، وأن الحرب الأهلية أصبحت حتمية، وأنه كان من الضروري على الحزب أن يضع الانتفاضة على رأس جدول الأعمال على الفور. كتب يقول: «كل الآمال في التطور السلمي للثورة الروسية قد اختفت إلى الأبد». وخلص إلى أن هزيمة يوليوز قد أدت إلى تصفية نظام ازدواجية السلطة. كانت السوفييتات، تحت قيادة الجناح اليميني، قد انتقلت في الواقع إلى جانب الثورة المضادة. ولذلك صار من المستبعد تحويلها واستخدامها لحسم السلطة. وهو ما يعني أن المنظور السابق للتحول السلمي لم يعد ممكنا. لذلك دعا إلى التخلي عن شعار: “كل السلطة للسوفييتات”، وقال إنه على الحزب بدلا من ذلك أن يركز كل جهوده على الإعداد للانتفاضة، بالاستناد إلى لجان المصانع، كتب قائلا: «لقد كان شعار “كل السلطة للسوفييتات!” شعارا من أجل التطور السلمي للثورة، وكان ذلك ممكنا في أبريل وماي ويونيو وحتى 05 – 09 يوليوز، أي حتى ذلك الوقت الذي انتقلت فيه السلطة الفعلية إلى أيدي الديكتاتورية العسكرية. لم يعد هذا الشعار صحيحا، لأنه لا يأخذ في الاعتبار أن السلطة قد انتقلت من يد إلى يد أخرى وأن الثورة قد تعرضت في الواقع للخيانة التامة من طرف الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. ولن تساعد الإجراءات المغامراتية ولا التمردات ولا المقاومة الجزئية ولا المحاولات اليائسة لمواجهة الردة الرجعية»[78].

اتضح لاحقا أن هذا التقييم كان سابقا لأوانه، وقد قام لينين بتصحيحه بعد ذلك. لكن من الممكن تفهمه في ظل الظروف التي كانت سائدة في ذلك الوقت. إن ما كان يميز لينين هو التفكير في المرحلة التالية، والتنبؤ بحتمية الانتفاضة في ذلك الوقت بالضبط الذي بدا فيه كما لو أن الثورة المضادة قد انتصرت بشكل كامل. لقد رأى أن موجة الثورة المضادة سوف تنحسر في النهاية، وأنه على البلاشفة أن يضعوا على كاهلهم مهمة الاستيلاء على السلطة. وقد تبين أن هذا صحيح، لكن بمعنى آخر، إذ كان لينين متشائما للغاية. لم يكن انتصار الجناح اليميني داخل السوفييتات حاسما كما كان لينين يعتقد، بل وعلى العكس من ذلك كان من شأن الاستقطاب والتجذر المتناميين داخل المجتمع أن يعبرا عن نفسيهما حتما داخل السوفييتات باعتبارها المنظمات الجماهيرية الرئيسية للطبقة العاملة.

بالطبع ليست السوفييتات حلا سحريا في حد ذاتها. صحيح أنها مناسبة جدا للتعبير عن تطلعات ومزاج الجماهير بسبب شكلها الديمقراطي والمرن للغاية. لكن في خضم الثورة، حين تتغير أمزجة الجماهير بسرعة البرق، تتخلف حتى تلك المنظمات عن الركب، وتصير انعكاسا للوضع الذي كان بالأمس، وليس اليوم. كان لينين قد حذر منذ بداية أبريل من خطأ النظرة الصنمية للسوفييتات. ففي كونفرانس أبريل قال: «إن السوفييتات مهمة لنا ليس كهيكل؛ المهم بالنسبة لنا هو ما هي الطبقات التي تمثلها». لم تكن المسألة متعلقة بالمشاركة في “برلمانية سوفياتية”، والمناورة مع القادة في القمة، بل إيجاد طريق نحو العمال الذين كانوا يتطلعون إلى السوفييتات.

بعد يوليوز تغير ميزان القوى الطبقي بشكل كبير. القادة الإصلاحيون لم يفهموا شيئا. كانوا يشبهون شخصا يقطع الغصن الذي يجلس عليه. ومع كل ضربة كانت توجه ضد البلاشفة، كانت ثقة اليمين تزداد وعدوانيته تشتد. لم يكن ذلك موجها ضد البلاشفة فقط بل ضد السوفييتات نفسها. لم يقتصر المناشفة والاشتراكيون الثوريون على رفض تولي السلطة، بل إنهم من خلال تصرفاتهم، كانوا يشجعون الثورة المضادة، وكانوا، كما قال لينين، يجعلون من اندلاع العنف والحرب الأهلية مستقبلا حتميا. وبهذا المعنى فقد كانت تلك سوفييتات معادية للثورة، حيث كانت القيادة الإصلاحية اليمينية، التي تستند إلى السوفييتات، تساعد بنشاط البرجوازية على استعادة سيطرتها على الدولة.

وفي وقت لاحق كتب لينين قائلا: «كل تجربة الثورتين، تجربة عام 1905 وعام 1917، وجميع قرارات الحزب البلشفي، وجميع تصريحاته السياسية طيلة سنوات عديدة، يمكن أن تختزل في أن سوفييتات نواب العمال والجنود ليست كذلك في الواقع إلا باعتبارها جهازا للانتفاضة، جهازا للسلطة الثورية. لكن بخلاف ذلك ليست السوفييتات سوى لعبة لا معنى لها يمكنها أن تؤدي فقط إلى اللامبالاة والسلبية وخيبة الأمل بين الجماهير، التي تشعر بالاشمئزاز المشروع من التكرار اللامتناهي للقرارات والاحتجاجات»[79].

وعلى الرغم من كل شيء تمكن البلاشفة من التعافي بسرعة إلى حد ما من آثار هزيمة يوليوز. اتضح أن انتصار الثورة المضادة أكثر ضحالة وأقل وزنا مما افترض لينين. من المثير للدهشة أن القليل فقط من الأعضاء غادروا الحزب بعد يوليوز، على الرغم من حقيقة أن البلاشفة مروا بوقت عصيب، وذلك حتى في بعض المصانع التي تأثر فيها العمال المتخلفون بوابل الدعاية المعادية للبلاشفة. وفي غضون أسابيع قليلة، بدأ الحزب يستعيد نفوذه ونموه. كانت الأسباب متجذرة في الظروف الموضوعية. فالحكومة المؤقتة، وعلى الرغم من نجاحها المؤقت، لم تحظ سياساتها بالشعبية مطلقا. كانت الأخبار القادمة من الجبهة تتحول من سيء إلى أسوأ. ديماغوجية كيرنسكي “الوطنية” لم تنفعه مع الجنود الذين كان كل ما يريدونه هو تسريحهم والعودة إلى المنزل. وقد أدت محاولات استعادة الانضباط في ظل تلك الظروف إلى جعل الأمور أسوأ. لاحظ الجنود بقلق متزايد عودة ظهور العناصر المعادية للثورة بين صفوف الضباط. كان الضباط الموالون للقيصر قد طأطأوا رؤوسهم منذ فبراير، لكنهم بدأوا الآن في إعادة تجميع صفوفهم وفرض أنفسهم بثقة أكبر.

وعلى عكس توقع لينين بدأت السوفييتات تصير أكثر تقبلا للدعاية البلشفية. هذا على الرغم من أنه وحتى غشت كان السوفييتان الوحيدان في بتروغراد اللذان كان البلاشفة يتمتعون فيهما بنفوذ قوي هما سوفييت كولبينسكي وسوفييت منطقة فيبورغ التي كانت معقل الحركة العمالية، بينما كانت جميع السوفييتات المحلية الأخرى في العاصمة تؤيد المناشفة والاشتراكيين الثوريين. كانت بعض تلك السوفييتات قد تبنت، بعد أيام يوليوز، موقفا عدائيا ضد البلشفية حيث أصدرت قرارات تدين “منظمي المظاهرة”. لكن المزاج بدأ يتغير، وأصبح العمال المناشفة والاشتراكيون الثوريون أكثر انتقادا تجاه قادتهم.

انطلقت آنذاك سيرورة متناقضة: حيث كان القادة الإصلاحيون داخل اللجنة التنفيذية لسوفييت عموم روسيا يتعهدون بالدعم غير المشروط لكيرنسكي، بينما كان شك السوفييتات المحلية في الحكومة يتزايد سريعا بمرور الوقت. تجلى ذلك في النمو المستمر للتيار اليساري الذي كان يمثله المناشفة الأمميون (مارتوف)، ولجنة ما بين الجهات (ميزرايونتسي) والبلاشفة. وبحلول منتصف الصيف، صارت القرارات البلشفية تصدر بالإضافة إلى فيبورغ وكولبنسكي، في جزيرة فاسيليفسكي وكولومنسكي والمقاطعة الأولى للمدينة. فعلى الرغم من أن تلك السوفييتات كانت ما تزال رسميا تحت سيطرة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، فإن العمال كانوا أكثر ميلا للاستماع إلى أفكار الأشخاص الوحيدين الذين كانوا يعبرون بشكل صحيح عما يدور في أذهانهم، أي البلاشفة. ويشير ألكساندر رابينوفيتش إلى أنه: «مع ذلك فباستثناء سوفييت منطقة فيبورغ ربما، يبدو أن أيا من تلك السوفييتات لم يكن تحت السيطرة الفعلية للبلاشفة. حيث احتفظ المناشفة والاشتراكيون الثوريون، أو بالأصح المناشفة الأمميون ويسار الاشتراكيين الثوريين، بنفوذهم في معظم سوفييتات المقاطعات حتى أواخر خريف عام 1917»[80].

تروتسكي والحزب البلشفي

كانت أحداث 1917 لحظة حاسمة بالنسبة للحركة الثورية في روسيا. ففي تلك السنة، أخيرا، تم وضع جميع النظريات والبرامج والأفراد على محك الاختبار الحاسم: محك الممارسة. كثيرون لم ينجحوا في الاختبار. فحتى أقرب المتعاونين مع لينين استسلموا لضغوط اللحظة وفشلوا في الوفاء لمسؤولياتهم التاريخية. لم يكن ذلك يعود بالكامل إلى خصائصهم الشخصية، على الرغم من أن هذه الأخيرة تلعب دورا، بل ودورا مهما. إن الفكرة القائلة بأنه يمكن اختزال التاريخ إلى مجرد لعبة للقوى الاقتصادية العمياء لا يشكل فيها الرجال والنساء سوى دمى مصيرها محدد سلفا، مثل شخصيات مأساة يونانية، فكرة ليس لها أية علاقة مع الماركسية. لم ينكر ماركس وإنجلز أبدا دور الفرد في التاريخ، لقد أوضحا فقط أن البشر ليسوا فاعلين أحرار بشكل كامل، بل إنهم محكومون بالواقع الاجتماعي القائم، والقوى الطبقية، ووعي الجماهير، والاتجاهات السياسية والتحيزات والأوهام، والتي كلها عوامل تلعب دورا حاسما، لكن في التحليل الأخير (وفقط في التحليل الأخير) هي نفسها تتحدد من خلال أنماط تطوير وسائل الإنتاج. تعتبر القاعدة الاقتصادية حاسمة في نهاية المطاف، لكن العلاقة بين “القاعدة” (القوى المنتجة) و“البنية الفوقية” (الدولة، السياسة، الدين، الفلسفة، الأخلاق، إلخ) ليست مباشرة وميكانيكية، بل غير مباشرة وديالكتيكية. هناك مجال واسع لتصرفات الأفراد لإحداث تغيير، وحتى تغيير حاسم في مجرى التاريخ، كما أثبتت ذلك الثورة الروسية بشكل واضح.

لاحظ ماركس ذات مرة أن النظرية تصبح قوة مادية عندما تتبناها عقول الجماهير. إن النظرية الصحيحة هي تلك التي تتوقع، إلى حد ما من الصحة، المسار الرئيسي للأحداث. وعند التسلح بهذه النظرية يصير من الممكن وضع منظور يوضح مسبقا الخط العام للتطور حتى قبل أن تتوفر لنا الوقائع التي تدعمه. ذلك يمكن التيار الثوري من توجيه قواته بشكل صحيح وتوقع الاتجاهات الحقيقية قبل ظهورها. وفي هذا الصدد لا يمكن لأي شخص يدرس الجدال الذي شهدته الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية خلال العقد الذي سبق عام 1917، إلا أن يفاجأ بتفوق إحدى النظريات التي تنبأت بدقة مدهشة بما حدث بالفعل عام 1917، وهي نظرية تروتسكي للثورة الدائمة. بينما على النقيض من ذلك سرعان ما كشفت نظرية “المرحلة البرجوازية الديمقراطية”، التي تبناها المناشفة، عن طبيعتها الرجعية بعد فبراير مباشرة، عندما استخدمت لتبرير دعم المناشفة والاشتراكيين الثوريين للحكومة البرجوازية المؤقتة، في حين شكلت صيغة لينين “دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية” ذريعة لكامنيف وستالين للاستسلام للمناشفة والتخلي عن الثورة الاشتراكية لصالح الديمقراطية البورجوازية.

خلال عام 1917 اختفت كل الخلافات التي فصلت بين لينين وتروتسكي، كما لو أنها لم تكن موجودة. ونشأ بين الرجلين شعور صادق بالتضامن والتقارب استمر حتى وفاة لينين. وفي بداية أكتوبر، في وثيقة موجهة إلى كونفرانس البلاشفة في بتروغراد، والذي كان يناقش قائمة المرشحين إلى الجمعية التأسيسية، أيد لينين إدراج تروتسكي في القائمة، وكتب ما يلي: «لا أحد سيعارض ترشيح تروتسكي، لأنه أولا قد اتخذ فور وصوله موقفا أمميا؛ وثانيا، لأنه عمل داخل ميزرايونتسي من أجل الاندماج [مع البلاشفة]؛ وثالثا، لأنه أثبت خلال أيام يوليوز الصعبة أنه في حجم المهمة ومؤيد مخلص لحزب البروليتاريا الثورية»[81].

كتب راسكولنيكوف في مذكراته قائلا: «كان موقف تروتسكي تجاه فلاديمير إيليتش (لينين) موقف تقدير عظيم. لقد وضعه في مكانة أعلى من أي ممن قابلهم، سواء في روسيا أو في الخارج. وفي النبرة التي يتكلم بها تروتسكي عن لينين تشعر باحترام المتعلم لأستاذه. في تلك الأوقات كان لينين يمتلك رصيدا من 30 سنة في خدمة البروليتاريا، وكانت لتروتسكي 20 سنة. وقد تلاشت أصداء خلافاتهم خلال فترة ما قبل الحرب بشكل كامل. لم يكن هناك فرق بين تكتيكات لينين وتروتسكي. ومنذ لحظة عودة ليف دافيدوفيتش (تروتسكي) إلى روسيا صار تقاربهما، الذي كان قد أصبح ملحوظا بالفعل خلال الحرب، كاملا وواضحا. منذ خطاباته الأولى شعرنا جميعا، نحن اللينينيون القدامى، أنه واحد منا»[82].

بمجرد انضمام تروتسكي رسميا إلى الحزب، في المؤتمر السادس، تم انتخابه لعضوية اللجنة المركزية. لقد أثارت شعبية تروتسكي الهائلة بين العمال البلاشفة وتقدمه السريع، استياء “البلاشفة القدماء” الذين أظهروا غضبهم من خلال معارضتهم لمقترح لينين إدراجه في هيئة تحرير برافدا، وهو المقترح الذي تم إقراره لاحقا في شتنبر عندما انتخب عضوا في هيئة التحرير. وكما ذكر لينين في الوثيقة المشار إليها أعلاه (والتي، بالمناسبة، لم تنشر في الاتحاد السوفياتي إلا عام 1962)، لم يدخل تروتسكي إلى الحزب البلشفي لوحده، بل جاءت  معه مجموعة مهمة، ميزرايونتسي (أو مجموعة ما بين المقاطعات). لقد عمل تروتسكي في الواقع، وباتفاق مع لينين، على تأجيل انضمامه إلى الحزب البلشفي من أجل كسب تلك المجموعة، التي انضمت أخيرا إلى البلاشفة بعد أيام يوليوز. وفي المؤتمر السادس، حين انضمت ميزرايونتسي إلى الحزب البلشفي، وانتخب تروتسكي إلى اللجنة المركزية، وكان هو واحدا من الأسماء الأربعة (إلى جانب لينين وكامينيف وزينوفييف) التي تمكنت من الحصول على أكبر عدد من الأصوات (131 من أصل 134).

السبب الوحيد لتأخر تروتسكي في الانضمام إلى البلاشفة بشكل رسمي بعد عودته، هو أنه، باتفاق كامل مع لينين، كان يعمل على كسب مجموعة ميزرايونتسي. مجموعة ميزدورايوني كوميتيت (‘Mezhdurayonny komitet’)، أو ميزرايونكا، كما كانت معروفة شعبيا، تعني “لجنة ما بين المقاطعات”. لم تكن منظمة جديدة، كما رأينا بالفعل، بل كانت قد تشكلت في عام 1913، واستمرت في نشاطها الثوري طوال الحرب. كانت عضويتها مكونة بشكل أساسي من ثوريين لم يشعروا، لأسباب مختلفة، بالميل إلى الانضمام إلى حزب لينين. كان من بينهم المناشفة الأمميون، والفبريوديون، والبلاشفة التوفيقيون، وأنصار تروتسكي، وأفراد يساريون، وكان الكثير منهم من الموهوبين الذين لعبوا فيما بعد دورا مهما في الثورة وشغلوا مناصب قيادية في الحكومة السوفياتية. من بين هؤلاء كان لوناتشارسكي، أول مفوض شعبي للتعليم والثقافة؛ وأدولف جوفي، الدبلوماسي السوفياتي الذي انتحر لاحقا احتجاجا على استيلاء ستالين على السلطة؛ وفولودارسكي وأوريتسكي، وهما زعيمان بلشفيان مهمان في بتروغراد، واللذان ليسا معروفين بشكل واسع لأنهما تعرضا للاغتيال في وقت مبكر على أيدي إرهابيين من الاشتراكيين الثوريين اليساريين؛ وريازانوف، الكاتب المعروف؛ وبوكروفسكي، المؤرخ. ومانويلسكي ويورينيف، والكثير من الآخرين. كانت تلك المجموعة في فبراير 1917 قوة كبيرة تضم 4.000 عضو في بتروغراد[83]. وقد كان التحاقهم بالحزب تطورا مهما، كما اعترف لينين لاحقا.

رأى لينين، منذ اللحظة الأولى لعودة تروتسكي، في شهر ماي، وبمجرد أن رأى التشابه الجوهري في وجهات النظر، رأى إمكانية وجود شراكة معه من شأنها أن تؤتي نتائج مهمة. أجرى الرجلان مناقشات، تقرر خلالها أنه يترتب على تروتسكي تأجيل انضمامه إلى البلاشفة حتى يتمكن أولا من كسب مجموعة ميزرايونتسي. لم تكن تلك مهمة سهلة، بالنظر إلى كل الاحتكاكات والشكوك القديمة. وفي وقت لاحق، خلال شهادته أمام لجنة ديوي، أوضح تروتسكي تلك الظروف قائلا:

«تروتسكي: كنت أعمل مع الحزب البلشفي. كانت توجد في بتروغراد مجموعة كانت مشابهة برنامجيا لحزب البلاشفة، لكنها كانت مستقلة من الناحية التنظيمية. لقد استشرت لينين حول ما إذا كان من الأفضل أن ألتحق بالحزب البلشفي على الفور، أم أنه سيكون من الأفضل أن أدخل مع هذه المنظمة العمالية الجيدة التي تضم ثلاثة أو أربعة عمال ثوريين.

غولدمان: ثلاثة أو أربعة؟

تروتسكي: ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف عامل ثوري. اتفقنا على أنه من الأفضل التحضير لدمج المنظمتين في مؤتمر للحزب الشيوعي. من الناحية الرسمية بقيتُ في تلك المنظمة وليس في الحزب البلشفي، حتى غشت 1917. لكن النشاط كان متطابقا تماما. لقد تم ذلك فقط من أجل التحضير لعملية الاندماج على نطاق أوسع»[84].

وفي 10 ماي، ومن أجل التأكيد على الأهمية التي يعلقها لينين على هذه المسألة، حضر بنفسه اجتماعا لمجموعة ميزرايونتسي وقام بخطوة استثنائية تمثلت في منحهم مقعدا داخل هيئة تحرير برافدا وداخل اللجنة التنظيمية لمؤتمر الحزب[85]. وفي هذا الصدد كتب قائلا: «امتثالا لقرار مؤتمر عموم روسيا، تقدمت اللجنة المركزية لحزبنا، إدراكا منها للرغبة الشديدة في الاتحاد مع منظمة ما بين المقاطعات، بالمقترحات التالية (والتي تم تقديمها لمنظمة ما بين المقاطعات في البداية باسم الرفيق لينين وعدد قليل من أعضاء اللجنة المركزية فقط، إلا أنه تمت الموافقة عليها فيما بعد من قبل غالبية أعضاء اللجنة المركزية): الوحدة مطلوبة على الفور.

سيُطلب من اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي ضم ممثل عن منظمة بين المقاطعات إلى هيئة تحرير جريدتي الحزب (برافدا الحالية، التي سيتم تحويلها إلى جريدة شعبية لعموم روسيا، والجهاز المركزي المزمع إنشاؤه في المستقبل القريب).

سيُطلب من اللجنة المركزية تشكيل لجنة تنظيمية خاصة للتحضير لمؤتمر الحزب (في غضون ستة أسابيع). سيحق لكونفرانس ما بين المقاطعات أن يعين مندوبين اثنين لهذه اللجنة. وإذا ما انشق المناشفة، أنصار مارتوف، عن أنصار الدفاع عن الوطن، فسيكون من المرغوب فيه ومن الضروري إشراك مندوبيهم في اللجنة المذكورة أعلاه. يجب ضمان النقاش الحر للقضايا الخلافية من خلال منشورات للنقاش تصدرها هيئة بريبوا ومن خلال النقاش الحر في جريدة بروسفيشيني (كومينيست)، التي سيتم استئناف نشرها»[86].

لم يكن اهتمام لينين بكسب مجموعة ما بين المقاطعات شيئا عرضيا على الإطلاق. لقد أقنعته تجربة الأسابيع القليلة التي تلت انتفاضة فبراير بضرورة التجديد الجذري للحزب البلشفي من الأعلى إلى الأسفل. لقد كان بحاجة إلى حلفاء من اليسار من شأنهم أن يلعبوا دور وزن مقابل للنزعة المحافظة “للبلاشفة القدماء”. كان أمله الرئيسي في العمال البلاشفة في القاعدة، وخاصة في تدفق عناصر جديدة من الشباب وعمال المصانع والجنود. لكن ذلك لم يكن كافيا. لقد كان بحاجة إلى أشخاص ذوي خبرة، ومنظرين ودعاة وكتاب، قادرين على أن يلعبون دورا في هز القيادة، ومحاربة الروتين، وطبع نشاط الحزب بخط ثوري واضح.

في البداية استجابت منظمة ميزرايونتسي لمبادرات لينين بنوع من الاحتياط. لم تصر الأرضية مهيأة بما يكفي لانضمام ميزرايونتسي إلى البلاشفة إلا خلال الصيف فقط، وهو ما قاموا به أخيرا في المؤتمر السادس. ومع ذلك فحتى قبل الاندماج الرسمي، كانت المنظمتان تعملان معا بشكل وثيق. وقد كتب المؤرخ الإنجليزي الشهير للثورة الروسية، إ. هـ. كار، إنه خلال مؤتمر سوفييتات عموم روسيا، الذي انعقد في بداية يونيو، والذي كان يسيطر عليه بقوة المناشفة والاشتراكيون الثوريون: «كان تروتسكي ولوناتشارسكي من بين المندوبين العشرة لـ “الاشتراكيين الديمقراطيين المتحدين” الذين أيدوا البلاشفة بقوة خلال الأسابيع الثلاثة للمؤتمر»[87].

ومن أجل تسريع انضمام ميزرايونتسي إلى الحزب البلشفي، وهو ما عارضه بعض قادة ميزرايونتسي، كتب تروتسكي في برافدا البيان التالي: «لا يوجد، في رأيي، في الوقت الحالي [في يوليوز] أي اختلافات من حيث المبدأ أو في التكتيكات بين ميزرايونتسي وبين المنظمة البلشفية. وبالتالي فإنه لا توجد دوافع تبرر الوجود المنفصل لهاتين المنظمتين»[88].

أما كتاب تاريخ الحزب الشيوعي (Istoriya KPSS)، وسيرا منه على خطى التقليد الستاليني في تزوير التاريخ، فقد وصف ميزرايونتسي بأنها مجموعة “تتأرجح بين المنشفية والبلشفية”، لكنه يضيف، دون أي تفسير، أنها “في صيف 1917، التحقت بصفوف الحزب البلشفي”[89]. بعد عامين من الثورة، كتب لينين، أنه في عام 1917 “تمكنت البلشفية من أن تكسب إلى صفوفها أفضل العناصر بين تيارات الفكر الاشتراكي التي كانت الأقرب إليها”. لمن تشير هذه السطور؟ الاحتمال الآخر الوحيد هو مجموعة المناشفة اليساريين، بزعامة لارين، والتي تقدمت بطلب الانضمام إلى البلاشفة في نفس الوقت الذي انضمت فيه مجموعة ميزرايونتسي. لكن موقف لينين من تلك المجموعة كان معروفا بأنه نقدي للغاية. وفي نفس الخطاب الذي ألقاه أمام كونفرانس 08 أكتوبر، رفض لينين بسخط مقترح انتخاب لارين كمرشح للبلاشفة إلى الجمعية التأسيسية، واصفا المقترح بأنه “فضيحة حقيقية”[90].

وبالتالي فإن الإشارة إلى أفضل العناصر لا يمكن أن تكون إلا لتروتسكي وميزرايونتسي. لقد اتضحت حقيقة أنه لا توجد فروق سياسية حقيقية بين البلاشفة وبين ميزرايونتسي في واقع أنه عند انضمامهم إلى الحزب، تقرر اعتبار فترة عضويتهم في مجموعة بين المقاطعات كأقدمية تعادل الانضمام إلى الحزب البلشفي. يشير هذا إلى أن الخط السياسي للمنظمتين كان هو نفسه من حيث الجوهر، وهي النقطة التي تم التأكيد عليها في إشارة كتبت في مختارات لينين نشرت خلال حياته والتي نصت على أنه: «فيما يتعلق بمسألة الحرب تبنت ميزرايونتسي موقفا أمميا، وكانت في تكتيكاتها قريبة من البلاشفة».

تمرد كورنيلوف

بدأ البلاشفة، ببطء في البداية، لكن بنشاط يتزايد أكثر فأكثر، يعيدون تجميع صفوفهم. وتحت قيادة ياكوف سفيردلوف، المنظم البارع الذي لا يعرف الكلل، المنحدر من جبال الأورال، سرعان ما عادت الأمور إلى نصابها في بتروغراد. لم ينجح القمع في تدمير الحزب، وهذا لم يكن صدفة. كانت الثورة المضادة ما تزال تتلمس طريقها وكانت ما تزال مضطرة لتمويه تصرفاتها من خلال التحدث باسم الثورة والسوفييتات. وحتى القوات التي أخمدت مظاهرة يوليوز قامت بذلك باسم الدفاع عن السوفييتات. كان من شأن الهجوم الصريح أن يتسبب لهم في المشاكل، على الرغم من أن ذلك هو ما أراده كيرينسكي. كانوا مضطرين للتقدم بحذر. وحتى محاكمات “العملاء الألمان” اضطروا إلى تأجيلها، جزئيا بسبب الافتقار الكامل لأي دليل. لكن ورغم ذلك كانت الظروف ما تزال صعبة بالطبع. لقد أدى فقدان المقرات والسجلات إلى تعطيل العمل مؤقتا. اشتكى أحد أعضاء اللجنة التنفيذية قائلا: «لقد فقدنا كل شيء تقريبا، مستنداتنا وحساباتنا وأموالنا، فقدنا حرفيا كل شيء!». كان منع برافدا ضربة موجعة، واضطر الحزب إلى إصدار منشورات تنسخ بطابعة يدوية متداعية تعود إلى فترة النظام القيصري. ولم يتمكن البلاشفة من استئناف نشر جريدتهم بشكل عادي إلا مع مطلع شهر غشت. ومع ذلك فقد كانت المعنويات تتعافى بسرعة. تمكن سفيردلوف من إرسال تلغراف إلى المنظمات الحزبية في المقاطعات ليخبرها أن «المزاج العام في بيتر [الاسم العامي لبيتروغراد] ممتاز. لقد مررنا من المحنة. المنظمة لم تتحطم»[91].

اجتمعت القيادة البلشفية خلال الفترة من 13 إلى 14 يوليوز لمناقشة مقترح لينين بتغيير التكتيكات، وهو ما رفضه أغلبهم. صوت عشرة قادة من بين الخمسة عشر الحاضرين، ضد المقترح. كما أن القرار الذي اعتمدته اللجنة المركزية في الأخير لم يشر إلى نهاية فترة التطور السلمي للثورة أو إلى الحاجة للاستعداد للانتفاضة المسلحة. عندما اكتشف لينين ذلك في اليوم الموالي، شعر بقلق شديد. تساءل عما تعنيه هذه الانتظارية؟ وقد شن، في مقاله “عن الشعارات”، هجوما مباشرا على ميل رفاقه إلى تأجيل العمل الثوري وتقديم تنازلات للإصلاحيين. كان الوضع قد شهد منعطفا حادا بعد أحداث يوليوز، وكانت الردة الرجعية قد بدأت تأخذ المبادرة، وقال: «يجب، في المقام الأول، وقبل كل شيء، أن يعرف الشعب الحقيقة، يجب أن يعرف من الذي يمتلك بالفعل سلطة الدولة. يجب إخبار الشعب بالحقيقة الكاملة، ألا وهي أن السلطة توجد في أيدي زمرة عسكرية من الكافينياكيين[92] (كيرينسكي وبعض الجنرالات والضباط، إلخ)، الذين تدعمهم الطبقة البرجوازية التي يرأسها حزب الكاديت، وجميع أنصار النظام الملكي، الذين يتحركون من خلال جرائد المئات السود نوفوي فريميا وجيفوي سلوفو، إلخ، إلخ».

اتضح لاحقا صدق هذه التوقعات، حيث أن الضباط الكافينياكيين كانوا يحضرون بالفعل لهجوم مضاد ساحق. لذا فقد كان من الضروري تحضير الحزب وتحذير الجماهير من أن المواجهة وشيكة. أما عن دور السوفييتات فقد كتب لينين: «قد تعود السوفييتات إلى الظهور في هذه الثورة الجديدة، وسوف تظهر حتما، لكن ليست هذه السوفييتات القائمة الآن، ليست الأجهزة التي تتعاون مع البرجوازية، بل أجهزة النضال الثوري ضد البرجوازية. صحيح أنه سيكون علينا حتى في ذلك الوقت أن نؤيد بناء الدولة بأكملها على نموذج السوفييتات. ليست المسألة متعلقة بالسوفييتات عموما، بل هي مسألة النضال ضد الثورة المضادة الحالية وضد خيانة السوفييتات الحالية»[93].

خلال الكونفرانس الثاني لمنظمة الحزب بمدينة بتروغراد، عبر فولودارسكي (الذي جاء مع منظمة ميزرايونتسي ولعب دورا بارزا داخل المنظمة البلشفية في بتروغراد، حتى اغتياله على يد إرهابي من الاشتراكيين الثوريين اليساريين، عام 1918) عن آراء العديد من الحاضرين عندما قال: «إن الأشخاص الذين يزعمون أن الثورة المضادة منتصرة إنما يصدرون الأحكام على الجماهير بناء على ممارسات قادتها. لكن بينما يتجه الزعماء [المناشفة والاشتراكيون الثوريون] نحو اليمين، فإن الجماهير تتحرك نحو اليسار. كيرينسكي وتسيريتيلي وأفكسنتييف نهايتهم قريبة… سوف تتأرجح البرجوازية الصغيرة إلى جانبنا. وبأخذنا لهذا في الاعتبار يصير من الواضح أن شعار “كل السلطة للسوفييتات” مازال صحيحا».

وأضاف مندوب آخر -فينبرغ- قائلا: «الحكومة الحالية لن تكون قادرة على فعل أي شيء حيال الأزمة الاقتصادية؛ سوف تتأرجح السوفييتات والأحزاب السياسية نحو اليسار. غالبية القوى الديمقراطية تتجمع حول السوفييتات وبالتالي فإن رفض شعار: “كل السلطة للسوفييتات” يمكن أن تكون له عواقب وخيمة للغاية»[94].

كان لينين مخطئا في واقع الأمر، وهو ما اعترف به هو نفسه لاحقا. كان يعيش في ظروف السرية ومعزولا عن الوضع الملموس، لذا لم يتمكن من قراءته بشكل صحيح. وقد أظهرت التطورات اللاحقة أنه كان ما يزال في إمكان البلاشفة كسب الأغلبية داخل السوفييتات وإلحاق الهزيمة بالزعماء الإصلاحيين اليمينيين، وهذا بالضبط هو ما ضمن نجاح ثورة أكتوبر. يبدو ذلك واضحا جدا الآن إلى درجة أنه من غير الضروري إضافة أي تعليق. ومع ذلك فإنه لم يكن أي شيء مضمون آنذاك. استمر الكر والفر طوال الصيف، وكان لمخاوف لينين ما يبررها.

كانت نقطة التحول الحاسمة هي بالضبط تلك اللحظة التي بدا فيها كما لو أن البلاشفة تعرضوا لهزيمة حاسمة وأن المبادرة انتقلت إلى يد الثورة المضادة. طوال صيف عام 1917، واصل البندول التأرجح نحو اليمين. في 18 يوليوز، تم استبدال الجنرال بروسيلوف بالجنرال لافار كورنيلوف، وهو مغامر لم يكن ينحدر من الارستقراطية، على عكس معظم أعضاء فئة الضباط الآخرين، بل كان ابنا لملاك عقاري قوزاقي صغير. كان كورنيلوف إنسانا شجاعا وكان أيضا متمردا مجبولا على عدم الامتثال للأوامر. وبسبب ضيق نظرته وأميته السياسية، كان لديه حل عسكري لجميع المشاكل: فليس هناك في روسيا من مشكلة لا يمكن حلها بوابل من الرصاص وضربة من سوط ضابط. كان يقال عنه إنه “بقلب أسد ودماغ خروف”.

وتأكيدا منه على المطلب الرئيسي لقوى الثورة المضادة، أصر كورنيلوف على إعادة تطبيق عقوبة الإعدام في الجبهة، حيث قام، عمليا، بتطبيقها بالفعل من خلال إصدار الأوامر بإطلاق النار على الجنود الفارين. ولقبول تولي القيادة العليا، أملى كورنيلوف شروطه على كيرينسكي. فبالإضافة إلى إعادة فرض عقوبة الإعدام، طالب بحظر الاجتماعات في الجبهة، وحل الفيالق الثورية ووضع حد لسلطات لجان الجنود. وفي وقت لاحق تم توسيع هذه المطالب لتشمل اعادة فرض عقوبة الإعدام على المدنيين وفرض الأحكام العرفية وحظر الإضرابات في مصانع السلاح والسكك الحديدية، تحت طائلة الإعدام. كان هذا برنامجا مكتملا لفرض دكتاتورية رجعية صريحة.

كيرينسكي، من جانبه، لم يعترض على أي من هذه الإجراءات، باستثناء توقيت فرضها ربما. كان خلافه الرئيسي مع كورنيلوف هو أنه لا يمكن أن يكون هناك سوى بونابرت واحد، وكان كيرينسكي مصمما على الاحتفاظ بهذا الدور لنفسه. ومع ذلك فإن الصراعات الشخصية لم تمنع كيرينسكي من الاتصال بكورنيلوف والمشاركة في المؤامرة. لقد دفع هذا بالمؤرخين، أمثال أورلاندو فيغز، إلى الافتراض أن كورنيلوف لم يكن أبدا ينوي الإطاحة بكيرينسكي وتنصيب نفسه ديكتاتورا، بل فقط إنقاذ الحكومة المؤقتة من البلاشفة. لكن أبحاث فيغز نفسها تتناقض مع هذا الادعاء، حيث يقول: «ليس هناك من ينكر أن الكثير من أنصار كورنيلوف كانوا يحثونه على التخلص من الحكومة المؤقتة بالكامل. فنقابة الضباط، على سبيل المثال، وضعت مخططات لانقلاب عسكري، في حين أن “كونفرانس المسؤولين العموميين”، الذي انعقد في منتصف غشت، والذي كان يتشكل في معظمه من أعضاء حزب الكاديت ورجال أعمال يمينيين، قد شجع كورنيلوف بوضوح على السير في هذا الاتجاه. وفي مركز هذه الأوساط اليمينية كان هناك فاسيلي زافويكو، وهو شخصية غامضة إلى حد ما -مضارب وصناعي وصحفي ومتآمر سياسي- كان، حسب الجنرال مارتينوف، بمثابة “المستشار الشخصي لكورنيلوف، بل ويمكن للمرء أن يقول مرشده فيما يتعلق بمسائل الدولة”. كانت خطط زافويكو الانقلابية معروفة على نطاق واسع لدرجة أنه حتى وايتهول سمع عنها: ففي وقت مبكر من يوم 08 غشت، أبلغت وزارة الخارجية في لندن سفيرها في بتروغراد، بوكانان، أنه وفقا لمصادرها العسكرية فإن زافويكو يخطط للإطاحة بالحكومة المؤقتة. كما لا ينبغي أن ينكر المرء أن كورنيلوف نفسه كانت لديه طموحاته الخاصة في المجال السياسي -نزعة تمجيد كورنيلوف، التي ساهم في خلقها، كانت تجسيدا واضحا لذلك- ولا بد أن يكون قد أحس بالإغراء من خلال الإلحاح المستمر لأنصاره، من أمثال زافويكو، لاستغلال شعبيته الهائلة من أجل تنصيب نفسه ديكتاتورا»[95].

طريقة فيغز في التحليل مثيرة للشفقة، حيث يعتمد على أن كورنيلوف كان يزعم أن زحف جيشه على بتروغراد لم يكن إلا من أجل “إنقاذ” الحكومة من “الانقلاب البلشفي”، الذي قيل إنهم يخططون للقيام به في نهاية غشت. كان “الانقلاب البلشفي” مجرد افتراء، وكان من الواضح أن اختلاقه كان مبررا لقيام كورنيلوف بتوجيه الأمر للجنرال كريموف بالزحف على بتروغراد. ولا يتعين على المرء أن يكون عبقريا لكي يرى أن كورنيلوف كان يستخدم فقط التكتيك المعروف المتمثل في إخفاء العمل الهجومي تحت ستار إجراء دفاعي. فمن خلال التظاهر بأنه يسعى “لإنقاذ” الحكومة الحالية، كان سوف يضعها تحت رحمته، ثم سيكنسها جانبا وينصب نفسه ديكتاتورا. هذا السيناريو ليس جديدا. إنه نفس الطريق القديم الذي يجتازه كل البونابارتيون، بدء من نابليون.

حاول البونابرتي الطموح الآخر، كيرينسكي، عقد صفقة مع كورنيلوف من خلال مبعوثه، النائب الأكتوبري ف. ن. لفوف. لكن كورنيلوف أخبر لفوف أنه يطالب بصلاحيات ديكتاتورية لنفسه. لم يكن هناك مجال لبونابرت ثان! عندها فقط بدأ كيرينسكي يندد بـ“مؤامرة كورنيلوف المضادة للثورة” ضد الحكومة. أصدر الأمر لكورنيلوف بسحب قواته. لو أنه كان بالفعل يعمل لإنقاذ الحكومة المؤقتة، لكان خضع للأوامر وتراجع إلى الثكنات. لكنه، بدلا من ذلك، أعلن عزمه على “إنقاذ روسيا” من حكومة أصبحت الآن تحت سيطرة البلاشفة!

في 25 غشت بدأ الجنرال كورنيلوف زحفه على بتروغراد. كان ذلك بمثابة تحول مفاجئ وحاد في الأحداث، وهو ما يعد أحد الخصائص الرئيسية للفترة الثورية. نرى هنا أهمية التكتيكات، التي بطبيعتها يجب أن تكون مرنة، بحيث يمكن للحزب الثوري تغيير المسار في غضون أيام، أو حتى ساعات إذا لزم الأمر. كان السؤال المطروح هو: ما هو الموقف الذي يجب على البلاشفة أن يتخذوه في الصراع بين كيرينسكي وكورنيلوف؟ على الرغم من السياسة القمعية والمعادية للثورة التي نهجتها الحكومة، كان من الضروري الانضمام إلى الكفاح ضد قوى الردة الرجعية المفتوحة التي كان يمثلها كورنيلوف. لقد فهم العمال ذلك بشكل غريزي، بمن فيهم العمال البلشفيون في منطقة فيبورغ، الذين كانوا أول من سارعوا إلى الدفاع عن بتروغراد.

كان القادة الإصلاحيون في اللجنة التنفيذية السوفياتية، الذين شعروا بالقلق من هذا التحول في الأحداث، مضطرين إلى إصدار الدعوة للعمال للدفاع عن الثورة. تمت دعوة البلاشفة للمشاركة في لجنة الكفاح ضد الثورة المضادة. تم إطلاق سراح القادة البلاشفة، بمن فيهم تروتسكي، من السجون التي كانوا يقبعون فيها منذ أحداث يوليوز. وعلى الفور قبل البلاشفة بعرض تشكيل جبهة موحدة، وانخرطوا بقوة في الكفاح ضد الثورة المضادة. ومع ذلك فإن السياسة البلشفية لم تكن تعني بأي حال من الأحوال دعم الحكومة المؤقتة، كما أوضح لينين قائلا: «حتى في الوقت الحالي يجب علينا ألا ندعم حكومة كيرينسكي. هذا غير مبدئي. قد يطرح علينا السؤال التالي: ألن نحارب كورنيلوف؟ بالطبع يجب علينا ذلك! لكن هذا ليس الشيء نفسه؛ يوجد خط فاصل هنا، خط تخطاه بعض البلاشفة الذين سقطوا في التوفيقية وسمحوا لأنفسهم بأن يجرفهم مسار الأحداث. سنقاتل ضد كورنيلوف، ونحن نقاتل ضده، تماما مثلما تفعل قوات كيرينسكي، لكننا لا ندعم كيرينسكي. وعلى العكس من ذلك، نحن نكشف ضعفه. هنا يوجد الفرق. إنه بالأحرى فرق بسيط، لكنه ضروري للغاية ويجب عدم نسيانه»[96].

صرح لينين بأن البلاشفة سوف يستخدمون كيرينسكي “كمسدس احتياطي” للقتال ضد كورنيلوف، وبعد ذلك، عندما سيصيرون أقوياء بدرجة كافية، سيعودون لتصفية الحساب معه: «نحن نغير شكل كفاحنا ضد كيرينسكي. وبدون التخفيف من عداءنا تجاهه، ودون التراجع عن أي كلمة قلناها ضده، ودون التخلي عن مهمة الإطاحة به، نقول إنه يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار الوضع الحالي. يجب علينا ألا نعمل على الاطاحة بكيرينسكي الآن. علينا أن نخوض الكفاح ضده بطريقة مختلفة، أي أنه يجب علينا أن نوضح للشعب (الذي يقاتل ضد كورنيلوف) ضعف كيرينسكي وتذبذبه. لقد تم القيام بذلك في الماضي أيضا. لكنه صار الآن الشيء الأكثر أهمية وهذا ما يشكل التغيير»[97].

هذا هو جوهر تكتيك لينين طوال عام 1917: عدم مهاجمة القادة الإصلاحيين مباشرة، بل التغلب عليهم. العمل على مهاجمة العدو الرئيسي: كبار ملاكي الأراضي والرأسماليين وقوى الردة الرجعية، وإعطاء الدليل في الممارسة على أن الإصلاحيين عاجزون عن خوض النضال ضد الرجعية، وغير قادرين على التصرف بحزم لصالح العمال والفلاحين.

كان ذلك مثالا كلاسيكيا للسياسة اللينينية للجبهة الموحدة في الممارسة. ألقى البلاشفة بثقلهم في النضال إلى جانب العمال والجنود المناشفة والاشتراكيين الثوريين، الذين كانوا قد صدقوا في وقت سابق التشهير القائل بأن البلاشفة “عملاء ألمان”. لقد أثبتوا في الممارسة أنهم كانوا أفضل المقاتلين ضد الثورة المضادة، وبالتالي وضعوا الأساس لكسب جماهير العمال والجنود الذين كانوا حتى ذلك الوقت يساندون القادة الإصلاحيين.

لا شك في أن مشاركة البلاشفة كانت حاسمة في إلحاق الهزيمة بكورنيلوف، وهو ما يعترف به حتى فيغز المناهض للبلاشفة، حيث يقول: «مثلت لجنة النضال جبهة موحدة للحركة السوفياتية بأكملها، لكنها كانت تعتمد فعليا على المنظمة العسكرية البلشفية، والتي بدونها، على حد تعبير سوخانوف، “كان يمكن أن يمر الوقت في إصدار النداءات وإلقاء الخطب الفارغة من قبل خطباء فقدوا سلطتهم”. وحدهم البلاشفة من كانت لديهم القدرة على تعبئة وتسليح جماهير العمال والجنود، وقد عملوا بتعاون وثيق مع خصومهم داخل السوفييتات»[98].

عمل البلاشفة باستخدام الأساليب الثورية على تعبئة العمال ضد الكورنيلوفيين. كان الكورنيلوفيون من الناحية النظرية يمتلكون قوة هائلة. كانت قواتهم الصدامية تسمى الفرقة الهمجية، وتم تجنيدها من بين القبائل الجبلية المحاربة في شمال القوقاز. لكن سرعان ما توقفت حركة القوات الرجعية، بقيادة الجنرال كريموف. قام عمال السكك الحديدية بتخريب حركة القطارات حيث أخرجوها عن مسارها وأطاحوا بها جانبا، كما لو بأيد خفية. وبمجرد ما تم إيقاف تقدم القوات، اخترق المحرضون البلاشفة صفوف القوات المتمردة وأقنعوا القوزاق بعدم القتال. قام وفد من مسلمي القوقاز الذين تصادف وجودهم في مؤتمر السوفييتات في بتروغراد وقت التمرد بمخاطبة أعضاء الفرقة الهمجية بلغتهم الأصلية. وسرعان ما بدأ الجنود أنفسهم يلقون القبض على الضباط المتمردين، في حين انتحر كريموف، وتحطمت ثورة كورنيلوف مثلما تنكسر الموجة على صخر الشاطئ.

كتب ماركس ذات مرة أن الثورة تحتاج إلى سوط الثورة المضادة لكي تتقدم، وقد أكدت الأحداث أن ذلك صحيح. وما كان من المفترض منه أن يكون الخطوة الحاسمة للثورة المضادة تحول إلى نقيضه. لقد أعطت هزيمة كورنيلوف دفعة قوية للثورة. انقلب الجنود في كل مكان ضد ضباطهم، وتم القبض على الكثير منهم على يد جنودهم. تعرض الضباط الممقوتون منهم للإعدام. وصوتت مجالس الجنود لصالح التوقيع الفوري على السلام، ونقل السلطة إلى السوفييتات. كما أنهم صوتوا بأقدامهم، حيث تفككت وحدات كاملة، وعاد الجنود الفلاحون إلى قراهم. وبدوره كان وصول الكثير من العناصر الراديكالية من الجبهة بمثابة حافز لاندلاع ثورات الفلاحين التي شهدها شهر شتنبر. لقد دخلت الثورة مرحلتها الحاسمة.

النضال من أجل كسب الجماهير

كانت السوفييتات، دون شك، هي الساحة الحاسمة للنضال. ومنذ اللحظة الأولى لعودة لينين، صار الحزب البلشفي موجها بحزم نحو هدف الاستيلاء على السلطة. لكن الشرط المسبق لذلك كان هو كسب الأغلبية الساحقة من الطبقة العاملة. وكان هذا يعني كسب الأغلبية داخل تلك المنظمات التي تتمتع بولاء جماهير العمال والجنود، أي السوفييتات. لكن العائق الكبير كان هو هيمنة الزعماء الإصلاحيين، المناشفة والاشتراكيين الثوريين، عليها. فمن فبراير حتى الصيف، استمرت الأغلبية في يد المناشفة والاشتراكيين الثوريين الذين فضلوا التحالف مع الليبراليين البرجوازيين، رغم أنهم اضطروا إلى تغطية هذه السياسة باستخدام الصيغة القديمة، «دعم الحكومة المؤقتة “بقدر” ما طبقت هذه السياسة أو تلك». كان هذا لإسكات انتقادات العمال السوفياتيين الذين كانوا بطبيعتهم لا يثقون في الحكومة البرجوازية، لكنهم كانوا يثقون في قادتهم وما كانوا ليتخلوا عنهم بشكل تلقائي، رغم أنهم لم يكونوا يتفقون مع بعض سياساتهم. كان وضع البلاشفة في البداية سيئا للغاية. كان ضعفهم داخل السوفييتات، بعد فبراير مباشرة، أكبر مما تشير إليه الأرقام. كانت لديهم تمثيلية كبيرة في بعض السوفييتات لأنهم تعاونوا مع المناشفة لتقديم قوائم مشتركة. وهكذا تمكن البلاشفة، في ساراتوف، من الحصول على ثلاثة مقاعد من أصل خمسة في هيئة رئاسة السوفييت، بينما لم يكن لديهم سوى 28 نائبا من أصل 248 نائبا في الجلسة العامة[99].

منذ الربيع فصاعدا شن البلاشفة حملة نشطة لإجراء انتخابات جديدة للسوفييتات. خلال الثورة تتعلم الجماهير بسرعة من تجربتها الخاصة. صحيح أن السوفييتات معبر أكثر صدقا عن الحالة المزاجية المتغيرة للجماهير ووعيها أكثر من أي برلمان. لكن حتى السوفييتات تخلفت عن الوضع المتغير بسرعة، وكانت في أغلب الأحيان تعكس أفكار وتطلعات الجماهير بالأمس وليس أفكارها وتطلعاتها اليوم. كان البلاشفة أقوياء دائما في لجان المصانع لأنها كانت الأقرب إلى العمال في القواعد ومن ثم كانت تعكس بسرعة أكبر المزاج الحقيقي الموجود في القاع.

شهد تكوين السوفييتات تحولا جذريا بين شهري غشت وشتنبر. وقد شكلت قضية كورنيلوف، مرة أخرى، نقطة التحول الحاسمة. فتهديد الثورة المضادة دفع السوفييتات إلى المطالبة باتخاذ إجراءات حاسمة، وبدأت الشعارات البلشفية بخصوص القطيعة مع البرجوازية و“كل السلطة للسوفييتات” تتغلغل بين صفوف الجماهير. بدأت اللجنة التنفيذية السوفياتية تغرق تحت جبال البرقيات التي تطالبها بالاستيلاء على السلطة. وعلى الرغم من أن السيرورة لم تكن بوتيرة واحدة، فإن الاتجاه العام صار، من ذلك الوقت فصاعدا، في صالح البلاشفة بشكل واضح. كانت اللجنة التنفيذية السوفياتية ما تزال متمسكة بسياستها المشؤومة في دعم الحكومة المؤقتة، لكنها لم تكن تحظى سوى بأغلبية ضئيلة. كان هناك 86 مندوبا لصالح إعطاء السلطة للسوفييتات، مقابل 97 معارضا فقط. لكن الوضع كان يتغير كل يوم، بل وكل ساعة تقريبا.

حدث تحول حاسم في الأسبوع الأول من شهر شتنبر، عندما انتقلت السيطرة على سوفييت بتروغراد إلى أيدي البلاشفة. ظهر ميزان القوى الجديد عندما حصل قرار اقترحه البلاشفة، يطالب بتشكيل حكومة من العمال والفلاحين، على 229 صوتا لصالحه مقابل 115 صوتا ضده وامتناع 51 عن التصويت، مما أظهر أن العديد من العمال المناشفة والاشتراكيين الثوريين قد صوتوا لصالح البلاشفة. نتيجة لذلك أعلنت القيادة الإصلاحية المصدومة استقالتها. شعر الإصلاحيون بالذعر إزاء فقدانهم لهذا السوفييت الرئيسي، فبدأوا على الفور حملة غاضبة على صفحات إزفستيا، زاعمين، كما هي العادة في مثل هذه الحالات، أن الاجتماع لم يكن تمثيليا، ودعوا جميع المندوبين إلى حضور الاجتماع الموالي من أجل إسقاط القرار[100].

كانت جلسة 09 شتنبر ساخنة جدا. كان الجميع يدرك الأهمية الحيوية للنتيجة. عملت جميع الفصائل على أن يحضر جميع مندوبيها. حضر حوالي 1.000 مندوب. خشي الوفد البلشفي من عدم تمكنهم من الحصول على الأغلبية بمفردهم لأجل الإطاحة بالرئاسة، فاقترحوا أن يكون التصويت على أساس نسبي. أدان لينين هذه الخطوة الإجرائية، التي كان يخشى أن تشوش على جوهر القضية التي يدافع عنها البلاشفة. كانت القضية هي مسألة سلطة العمال، ولا ينبغي السماح لأي قدر من المشاحنات الدستورية بإخفاء ذلك. لكنه لم يكن هناك ما يبرر قلق لينين، فالقضايا كانت واضحة بما فيه الكفاية للجميع، وكان لذلك الاقتراح الإجرائي ميزة أنه ساعد في كسب العناصر المترددة، أي مجموعة مارتوف وحتى الاشتراكيين الشعبيين الأكثر يمينية. وعلى أي حال، فقد قام رئيس الجلسة، تسيريتيلي، برفض التسوية لكونها خارج جدول الأعمال. لكن اليمين أخطأ حساباته. فمن خلال رفضهم للحل الوسط وإلزام المندوبين بالتصويت على قرار مباشر طرحه الإصلاحيون، يقول بأن التصويت السابق في 01 شتنبر لا يتوافق مع خط السوفييتات، ويجدد الدعم للقيادة القديمة، أجبروا البلاشفة على الانتقال إلى الهجوم ورفع حدة الاستقطاب داخل الاجتماع. لقد صارت المسألة: “إما هذا… أو ذاك”.

كان تروتسكي هو المتحدث الرئيسي باسم البلاشفة، في أول ظهور علني له منذ إطلاق سراحه. تم استقباله بتصفيق حار من جانب جزء من القاعة، قبل أن يشن هجوما عنيفا على الرئاسة. سألهم هل ما يزال كيرينسكي عضوا في هيئة الرئاسة، نعم أم لا؟ وضع السؤال هيئة الرئاسة في موقف جد حرج. وبعد ترددهم للحظة، جاء الجواب بالإيجاب، وهو ما استغله تروتسكي إلى أقصى الحدود، حيث قال: «لقد اعتقدنا اعتقادا راسخا أنه لن يُسمح لكيرينسكي بالجلوس في منصة الرئاسة. لكننا كنا مخطئين. إن شبح كيرينسكي يجلس الآن بين دان وتشيدز… وبالتالي فإنه عندما يقترحون عليكم الموافقة على الخط السياسي للرئاسة، لا تنسوا أنكم ستوافقون بذلك على سياسات كيرينسكي»[101].

حتى في هذه المرحلة كان البلاشفة لا يوجهون نيرانهم بشكل رئيسي نحو الإصلاحيين، بل كانوا يركزون دائما على البرجوازيين وكيرينسكي الذي كان قد صار متماهيا بشكل كامل مع البرجوازية. ومن خلال هذه الدعاية الماهرة، نجحوا في كسب العمال الذين كانوا حتى وقت قريب يقفون بحزم خلف المناشفة والاشتراكيين الثوريين. ومن خلال تركيز هجماتهم على العدو الطبقي، تمكنوا من أن يفضحوا بشكل منهجي سياسات التعاون الطبقي التي يتبناها الإصلاحيون وجبنهم وعدم رغبتهم في مواجهة أعداء العمال والفلاحين، وبالتالي دقوا إسفينا بين الإصلاحيين وبين مؤيديهم.

جاءت نتيجة التصويت واضحة جدا: 414 صوتا لصالح التحالف؛ 519 صوتا ضد التحالف؛ وامتناع 67. كان انتصار البلاشفة هذا عظيما لكون الإصلاحيين لم يدخروا أي جهد في إغراق الاجتماع بمؤيديهم وأصروا على تحويل التصويت إلى استفتاء حول هذه القضية: التحالف أو السلطة للسوفييتات؟ الإصلاحية أو البلشفية؟ وكانت الهزيمة ضربة قوية للجناح اليميني. كانوا قد استثمروا الكثير من أجل الفوز في هذا الاجتماع إلى درجة أن خسارتهم للأصوات حطمتهم تماما. ومن ناحية أخرى شعر الجناح اليساري بالثقة واستغل الوضع لصالحه. في 11 شتنبر عندما دافع دان، في سوفييت بتروغراد، عن التحالف ضد موقف تروتسكي الذي دافع عن تشكيل حكومة سوفياتية، تم رفض التحالف بعشرة أصوات فقط، وامتناع سبعة عن التصويت، أما الآن فقد حسمت المعركة في بتروغراد بشكل كامل.

صار المد يتدفق بقوة لصالح البلاشفة في كل مكان. يوم 05 شتنبر، أعلن مؤتمر سوفييت وسط سيبيريا دعمه الكامل للبلاشفة. وسرعان ما حذت موسكو حذوه، حيث فاز البلاشفة بالأغلبية ليس فقط في مجلس السوفييت، بل كذلك في لجنة الجنود التي كانت موجودة بشكل منفصل عنه. وفي انتخابات اللجنة التنفيذية السوفياتية لعمال موسكو، التي جرت في 19 شتنبر، فاز البلاشفة بـ 32 مقعدا مقابل 16 مقعدا للمناشفة. تم انتخاب نوغين رئيسا. وفي 05 أكتوبر، قدم البلاشفة قرارا بشأن الوضع الراهن في جلسة سوفييت العمال والجنود وكانت النتيجة 335 صوتا مع القرار، مقابل 254 صوتا ضده. لكن الوضع في اللجنة التنفيذية لسوفييت الجنود كان مختلفا، فهنا استمر البلاشفة أقلية، حيث حصلوا على 16 مقعدا مقابل 26 مقعدا للاشتراكيين الثوريين وتسعة للمناشفة – وهو الوضع الذي استمر حتى ثورة أكتوبر. لهذا السبب كانت الاجتماعات العامة المشتركة بين اللجنتين التنفيذيتين تشهد توازن القوى بين الفصائل المتصارعة وكان البلاشفة يجدون أنفسهم في بعض الأحيان في موقع الأقلية، على الرغم من أنهم عادة ما كانوا يتمكنون من تمرير توصياتهم. من جهة أخرى تمكن البلاشفة منذ شهر ماي من كسب الأغلبية في منطقة موسكو ككل[102].

كان للبلاشفة موقع قوي في المناطق الشمالية المحيطة ببتروغراد. ففي سوفييت كرونشتاد كان لديهم 100 مندوب، بينما كان للاشتراكيين الثوريين اليساريين 75 مندوبا، و12 للمناشفة الأمميين و07 مناديب للاسلطويين، بقية المناديب (90) كانوا مستقلين. كما حصل البلاشفة على الأغلبية في فنلندا -خاصة في هيلسينغفورس وفيبورغ، حيث كانت سلطة الحكومة المؤقتة قد سقطت فعلا منذ شتنبر. في إستونيا أيضا كان فوز اليسار واضحا. ففي شتنبر كانت الغالبية العظمى في ريفال ودوربات وويندن إلى جانب البلاشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين. وفي اللجنة الإقليمية المنتخبة في أكتوبر، كان هناك ستة بلاشفة وأربعة اشتراكيين ثوريين يساريين ومنشفي أممي واحد واشتراكي ثوري يميني واحد. قطع مجلس أسطول البلطيق -سنتروبالت- جميع العلاقات مع الحكومة المؤقتة وبدأ يسير شؤونه الخاصة بنفسه. وفي منتصف أكتوبر صوت الفيلق الخامس، الذي كان يعتبر من أرقى أفواج الخطوط الأمامية، لتشكيل لجنة جديدة ضمت أغلبية بلشفية. وهكذا لم تقف بتروغراد وحدها إلى جانب البلاشفة، بل جميع المناطق المحيطة بها أيضا.

إن الكفاح من أجل كسب النفوذ داخل النقابات، التي هي الأجهزة الأساسية لتنظيم الطبقة العاملة، احتل تاريخيا مكانة مركزية في استراتيجية الحزب البلشفي وتكتيكاته. ومع ذلك فخلال الثورة الروسية، وبينما استمر النضال من أجل السيطرة على النقابات بلا هوادة، صار في المركز الثاني خلف النضال الموازي داخل السوفييتات ولجان المصانع. كانت هناك عدة أسباب لذلك. ففي روسيا القيصرية عاشت النقابات العمالية حياة محفوفة بالمخاطر في ظل نظام استبدادي عرض أعضاءها، في كثير من الأحيان، للاعتقالات وجميع أنواع الحظر التي قيدت بشدة حريتها في الحركة. وهكذا ففي عام 1917 كانت النقابات في حالة ضعيفة نسبيا، حيث كانت لا تضم سوى أقلية صغيرة من العمال، معظمهم من العمال الأكثر تأهيلا والأفضل أجرا. أما أغلبية العمال غير المنظمين الذين تدفقوا إلى ساحة النضال بعد شهر فبراير، فقد نظموا أنفسهم بشكل تلقائي في السوفييتات ولجان المصانع التي كانت أكثر مرونة وأكثر تمثيلية من النقابات التي غالبا ما كانت تحت سيطرة العناصر المحافظة التي كانت تميل بشكل طبيعي إلى المناشفة وليس إلى الجناح الثوري.

كانت لجان المصانع من بين المؤسسات الأولى التي التحقت بالبلاشفة. وبحلول يونيو- يوليوز كانت لجان مصانع بتروغراد قد صارت بالفعل تحت سيطرة البلاشفة. خلال كونفرانس لجان المصانع الثالث لعموم روسيا (17-22 أكتوبر)، كان أكثر من نصف المندوبين ذوي الحق في التصويت (البالغ عددهم 167 عضوا) من البلاشفة الذين تمتعوا أيضا بدعم 24 مندوبا اشتراكيا ثوريا، بينما كانت المعارضة تتألف من سبعة مناشفة و13 من النقابيين اللاسلطويين. كان ذلك كما قال تروتسكي بفخر: «أوضح تعبير عن الدعم البروليتاري المباشر والأكيد في البلد بأسره»[103].

بطبيعة الحال لم يكن العمل في السوفييتات ولجان المصانع يعني أن البلاشفة أهملوا النقابات. بل على العكس تماما، إذ طيلة عام 1917 كانت النقابات العمالية ميدانا للصراع المستمر بين التيار الثوري والقادة الإصلاحيين. كان تقدم البلاشفة أسرع بين عمال الصلب في بتروغراد، حيث حققوا بشكل سريع نجاحا ساحقا. كان العمال يلتحقون بشكل جماعي بالبلاشفة خلال اجتماعات المصانع التي كانت جميع القرارات الرئيسية تتخذ فيها بالتصويت عبر رفع الأيدي. وهناك أيضا كانت فئات شابة جديدة تنجذب على الفور نحو الجناح الثوري. وقد كانت تلك الفئات بالذات هي التي غيرت الوضع الداخلي للحزب البلشفي نفسه. في أبريل كان جميع أعضاء اللجنة التنفيذية في نقابة عمال الصلب في بتروغراد، باستثناء أربعة منهم، من البلاشفة. وبحلول يونيو كان لمنظمة بتروغراد جهاز كامل يضم أكثر من مائة شخص يتلقون أجورهم من صندوق النقابة. ومن بتروغراد امتد تأثير الحزب في النقابات إلى مناطق أخرى. بحلول شهر ماي، صارت نقابات عمال الصلب تضم 54.000 عضو، وبحلول غشت صارت تضم 138.000 عضو[104]. وبالنظر إلى أن إجمالي القوى العاملة في صناعة الصلب كان في يناير 1917، يبلغ 546.100 عامل، فإن ذلك يمثل نسبة كبيرة من بين إحدى الفئات الرئيسية من البروليتاريا. وبحلول نهاية العام صرحت تلك النقابات أنها صارت تضم 544.527 عضوا في 236 فرعا.

أما في نقابة عمال النسيج، الذين كانوا يشكلون ثاني أهم مجموعة، فقد كانت الصورة أكثر اختلاطا. في يونيو صرحت النقابة أنها تضم 240.000 عضو، ويمكن أن تكون قد وصلت إلى 400.000 عضو بحلول أكتوبر. كان ذلك الرقم نصف إجمالي العاملين في القطاع. كانت النساء تشكلن الجزء الأكبر من القوى العاملة فيه. وقد تأثر القطاع بالبطالة بشدة، لذلك كان المطلب الرئيسي في البداية هو إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية الملحة بدلا من السياسة الثورية. وهذا ما يفسر سبب سيطرة المناشفة والاشتراكيين الثوريين على النقابة في الفترة التي تلت فبراير (باستثناء بتروغراد، حيث كانت للبلاشفة مجموعة صغيرة قبل ثورة فبراير، سرعان ما أصبحت القوة المهيمنة). لكن البلاشفة، الذين استخدموا مرة أخرى قاعدتهم في بتروغراد كمنصة انطلاق، شرعوا في كسب المواقع الواحد تلو الآخر، بدءا بالمناطق الصناعية الرئيسية. في يونيو دعوا إلى كونفرانس جهوي تم فيه إصدار عدد من القرارات المستوحاة من توصيات بلشفية، طالبت، من بين أمور أخرى، بفرض الرقابة العمالية على الصناعة. زعم قادة المناشفة، بنفس الطريقة التي تلجأ إليها جميع البيروقراطيات النقابية عندما تتعرض للهزيمة، أن الكونفرانس “غير شرعي”. لكنه في الواقع كان يعكس التحول العام نحو اليسار بين العمال الذين بدأوا في التحرر من تأثير القادة الإصلاحيين. اتضحت الحالة المزاجية السائدة بين العمال في حقيقة أن الكونفرانس انتخب لجنة تنفيذية جديدة احتل البلاشفة فيها موقع القيادة.

وهكذا، خطوة بخطوة، بدأ العمل الدؤوب والمنهجي الذي قام به التيار الثوري، ينتزع المواقع الواحد منها تلو الآخر من يد المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وبحلول غشت تمكن البلاشفة من الحصول على موقع قوي في النقابات الصناعية الرئيسية. يشرح أنويلر نمو البلاشفة في النقابات قائلا: «بينما لم يحصل البلاشفة في مؤتمر عموم روسيا لنقابات العمال (يونيو 1917) سوى على 36,4% فقط من الأصوات، من أصل 117 مندوبا، فإن الكونفرانس الديمقراطي الذي انعقد في شتنبر، شهد وقوف 58% إلى جانب البلاشفة، مقابل 38% للمناشفة والاشتراكيين الثوريين اليمينيين».

 وحدث تغير في الوعي حتى في نقابات العمال ذوي الياقات البيضاء والحرفيين التي عادة ما تكون محافظة. تمكن البلاشفة من كسب العديد من الأنصار داخلها، رغم أنهم استمروا أقلية. ومع ذلك فإن الأمور كانت مختلفة في الهياكل القيادية للنقابات. أدى بطء حركية الهياكل النقابية إلى أن التغيرات التي شهدتها القواعد استغرقت وقتا طويلا قبل أن تنعكس في القمة. وفي العديد من النقابات لم يتمكن البلاشفة من الحصول على القيادة إلا بعد ثورة أكتوبر. بل إن بعضها لعب دورا معاديا للثورة بشكل صريح، لا سيما نقابة موظفي البنوك ونقابة عمال السكك الحديدية لعموم روسيا، وحاولت عرقلة عمل الحكومة السوفياتية بعد الثورة.

بقي البلاشفة، حتى شهر غشت، أقلية صغيرة داخل الطبقة العاملة. كانوا أصغر مجموعة في السوفييتات. وينطبق الشيء نفسه على المجالس المحلية والنقابات. في أبريل بلغ عدد أعضاء الحزب حوالي 80.000. وبحلول غشت وصل العدد إلى 240.000[105]. لكن نفوذ الحزب بين الطبقة العاملة كان ينمو، لا سيما منذ تمرد كورنيلوف. في بعض المناطق، مثل إيفانوفو- فوزنيسينك، كان البلاشفة قد صاروا أغلبية منذ الربيع، لكن تلك الحالات كانت استثنائية. أما في الأقاليم، ولا سيما في المناطق الريفية، فقد كانت الهوة التي تفصل البلاشفة عن الأحزاب الإصلاحية هائلة.

بدت أحداث يوليوز كما لو أنها وقعت شهادة وفاة البلاشفة. لكن الحزب تمكن، في غضون أسابيع قليلة، من استعادة كل المواقع التي فقدها. كانت تكتيكات البلاشفة في النضال ضد كورنيلوف هي نقطة التحول الحاسمة، حيث حققت للبلاشفة شعبية كبيرة باعتبارهم المقاتلين الأكثر حزما وحيوية ضد الثورة المضادة، وقضت نهائيا على الافتراءات ضدهم بكونهم “معادين للثورة” و“عملاء للألمان”. بدأ المد يتدفق بقوة لصالح البلاشفة لدرجة أصبح من الواضح أن الحكومة المؤقتة عاجزة عن حل أي مشكلة من المشاكل الملحة التي تواجه الشعب الروسي، وأن القادة الإصلاحيين كانوا مجرد عملاء للرأسماليين. اكتسب شعار البلاشفة: “السلام والخبز والأرض” قاعدة أوسع من أي وقت مضى.

بحلول أواخر غشت وأوائل شتنبر، أصبح البلاشفة القوة الجماهيرية الرئيسية، ليس فقط في بتروغراد وموسكو، بل وفي الأقاليم أيضا. وعلى الرغم من أن الحزب استمر صغيرا نسبيا في ما يخص العضوية، فقد كان لكل عضو علاقة مع 20 أو 30 أو 50 عاملا وجنديا يعتبرون أنفسهم بلاشفة. في ظل تلك الظروف، عندما كان المد يتدفق بقوة لصالح التيار الثوري، كان حتى الاضطهاد يخدمه كحافز للنمو. والعمال الذين ينظمون الإضرابات من أجل الحصول على أجور أعلى، مما يعرضهم لحملة من الاستهجان من قبل الصحافة البرجوازية التي كانت تهاجمهم باعتبارهم بلاشفة، بدأوا يقتنعون تماما بعدالة قضية البلاشفة، على الرغم من أنهم لم يكونوا قد قرأوا ولو سطرا واحدا من كتابات لينين. كان التيار البلشفي ينمو لسبب بسيط هو أن سياساته وشعاراته كانت تتوافق بشكل وثيق مع احتياجات وتطلعات العمال والفلاحين.

«خلال الكونفرانس السابع لعموم روسيا، في الأسبوع الأول من شهر ماي[106]، حضر 149 مندوبا يمثلون 79.204 عضو حزبي. كانت أكبر التجمعات هي تلك القادمة من إقليمي بتروغراد والأورال (أكثر من 14.000 لكل منهما)، مع حضور مهم لإقليم موسكو (7.000 عضو) وحوض دونيتس (5.000 عضو). زادت قوة الحزب بسرعة خلال الأشهر القليلة التالية. وفي غشت أخبر سفيردلوف المؤتمر السادس أن عدد المنظمات ارتفع من 78 إلى 162، وقدر القوة الكلية للحزب بـ200.000 عضو. لا تتوفر معلومات حول عدد أعضاء الحزب بحلول نوفمبر، لكن من المفترض أنه قد حدثت زيادة أخرى، حيث إن البيانات غير المكتملة المتاحة لسكرتارية اللجنة المركزية حول عضوية المنظمات تظهر حدوث زيادة في عدد من المنظمات بعد شهر غشت»[107].

انعكس نمو الحزب في عدد كبير من الإحصائيات. تحقق النصر الأول في لجان المصانع. كان ذلك الأمر مهما لأن لجان المصانع هي المنظمات التي تعكس بشكل وثيق المزاج الحقيقي للعمال في أماكن العمل. ازدهرت لجان المصانع بشكل فوري بعد ثورة فبراير، باعتبارها استمرارا للجان الإضراب. كانت في طليعة النضال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات، والذي كثيرا ما نفذه العمال بمبادرة ذاتية منهم. لقد استقبلت لجان المصانع مطلب الرقابة العمالية الذي رفعه البلاشفة بتأييد كبير، وعملت على فرضه في العديد من الشركات حيث مارست الرقابة على عمليات التوظيف والتسريح وتشكيل ميليشيات عمالية ومكافحة محاولات أرباب العمل تخريب الإنتاج.

انعقد أول مؤتمر للجان المصانع في بتروغراد، خلال الفترة الممتدة ما بين 30 ماي و03 يونيو. شهد ذلك المؤتمر صداما مريرا بين البلاشفة والمناشفة حول دور ومهام اللجان. كان المناشفة يعارضون بطبيعة الحال الرقابة العمالية التي تتعارض مع كامل مفهومهم عن الطبيعة البرجوازية للثورة وحق البرجوازيين في الحكم. لكن المؤتمر صادق على القرار البلشفي. شارك لينين في ذلك المؤتمر وصاغ القرار “حول تدابير مواجهة الاضطراب الاقتصادي”، الذي تمت المصادقة عليه بأغلبية كبيرة. ابتداء من صيف 1917 صارت لجان المصانع في بتروغراد وموسكو والأورال بلشفية بشكل راسخ.

كانت هناك الكثير من الأدلة الأخرى على أن البلاشفة يكسبون المواقع. فحتى في انتخابات المجالس البلدية، كان البلاشفة يحصلون على نتائج مذهلة. خلال الانتخابات المحلية التي أجريت في غشت، في بتروغراد، زادوا عدد مقاعدهم من 37 إلى 67، واحتلوا المركز الثاني خلف الاشتراكيين الثوريين الذين حققوا 75 مقعدا. حصل الكاديت على 42 مقعدا، لكن المناشفة شهدوا انخفاض عدد مقاعدهم من 40 إلى 08 فقط. هذا يظهر بوضوح الميل القوي نحو اليسار. والشيء الأكثر إثارة للدهشة كان هو نتائج الانتخابات المحلية في موسكو. يقارن الجدول التالي تلك النتائج بنتائج انتخابات يونيو:

 عدد الأصواتالنسبة المائوية
الأحزابيونيوشتنبريونيوشتنبر
الاشتراكيون الثوريون374.88554.37458%14%
المناشفة76.40715.88712%04%
الكاديت168.781101.10617%26%
البلاشفة75.409198.23012%51%
جدول يوضح نتائج الانتخابات المحلية بموسكو حسب الشهور
 (المصدر:  O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, p: 188.)

هذا مهم لأنه كانت تلك أول مرة يحصل فيها البلاشفة على أغلبية مطلقة من الأصوات. تشير أرقام شهر يونيو إلى انتخابات مجلس دوما مدينة موسكو، في حين تشير أرقام شهر شتنبر إلى انتخابات المقاطعات. وفي هذه الأخيرة لم تكن المشاركة عالية جدا (50%). ومع ذلك فإن هذا لا يقلل من أهمية النتيجة المحققة. يجب ألا ننسى أن انتخابات البرلمان والمجالس المحلية ليست المجال الأكثر ملاءمة بالنسبة للحزب الثوري. يكون من الأسهل على الحزب الثوري عموما الحصول على نتائج أفضل في انتخابات النقابات أو لجان المصانع. وقد كان هذا هو الحال بشكل خاص في روسيا عام 1917، عندما كان انتباه الجماهير مركزا على السوفييتات. لكن ورغم ذلك، فإنه من أجل الوصول إلى أوسع فئات المجتمع، لم يتجاهل البلاشفة حتى الانتخابات المحلية. كانت نتيجة انتخابات موسكو ذات أهمية كبيرة لأنهم تمكنوا لأول مرة من الفوز بأغلبية مطلقة في مركز حضري مهم.

في بيترسبوغ كان نفس الاتجاه واضحا، وإن لم يكن بنفس الدرجة التي كان عليها في موسكو. ما بين غشت ونوفمبر ارتفعت الأصوات التي حصل عليها البلاشفة من 184.000 إلى 424.000؛ في حين انخفضت أصوات الاشتراكيين الثوريين من 206.000 إلى 152.000، وارتفعت أصوات الكاديت من 114.000 إلى 274.000. المثير للدهشة هو أن المناشفة زادوا بدورهم من عدد أصواتهم من 24.000 إلى 29.000، لكن هذا التقدم النسبي لم يكن ليخفي حقيقة أنهم كانوا قد أصبحوا أقلية صغيرة آنذاك وأنهم توقفوا عمليا عن أن يكونوا قوة حقيقية داخل الطبقة العاملة في العاصمة.

تكتيكات الانتفاضة

من كوخه في رازليف، كان لينين يتابع باهتمام شديد سيرورة الثورة، ويلتهم جميع التقارير والإحصاءات والروايات، وأي شيء يمكنه أن يساعد في فهم المسألة الأكثر أهمية وهي متى يجب على الحزب أن يضرب؟ وباستخدامه لطريقته الدقيقة المعتادة قام لينين بدراسة نتائج كل الانتخابات وكل الأصوات في السوفييتات والنقابات ومجالس المدن، في محاولة منه لمعرفة ما الذي تعنيه بالنسبة لميزان القوى الطبقية. لم ينس لينين ولو للحظة أن إحصاءات الانتخابات تقدم علاقة القوى بطريقة جزئية ومشوهة، لكن كل شيء كان يشير إلى تقدم سريع للحزب الثوري. كانت ذكرى تمرد كورنيلوف ما تزال حية في أذهان العمال والجنود، وكان خطر الثورة المضادة قد أثار استقطابا وتجذرا سريعين داخل السوفييتات. في كل مكان كانت هناك انتخابات جديدة في السوفييتات ومنظمات الجنود في الجبهة. وفي جميعها تقريبا، سجل التصويت لصالح البلاشفة تقدما مذهلا. كانت السلطة تنزلق من بين أيدي الزعماء اليمينيين الذين أظهروا عجزهم الكامل خلال حالة الطوارئ. بدأت السوفييتات في المراكز الصناعية الرئيسية (بتروغراد، فنلندا، الأسطول، الجيوش الشمالية، موسكو والمنطقة الصناعية الوسطى، الأورال) تغير، الواحد منها تلو الآخر، ولاءها من المناشفة والاشتراكيين الثوريين نحو البلاشفة.

صحيح أن الصورة لم تكن منسجمة. فالاشتراكيون الثوريون استمروا مسيطرين على سوفييتات الفلاحين والجنود في الجبهة. لكن هناك أيضا بدأت تتطور سيرورة فرز داخلي. بدأ تيار يساري يتطور بسرعة داخل الحزب الاشتراكي الثوري، وصار يتجه نحو الانشقاق والاصطفاف إلى جانب البلاشفة. كان الجناح اليميني للحزب الاشتراكي الثوري أقوى في منطقة الأرض السوداء ومنطقة الفولغا الوسطى. أما في أوكرانيا فقد تقاسموا السيطرة مع القوميين اليساريين. أما المناشفة فقد كانوا يفقدون المواقع في كل مكان. لم يتمكنوا من الحفاظ على النفوذ الذي كان لديهم على سوفييتات عموم روسيا عند بداية الثورة، سوى في معقلهم التقليدي، القوقاز. كان هذا هو ميزان القوى الذي حدد خطوة لينين التالية. لقد أصبح البلاشفة الآن القوة الحاسمة داخل السوفييتات. كان القادة الإصلاحيون معزولين ومحاصرين في ملجأهم الأخير، أي اللجنة التنفيذية السوفياتية. ألم يحن الوقت لحسم الأمور، لتوجيه الضربة الحاسمة؟

كان لينين مقتنعا بأن الوقت قد حان، وأن أي تأخير قد يكون قاتلا. لكن بقية قادة الحزب الآخرين لم يكونوا يفكرون على نفس المنوال. كانت قيادة الحزب ما تزال متأثرة بشدة بهزيمة يوليوز، وتميل إلى الحذر المفرط. وزينوفييف، الذي كان يتبع خط لينين دائما، اهتز بشدة وصار يتشبث الآن بكامينيف، الذي سلك، كالعادة، طريق “الاعتدال”. بدأ لينين منذ بداية شتنبر يقصف اللجنة المركزية بالرسائل، مطالبا إياها بإصرار البدء في تنظيم الانتفاضة. وفي رسالة له إلى اللجنة المركزية، بتاريخ 12-14 (25-27) شتنبر، افتتح بالكلمات التالية: «إن البلاشفة، بعد حصولهم على الأغلبية في سوفييتات نواب العمال والجنود في كلا العاصمتين، يمكنهم ويجب عليهم أن يأخذوا سلطة الدولة بأيديهم»[108].

سقطت رسالة لينين كالقنبلة. شعر أعضاء اللجنة المركزية بالصدمة من محتواها ونبرتها إلى درجة أنهم قرروا اتلافها، كما ذكر بوخارين لاحقا: «عندما دخلت، جاء ميلوتين فجأة لمقابلتي وقال: “أنت تعلم، أيها الرفيق بوخارين، لقد تلقينا رسالة صغيرة هنا”. قمنا بقراءة الرسالة. جميعنا بدأنا نلهث. لم يكن أحد قد طرح المسألة بهذه الحدة بعد. لا أحد كان يعلم ما الذي ينبغي فعله. كان الجميع في حيرة لفترة من الوقت. ثم تداولنا وتوصلنا إلى قرار. وربما كانت هذه هي المرة الوحيدة في تاريخ حزبنا التي قررت فيها اللجنة المركزية حرق رسالة للرفيق لينين»[109].

وتتالت الرسائل، وكانت كل واحدة منها أكثر إلحاحا من سابقتها: «ماذا نفعل؟ نحن نكتفي فقط بإصدار القرارات. نحن نضيع الوقت. لقد حددنا “تواريخ” (20 أكتوبر، مؤتمر السوفييتات. أليس من السخيف تأجيله لفترة طويلة؟ أليس من السخف الاعتماد على ذلك؟). في ظل هذه الظروف سيكون “انتظار” مؤتمر السوفييتات وما شابه، بمثابة خيانة للأممية، وخيانة لقضية الثورة الاشتراكية العالمية.

يجب علينا… أن نعترف بحقيقة أن هناك تيارا، أو رأيا، داخل لجنتنا المركزية وبين قادة حزبنا يفضل انتظار مؤتمر السوفييتات، ويعارض الاستيلاء على السلطة على الفور، يعارض انتفاضة فورية. يجب التغلب على هذا التيار، أو الرأي، وإلا فإن البلاشفة سوف يغطون أنفسهم بالعار الأبدي ويدمرون أنفسهم كحزب. إن تفويت مثل هذه اللحظة و“انتظار” مؤتمر السوفييتات سيكون حماقة مطلقة أو خيانة محضة».

وأخيرا اضطر لينين، المستاء من تكتيكات التأخير داخل اللجنة المركزية، إلى التهديد بالاستقالة منها وحمل النضال إلى قواعد الحزب: «حيث أن اللجنة المركزية لم تجب على تلك النداءات المستمرة التي أطلقتُها لمثل هذه السياسة منذ بداية المؤتمر الديمقراطي، وبالنظر إلى حقيقة أن اللجنة المركزية تحذف من مقالاتي كل الإشارات إلى تلك الأخطاء الصارخة التي ارتكبها البلاشفة، مثل القرار المخزي بالمشاركة في البرلمان التمهيدي، وقبول المناشفة في رئاسة مجلس السوفييتات، إلخ، الخ.. فإني مضطر إلى اعتبار ذلك تلميحا “خفيا” لعدم رغبة اللجنة المركزية حتى ولو النظر في هذه المسألة، وتلميح خفي إلى أنه يجب علي أن أغلق فمي، وكاقتراح لي بأن أتقاعد.

أنا مجبر على تقديم استقالتي من اللجنة المركزية، وإذ أقوم بذلك أحتفظ لنفسي بحرية ممارسة الحملة بين قواعد الحزب وفي مؤتمر الحزب. لأنني مقتنع عميق الاقتناع بأنه إذا “انتظرنا” حتى مؤتمر السوفييتات وتركنا اللحظة الحالية تمر، فسوف نتسبب في تدمير الثورة»[110].

أزمة القيادة

كان السبب الحقيقي وراء إصرار لينين على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية هو خوفه من تردد قادة الحزب وامتناعهم عن التحضير للاستيلاء على السلطة وبالتالي إضاعة الفرصة. وبمجرد ما ستضيع الفرصة قد يستغرق الأمر سنوات عديدة لكي تسنح مجددا. وهذا بالضبط هو سبب ضرورة وجود الحزب والقيادة الثورية. ربما كان لينين يشك في عضوي اللجنة المركزية الجديدين، يوفي وأوريتسكي، اللذان جاءا مع ميزرايونتسي ولم يكن يعرفهما. كان يتساءل ما إذا كانا من أنصار النزعة التوفيقية؟ وما إذا كان تروتسكي سيتفق مع كامينيف وزينوفييف؟ إلا أنه كان مخطئا في عدم ثقته في عضوي اللجنة المركزية الجديدين، إذ أنهما، مثل تروتسكي، وقفا بثبات على اليسار. لكن المقاومة الشرسة التي خاضها رفاقه القدامى كامينيف وزينوفييف، وكذلك ستالين وإن بحذر أكبر، كانت ضربة موجعة له.

عند كل نقطة تحول حاسمة كانت تحدث خلافات حادة وجدال شديد بين أعضاء القيادة. وقد اندلع مثل ذلك الجدال حول مسألة المشاركة في الكونفرانس الديمقراطي. كان ذلك الكونفرانس مناورة من جانب المناشفة والاشتراكيين الثوريين داخل اللجنة التنفيذية المركزية للسوفييتات عندما شعروا بأن السلطة بدأت تنزلق من بين أيديهم. من الناحية النظرية كان السبب وراء دعوة اللجنة التنفيذية لعقد الكونفرانس هو البت في مسألة السلطة، لكنه في الواقع كان يرمي لذر الرماد في أعين الجماهير وتحويل الانتباه عن المد الثوري المتصاعد وتحريف المسار نحو الخطب والمشاريع العقيمة. بذل القادة الإصلاحيون قصارى جهدهم لتقليص تمثيلية العمال والفلاحين، وأغرقوا الكونفرانس بالعناصر البرجوازية الصغيرة. كانوا يحاولون إنشاء بديل للسوفييتات التي كان نفوذهم فيها يتراجع كل ساعة. ومما أثار اشمئزاز لينين أن اللجنة المركزية البلشفية صوتت لصالح المشاركة في تلك المسرحية وحثت المنظمات الحزبية على «بذل قصارى جهدها لتشكيل أكبر مجموعة ممكنة من المندوبين من أعضاء حزبنا»[111].

كان لينين متشككا جدا في هذا القرار، لكنه وافق عليه على مضض، شريطة أن ينفصل البلاشفة بشكل واضح عن جميع التيارات الأخرى ويقرأوا بيانا يفضحون فيه قادة السوفييتات. وقد جاء في ذلك البيان: «إن حزبنا، في سياق نضاله من أجل السلطة من أجل تحقيق برنامجه، لم يرغب أبدا ولا يرغب في أن يستولي على السلطة ضد الإرادة المنظمة لأغلبية الجماهير الكادحة في البلد».

وعن هذا البيان كتب تروتسكي قائلا: «هذا يعني أننا سنأخذ السلطة باعتبارنا حزب الأغلبية داخل السوفييتات. وتشير تلك الكلمات حول “الإرادة المنظمة للجماهير الكادحة” إلى مؤتمر السوفييتات القادم. وقال البيان: “وحدها قرارات ومقترحات الكونفرانس الحالي… هي التي يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ، كما يعترف بذلك مؤتمر سوفييتات عموم روسيا…”»[112].

في الواقع لقد كان قرار المشاركة في الكونفرانس الديمقراطي خطأ، كما أكد لينين لاحقا، لكنه كان خطأ بسيطا نسبيا، ويمكن تصحيحه بسهولة. كان الخطأ الأخطر هو موافقة الوفد البلشفي في الكونفرانس على المشاركة في ما سمي بجهاز “ما قبل البرلمان” (Pre-parliament) الذي تم الاتفاق على إنشاءه هناك. كان ذلك خطأ فادحا. كانت تلك الخطوة الهادفة لإنشاء “حكومة تصريف أعمال” محاولة مفضوحة من قبل القادة الإصلاحيين لخلق الانطباع بأن روسيا قد صار لديها الآن نظام برلماني، في حين أن جهاز “ما قبل البرلمان” كان مجرد ملحق للحكومة البرجوازية المؤقتة مع حقوق استشارية فقط. كان من الواضح أنها مناورة رجعية، ومع ذلك فقد صوت المندوبون البلاشفة بأغلبية 77 مقابل 50 لصالح المشاركة فيه. تسببت هذه الخطوة في حدوث انقسام داخل اللجنة المركزية، حيث قاد تروتسكي النضال من أجل مقاطعة “ما قبل البرلمان”. أما لينين، الذي كان قلقا بالفعل من أن القادة البلاشفة يضيعون الوقت، فقد أصيب بالغضب والإحباط الشديدين. أصر بشدة على أن ينسحب البلاشفة من “ما قبل البرلمان” ويكرسوا كل طاقاتهم للإعداد الانتفاضة.

وكتب في حاشية المقالة التي أعلن فيها عن أن المشاركة في الكونفرانس الديمقراطي كانت خطأ وطالب بانسحاب البلاشفة من “ما قبل البرلمان”: «لقد دعا تروتسكي إلى المقاطعة. أحسنت أيها الرفيق تروتسكي! لكن المقاطعة هُـزمت داخل المجموعة البلشفية بالكونفرانس الديمقراطي. تعيش المقاطعة!

لا يمكننا أن نوافق ويجب علينا ألا نوافق، تحت أي ظرف من الظروف، على المشاركة. إن المجموعة المشاركة في أحد الكونفرانسات ليست هي أعلى جهاز للحزب، بل وحتى قرارات الهيئات العليا للحزب يمكنها أن تخضع للمراجعة على أساس التجربة.

يجب علينا أن نسعى جاهدين وبأي ثمن إلى حل مسألة المقاطعة في جلسة عامة للجنة التنفيذية وفي مؤتمر استثنائي للحزب. يجب أن تصبح مسألة المقاطعة الآن أرضية لانتخابات المؤتمر ولجميع الانتخابات داخل الحزب. يجب أن نجذب الجماهير إلى مناقشة هذه المسألة. يجب على العمال الواعين طبقيا أن يأخذوا الأمر بين أيديهم وأن ينظموا المناقشة ويمارسوا الضغط على “من هم في القمة”.

ليس هناك أدنى شك في أنه توجد في “قمة” حزبنا تذبذبات ملحوظة قد تصبح مدمرة، لأن الصراع يتطور. وفي ظل ظروف معينة، عند لحظة معينة، قد تؤدي التذبذبات إلى تدمير القضية. يجب علينا أن نعبئ كل قواتنا للنضال، يجب علينا أن نتمسك بالخط الصحيح لحزب البروليتاريا الثورية قبل فوات الأوان.

ليس كل شيء على ما يرام مع القادة “البرلمانيين” لحزبنا؛ يجب إيلاء اهتمام أكبر لهم، يجب أن يكون هناك إشراف أكبر عليهم من جانب العمال؛ يجب تحديد كفاءة المجموعات البرلمانية بشكل أوضح.

إن خطأ حزبنا واضح. ينبغي على حزب الطبقة الطليعية المكافح ألا يخاف من الأخطاء. ما ينبغي عليه أن يخشاه هو الإصرار على الخطأ، ورفض الاعتراف بالخطأ ورفض تصحيحه بدافع من الإحساس الزائف بالعار»[113].

وأخيرا (لكن ليس من دون صراع حاد داخل اللجنة المركزية حيث عارض كامينيف الانسحاب من “ما قبل البرلمان”) تم القبول بتوصية لينين وانسحب البلاشفة منذ اليوم الأول، بعد أن قرأوا أولا بيانا انتهى بشعار: “عاش النضال المباشر والمفتوح من أجل السلطة الثورية في البلد!”.

في اليوم السابق على قيادة تروتسكي للبلاشفة خارج “ما قبل البرلمان”، اجتمعت اللجنة المركزية، بضغط من لينين، لمناقشة مسألة الانتفاضة مرة أخرى. وبالنظر إلى الأهمية البالغة للوضع، فإن لينين جاء من فنلندا، متنكرا بشعر مستعار، لكن لم يكن هناك أي شيء كوميدي أو مسرحي في ذلك النقاش، الذي عليه كان يتعلق مصير الثورة. شن لينين هجوما ساحقا على أنصار النزعة التوفيقية داخل اللجنة المركزية، وقد جاء في المحضر ما يلي: «يؤكد الرفيق لينين على أن نوعا من اللامبالاة تجاه مسألة الانتفاضة كان ملحوظا منذ بداية شتنبر. لكن هذا غير مقبول إذا كنا قد رفعنا شعار استيلاء السوفييتات على السلطة بكل جدية. لذا فقد حان الوقت للانتباه إلى الجانب التقني للمسألة. يبدو أن الكثير من الوقت قد ضاع بالفعل»[114].

ويتابع سرد الأسباب التي تدعو البلاشفة إلى حسم السلطة دون تأخير. من المعبر أنه قد أشار أولا إلى الوضع الأممي، حيث أخبار التمردات في الأسطول الألماني وإضرابات العمال التشيكيين والمظاهرات والمتاريس في إيطاليا، تشير إلى أن ظروف الثورة بدأت تنضج على نطاق عالمي. كتب لينين في “رسالة إلى الرفاق البلاشفة” قائلا: «ألقوا نظرة على الوضع الأممي. إن تطور الثورة العالمية أمر لا خلاف عليه»[115].

كان التأخير غير مسموح به لأن مصير الثورة كان على المحك. إما أن يستولي البلاشفة على السلطة، أو أن كيرينسكي سينتقل إلى الهجوم على السوفييتات. قد تتعرض بتروغراد الحمراء للحصار من جانب الألمان، وسيتم تأجيل الجمعية التأسيسية إلى أجل غير مسمى: «إن ما يتم القيام به لتسليم الأراضي بنارفا ومن أجل استسلام بتروغراد يجعل الأمر أكثر إلحاحا بالنسبة لنا لاتخاذ إجراءات حاسمة». ومرة أخرى وجه نفس التحذير: إن الجماهير قد سئمت من الكلمات والقرارات، وستبدأ في اعتبار البلاشفة وكأنهم مثلهم مثل جميع الأحزاب الأخرى إذا هم لم يتحركوا لحسم السلطة: «الغياب واللامبالاة من جانب الجماهير راجع لتعبها من الكلمات والقرارات. لدينا الآن الأغلبية وراءنا. ومن الناحية السياسية الوضع ناضج تماما لحسم السلطة»[116].

كيف يمكن أن نفسر الأزمات والتذبذبات التي ظهرت بين صفوف القيادة البلشفية خلال عام 1917؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إذا ما انطلقنا من تصور مثالي عن الحزب البلشفي. قال تروتسكي: «كيف يعقل أن لينين، الذي سبق لنا أن رأيناه في بداية أبريل معزولا بين قادة حزبه، يجد نفسه مرة أخرى وحيدا بين نفس المجموعة في شتنبر وأوائل أكتوبر؟ لا يمكنك فهم هذا إذا كنت تصدق تلك الأسطورة الغبية التي تصور تاريخ البلشفية وكأنه انبثاق للفكرة الثورية المطلقة. لقد تطورت البلشفية، في الواقع،  في بيئة اجتماعية محددة تخضع لتأثيراتها غير المتجانسة ومن بينها تأثير البيئة البرجوازية الصغيرة والتخلف الثقافي. وعند كل موقف جديد لم يكن الحزب يكيف نفسه إلا من خلال المرور بأزمة داخلية»[117].

إنه بمثابة قانون أنه مع اقتراب موعد الانتفاضة تتعرض قيادة الحزب الثوري لضغوط شديدة من جانب الطبقات الأخرى، ويبدأ قسم من تلك القيادة في التذبذب. وليس من الصعب العثور على سبب ذلك. إذ ليس من السهل القيام بتقييم دقيق لمزاج الجماهير. وبالنظر إلى المسؤولية الهائلة التي تقع على كاهل القيادة في مثل هذه اللحظة، والمخاطر الكبرى التي ينطوي عليها كل قرار وضغط “الرأي العام” البرجوازي وشد الأعصاب إلى نقطة الانهيار، تظهر جميع نقاط الضعف عارية. لكنه من غير المسموح بالضعف والتذبذب عشية الانتفاضة.

مؤتمر السوفييتات

الدفاع والهجوم، من وجهة نظر المنطق الصوري، متناقضان بشكل مطلق. لكنهما، في الممارسة العملية، غالبا ما يتحولان إلى بعضهما البعض، حيث يمكن لنضال دفاعي أن يتحول، في ظل ظروف معينة، إلى نضال هجومي، والعكس صحيح. هناك العديد من نقاط التشابه بين الحروب بين الأمم وبين الحروب بين الطبقات. لكن هناك اختلافات أيضا. الجيش البرجوازي الدائم يتم إعداده وتمويله وتسليحه طيلة عقود استعدادا للحرب. ويمكن لهيئة الأركان العامة اختيار متى وأين تبدأ المواجهات. لكن حتى في هذا النوع من الحروب لا تكون المسألة مسألة عسكرية بحتة. لقد سبق لكلاوزفيتز أن أوضح أن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. إن الأعمال العسكرية للحكومات البرجوازية تحددها المصالح الطبقية للبرجوازية. ولهذا السبب يؤكد الماركسيون دائما أنه لا أهمية للبحث في مسألة من أطلق الرصاصة الأولى لفهم طبيعة حرب ما.

تحاول كل حكومة دائما في كل حرب تحميل مسؤولية اندلاعها للعدو. ليس هذا حادثا عرضيا ولا نزوة. ليست الحرب مجرد مسألة عسكرية فقط، بل هي مسألة سياسية أيضا. إن حشد الرأي العام في الداخل والخارج لدعم الحرب مسألة أساسية لا يمكن حلها إلا على المستوى السياسي. وقد سبق لنابليون أن أوضح أن أهمية الروح المعنوية في الحروب مقارنة مع أهمية الجوانب المادية هي ثلاثة إلى واحد. وبالتالي فإن المهمة الأساسية للدبلوماسية هي إقناع الرأي العام بأن جيشه قد تحرك للدفاع عن النفس فقط وردا على استفزاز غير محتمل واعتداء من جانب العدو، وما إلى ذلك. الحكومة التي لا تتصرف بهذه الطريقة ترتكب خطأً فادحا، وتتسبب في أضرار جسيمة لجهودها الحربية.

يصدق هذا أكثر بألف مرة عندما يتعلق الأمر بالثورة الاشتراكية. إن البروليتاريا، على عكس الطبقة السائدة، لا تمتلك جيشا، ولا يمكنها أن تمتلك قوة مسلحة قادرة على إلحاق الهزيمة بقوات الدولة البرجوازية ما دامت هذه الأخيرة سليمة. وفي حين أن الحرب التقليدية تكون في الأساس مسألة عسكرية، حيث لا تلعب الدبلوماسية إلا دورا ثانويا رغم أهميته، فإن مهمة الثورة الاشتراكية هي في الأساس مهمة سياسية لكسب الجماهير والقوات المسلحة. الأدوار معكوسة هنا.

تبدأ الغالبية العظمى من نضالات الطبقة العاملة، في الواقع، باعتبارها نضالات دفاعية: نضالات للدفاع عن مستويات المعيشة، عن مناصب الشغل، عن الحقوق الديمقراطية، إلخ. لكن في ظل ظروف معينة، وخاصة مع وجود القيادة الصحيحة، يمكن لهذه النضالات الدفاعية أن تمهد الطريق لنضال هجومي، بما في ذلك الإضراب العام، الذي يطرح مسألة السلطة. ومع ذلك فحتى في سياق الثورة، من الضروري تحميل الطبقة السائدة كل المسؤولية عن أعمال العنف، من أجل كسب الجماهير، ليس فقط الطبقة العاملة، بل وأيضا البرجوازية الصغيرة. وبالتالي فإنه ليس من الصحيح فحسب، بل ومن الضروري للغاية أن يتم تقديم الحركة في صورة دفاعية. وقد كتب لينين في يونيو، قائلا: «يجب أن تكون البروليتاريا الاشتراكية وحزبنا رزينين ومتحدين قدر الإمكان، ويجب أن يظهروا أكبر قدر من الصبر واليقظة. فلنترك كافيناكيي المستقبل يبادرون أولا. كونفرانس حزبنا كان قد حذر بالفعل من وصولهم. لن يمنحهم عمال بتروغراد أي فرصة للتنصل من المسؤولية. إن العمال سيستغلون وقتهم ويجمعون قواتهم، ويستعدون للمقاومة عندما سيقرر هؤلاء السادة التحول من الأقوال إلى الأفعال»[118].

وتاريخ الثورة الروسية، قبل وأثناء وبعد أكتوبر، يكفي لإثبات ذلك. عشية ثورة أكتوبر كان هناك اختلاف في الرأي بين لينين وتروتسكي بشأن التاريخ المناسب للانتفاضة. أراد لينين الانتقال مباشرة إلى الاستيلاء على السلطة في شتنبر، في حين كان تروتسكي يؤيد تأجيل الانتفاضة حتى مؤتمر السوفييتات. لماذا اتخذ تروتسكي هذا الموقف؟ هل كان يعاني من نقص في الجرأة؟ كلا على الاطلاق. لقد فهم تروتسكي أنه حتى في الثورة تكون مسألة الشرعية مهمة للغاية بالنسبة للجماهير. كان تروتسكي على يقين من أن البلاشفة سيحصلون على الأغلبية في المؤتمر، وبالتالي يمكنهم أن يظهروا أمام الجماهير بكونهم سلطة شرعية في المجتمع. لم تكن تلك مسألة ثانوية، بل كانت عاملا حاسما في تحقيق انتقال سلمي للسلطة. ومرة أخرى لم يكن العنصر الحاسم عسكريا، بل سياسيا. وبالمناسبة فقد قدم البلاشفة انتفاضة أكتوبر كعمل دفاعي للحيلولة دون انزلاق روسيا إلى الفوضى والحرب الأهلية. وهذا ليس مصادفة. فحتى عندما تكون في وضع يسمح لك بالهجوم (وهو الشيء الذي لا يتسنى دائما، بل العكس)، يكون من الضروري دائما التصرف والتحدث كما لو كنت تخوض نضالا دفاعيا، وتحميل كل المسؤولية للعدو.

عارض كامينيف وزينوفييف الاستيلاء على السلطة لأنهما تأثرا بضغط الرأي العام البرجوازي وفقدا أعصابهما. إن الميل إلى المبالغة في تقدير قوة العدو والتقييم المتشائم للإمكانيات الكفاحية للطبقة العاملة، سمة مميزة لهذا النوع من العقليات. كان التأجيل بالنسبة لهم، يعني التأجيل إلى الأبد. وقد اتضح موقف كامينيف من خلال محادثة كان قد أجراها مع راسكولنيكوف قبل أسابيع قليلة من الانتفاضة: «عندما التقيت بصديقي القديم ل. ب. كامينيف، انخرطت على الفور في مناقشة معه حول “خلافاتنا”. كانت نقطة انطلاق حجة ليف بوريسوفيتش هي أن حزبنا لم يكن مستعدا بعد لقيادة الانتفاضة. صحيح أنه لدينا جماهير كبيرة من مختلف الشرائح ورائنا، ويصادقون بسهولة على قراراتنا، لكن ما يزال هناك طريق طويل لقطعه للانتقال من التصويت “الورقي” إلى المشاركة النشطة في الانتفاضة المسلحة. لم يكن من المؤكد أن حامية بتروغراد ستظهر حازمة في المعركة، ومستعدة للقتال أو الموت. وعند أول ظرف حرج سيهجرنا الجنود وسيهربون.

وأضاف الرفيق كامينيف: أما الحكومة، من جهة أخرى، فتمتلك قوات رائعة التنظيم تحت تصرفها، مخلصة لقضيتها، من القوزاق والكاديت الذين تمت تعبئتهم بشكل جيد ضدنا وسيقاتلون بحماس حتى النهاية.

وبالاعتماد على كل هذه الاستنتاجات المتشائمة حول فرصنا في النصر، توصل الرفيق كامينيف إلى وجهة النظر القائلة بأن محاولة فاشلة للانتفاضة ستؤدي إلى الهزيمة وانهيار حزبنا، الأمر الذي سيعيدنا إلى الوراء وسيؤخر لفترة طويلة تطور الثورة»[119].

كان لينين شديد الإصرار على ضرورة الاستيلاء على السلطة على الفور، لأنه كان يخشى، لأسباب وجيهة، من أن يتسبب البلاشفة التوفيقيون في إضاعة الفرصة تماما. لكن اعتراضه على تأجيل الانتفاضة حتى مؤتمر السوفييتات لم يكن صحيحا. لقد دعم تروتسكي هذا التأجيل ليس فقط لكسب العناصر المتذبذبة داخل اللجنة المركزية، بل كذلك لأسباب تكتيكية وجيهة. كان غالبية العمال والجنود ما يزالون يثقون في سلطة السوفييتات. كانوا سيدعمون الاستيلاء على السلطة إذا ما تم باسم السوفييتات، لكنهم لم يكونوا ليدعموه بالضرورة لو تم باسم البلاشفة وحدهم. لذلك كان يجب أن تتزامن الانتفاضة مع مؤتمر السوفييتات، حيث كان البلاشفة وحلفاؤهم متأكدين من الفوز بالأغلبية. كان لينين يشك في هذا التكتيك. كان يتساءل ما إذا لم يكن مجرد مثال آخر لسياسة المراوغة والغباء البرلماني الشرعي؟

ومع ذلك فقد كان موقف تروتسكي صحيحا بلا شك. لقد أدرك الحاجة لمواصلة العمل من أجل كسب السوفييتات حتى لحظة الانتفاضة، وذلك من أجل حشد أقصى القوى للانتفاضة، وتقليل المقاومة. لذلك أيد، رغم معارضة لينين، تأجيل الانتفاضة لتتزامن مع مؤتمر السوفييتات حيث سيفوز البلاشفة بالأغلبية. وهكذا فحتى في سياق الانتفاضة نفسها، يبقى لمسألة الشرعية موقع جد مهم، وتلعب دورا حاسما في كسب الفئات الخاملة من الجماهير. اندلعت الانتفاضة، كما اقترح تروتسكي، بالتزامن مع المؤتمر. لكن هذا لم يمنع بالطبع الستالينيين من الادعاء بأن اقتراح تروتسكي «يعني في الممارسة تخريب الانتفاضة والسماح للحكومة المؤقتة بتعبئة قواتها لسحق الانتفاضة خلال اليوم الذي افتتح فيه المؤتمر»[120].

بناء على إصرار لينين اتخذت اللجنة المركزية قرار تنظيم الانتفاضة في 10 أكتوبر. يبدو من الواضح أن لينين كان ينوي الاستفادة من مؤتمر سوفييتات المنطقة الشمالية، الذي انعقد في بتروغراد في الفترة من 11 إلى 13 أكتوبر، لبدء الانتفاضة. وبحسب البلشفي اللاتفي، لاتسيس، فإن الخطة كانت أن يعلن المؤتمر الشمالي نفسه بكونه حكومة، وهذه ستكون البداية. كان ذلك واحدا من العديد من المؤتمرات الإقليمية للسوفييتات التي عقدت للتحضير لمؤتمر سوفييتات عموم روسيا. سيطر اليسار على المؤتمر: 51 البلاشفة، 24 من الاشتراكيين الثوريين اليساريين، أربعة من الماكسيماليين (منظمة إرهابية صغيرة منشقة عن الاشتراكيين الثوريين)، ومنشفي أممي واحد، وفقط عشرة اشتراكيين ثوريين وأربعة مناشفة، والذين سرعان ما انسحبوا. كان من المقرر في البداية عقد المؤتمر في هيلسينجفورس بفنلندا، فتم نقله إلى العاصمة باعتبارها مكانا أكثر ملاءمة لبدء الانتفاضة.

كتب لينين في رسالة إلى مندوبي البلاشفة في مؤتمر المنطقة الشمالية، أنهم سيكونون “خونة للأممية” إذا اقتصروا على “مجرد قرارات”. لكن المؤتمر لم يصوت لصالح انتفاضة فورية. وبدلا من ذلك مرر قرارا طالب بحكومة سوفياتية، لكنه ربطها بمؤتمر لعموم روسيا. كان هذا هو المزاج السائد في ذلك الوقت. وقد أظهرت التقارير الواردة من العديد من المناطق نفس الصورة، وهي أن العمال سيكونون مستعدين للقتال من أجل إقامة حكومة سوفياتية إذا أعلنها مؤتمر السوفييتات، لكن ليس بالضرورة إذا أعلنها حزب واحد، أي البلاشفة، بدون توقيع من سلطة السوفييتات. وعلاوة على ذلك، كشفت التقارير الداخلية، وخاصة من المنظمة العسكرية البلشفية، عن حالة مخيبة للآمال من عدم الاستعداد و“أوجه القصور الصارخة”. ربما كانت تلك التقارير مبالغا فيها. كانت المنظمة العسكرية تميل دائما إلى إيلاء أهمية مفرطة للجانب العسكري التقني البحت، بينما في الواقع كانت المسائل السياسية هي الحاسمة. ومع ذلك فإن هذه التقارير كشفت شيئا ما. فبعد التجربة المريرة التي عاشها المناضلون البلاشفة خلال أيام يوليوز، صاروا يخافون من العزلة وصاروا يميلون إلى توخي الحذر، وربما المبالغة في الحذر. ومع ذلك فقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الحزب لم يكن مستعدا بعد نفسيا أو تنظيميا للقفزة الحاسمة. كانت هناك حاجة لبضعة أسابيع أخرى. وهذا كان يعني بالفعل أن الانتفاضة سوف تتزامن مع المؤتمر الثاني لسوفييتات عموم روسيا.

الفصل الأخير

خلال الأشهر التي سبقت أكتوبر، نجح البلاشفة، بفضل تكتيكات متقنة ومرنة، في زيادة نفوذهم بشكل كبير داخل السوفييتات إلى درجة أنه صارت لديهم، مع حلفائهم، الأغلبية في مؤتمر السوفييتات. وهذا وحده ما يفسر الطابع السلمي نسبيا لانتفاضة أكتوبر. لم يكن السبب عسكريا في المقام الأول، بل لأنه كان قد تم إنجاز تسعة أعشار العمل مسبقا. كانت ساحة النضال الأكثر أهمية هي السوفييتات نفسها. يقدم أنويلر الوصف التالي لميزان القوى بين الأحزاب داخل السوفييتات عشية الانتفاضة:

«1) في السوفييتات العمالية، في معظم المدن الصناعية الكبرى، حصل البلاشفة على الأغلبية، وينطبق الشيء نفسه على غالبية سوفييتات الجنود. كانت النقاط الأساسية لنفوذهم هي:

أ- فنلندا، إستلاند [إستونيا]، بيترسبورغ والمنطقة المحيطة بها، وجزء من الجبهة الشمالية وسلاح البحرية؛ ب- المنطقة الصناعية المركزية حول موسكو؛ ج- جبال الأورال ؛ د- سيبيريا حيث كانت قوتهم متوازنة مع الاشتراكيين الثوريين.

2) في سوفييتات الفلاحين وسوفييتات الخطوط الأمامية، كان الاشتراكيون الثوريون ما يزالون القوة المهيمنة. كان هناك جناح يساري قوي، انفصل أخيرا عن حزب الاشتراكيين الثوريين خلال الأسابيع التي سبقت أكتوبر، وقف إلى جانب البلاشفة وكثيرا ما ساعدهم في الحصول على الأغلبية في معظم السوفييتات. كان الاشتراكيون الثوريون المعتدلون يمتلكون قوة أكبر في:

أ- منطقة البحر الأسود ووسط الفولغا؛ ب- أوكرانيا (مع الأحزاب الاشتراكية القومية)؛ ج- الجبهات الشرقية والجنوبية الشرقية والرومانية.

3) فقد المناشفة مركزهم المهيمن في السوفييتات العمالية في كل مكان تقريبا بعد الأشهر الأولى من الثورة. فقط في القوقاز، وخاصة في جورجيا، حيث كان ما يزال في إمكانهم أن يستندوا إلى الفلاحين، وحيث كانوا أقوى بكثير من البلاشفة في أكتوبر 1917.

4) ولأول مرة لعبت مجموعات من الماكسيماليين واللاسلطويين دورا مهما في بعض السوفييتات. لقد دعموا البلاشفة في أكتوبر وساهموا بشكل كبير في تجذر الجماهير»[121].

يبالغ أنويلر في تقدير الدور الذي لعبه اللاسلطويون والماكسيماليون، والذين كانوا أقلية صغيرة تمثل الميول اليسارية المتطرفة الموجودة دائما، لكنها لا تستطيع أن تلعب أي دور حقيقي. من الممكن أن تحقق تلك التيارات بعض النمو خلال الثورة. وقد أوضح لينين نفسه أن الجماهير قد سئمت من الانتظار. ويمكن أن يسقط بعض العمال الأفراد، أو حتى بعض المجموعات الصغيرة من العمال، الذين تقدموا كثيرا عن بقية الطبقة، في شباك الشعارات اليسراوية المتطرفة  التي تبدو جذرية. لكن مقابل كل واحد من هؤلاء هناك 50 أو 100 أو 1.000 ممن سيتجهون نحو المنظمات الجماهيرية التقليدية، حتى عندما تكون هذه الأخيرة ما تزال تحت قيادة الإصلاحيين. إن السبب في أن اللاسلطويين لم يلعبوا دورا مهما في الثورة الروسية كان هو وجود الحزب البلشفي. في كتابه “الدولة والثورة”، كتب لينين عن العمال اللاسلطويين بعبارات متعاطفة، عندما انتقد مفاهيمهم الخاطئة عن الدولة وأشار إلى أن اللاسلطوية (والنزعة اليسارية المتطرفة بشكل عام) هي الثمن الذي يجب على الحركة أن تدفعه مقابل انتهازية القادة الإصلاحيين.

في ظل الظروف الروسية، كانت الإصلاحية دائما مجرد نبتة ضعيفة ومريضة. لم تكن هناك نقابات عمالية إصلاحية قوية أو أحزاب عمالية إصلاحية كما هو الحال في أوروبا الغربية. ومع ذلك، وللأسباب التي سبق شرحها، فقد بحث العمال الروس في فبراير، حتى عندما أسسوا السوفييتات، عن السبل الأقل وعورة ودعموا الأحزاب الإصلاحية داخل السوفييتات. وحدها تجربة الأحداث العظيمة ما مكن الجماهير من رفض هؤلاء القادة والتحرك في اتجاه البلشفية. لكن هذه السيرورة لم تكن سهلة ولا تلقائية. لم تكن ممكنة إلا بفضل سياسات وتكتيكات البلاشفة الصحيحة بشكل عام، وقبل كل شيء بفضل توجههم الواضح نحو تلك المنظمات الجماهيرية، التي أنشأها العمال والتي كانت لها قوة جذب هائلة، على الرغم من سياسات القادة، أي: السوفييتات والنقابات.

لقد اتضحت الطريقة التي يتمسك بها العمال بالمنظمات الجماهيرية القائمة عشية أكتوبر في ذلك الجدل الذي دار حول موعد الانتفاضة ومؤتمر السوفييتات. كان لينين قلقا جدا، لأسباب وجيهة، بشأن الغباء الدستوري والبرلماني للقادة البلاشفة من أمثال كامينيف وزينوفييف. كان يخشى التأخير، لأن كل يوم يمر كان يعطى الوقت والفرصة للأعداء لكي يعيدوا تجميع صفوفهم وشن هجوم جديد. كانت هناك شائعات مستمرة (تبين لاحقا أنها صحيحة) حول أن كرينسكي كان يخطط لنقل مقر الحكومة إلى موسكو. كان هناك احتمال كبير بأن الحكومة المؤقتة ستسمح بسقوط بتروغراد في أيدي الألمان، عوض أن تراها تنضم إلى البلاشفة. كانت هناك أدلة كثيرة على أن البرجوازية في العاصمة [بتروغراد] كانت تنتظر جيوش القيصر [الألماني] لاستقبالهم كمنقذين. كان الألمان قد استولوا على ريغا في وقت تمرد كورنيلوف. وفي وقت لاحق احتلوا جزيرتين استراتيجيتين في بحر البلطيق، الشيء الذي وضعهم على مسافة قصيرة من بتروغراد. لقد كان الخطر حقيقيا بما فيه الكفاية.

اعترف الرئيس السابق لمجلس الدوما، ميخائيل رودزيانكو، بكلمات واضحة أنه سيكون من الأفضل لو قام الألمان بالاستيلاء على بتروغراد، حيث قال: «يبدو أن بتروغراد مهددة (من قبل الألمان)… أقول فلتذهب بتروغراد إلى الجحيم… يخشى الناس أن تتعرض مؤسساتنا المركزية في بتروغراد للتدمير. وردا على هذا اسمحوا لي أن أقول إنني سأكون سعيدا لو تم تدمير تلك المؤسسات لأنها لم تجلب لروسيا سوى الحزن»[122].

كان كيرينسكي يستعد للتخلص من حامية بتروغراد المتمردة، باستخدام مبرر التهديد الألماني. ومع ازدياد الفجوة بين الطبقات في الاتساع، ازداد بشكل كبير خطر حل القوات السوفياتية على يد قوى الردة الرجعية.

كانت الحجة الرئيسية التي استخدمت ضد لينين هي: “يجب علينا أن ننتظر مؤتمر السوفييتات”. لكن لينين كان يخشى أن يتم تأجيل المؤتمر. كان قادة السوفييتات قد أجلوه بالفعل في مرة سابقة خوفا من فقدانهم للسيطرة. وبالتالي ما الذي سيمنعهم من تكرار ذلك مرة أخرى؟ ثم كان لمعارضي الانتفاضة حجة أخرى وهي: لماذا لا ننتظر انعقاد الجمعية التأسيسية الموعودة؟ كانوا يبحثون دائما عن الذرائع لتأجيل الانتفاضة. وهنا أيضا كان لينين يعتقد أنه من المحتمل جدا أن تقوم الحكومة المؤقتة بتأجيل، أو حتى إلغاء، عقد انتخابات الجمعية التأسيسية. وهذا ما يفسر معارضته العنيدة لانتظار مؤتمر السوفييتات، أو أي شيء آخر.

نفاذ صبر لينين وخوفه المستمر من أن القادة البلاشفة يماطلون، كان سببه جزئيا تذبذبات كامينيف وزينوفييف، الذين لم يكونا معزولين داخل القيادة البلشفية. لكنه كان أيضا نتيجة لعزلة لينين. تروتسكي، الذي كان على اتصال أكبر بالوضع على الأرض، كان يؤيد التحضير للانتفاضة، لكن بجعلها تتزامن مع انعقاد مؤتمر السوفييتات، الشيء الذي سيعطيها الشرعية اللازمة في أعين الجماهير. لقد أظهر بذلك الموقف امتلاكه لنظرة ثاقبة عن نفسية العمال. كان البلاشفة قد حققوا بالتأكيد تقدما عظيما منذ الصيف. كان نمو عدد الأعضاء سريعا جدا لدرجة أنه أغرق القدرة الهزيلة لأجهزة الحزب، التي لم تتمكن من مواكبة ذلك. في غشت، وقت انعقاد المؤتمر السادس، بلغ عدد الأعضاء حوالي 240.000[123]. وخلال اجتماع اللجنة المركزية، في 16 أكتوبر، أفاد سفيردلوف أن “نمو الحزب وصل أبعادا هائلة: وقد صار عدد أعضائه في الوقت الحالي يقدر بـ 400.000 على الأقل”[124].

من المستحيل، في الواقع، الوصول إلى رقم دقيق لعدد أعضاء الحزب في ذلك الوقت. لقد كان جهاز الحزب البلشفي ما يزال ضعيفا نسبيا وغارقا في العمل باستمرار. وخلال الثورة تصير لمتطلبات الساعة الأسبقية على مهام أخرى مثل التدقيق في أرقام العضوية. ولذلك فإن أي تقدير يجب بالضرورة أن يكون ذا طابع تقريبي. لينين نفسه اعترف بأنه كان من المستحيل تقريبا الحصول على فكرة دقيقة عن عدد الأعضاء في شتنبر، لكنه أشار إلى الزيادة التي عرفتها مساهمات العمال المالية كدليل على النمو السريع للحزب، حيث قال: «أمام غياب أي إحصائيات تتعلق بالتقلبات التي تعرفها عضوية الحزب، وعدد الحضور والاجتماعات، وما إلى ذلك، لا يمكن الحكم على حجم الدعم الواعي للحزب من طرف الجماهير إلا من خلال البيانات المنشورة بشأن المساهمات النقدية لصالح الحزب. تُظهر هذه البيانات عملا طوليا عظيما من جانب العمال البلاشفة في جمع الأموال لصالح برافدا، والجرائد التي تم منعها، وما إلى ذلك. وتقارير هذه المساهمات كانت تنشر بشكل دائم»[125].

الشيء الأكيد هو حقيقة أن البلاشفة، الذين بدأوا العام وهم منظمة صغيرة جدا، نموا بسرعة إلى أن أصبحوا القوة المهيمنة داخل الطبقة العاملة. لكن وحتى مع عضوية تقدر بـ400.000، فإن البلاشفة لم يكونوا قادرين على قيادة ملايين العمال والجنود نحو الاستيلاء على السلطة، لو لم يطبقوا تكتيكات وأساليب مرنة ولو لم يكن لديهم توجه صحيح نحو المنظمات الجماهيرية. لقد سبقت الإشارة إلى التقدم الذي كان الحزب يحققه داخل السوفييتات. لكن هذا لا يروي القصة الكاملة. فبينما كانت الشعارات البلشفية تجد لها صدى كبيرا بين العمال، فإن هؤلاء الأخيرين كانوا ما يزالون يتطلعون إلى السوفييتات لكي تعمل على تطبيق هذه الشعارات في الواقع. لقد كانت العلاقة ديالكتيكية: فبدون سياسات الحزب البلشفي كانت السوفييتات عديمة الفائدة. بل إنها تحت قيادة الإصلاحيين اليمينيين صارت في الواقع أجهزة معادية للثورة. لكن ومن جهة أخرى، فإن سياسات البلاشفة بدون السوفييتات لم تكن لتتمكن بالضرورة من كسب انتباه الجماهير، التي كانت ما تزال لديها أوهام عميقة حول تلك المنظمات التي بنتها بنفسها، والتي اعتادت على التوجه إليها للبحث عن حل لمشاكلها. لم تكتسب أفكار البلاشفة قوة لا تقاوم إلا عندما ارتبطت في أذهان الجماهير بالمنظمات التي أعطتها ولاءها، أي: السوفييتات.

الاستيلاء على السلطة

لقد وصلت ساعة العمل الحاسم. وبحلول ذلك الوقت كان صبر العمال البلاشفة في القاعدة قد بدأ ينفذ بسبب عدم اتخاذ القيادة لإجراءات حاسمة. في 19 أكتوبر (01 نوفمبر)، وخلال اجتماع سري للجنة المركزية، قرأ لينين مرة أخرى بيانا يؤكد على ضرورة تنظيم الانتفاضة فورا. ومع معارضة صوتين اثنين فقط -كامينيف وزينوفييف- تقرر أن الطريقة الوحيدة لإنقاذ الثورة من الخراب هي الانتفاضة المسلحة. لكن رفيقي لينين القديمين، كامينيف وزينوفييف، المقتنعين بأن الانتفاضة ستكون كارثية بالنسبة للحزب والثورة، شنا حملة محمومة لوقفها. وفي 18 أكتوبر وصلا إلى أقصى حد بنشرهما لمقال في جريدة غير حزبية، جريدة غوركي نوفايا جيزن، يعارض بشكل صريح ​​تنظيم الانتفاضة باعتبارها “عملا يائسا” من شأنه أن يؤدي إلى «العواقب الأكثر تدميرا على الحزب وعلى البروليتاريا وعلى مصير الثورة».

والجدير بالذكر أن المقالة، التي صدرت بتوقيع كامينيف، أعلنت أنها لا تتحدث باسم عضوين فقط داخل اللجنة المركزية، بل باسم عدد كبير (لم يتم تسميتهم) من “قادة الحزب”، تقول المقالة: «ليس فقط أنا والرفيق زينوفييف، بل وكذلك عدد من الرفاق قادة الحزب، نعتقد أن أخذنا المبادرة في شن انتفاضة مسلحة في الوقت الحاضر، في ظل موازين القوى الطبقية الحالية، وبشكل مستقل عن مؤتمر السوفييتات، وقبل بضعة أيام على انعقاده، ستكون خطوة غير مقبولة، وكارثية على البروليتاريا»[126].

أقل ما يمكن أن نقول عن ذلك التصرف هو أنه انتهاك خطير للانضباط الحزبي. فمن خلال تصريحهما العلني ضد الانتفاضة المسلحة، أفشى كامينيف وزينوفييف للعدو بأسرار قرارات الحزب الرئيسية بشأن الانتفاضة، التي كان من المفترض أن تبقى سرية للغاية. لينين الذي أثار عنده هذا التصرف غضبا شديدا كتب، في إجراء غير مسبوق، رسالة حانقة إلى اللجنة المركزية يدين فيها كامينيف وزينوفييف باعتبارهما كاسري إضرابات وطالب بطردهما من الحزب[127]. في الواقع لم تصادق اللجنة المركزية على اقتراح لينين. وقد استقال كامينيف (لكن ليس زينوفييف) من اللجنة المركزية، وتم منع كلا الرجلين من الإدلاء بأي تصريحات أخرى تتعارض مع قرارات اللجنة. لكنهما لم يُطردا ولم يُطلب منهما إدانة أفعالهما. لم تكن محاكم الاعترافات الستالينية وعمليات الإدانة القسرية قد ظهرت بعد. وعلى الرغم من الطبيعة الخطيرة للخطأ الذي ارتكباه فإنه لم يستعمل ضدهما. وفي اليوم التالي للانتفاضة، حضر كامينيف وزينوفييف إلى مقر الحزب البلشفي وتم تقليدهما مناصب مسؤولة داخل الحزب والدولة السوفياتية.

لم تتسبب قضية كامينيف-زينوفييف في ضرر دائم. لقد كان المد يتدفق بقوة في اتجاه الانتفاضة. وفي مثل تلك الظروف يكون من الممكن عادة تصحيح أخطاء الثوار إذا توفرت قيادة ذكية تحافظ على رباطة جأشها. لكن العكس صحيح في معسكر الردة الرجعية، فبفعل غرقهم في مشاكل من جميع الجهات، ومحاصرتهم بمجموعة من التناقضات، صار السياسيون الرجعيون، الذين لم يكونوا بالأمس يرتكبون أي خطأ، فجأة لا يستطيعون فعل أي شيء صحيح. هذا هو تفسير التعليقات المتكررة حول “عجز” و“تصلب” و“غباء” كيرينسكي والقيصر نيكولا والملك لويس وماري أنطوانيت وتشارلز الأول، وقائمة طويلة من الشخصيات المماثلة الأخرى. كان الإغريق يقولون: “من ترد الآلهة تدميره، تجعل منه في البداية أحمقا”، لكن إذا دققنا في المسألة سنجد أن ذلك الحمق متجذر في الواقع الموضوعي. يؤدي النظام الاجتماعي المفلس إلى وضع مأزوم، وفي مثل ذلك الوضع المأزوم تكون الخيارات محدودة وتتضاعف احتمالات الخطأ ألف مرة. في ظل الظروف التاريخية المواتية يكون من الممكن حتى للحمقى والتافهين أن يحكموا بنجاح (وكثيرا ما يفعلون). لكن عندما يمرض النظام السياسي والاجتماعي ويشرف على الموت، لا تكون حتى لأكثر الوزراء موهبة وبراعة القدرة الكافية لإنقاذ النظام. تكون مثل تلك الأنظمة ممزقة بالأزمات الداخلية والانقسامات في القمة. يحاول أحد أقسام الطبقة السائدة درء الكارثة من خلال تقديم التنازلات، بينما يحاول القسم الآخر وقف موجة التمرد المتصاعدة بنهج سياسة القمع. وتكون النتيجة هي ظهور التذبذبات وقلة الكفاءة. هذا كله لا يعني أن نوعية القيادة الثورية غير مهمة. بل على العكس. فحتى أفضل الظروف المواتية يمكن أن تضيع خلال الحروب والثورات. لو أن زينوفييف وكامينيف وستالين هم من كانوا على رأس الحزب البلشفي، بدلا من لينين وتروتسكي، لكانت الفرصة قد ضاعت كليا بلا شك. عندها كان كل هؤلاء المؤرخين الأذكياء الذين يتحدثون الآن عن غباء كيرينسكي ونيكولا لعدم قيامهما بهذا الإجراء أو ذاك، سيكتبون اليوم أطروحات دكتوراه حول مدى ذكائهما وبُعد نظرهما، وحول كم كان لينين وتروتسكي طوباويان لتخيلهما أنه يمكن للعمال الاستيلاء على السلطة.

يمكن للصدف أن تلعب بالتأكيد دورا في التاريخ، بما في ذلك الأخطاء، والنظام الذي يكون على حافة الهاوية يكون أكثر عرضة لارتكاب الأخطاء. ارتكبت الحكومة المؤقتة خطأ من الدرجة الأولى عندما طالبت بإرسال ثلثي حامية بتروغراد إلى الجبهة. كانت تلك محاولة خرقاء لإضعاف الحامية الثورية في العاصمة، لكنها كانت هدية للبلاشفة، لسببين: أولا، لأنها تسببت في خلق موجة من السخط داخل الثكنات، مما دفع حتى أكثر الفئات تخلفا نحو البلاشفة. بدأت حتى تلك الفيالق التي شاركت في قمع مظاهرات يوليوز في إصدار قرارات تدين الحكومة المؤقتة وتدعو السوفييتات إلى الاستيلاء على السلطة. وثانيا، لأنها أظهرت أن الحكومة كانت تستعد لشن الهجوم ضد بتروغراد الحمراء، فصار من حق الثورة اتخاذ إجراءات للدفاع عن نفسها. كان ذلك شيئا يمكن لأي عامل وجندي أن يفهمه. كما أنها أسكتت المتذبذبين بين صفوف البلاشفة. بل حتى القادة الإصلاحيون اضطروا على مضض أن يعلنوا مواقف شبه معارضة للحكومة.

حتى اللجنة التنفيذية السوفياتية اضطرت لرفض التوقيع على ذلك الطلب. وقاد البلاشفة التحريض ضده، وطالبوا بإنشاء لجنة بتروغراد العسكرية الثورية، وهي هيئة سوفياتية رسمية سرعان ما اكتسبت قوة هائلة وأصبحت عمليا رأس حربة ثورة أكتوبر. عينت لجنة بتروغراد العسكرية الثورية مفوضين عنها في كل متجر ومستودع أسلحة دون أن تواجه أي معارضة. ومنذ ذلك الحين فصاعدا لم يعد من الممكن نقل الأسلحة دون إذن من اللجنة. أثار الأمر الذي وجهه تروتسكي لمصنع سيستروريتسكي للأسلحة بأن يقدم 5.000 بندقية للحرس الأحمر الذعر في الأوساط البرجوازية، الأمر الذي أثار بعض العويل بشأن نية البلاشفة ذبح البرجوازيين؛ لكن البنادق وصلت على أي حال. وهكذا فقد كانت الاستعدادات للانتفاضة تجري تحت أنظار السلطات نفسها والتي كانت عاجزة عن منعها.

ومع ذلك فقد كان عدد الحرس الأحمر في بتروغراد قليلا جدا. تتراوح التقديرات ما بين 23.000 وأقل من 12.000. لم يكن في مقدور مثل تلك القوة الصغيرة أن تهزم القوة الهائلة لجهاز الدولة القديم. لكن جوهر الأمر كان هو أن العمل السياسي الذي قام به البلاشفة خلال الأشهر التسعة التي سبقت أكتوبر، قد نجح في كسب الجماهير، وبالتالي الأقسام الحاسمة داخل الجيش أيضا. وبكونه قائد لجنة بتروغراد العسكرية الثورية، كان تروتسكي مسؤولا شخصياً عن كسب حامية بتروغراد، كما يشير مارسيل ليبمان قائلا:

«في 23 أكتوبر، علم قادة الانتفاضة أن حامية القلعة رفضت الاعتراف بسلطة اللجنة العسكرية الثورية. اقترح أنتونوف- أوفسينكو إرسال كتيبة ثورية لنزع سلاح الحامية والحلول محلها. لكن تروتسكي اقترح عوض هذه العملية الخطرة، استخدام أسلوب بلشفي واشتراكي نموذجي، وهو أسلوب التحريض السياسي. ذهب شخصيا إلى القلعة، ودعا إلى عقد اجتماع عام للجنود، وخاطبهم، وتمكن من كسبهم، وأقنعهم بالمصادقة على قرار يعلن استعدادهم للإطاحة بالحكومة المؤقتة.

في حين أن التحضير العسكري للانتفاضة كان ناقصا من بعض الجوانب، فإن الإعداد السياسي لها، خلال الأيام القليلة الماضية وقبل ساعات من بدايتها، كان مكثفا ومثاليا. انضمت الفيالق المتمركزة في العاصمة إلى الانتفاضة بعد الاستماع إلى الخطابات النارية التي ألقاها المندوبون البلاشفة؛ كانت قاعات الاجتماعات الكبرى في بتروغراد، مثل قاعة السيرك الحديث، مليئة دائما، وقد استخدمها الخطباء البلاشفة (وفي مقدمتهم تروتسكي) لإبقاء الحماس الثوري مشتعلا عند العمال والبحارة والجنود. كان شهر أكتوبر كله، سواء في بتروغراد أو في المقاطعات على حد سواء، شهر النشاط السياسي المتواصل: نظمت السوفييتات في مختلف المناطق الكونفرانسات والمؤتمرات. نفس الشيء فعله الحزب البلشفي، الذي كان قد اضطر إلى تأجيل مؤتمر استثنائي تم تحديده في نهاية الشهر. في أكتوبر 1917، أخذت الثورة الدائمة شكلا ملموسا في نقاش دائم. وإذا كانت الجماهير لم تشارك بشكل مباشر في الانتفاضة، فذلك لأنها لم تكن بحاجة للقيام بذلك. لقد عبر دعمهم لسياسة البلاشفة عن نفسه من خلال وسائل أخرى للتعبير، تتناسب مع الطابع البروليتاري والديمقراطي للمشروع، وللتقاليد الاشتراكية»[128].

من المفارقة أن الاستيلاء الفعلي على السلطة بدا وكأنه مهمة ثانوية مقارنة بجميع الأعمال التحضيرية التي جرت من قبل. وفي عمله الضخم، تاريخ الثورة الروسية، يصف تروتسكي بالتفصيل السهولة التي تم بها الاستيلاء على بتروغراد. لقد تم ضمان الطبيعة السلمية للثورة من خلال حقيقة أن البلاشفة، تحت قيادة تروتسكي، كانوا قد كسبوا بالفعل حامية بتروغراد إلى صفوفهم. وفي الفصل الذي عنونه بـ“الاستيلاء على العاصمة”، يشرح الطريقة التي سيطر بها العمال على قلعة بيتر وبولس الرئيسية، قائلا: «جميع جنود حامية القلعة وافقوا بارتياح كامل على القبض على القائد، لكن رجال الدراجات احتفظوا بموقف مراوغ. ما الذي يخفيه صمتهم الغامض: عداء خفي أم نزعة تمرد أخيرة؟ كتب بلاغونرافوف: “لقد قررنا عقد اجتماع خاص لرجال الدراجات، ودعوة أفضل المحرضين لدينا، وعلى رأسهم تروتسكي، الذي كان له سلطة ونفوذ هائلين على جماهير الجنود”. على الساعة الرابعة بعد الظهر، التقت الكتيبة بأكملها في المبنى المجاور للسيرك الحديث. قام الجنرال بوراديلوف بأخذ الكلمة بصفته معارضا للحكومة، واشتراكيا ثوريا. كانت اعتراضاته حذرة لدرجة أنها بدت ملتبسة، ولذلك كان هجوم ممثلي اللجنة أكثر تدميرا. انتهت هذه المعركة الخطابية من أجل الفوز بقلعة بيتر وبولس كما كان متوقعا لها: صوت أغلبية الجنود، باستثناء ثلاثين جنديا، لصالح قرار تروتسكي. وهكذا تمت تسوية صراع دموي محتمل آخر قبل اندلاع القتال ودون إراقة الدماء. هكذا كانت انتفاضة أكتوبر وهكذا كان أسلوبها»[129].

أصر لينين منذ البداية على أنه يجب أن تتم الانتفاضة على أساس الحركة الجماهيرية. وقبل ثورة أكتوبر بقليل كتب قائلا: «يجب ألا تعتمد الانتفاضة على مؤامرة أو على حزب، بل على الطبقة الطليعية… يجب أن تعتمد الانتفاضة على هَبَّة ثورية للشعب»[130].

هل كان أكتوبر انقلابا؟

كثيرا ما يصف نقاد البلشفية البرجوازيون ثورة أكتوبر بأنها انقلاب. هذا الادعاء كاذب حتى النخاع. لقد استمرت الثورة على مدى تسعة أشهر، تمكن خلالها الحزب البلشفي، باستخدام أكثر الوسائل ديمقراطية، من كسب الأغلبية الحاسمة من العمال والفلاحين الفقراء. هذا الواقع وحده هو ما يفسر قدرتهم على التغلب بسهولة على مقاومة قوات كيرينسكي. وعلاوة على ذلك، كما سنرى لاحقا، لم تكن هناك من طريقة لكي يتمكن البلاشفة من الاحتفاظ بالسلطة لولا دعم الأغلبية الساحقة في المجتمع. كان التدخل الفعال للجماهير هو العامل الحاسم في كل مرحلة من مراحل الثورة. وقد ترك ذلك التدخل بصمته الواضحة على السيرورة برمتها. لم يكن بإمكان الطبقة السائدة وممثليها السياسيين والعسكريين سوى عض شفاههم وهم يشاهدون عاجزين انزلاق السلطة من بين أيديهم. صحيح أنهم كانوا متورطين في مؤامرات مستمرة ضد الثورة، بما في ذلك الانتفاضة المسلحة التي قادها الجنرال كورنيلوف، التي كانت تهدف إلى الإطاحة بكيرينسكي وإرساء ديكتاتورية عسكرية، لكن كل ذلك تحطم على صخرة الحركة الجماهيرية.

كان دعم الجماهير للبلاشفة حقيقة مقبولة من طرف الجميع في ذلك الوقت، بمن في ذلك أشد أعداء الثورة. لقد قدموا لذلك، بطبيعة الحال، جميع أنواع التفسيرات مثل التأثيرات الخبيثة و“الديماغوجية” وعدم نضج العمال والفلاحين وجهلهم وجميع الادعاءات الأخرى الموجهة بشكل أساسي ضد الديمقراطية نفسها. أما مسألة كيف صارت الجماهير فجأة جاهلة وغير ناضجة بمجرد ما توقفت عن دعم الحكومة المؤقتة، فهو لغز من أعظم الألغاز على الإطلاق. لكن إذا تركنا جانبا الادعاءات المدفوعة بالحقد المفضوح والخبث والغضب، سيمكننا أن نرى في المقطع التالي، المقتطف من جريدة يمينية، اعترافا قيما بأن البلاشفة قد تمتعوا بالفعل بدعم الجماهير، فيوم 28 أكتوبر، كتبت روسكايا فوليا ما يلي: «ما هي فرص نجاح البلاشفة؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، لأن قاعد دعمهم الأساس هي… جهل الجماهير الشعبية. إنهم يراهنون عليها ويعملون عليها من خلال الديماغوجيا التي لا يمكن لأي شيء أن يوقفها»[131].

من المستحيل فهم ما حدث عام 1917 دون رؤية الدور الأساسي للجماهير. وينطبق الشيء نفسه على الثورة الفرنسية 1789-1794، وهي الحقيقة التي يفشل المؤرخون في كثير من الأحيان في فهمها (مع بعض الاستثناءات، ولا سيما اللاسلطوي كروبوتكين، وفي وقتنا الحالي جورج رودي). لكن هنا وللمرة الأولى في التاريخ، إذا استثنينا حلقة كومونة باريس القصيرة والمجيدة، نجحت الطبقة العاملة بالفعل في الاستيلاء على السلطة والبدء، على الأقل، في التحويل الاشتراكي للمجتمع. هذا بالضبط هو السبب الذي يضطر أعداء الاشتراكية إلى الكذب بشأن ثورة أكتوبر وتشويه سمعتها. لا يمكنهم أن يغفروا للينين والبلاشفة كونهم تمكنوا من قيادة أول ثورة اشتراكية ناجحة، وإثبات أن مثل هذا الشيء ممكن، وبالتالي رسم الطريق للأجيال القادمة. كانت تلك سابقة خطيرة! لذلك من الضروري “إثبات” (بمساعدة الطاقم المعتاد من الأكاديميين “الموضوعيين”) أن هذا كله كان عملا سيئا للغاية، ويجب ألا يتكرر.

إن الادعاء بأن ثورة أكتوبر كانت مجرد انقلاب غالبا ما يتم تبريره بالإشارة إلى الأعداد الصغيرة نسبيا التي شاركت فعليا في الانتفاضة. لكن هذه الحجة التي تبدو عميقة، لا تصمد أمام أبسط تحليل. إنها في المقام الأول تخلط بين الانتفاضة المسلحة وبين الثورة، أي أنها تخلط بين الجزء والكل. إن الانتفاضة ليست في الواقع سوى جزء من الثورة، رغم أنه جزء مهم جدا. يشبهها تروتسكي بقمة الموجة. في الواقع لقد كانت المواجهات المسلحة في بتروغراد قليلة جدا، بل يمكن للمرء أن يقول إن الانتفاضة كانت بدون إراقة دماء. وكان السبب وراء ذلك هو أن تسعة أعشار المهام كان قد تم إنجازها مسبقا، من خلال كسب الأغلبية الساحقة من العمال والجنود. كان ما يزال من الضروري استخدام القوة المسلحة للتغلب على مقاومة أنصار النظام القديم، إذ لم يشهد التاريخ استسلام أي طبقة حاكمة دون قتال، لكن المقاومة كانت ضئيلة. وقد انهارت الحكومة مثل بيت من ورق، لأنه لم يكن هناك أحد مستعد للدفاع عنها.

في موسكو، وأساسا بسبب أخطاء البلاشفة المحليين الذين لم يتصرفوا بالدقة الكافية، تمكنت قوات الثورة المضادة في البداية من المبادرة إلى الهجوم ونفذت مذبحة. وعلى الرغم من ذلك فقد سمح لهم، بشكل لا يصدق، بأن يذهبوا إلى حال سبيلهم على أساس وعد منهم بأنهم لن يشاركوا في أي أعمال عنف أخرى ضد السلطة السوفياتية. لقد كانت مثل هذه التصرفات ممارسات مميزة للأيام الأولى للثورة، التي اتسمت بنوع من السذاجة من جانب الجماهير، التي لم تكن قد فهمت بعد مستوى العنف الرهيب الذي كان المدافعون عن النظام القديم قادرين عليه. إن الثورة لم تكن أبدا نظاما إرهابيا متعطشا للدماء، بل على العكس من ذلك كانت متساهلة بشكل غير عادي، إلى أن أبان معسكر الثورة المضادة عن طبيعته الحقيقية. كان الجنرال الأبيض، كراسنوف، من أوائل من قادوا التمرد ضد البلاشفة على رأس جيش من القـوزاق. هزمه الحرس الأحمر وسلمه القوزاق أنفسهم، لكن ومرة أخرى تم إطلاق سراحه على أساس كلمة شرف منه. وعن هذا كتب فيكتور سيـرج محقا: «لقد ارتكبت الثورة خطأ إظهار الشهامة تجاه قائد الهجوم القوزاقي. كان يجب إعـدامه على الفور. لكنه بعد بضعة أيام استعاد حريته، بعد أن أعطى كلمة شرف بعدم حمل السلاح مرة أخرى ضد الثورة. لكن ما قيمة وعود الشرف تجاه أعداء الوطن والملكية الخاصة؟ فانطلق ليغرق منطقة الدون بالنار والحديد»[132].

هل مشاركة قوى قليلة نسبيا في عمليات القتال الفعلي تعني أن انتفاضة أكتوبر كانت انقلابا؟ هناك العديد من أوجه التشابه بين الحرب الطبقية وبين الحرب بين الأمم. ففي هذه الأخيرة أيضا، لا تكون سوى نسبة صغيرة جدا من السكان مشاركة في القوات المسلحة. فقط أقلية صغيرة من الجيش هي التي تكون في الخطوط الأمامية. ومن بين هؤلاء، حتى في سياق معركة كبيرة، لا تشارك سوى أقلية من الجنود عادة في القتال. يعرف الجنود ذوو الخبرة أن الكثير من الوقت يمضي في الانتظار والخمول، حتى أثناء المعركة. وفي كثير من الأحيان لا يتم استدعاء قوات الاحتياط إلى العمل. لكن دون توفر قوات الاحتياط، لا يمكن لأي جنرال مسؤول أن يأمر جنوده بالتقدم. وعلاوة على ذلك لا يمكن شن الحرب بنجاح دون وجود دعم مخلص من جانب المواطنين في الداخل، على الرغم من أنهم لا يشاركون بشكل مباشر في القتال. لقد نقش هذا الدرس في جمجمة البنتاغون خلال المراحل الأخيرة من حرب فيتنام.

إن استيقاظ الجماهير ومشاركتها النشطة ومبادرتها وقوتها الإبداعية هي ما يشكل جوهر كل ثورة عظيمة. وقد اتضح ذلك بطريقة مذهلة حقا خلال الأشهر التسعة ما بين ثورتي فبراير وأكتوبر. لقد تحركت الجماهير مرارا وتكرارا، في فبراير وماي ويونيو ويوليوز وشتنبر، من أجل تغيير المجتمع. فإذا كانوا لم ينجحوا على الفور في ذلك، فهذا ليس لعدم المحاولة من جانبهم، بل لأنهم في كل مرة كانوا يكبحون من قبل قادتهم، الذين رفضوا بعناد أن يأخذوا السلطة عندما تم تقديمها لهم على طبق من ذهب. كم مرة رأينا نفس الشيء منذ ذلك الحين؟ في ألمانيا أعوام 1918 و1920 و1923؛ في بريطانيا عامي 1926 و1945؛ في إسبانيا عام 1936؛ في فرنسا عام 1936 ومرة ​​أخرى عام 1968؛ في البرتغال في 1974-1975؛ في إيطاليا في 1919-1920 وفي 1943 و1969، وطوال السبعينيات؛ في باكستان في 1968-1969؛ في تشيلي في 1970-1973، وفي العديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم. في كل تلك الحالات، بعد أن تخلت القيادة عن إمكانية تغيير المجتمع ولو بالوسائل السلمية وعبدت الطريق لانتصار الردة الرجعية، خرج نفس هؤلاء المتشائمين بنفس الحجج المحبطة القديمة حول أن: الظرف الموضوعي لم يكن ناضجا؛ وأن موازين القوى كانت غير مواتية؛ وأن الجماهير لم تكن جاهزة؛ وأن الدولة كانت قوية للغاية؛ وما إلى ذلك. دائما ما يتم إلقاء اللوم على الجنود الذين حاربوا بالفعل، لكن ليس على الجنرالات الذين رفضوا القيادة. ولو أن قيادة الحزب البلشفي كانت في أيدي ستالين وزينوفييف وكامينيف،، بدلا من لينين وتروتسكي، لكان نفس هؤلاء السيدات والسادة سيكتبون الآن، بالاعتماد على مجموعة كبيرة من الوقائع، كيف أن مصير الثورة الروسية كان هو الهزيمة منذ البداية، بسبب عدم نضج الظرف الموضوعي وموازين القوى الطبقية غير المواتية و“عدم نضج” الجماهير.

لقد أظهرت الجماهير، في الواقع، عن أكبر قدر من النضج والمبادرة، كما فعلت في كل ثورة. صحوة الجماهير ومستوى وعيهم العالي وكرامتهم التي اكتشفوها للتو باعتبارهم بشرا يمتلكون عقلا يفكر، تجلت بألف طريقة وطريقة. وأفضل طريقة للكشف عنها ليس من خلال الإحصاءات الجافة، بل بالتحديد من خلال الأحداث التي تضخ الحياة في الإحصاءات، مثل تلك التي استشهد بها ذلك المراقب النبيه للثورة الروسية، جون ريد، حيث يقول: «في كل مكان حولهم كانت روسيا العظمى في حالة مخاض تلد عالما جديدا. فالخدم الذين كانوا من قبل يعاملون مثل البهائم، وما كانوا يحصلون على أي أجر تقريبا، صاروا يحققون استقلالهم. ولما كان زوج من الأحذية يكلف أكثر من مائة روبل، في حين كانت الأجرة الشهرية لا تزيد وسطيا عن خمسة وثلاثين روبلا، فقد كان الخدم يرفضون الوقوف في الطابور وإتلاف أحذيتهم. ولكن الأكثر أهمية من ذلك هو أنه في روسيا الجديدة صار لكل الرجال والنساء الحق في التصويت. وظهرت جرائد عمالية تتحدث عن أشياء جديدة مدهشة؛ وظهرت السوفييتات؛ وظهرت النقابات. حتى الإيزفوتشيكي (سائقو العربات) كانت لهم نقابتهم، وكان لهم أيضا من يمثلهم في سوفييت بتروغراد. ونظم مستخدمو الفنادق والمطاعم صفوفهم وصاروا يرفضون البقشيش. علقوا على جدران المطاعم لافتات تقول: “لا نقبل البقشيش هنا” أو “أن يكون عمل الإنسان هو خدمة المائدة لكسب عيشه، ليس مبررا لإهانته بتقديم البقشيش له”»[133].

إن الحجة القائلة بأن البلاشفة قد استولوا على السلطة بدون الجماهير (أي نفذوا انقلابا) تقوم عادة على فكرة أن السلطة لم تحسم من طرف الطبقة العاملة بل من طرف الحزب. ومرة أخرى هذه الحجة خاطئة تماما. إن الطبقة العاملة بدون تنظيم -أي النقابات والحزب- ليست سوى مادة خام للاستغلال. لقد أشار ماركس إلى ذلك منذ وقت طويل. صحيح أن البروليتاريا تمتلك قوة هائلة، فلا يمكن لأي عجلة أن تدور ولا لأي مصباح أن يضيء، بدون إذنها. لكن بدون تنظيم تبقى هذه القوة مجرد إمكانية. وبنفس الطريقة يعد البخار قوة هائلة، لكنه بدون مكبس سيتبدد في الهواء. وبالتالي فمن أجل أن تتوقف قوة الطبقة العاملة عن أن تكون مجرد إمكانية وتصبح حقيقة، يجب تنظيمها وتركيزها في نقطة واحدة. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال حزب سياسي بقيادة شجاعة وبعيدة النظر وبرنامج صحيح. كان الحزب البلشفي، بقيادة لينين وتروتسكي، هو ذلك الحزب. فاستند على الحركة الجماهيرية الرائعة، وأعطاها شكلا محددا وهدفا وصوتا. كانت هذه هي خطيئتهم الأساسية من وجهة نظر الطبقة السائدة وخدمها الأوفياء داخل الحركة العمالية. هذا هو السبب وراء كراهيتهم للبلشفية وحقدهم عليها، وموقفهم العدائي والحانق تجاهها، والذي ما زال يحدد موقفهم منها حتى بعد ثلاثة أجيال.

أبدا لم يكن البلاشفة يتحركون خلف ظهور الجماهير، بل كانوا هم الحزب الذي أعطى تعبيرا واعيا لسعي الطبقة العاملة لتغيير المجتمع. إذا كنا لنقول شيئا عن الحزب خلال عام 1917، فهو أنه غالبا ما تخلف عن مواكبة المزاج الثوري للجماهير، وهي حقيقة أدركها لينين بسرعة، وتبدو واضحة في مصادر لا حصر لها، مثل المقتطف التالي من مذكرات الناشط البلشفي البارز، جندي البحرية راسكولنيكوف، الذي يتذكر لقاء جماهيريا للجنود، خاطبهم قبل فترة قصيرة من الانتفاضة، حيث يقول: «لقد اندهشت من حالة نفاد الصبر الثوري الذي وجدته في ذلك الاجتماع. شعرت أن كل واحد من هؤلاء الآلاف من الجنود والعمال كان مستعدا في أي لحظة للنزول إلى الشوارع وفي يده الأسلحة. مشاعرهم المليئة بالحقد، وكراهيتهم الشديدة تجاه الحكومة المؤقتة لم تكن تدفع في اتجاه السلبية على الإطلاق. لم يسبق لي أن رأيت مثل هذا الشغف الثوري والشوق الشديد للفعل إلا في كرونشتاد عشية أحداث يوليوز. ما يزال هذا يعزز إيماني العميق بأن قضية الثورة البروليتارية تسير على الطريق الصحيح»[134].

ومن الضروري أن نضيف أنه في كل مرحلة من مراحل الثورة كان البلاشفة يضعون نصب أعينهم منظور الثورة العالمية. لم يعتقدوا أبدا أنه بإمكانهم الاحتفاظ بالسلطة في روسيا وحدها. إن هذه الروح الأممية المتأججة تظهر مثل خيط ناظم في جميع كتابات وخطب لينين. في 24 أكتوبر، كتب إلى قادة الحزب دعوة حماسية للفعل، قال فيها: «إنني أحث الرفاق بكل قوة على إدراك أن كل شيء الآن معلق بخيط؛ وأننا نواجه مشاكل لا تحلها الكونفرانسات أو المؤتمرات (بما في ذلك مؤتمرات السوفييتات)، بل تحلها الشعوب وحدها، تحلها الجماهير، يحلها نضال الشعب المسلح»[135].

انتصار البلشفية

تم الاستيلاء الفعلي على السلطة بسلاسة حتى أن الكثيرين لم يعرفوا أنه حدث. ولهذا السبب فإن أعداء ثورة أكتوبر يصورونها على أنها كانت انقلابا. في الواقع هناك سببان وراء تلك السلاسة: أحدهما تقني والآخر سياسي. لقد تم تنفيذ الاستعدادات التقنية للهجوم النهائي بدقة كبيرة من قبل اللجنة العسكرية الثورية، بقيادة تروتسكي. كانت القاعدة الأساسية، كما هو الحال دائما في الحروب، هي تركيز القوى، في اللحظة الحاسمة وعند النقطة الحاسمة، بما يخلق تفوقا ساحقا للقوى، ثم الضرب بقوة. لكن هذا ليس كافيا أثناء الانتفاضة، إذ لعب عنصر المفاجأة والمناورة، لخداع العدو فيما يتعلق بالنوايا الحقيقية للثوار، دورا مهما هنا، كما في أي نوع آخر من العمليات العسكرية. لقد تم تقديم كل خطوة على أنها خطوة دفاعية، لكن طبيعة الانتفاضة كانت في الواقع ومن الناحية العملية، هجومية بالضرورة، حيث تحركت بسرعة لتحتل المواقع الواحد منها تلو الآخر، ومداهمة العدو على حين غرة.

لكن السبب الحقيقي وراء تنفيذ الانتفاضة بتلك السرعة ودون ألم تقريبا، لم يكن عسكريا ولا تقنيا، بل كان سياسيا. كانت تسعة أعشار مهام الانتفاضة قد تم إنجازها مسبقا -من خلال كسب أغلبية ساحقة في سوفييتات العمال والجنود. وعندما دقت ساعة الحقيقة، لم تجد الحكومة المؤقتة، مثلما حدث للنظام القيصري في فبراير، من يدافع عنها. يظهر الموقف الحقيقي في لحظة الانتفاضة من خلال تصريحات أحد الفاعلين الرئيسيين في الأحداث- كيرينسكي، الذي كتب في مقتطف مليء بالسخرية والحسرة: «كانت ليلة 24-25 أكتوبر ليلة توقعات محمومة. كنا ننتظر وصول القوات من الجبهة. لقد استدعيتهم في الوقت المناسب وكان من المقرر أن يصلوا إلى بتروغراد صباح 25 أكتوبر. لكن وبدلا من وصول القوات، كل ما حصلنا عليه هو برقيات ومكالمات هاتفية تقول إن السكك الحديدية تتعرض للتخريب.

في الصباح (25 أكتوبر)، لم تكن القوات قد وصلت بعد. كان مقر الهاتف المركزي ومكتب البريد ومعظم المكاتب الحكومية قد احتلت من قبل فيالق من الحرس الأحمر. كما أن المبنى الذي كان يضم مجلس الجمهورية، والذي كان في اليوم السابق فقط مسرحا لمناقشات غبية ولا نهائية، قد احتل أيضا من قبل الحرس الأحمر»[136].

نفس كيرينسكي، الذي كان في وقت سابق يتباهى أمام السفير البريطاني بأنه ينتظر فقط أن يقوم البلاشفة بالتحرك لكي يسحقهم، وجد نفسه الآن بدون قوات تقوم بالمهمة واضطر للفرار من بتروغراد في سيارة تكرمت السفارة الأمريكية بتوفيرها له.

ليس هذا هو المكان المناسب لتكرار تاريخ الانتفاضة بالتفصيل، فقد تم التطرق إلى ذلك بما فيه الكفاية في كتابات جون ريد وليون تروتسكي. إن ما يثير الدهشة في ثورة أكتوبر هو كيف تمكنت من أن تعمل تحت الأنظار المركزة للرأي العام. لو أن الناس لم يكونوا على علم بأن البلاشفة ينوون الاستيلاء على السلطة، فإن التصريحات العلنية التي قام بها كامينيف وزينوفييف كانت ستنبههم إلى الحقيقة. الجريدة الفرنسية “Entente”، التي كانت تصدر في بتروغراد، كتبت في 15 نوفمبر، أي بعد أسبوع على الثورة: «حكومة كيرينسكي تناقش وتتردد، بينما حكومة لينين وتروتسكي تهاجم وتعمل. يطلق على هذه الأخيرة اسم حكومة المتآمرين، لكن هذا خطأ. إنها حكومة المغتصبين، أجل، مثلها في ذلك مثل جميع الحكومات الثورية التي تنتصر على خصومها. أما المتآمرين فلا! كلا! إنهم لم يتآمروا. بل على العكس من ذلك تماما، لقد تحركوا علنا وبجرأة ودون تلاعب بالكلمات ودون إخفاء لنواياهم، وضاعفوا من تحريضهم وكثفوا دعايتهم في المصانع والثكنات وعلى الجبهة وداخل البلد، وفي كل مكان، حتى أنهم حددوا مسبقا موعد حملهم للسلاح وموعد استيلائهم على السلطة… هل هم متآمرون؟ أبدا…»[137].

في مساء 24 أكتوبر، بدأت مجموعات من الحرس الأحمر في احتلال مطابع الصحافة البرجوازية، حيث طبعوا أعدادا كبيرة من الإعلانات الثورية وكذلك الجرائد البلشفية، مثل رابوتشي بوت وسولدات. الجنود الذي تلقوا الأمر بمهاجمة تلك المطابع رفضوا الامتثال. كانت هذه هي الصورة العامة في بتروغراد. كانت المقاومة غير موجودة عمليا. بينما كان المندوبون إلى المؤتمر يراقبون من المداخل -بعضهم بحذر، والبعض الآخر بشغف- خروج فيالق الجنود والبحارة من قصر سمولني إلى النقاط الرئيسية في المدينة. وفي الساعة الواحدة صباحا، احتلوا وكالة التلغراف. بعد نصف ساعة، تم الاستيلاء على مكتب البريد. وفي الساعة الخامسة تم الاستيلاء على مكتب الهاتف. بحلول العاشرة صباحا تم ضرب طوق حول قصر الشتاء، حيث كان من المتوقع أن تكون بعض المقاومة. لكنه في الواقع سقط بسهولة.

لم تعمل انتفاضة أكتوبر إلا أعلى تأكيد الشيء الذي كان واقعا بديهيا. كان الجميع يعلم أن البلاشفة وحلفاؤهم سيحصلون على أغلبية حاسمة في مؤتمر السوفييتات. لذلك اتخذ القرار بأن تتزامن الانتفاضة مع افتتاح أشغال المؤتمر. كان من الواضح أن الجانب الرسمي هنا يجب أن يأخذ المركز الثاني وراء متطلبات العملية العسكرية. إن الفكرة القائلة بأن مسألة الانتفاضة المسلحة يجب تحديدها من خلال نقاش عام في المؤتمر سخيفة مثل سخافة المطالبة بمناقشة خطط معركة حربية في جلسة علنية في البرلمان خلال زمن الحرب. أي شخص يطالب بمثل هذا الأمر سيُصنَّف بلا شك خائنا وربما يُحتجز في ملجأ للمجرمين المجانين. ومع ذلك فإن هذه الاعتبارات لم تمنع منتقدي ثورة أكتوبر من الشكوى من أن لينين وتروتسكي لم ينتظرا الموافقة الرسمية من طرف مؤتمر السوفييتات قبل شن الهجوم. ليس لمثل هذه الحجج أي منطق. لقد كان رأي الأغلبية الساحقة من العمال والجنود معروفا جيدا: يجب أن تستولي السوفييتات على السلطة. وقد تمت تسوية هذا بشكل مسبق، وجاء المؤتمر لكي يضع توقيعه عليه. وبمجرد أن تم حل هذه المسألة المركزية، صارت مهمة تحديد متى وكيف يجب القيام بالانتفاضة -والذي هو قرار تقني وعسكري بحت- مهمة الهيئات المختصة، وقد كانت في هذه الحالة هي اللجنة العسكرية الثورية، وفقا لقوانين الحرب وليس وفقا للديمقراطية الشكلية.

في الساعة 14:35، افتتح تروتسكي جلسة طارئة لمجلس سوفييت بتروغراد. وعند صعوده إلى المنصة، صاح بالكلمات التي كان الجميع ينتظرونها: «نيابة عن اللجنة العسكرية الثورية، أعلن أن الحكومة المؤقتة لم تعد موجودة! عاشت اللجنة العسكرية الثورية!».

وبدأ يسرد مكتسبات الانتفاضة تباعا، ولم يتوقف إلا لكي يشرح الوضع في قصر الشتاء، حيث قال: «لم يتم الاستيلاء على قصر الشتاء بعد، لكن مصيره سيتقرر قريبا… في تاريخ الحركات الثورية، لا أعرف أي أمثلة عن حركة شهدت مشاركة مثل هذا العدد الهائل من الجماهير وتطورت دون سفك دماء. لقد كانت سلطة الحكومة المؤقتة، برئاسة كيرينسكي، قد ماتت، وتنتظر ضربة مكنسة التاريخ للتخلص منها… نام السكان بسلام ولم يعرفوا أنه في ذلك الوقت تم استبدال سلطة بأخرى»[138].

عند هذه اللحظة دخل لينين إلى القاعة، وهو ما يزال متنكرا في زي عامل. وفي منتصف خطابه، توقف تروتسكي مؤقتا وتوجه إلى الرجل الذي كان قد صار متحدا معه بشكل كامل كرفيق سلاح. كانت كل خلافات الماضي قد نسيت في خضم النضال. “عاش الرفيق لينين، الذي عاد إلينا مرة أخرى”، كانت هذه هي كلمات تروتسكي وهو يترك المنصة للينين، الذي خاطب المندوبين لأول مرة. وفي خطابه التاريخي أمام مؤتمر السوفييتات، في 25 أكتوبر 1917، قال:

«أيها الرفاق، إن ثورة العمال والفلاحين، التي كان البلاشفة يتحدثون دائما عن ضرورتها قد أنجزت.

ما هي أهمية ثورة العمال والفلاحين؟ إن أهميتها هي، أولا وقبل كل شيء، أنه ستكون لدينا حكومة سوفياتية، سيكون لدينا جهاز السلطة الخاص بنا، حيث لن يكون للبرجوازية أي نصيب على الإطلاق. الجماهير المضطهَدة نفسها هي من ستصنع السلطة. سيتم تحطيم جهاز الدولة القديم من أسسه وسيتم إنشاء جهاز إداري جديد على شكل منظمات سوفياتية.

تبدأ من الآن فصاعدا مرحلة جديدة في تاريخ روسيا، وهذه الثورة الروسية الثالثة يجب أن تؤدي في النهاية إلى انتصار الاشتراكية.

إن إحدى مهامنا الملحة هي وضع حد فوري للحرب. من الواضح للجميع أنه من أجل إنهاء هذه الحرب، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظام الرأسمالي الحالي، يجب النضال ضد رأس المال نفسه.

وستساعدنا في ذلك حركة الطبقة العاملة العالمية، التي بدأت بالفعل تتطور في إيطاليا وبريطانيا وألمانيا.

إن الاقتراح الذي نقدمه للديمقراطية الأممية من أجل سلام عادل وفوري، سوف يوقظ في كل مكان استجابة حماسية بين الجماهير البروليتارية الأممية. يجب نشر جميع المعاهدات السرية على الفور من أجل تعزيز ثقة البروليتاريا.

داخل روسيا، قال قسم كبير من الفلاحين إنهم راهنوا على الرأسماليين فترة طويلة بما يكفي، وإنهم سوف يسيرون الآن مع العمال. إن مرسوما واحدا يضع حدا للملكية العقارية سيكسبنا ثقة الفلاحين. سيفهم الفلاحون أن خلاصهم ممكن فقط بالتحالف مع العمال. سوف ننشئ رقابة عمالية حقيقية على الإنتاج.

لقد تعلمنا الآن بذل جهود متضافرة. والثورة التي تم تحقيقها للتو هي دليل على ذلك. إننا نمتلك قوة التنظيم الجماهيري الذي سيتغلب على كل شيء وسيقود البروليتاريا إلى الثورة العالمية.

يجب أن نبدأ الآن في بناء دولة اشتراكية بروليتارية في روسيا.

عاشت الثورة الاشتراكية العالمية!، (تصفيق عاصف)»[139].

النضال داخل المؤتمر

لقد انتصرت الانتفاضة بكل المقاييس. الهدف الوحيد الذي لم يكن قد تحقق بعد هو الاستيلاء على قصر الشتاء، الذي ظل في أيدي القوات الموالية للحكومة. عبر لينين، الذي كان يأمل في أن تنتهي الانتفاضة قبل افتتاح مؤتمر السوفييتات، عن نفاد صبره من ذلك التأخير، الذي نتج عن قلة خبرة الثوار. تم التحضير السياسي للانتفاضة باحترافية أكبر بكثير من التحضير التقني، الذي كان أبعد ما يكون عن الكمال. كانت هناك العديد من العيوب التنظيمية. وصلت القوات في وقت متأخر بسبب انفجار أنابيب إحدى القاطرات، واتضح أن قذائف مدفع الهجوم كان حجمها خاطئا، كما لم يتمكنوا من العثور على فانوس أحمر للإشارة إلى بداية الهجوم، وما إلى ذلك. لكن في النهاية، لم يكن أي من هذه الأشياء حاسما. مثل تلك المفارقات تنتمي إلى صنف الحوادث التاريخية. كان الأمر الحاسم هو كسب الجماهير مما ترك الحكومة المؤقتة معزولة ومشلولة عندما دقت ساعة الحقيقة. وهكذا فعلى الرغم من وجود ثلاثة آلاف مُدافع داخل قصر الشتاء، فإنهم فروا ببساطة أثناء الليل. كان الضباط القادة في الداخل يفهمون الوضع الحقيقي. وقد تم عقد مجلس حرب، أدلى فيه الأدميرال فيرديريفسكي بملاحظة ذكية حين قال: «لا أعرف لماذا تم عقد هذه الجلسة، ليست لدينا قوة عسكرية حقيقية وبالتالي فنحن غير قادرين على اتخاذ أي إجراء مهما كان».

تم الاستيلاء على قصر الشتاء بدون إراقة دماء، وفي عملية أقرب إلى مداهمة بوليسية عادية. عندما أطلق الطراد أورورا طلقات تحذيرية تبخرت حامية القصر ببساطة أثناء الليل. وقد خاطب وزير الزراعة الاشتراكي الثوري اليميني، سيميون ماسلوف، مجلس الدوما بيأس: «لقد أرسلتنا الديمقراطية إلى الحكومة المؤقتة. لم نكن نريد أي مناصب، لكننا ذهبنا. لكن الآن، عندما وقعت المأساة، عندما بدأ يتم إطلاق النار علينا، لا أحد يدعمنا»[140].

وعندما انطلق الهجوم في النهاية، لم تكن هناك أي مقاومة. في حوالي الساعة الثانية صباحا، وبينما كان أعضاء الحكومة المؤقتة المرهقون والمحبطون جالسين حول الطاولة ينتظرون، انفتح الباب بقوة، وكان هذا ما وقع حسب أحد الحاضرين: «دخل رجل صغير إلى الغرفة، مثل قشة تقذفها موجة، تحت ضغط الغوغاء الذين تدفقوا وانتشروا بسرعة، ومثل الماء ملأوا كل أركان الغرفة».

كان الرجل الصغير هو أنتونوف أوفسيينكو من اللجنة العسكرية الثورية. قال الوزير كونوفالوف: “الحكومة المؤقتة هنا، ماذا تريدون؟”. فجاء الجواب القطعي: “أنتم جميعا رهن الاعتقال”.

كان من المقرر بدء أشغال مؤتمر السوفييتات على الساعة الثانية مساء، لكن تم تأجيله، وفتح أبوابه أخيرا على الساعة 10:40 مساء، بينما كان حصار قصر الشتاء ما يزال مستمرا. وقد تخللت المناقشات أصوات إطلاق النار أحيانا. وداخل المؤتمر كان هناك عرض درامي.

لقد كانت جلسة بالغة الأهمية. أعلن تروتسكي، باسم اللجنة العسكرية الثورية، أن الحكومة المؤقتة لم تعد موجودة. وقال: “إن طبيعة الحكومات البرجوازية هي خداع الشعب. نحن سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين، سنخوض تجربة فريدة من نوعها في التاريخ؛ سنبني سلطة لن يكون لها أي هدف آخر سوى تلبية احتياجات الجنود والعمال والفلاحين”.

أعطى التصويت في المؤتمر أغلبية واضحة للبلاشفة وحلفاءهم الاشتراكيين الثوريين اليساريين. فمن أصل 670 مندوبا، كان هناك 300 من البلاشفة و193 من الاشتراكيين الثوريين -أكثر من نصفهم من اليسار- و82 من المناشفة – من بينهم 14 مناشفة أمميون. وكما رأينا فقد كان البلاشفة يتمتعون بنفوذ قوي في المراكز الصناعية الرئيسية في الشمال والغرب. وكانت قاعدة دعمهم ما تزال تنمو. افتتح المؤتمر أشغاله بانتخاب هيئة رئاسة السوفييت. قدم البلاشفة قائمة مشتركة مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين والمناشفة الأمميين. وكانت النتيجة: 14 بلاشفة، 07 اشتراكيين ثوريين، 04 مناشفة، إلا أن هؤلاء الأخيرين رفضوا شغل المقاعد المخصصة لهم. وقد صوتت الغالبية العظمى داخل المؤتمر لصالح تشكيل حكومة سوفياتية.

كان سخط المناشفة والاشتراكيين الثوريين لا حدود له. وعندما أعلن تروتسكي أن الانتفاضة قد انتصرت، وأن القوات الموالية للحكومة المؤقتة كانت تقترب من بتروغراد، وأنه يجب إرسال وفد إليهم لإخبارهم بالحقيقة، كان هناك صراخ “أنت تستبق إرادة مؤتمر السوفييتات!”، لكن وقت المجاملات الشكلية كان قد انتهى، فأجاب تروتسكي ببرود: «لقد تم استباق إرادة مؤتمر سوفييتات عموم روسيا من خلال انتفاضة عمال وجنود بتروغراد».

لم يكن المناشفة والاشتراكيون الثوريون وحدهم من يعارض الانتفاضة. فحتى في تلك الساعة المتأخرة كان البلاشفة التوفيقيون ما يزالون يعارضون الاستيلاء على السلطة. سرد جون ريد حكاية عن لقاء مؤقت جمعه مع ريازانوف، نائب رئيس النقابات العمالية حيث قال: «كان يبدو أسودا ويعض لحيته الرمادية. وصرخ: “هذا جنون! جنون!”. “إن الطبقة العاملة الأوروبية لن تتحرك! وكل روسيا” -ثم لوح بيده بشكل عشوائي وهرب». مارتوف الذي كان آنذاك مريضا جدا، حافظ على تذبذبه حتى النهاية. وآمال لينين في أنه سيجد طريقه أخيرا إلى المعسكر الثوري كانت عقيمة. أصر مارتوف على تشكيل حكومة ائتلافية مع القادة الاشتراكيين اليمنيين “من أجل منع الحرب الأهلية”. كان ذلك الاقتراح، في الواقع، سيبطل الانتفاضة وسيعيد عقارب الساعة إلى وضعها السابق. مثل ذلك الخيار كان غير وارد على الإطلاق. كان كل من لينين وتروتسكي يعارضانه، لكن التوفيقيين كانوا مؤيدين له. أعلن لوناتشارسكي، نيابة عن الفريق البلشفي، أنه ليس لديه أي اعتراض على ذلك الاقتراح، والذي تم تمريره بالفعل. لكن المناشفة سرعان ما كشفوا إفلاس ذلك الاقتراح من خلال تنديدهم بالإطاحة بالحكومة المؤقتة، ثم انسحبوا من المؤتمر. وأثناء خروجهم، وسط السخرية والصفير من جانب المندوبين، قصفهم صوت تروتسكي قائلا: «كل هؤلاء الذين يسمون بالاشتراكيين المساومين، هؤلاء المرعوبين المناشفة والاشتراكيين الثوريين والبوند، دعوهم يذهبون! إنهم مجرد نفايات سيتم رميها في مزبلة التاريخ!»[141].

لم يكن انتصار الانتفاضة هو الحلقة الأخيرة للثورة البلشفية. فقد احتشدت قوى الردة الرجعية وحاولت شن هجوم مضاد، لكنها تعرضت للهزيمة. ثم اندلعت حرب أهلية دامية ضد البلاشفة استمرت أربع سنوات أخرى. في ذلك الصراع واجهت السلطة السوفياتية قوى الإمبريالية العالمية، على شكل 21 جيشا غازيا أجنبيا. في إحدى المراحل كان كل ما تبقى في أيدي البلاشفة من أراض هي المنطقة المحيطة بموسكو وبتروغراد، والتي تعادل تقريبا مسكوفي القديمة. ومع ذلك تم هزم أعداء الثورة الواحد منهم تلو الآخر. ومن شظايا الجيش القيصري القديم، تمكن تروتسكي من بناء قوة بروليتارية جديدة، هي الجيش الأحمر، الذي أدهش العالم بانتصاراته. كانت بسالة وتنظيم وانضباط الجيش الأحمر هي مفتاح النصر، لكنه لم يكن لينجح بدون النداء الأممي للثورة البلشفية. فمن خلال الأممية الشيوعية وجه لينين وتروتسكي نداء إلى عمال العالم، تم استقباله بحماس شديد. فقد رفض عمال الموانئ البريطانيون تحميل سفن الأسلحة المتجهة إلى القوات المعادية للثورة في بولندا. وكانت هناك تمردات في كل الجيوش التي أرسلت للقتال ضد البلاشفة. وعلى عكس كل التوقعات تمكنت السلطة السوفياتية من النجاة لتظهر للعالم للمرة الأولى أنه من الممكن إدارة المجتمع بدون رأسماليين ومصرفيين وملاك أراضي. صحيح أن الثورة الروسية، في ظل ظروف التخلف الاقتصادي والثقافي الفظيع، عانت من انحطاط بيروقراطي، لكن ليس قبل أن تقدم دليلا مذهلا على الإمكانات الهائلة للاقتصاد المخطط المؤمم.

«يمكننا تلخيص التطور التاريخي للبشرية في مجمله على أنه سلسلة من انتصارات الوعي على القوى العمياء، في الطبيعة وفي المجتمع وفي الإنسان نفسه. يمكن للفكر النقدي والإبداعي أن يتباهى بتحقيقه حتى الآن لأعظم الانتصارات في الصراع مع الطبيعة. لقد وصلت العلوم الفيزيائية والكيميائية بالفعل إلى درجة أن الإنسان صار على وشك أن يصبح سيد المادة. لكن العلاقات الاجتماعية ما تزال تنمو بشكل بطيء جدا. الديمقراطية البرلمانية مجرد ديمقراطية شكلية. إنها بالمقارنة مع الأنظمة الملكية وغيرها من بقايا الماضي، تمثل بالطبع مكتسبا مهما، لكنها لا تمس القوى العمياء للعلاقات الاجتماعية بين الطبقات في المجتمع. وقد كانت ثورة أكتوبر أول من وقف في مواجهة هذه القوى العمياء. أراد النظام السوفياتي أن يضع هدفا وخطة وتنظيما للمجتمع الذي بقي حتى الآن محكوما بتراكم الأفعال وردود الأفعال»[142].

سنترك الكلمة الأخيرة للثورية العظيمة التي طالما تم تصويرها، زورا هي أيضا، بأنها كانت معارضة عنيدة للينين وللبلشفية. فمن زنزانتها في ألمانيا، رحبت روزا لوكسمبورغ بثورة أكتوبر بالكلمات التالية: «فقط الحزب الذي يعرف كيف يقود، أي يعرف كيف يدفع الأشياء إلى الأمام، هو من يكسب الدعم في الأوقات العصيبة. إن العزيمة التي قدم بها لينين ورفاقه، في اللحظة الحاسمة، الحل الوحيد الذي يمكن أن يدفع الأشياء (“كل السلطة في يد البروليتاريا والفلاحين”)، حولتهم، بين عشية وضحاها تقريبا، من أقلية مضطهَدة ومفترى عليها ومحظورة، كان على قائدها أن يختبئ مثل مارات في الأقبية، إلى متحكمين بشكل مطلق في الموقف.

وعلاوة على ذلك فقد حدد البلاشفة على الفور هدف الاستيلاء على السلطة في برنامج ثوري كامل وبعيد المدى: ليس حماية الديمقراطية البرجوازية، بل إقامة ديكتاتورية البروليتاريا لغرض تحقيق الاشتراكية. وبذلك كسبوا لأنفسهم التميز التاريخي الخالد بكونهم أول من وضع الهدف النهائي للاشتراكية كبرنامج مباشر للسياسة العملية.

إن كل ما يمكن للحزب أن يقدمه، في لحظة تاريخية، من شجاعة وبُعد نظر ثوري وثبات، قد قدمه بشكل جيد لينين وتروتسكي وغيرهما من الرفاق. لقد مثل البلاشفة كل الشرف الثوري والكفاءة الثورية اللذان افتقرت إليهما الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الغربية. لم تكن انتفاضتهم في أكتوبر إنقاذا للثورة الروسية فقط، بل إنقاذا لشرف الحركة الاشتراكية الأممية».

يمكن لحكم روزا لوكسمبورغ النهائي على الحزب البلشفي أن يكون الكلمة الأخيرة للتاريخ في حق أعظم حزب ثوري في التاريخ: «إن المطلوب هو التمييز بين ما هو جوهري وما هو ثانوي، بين الثابت والعرضي في سياسات البلاشفة. في الفترة الحالية، حيث نواجه صراعات نهائية حاسمة في كل أنحاء العالم، صارت مسألة الاشتراكية هي المسألة الأكثر ملحاحية في عصرنا. لا يتعلق الأمر بهذه المسألة التكتيكية الثانوية أو تلك، بل بقدرة البروليتاريا على الفعل، وقوة الفعل، والرغبة في حسم الاشتراكية للسلطة. وفي هذا الصدد كان لينين وتروتسكي ورفاقهما هم الأولون، هم من قدموا المثال للبروليتاريا العالمية؛ وما زالوا الوحيدين حتى الآن الذين يمكنهم القول مع هوتن: “لقد تجرأت!”.

هذا هو الشيء الأساسي والثابت في السياسة البلشفية. وبهذا المعنى فإن لهم الفضل في خدمتهم التاريخية الخالدة بسيرهم في طليعة البروليتاريا الأممية لحسم السلطة السياسية ووضعهم لمسألة تحقيق الاشتراكية على أرض الممارسة العملية، ولكونهم طرحوا بحزم مسألة حسم الصراع بين رأس المال والعمل في العالم كله. في روسيا لا يمكن إلا طرح المسألة فقط، لكن لا يمكن حلها في روسيا وحدها. وبهذا المعنى، فإن المستقبل في كل مكان ينتمي إلى “البلشفية”»[143].


هوامش ومراجع

[1]  J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p: 59.

[2]   الأوبريشنيكي هي قوات الأمن الخاصة التي أسسها إيفان الرهيب، حاكم موسكو الدموي خلال القرن 15، وكانت مشهورة بجرائمها الدموية.

[3]  F.F. Raskolnikov, Kronstadt and Petrograd in 1917, p: 1.

[4]  J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p: 60.

[5]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp: 105-106.

[6]  Ibid., p: 158.

[7] Marcel Liebman, Leninism under Lenin, pp. 119-20.

[8]  Izvestiya 2/3/17

[9]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, pp: 121, 120.

[10]  N. Sukhanov, Zapiski o revolutsii, vol. 1, pp: 50 and 94.

[11]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 117 and 118.

[12]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 300.

[13]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 117.

[14]   كتاب Istoriya الذي يصف انتفاضة فبراير، دون أي أساس، بأنها كانت مبادرة بلشفية بحتة، يقف عاجزا عن تفسير لماذا كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون هم المستفيدين الرئيسيين منها!

[15]  L. Trotsky, The Russian Revolution, in The Essential Trotsky, pp: 27-28.

[16]  L. Trotsky, Lessons of October, in Writings 1935-1936, pp: 167-68.

[17]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 127.

[18]  Istoriya KPSS, vol. 2, pp: 674 and 688.

[19]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 122.

[20]  L. Trotsky, Stalin, p: 181.

[21]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 123.

[22]  E.H. Carr, The Bolshevik Revolution, vol. 1, p: 75.

[23]  J.V. Stalin, Works, vol. 3, p: 8.

[24] L. Trotsky, The Stalin School of Falsification, pp: 239, 240, 241, 242, 255, 256, 258, 274, 275.
التي تعيد نشر المحاضر الرسمية للكونفرانس، (التشديد من آلان وودز).

[25]  LCW, Telegram to the Bolsheviks Leaving for Russia, 6 (19) March 1917, vol. 23, p: 292, 298, 304, 305, 306 and 317 (خط التأكيد في الأصل)

[26]  LCW, Letters on Tactics, vol. 24, p: 50.

[27]  L. Trotsky, Leon Trotsky Speaks, pp: 46-47.

[28]  G. Zinoviev, History of the Bolshevik Party, pp: 177-178.

[29]  N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 338.

[30]  L. Trotsky, My Life, pp: 329-330.

[31]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 123.

[32]  N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 347 and 348.

[33]  F.F. Raskolnikov, Kronstadt and Petrograd in 1917, pp: 71 and 76-77.

[34]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp: 338 and 339.

[35]  LCWThe Seventh (April) All-Russia Conference of the RSDLP(B), vol. 24, pp: 227, 245 and 306. (التشديد من آلان وودز)

[36]  LCWLetters on Tactics, vol. 24, p: 44.

[37]  LCWReport at a Meeting of Bolshevik Delegates, vol. 36, p: 437.

[38]  LCWLetters on Tactics, vol. 24, pp: 45, 46 and 50. (التشديد من آلان وودز)

[39]  LCWTo Karl Radek, 29 May (11 June), 1917, vol. 43, p: 632 and 634-635.

[40]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 291.

[41]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p: xxxii.

[42]  LCW, vol. 25, p: 237.

[43]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p: xxviii.

[44]  L. Trotsky, Writings 1935-1936, pp: 166-167.

[45]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, pp: xxi and xxxi.

[46]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 134.

[47]  S.F. Cohen, Bukharin and the Bolshevik Revolution, p: 50.

[48]  LCWThe 7th (April) All-Russia Conference of the RSDLP(B), vol. 24, p: 236. (التشديد من آلان وودز)

[49]  LCW,A Shameless Lie of the Capitalists, vol. 24, pp: 110-111.

[50]  LCWResolution of the CC of the RSDLP(B) Adopted 21 April (4 May), 1917, vol. 24, p: 201.

[51]  LCW,Titbits for the Newborn Government, vol. 24, p: 363.

[52]  LCWOn Slogans, vol. 25, p: 184.

[53]  LCW, ‘On Compromises’, vol. 25, p: 307.

[54]  LCW, ‘The Russian Revolution and Civil War’, vol. 26, p: 36.

[55]  Ibid., pp: 37 and 38.

[56]  LCW, vol. 21, book I, pp: 257 and 263-264.

[57]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 816, (التشديد من آلان وودز)

[58]  The Case of Leon Trotsky, p: 384.

[59]  LCWA Disorderly Revolution, vol. 25, p: 129.

[60]  J.L.H. Keep, The Rise of Social Democracy in Russia, pp: 91 and 95.

[61]  LCWFirst All-Russia Congress of Soviets, vol. 25, p: 18.

[62]  Ibid., pp: 21-23 and 26-27.

[63]  LCWAn Alliance to Stop the Revolution, vol. 25, p: 53.

[64]  L. Trotsky, The Russian Revolution, in The Essential Trotsky, pp: 35-36 and 37.

[65]  A. Rabinowitch, Prelude to Revolution: The Petrograd Bolsheviks and the July 1917 Uprising, pp. 117-8 and 121-2.

[66]  O. Figes, A Peoples Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p: 424.

[67]  Ibid., pp: 38-39 and 431.

[68]  Ibid., p: 433.

[69]  LCWTo the Bureau of the Central Executive Committee, vol. 43, p: 636.

[70]  N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 366.

[71]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p: 34

[72]  Ibid., p: 41.

[73]  Ibid., p: 36.

[74]  Ibid., p: 45.

[75]  The Age of Permanent Revolution, pp: 98-99     (التشديد من آلان وودز)

[76]  A. Rabinowitch, Bolsheviks Come to Power, p: 37.

[77]  LCWNote to L.B. Kamenev, vol. 36, p: 454.

[78]  LCWThe Political Situation, vol. 25, pp: 177-178.

[79]  LCWTheses for a Report at the 8 October Conference of the Petrograd Organisation, vol. 26, p: 143.

[80]  A. Rabinowitch, Bolsheviks Come to Power, p: 77.

[81]  LCWFrom the Theses for a Report at the 8 October Conference of the St. Petersburg Organisation, vol. 41, p: 447.

[82]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 814.

[83]   يعطي بعض المؤلفين تقديرا أقل، ربما لكونهم يعتمدون على معطيات شليابنيكوف. ومع ذلك فإن تقديرات شليابنيكوف مشكوك فيها، لكونه كان يعبر عن موقف معادي تجاه ميزرايونتسي، ربما بسبب ترددها في الانضمام إلى البلاشفة قبل ثورة فبراير. أما رقم حوالي 4.000 عضو الذي ذكره تروتسكي، قد أكده كل من إ. هـ كار في كتابه عن الثورة البلشفية، المجلد 01، 102 وفي إشارة توضيحية لأعمال لينين المختارة، المجلد 24، 601. (الطبعة الانجليزية).

[84]  The Case of Leon Trotsky, p: 21.

[85]  E.H. Carr, The Bolshevik Revolution, vol. 1, p: 99.

[86]  LCWThe Question of the Internationalists, 31 (18) May, 1917, vol. 24, pp: 431-432.

[87]  E.H. Carr, The Bolshevik Revolution, vol. 1, p: 89.

[88]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 811.

[89]  Istoriya KPSS, vol. 2, pp. 657-8, note.

[90]  LCWFrom the Thesis for a Report at the 8 October Conference of the St. Petersburg Organisation, vol. 41, p: 447.

[91]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, pp: 59, 62.

[92]  لويس كافينياك جنرال فرنسي شغل منصب وزير الحربية في الحكومة المؤقتة التي جاءت بعد ثورة فبراير 1848 في فرنسا، قام بقمع انتفاضة عمال باريس في يونيو من تلك السنة.

[93]  LCWOn Slogans, vol. 25, pp: 188, 189.

[94]  A. Rabinowitch, Bolsheviks Come to Power, p: 68.

[95]  O. Figes, A Peoples Tragedy: The Russian Revolution 1891-1824, pp: 445-46.

[96]  LCWTo the CC of the RSDLP, vol. 25, pp: 285-286.

[97]  LCWTo the CC of the RSDLP, vol. 25, 286.

[98]  O. Figes, A Peoples Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p: 452.

[99]  J.L.H. Keep, The Rise of Social Democracy in Russia, p: 142.

[100]  O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, p: 189.

[101]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 805.

[102]  O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, pp: 190-191.

[103]  L. Kochan, Russia in Revolution, p: 269.

[104]  J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p: 101.

[105]  O. Anweiler, Los Soviets en Rusia, pp: 187, 186.

[106]   شهر ماي في التقويم الجديد، ويقصد به شابيرو كونفرانس أبريل.

[107]  L. Schapiro, The Communist Party of the Soviet Union, p: 171.

[108]  LCWThe Bolsheviks Must Assume Power, vol. 26, p: 19.

[109]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, pp. 137, 69, 81 and 82.

[110]  LCWThe Crisis has Matured, vol. 26, p: 84.

[111]  LCW, vol. 26, p: 530, note 4.

[112]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 836.

[113]  LCWFrom a Publicists Diary, vol. 26, pp: 57-58.

[114]  LCWMeeting of the Central Committee of the RSDLP(B) 10 (23) October, 1917, vol. 26, p: 188.

[115]  LCWLetter to the Bolshevik Comrades Attending the Congress of Soviets of the Northern Region, vol. 26, p: 182.

[116]  LCWMeeting of the Central Committee of the RSDLP(B) 10 (23) October, 1917, vol. 26, p: 188.

[117]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 989.

[118]  LCWThe Turning Point, vol. 25, p: 83.

[119]  F.F. Raskolnikov, Kronstadt and Petrograd in 1917, pp: 256-257.

[120]  LCW, vol. 26, p: 547, note 79.

[121]  O. Anweiler, Los Soviets en Rusia: 1905-1921, p: 194.

[122]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p: 226.

[123]   ليبمان هو من يعطي هذا الرقم، أما شابيرو فإنه، بالاعتماد على مصادر مختلفة، يقدر العدد بـ 200.000 عضو.

[124]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, p: 158.

[125]  LCWThe Russian Revolution and Civil War, vol. 26, p: 32.

[126]  Protokoly Tsentralnogo Komitera RSDRP b, p: 116.

[127]  LCWLetter to the CC of the RSDLP(B), vol. 26, p: 223-227.

[128]  M. Liebman, Leninism Under Lenin, pp: 179-180.

[129]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, vol. 3, pp: 211-212,  (التشديد من آلان وودز)

[130]  LCWMarxism and Insurrection, vol. 26, p: 22.

[131]  J. Reed, Ten Days that Shook the World, p: 298  (التشديد من آلان وودز)

[132]  V. Serge, Year One of the Russian Revolution, p. 87.

[133]  J. Reed, Ten Days That Shook the World, p: 14.

[134]  F.F. Raskolnikov, Kronstadt and Petrograd in 1917, p: 266.

[135]  LCWLetter to the Central Committee Members, vol. 26, p: 234.

[136]  A. Kerensky, Memoirs, p: 437.

[137]  J. Reed in Ten Days That Shook the World, p. 107.

[138]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p. 278.

[139]  LCWMeeting of the Petrograd Soviet of Workers and Soldiers Deputies, 25 October (7 November), 1917, vol. 26, pp: 239-240.

[140]  A. Rabinowitch, The Bolsheviks Come to Power, p: 284 and 290    (التشديد من آلان وودز)

[141]  J. Reed, Ten Days That Shook the World, pp: 122-123 and 131.

[142]  L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 1191.

[143]  R. Luxemburg, The Russian Revolution, pp: 39-40 and 80.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *