الرئيسية / قضايا نظرية / الأممية / نحو الأممية الخامسة

نحو الأممية الخامسة

لقد أثارت دعوة الرئيس تشافيز إلى بناء أممية ثورية جديدة: أممية خامسة، نقاشا واسعا بين صفوف الحركة العمالية بأمريكا اللاتينية وعلى الصعيد العالمي. ومن المستحيل على الماركسيين أن يقفوا غير مبالين بهذه المسألة. إذن ما هو الموقف الذي ينبغي علينا اتخاذه منها؟

إن السؤال الأول الذي ينبغي علينا الإجابة عنه هو: هل نحن في حاجة إلى أممية؟ إن الماركسية إما أن تكون أممية أو لا تكون. ومنذ البدايات الأولى لحركتنا كتب ماركس وإنجلز، على صفحات البيان الشيوعي: “ليس للعمال وطن”.

لم تكن النزعة الأممية عند ماركس وإنجلز مجرد نزوة، أو نتيجة لاعتبارات عاطفية. لقد كانت نابعة عن أن الرأسمالية تطورت باعتبارها نظاما عالميا، فمن مختلف الاقتصاديات والأسواق الوطنية، تنشأ سوق عالمية واحدة موحدة ومندمجة.

ولقد تحقق اليوم هذا التوقع، الذي طرحه مؤسسا الماركسية، حرفيا وبطريقة باهرة. إن الهيمنة المطلقة للسوق العالمية هي الحقيقة الأكثر أهمية في عصرنا. ليس هناك من بلد، مهما كان كبيرا وقويا، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا، يمكنه أن يقف بعيدا عن فلك السوق العالمية الجبارة. وقد كان هذا، في الواقع، أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي.

الأممية الأولى والأممية الثانية

ماركس وانجلز
شارك كل من ماركس وإنجلز في تأسيس الأممية الأولى، التي كانت استباقا للتطورات المستقبلية

لقد كانت الرابطة الشيوعية، منذ بداياتها الأولى، منظمة أممية. إلا أن تأسيس الجمعية الأممية للعمال (الأممية الأولى)، سنة 1864، شكل خطوة نوعية إلى الأمام. كانت المهمة التاريخية للأممية الأولى هي طرح مبادئ وبرنامج وإستراتيجية وتكتيكات الماركسية الثورية على الصعيد العالمي. لكن الجمعية الأممية للعمال لم تكن، في بداياتها، أممية ماركسية منسجمة، بل كانت منظمة شديدة التنافر، مشكلة من النقابيين البريطانيين الإصلاحيين، والبرودونيين الفرنسيين، وأنصار مازيني الإيطاليين، والفوضويين، وما إلى ذلك من تيارات. وقد تمكن ماركس وإنجلز، بفضل الجمع بين الصرامة المبدئية والمرونة الكبيرة على مستوى التكتيك، من أن يكسبوا تدريجيا الأغلبية إلى جانبهم.

نجحت الجمعية الأممية للعمال في وضع الأسس النظرية لبناء أممية ثورية حقيقية. لكنها لم تكن أبدا أممية عمالية جماهيرية حقا. لقد كانت استباقا للتطور المستقبلي. وقد بدأت الأممية الاشتراكية (الأممية الثانية التي تأسست سنة 1889)، عملها من حيث انتهت الأممية الأولى. وعلى عكس سابقتها، بدأت الأممية الثانية بكونها أممية جماهيرية كانت تجمع وتنظم ملايين العمال. كانت تمتلك أحزابا ونقابات جماهيرية ذات قاعدة جماهيرية واسعة، في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا، الخ. وعلاوة على ذلك، استندت، بالأقوال على الأقل، على قاعدة الماركسية الثورية. كان مستقبل الاشتراكية العالمية يبدو مضمونا.

لكن سوء حظ الأممية الثانية تمثل في كونها تشكلت خلال مرحلة ازدهار طويلة للنظام الرأسمالي. وقد ترك هذا أثره على عقلية الفئات القيادية داخل الأحزاب والنقابات الاشتراكية الديمقراطية. كانت المرحلة الممتدة ما بين 1871 و1914، العصر الذهبي للاشتراكية الديمقراطية. فعلى قاعدة مرحلة نمو اقتصادي طويلة، كان من الممكن للرأسمالية أن تقدم تنازلات للطبقة العاملة أو، بعبارة أصح، لفئاتها العليا.

أدى تشكل فئة كثيرة العدد من الموظفين النقابيين والحزبيين والبرلمانيين الوصوليين إلى حدوث صيرورة انحطاط داخلها، حيث بدأت البيروقراطية تعمل تدريجيا على فصل نفسها عن الجماهير وعن قواعد أحزابها. وتدريجيا، وبشكل غير واع تقريبا، صار الهدف الثوري مغيبا. كان القادة قد ابتُلعوا في الروتين اليومي للعمل البرلماني أو النقابي. وفي النهاية تمت فبركة نظريات لتبرير هذا التخلي عن المبادئ.

لقد كان هذا هو الأساس المادي للانحطاط القومي الإصلاحي للأممية الثانية (الاشتراكية)، وهو ما اتضح بشكل قاس سنة 1914، عندما صوت قادة الأممية لصالح ميزانيات الحرب ودعموا برجوازيتـ “هم” في المذبحة الإمبريالية، الحرب العالمية الأولى.

الأممية الثالثة

لينين، تروتسكي، كامينيف
قاد لينين وتروتسكي الأممية الثالثة قبل أن تنحط

لقد انطلقت الأممية الثالثة (الشيوعية) من نقطة أعلى نوعيا من سابقتيها. إذ وعلى غرار الجمعية الأممية للعمال، دافعت الأممية الثالثة، في أوج تطورها، عن برنامج ثوري أممي واضح. وعلى غرار الأممية الثانية، كانت تتمتع بقاعدة جماهيرية مشكلة من ملايين العمال. ومرة أخرى بدا وكأن مستقبل الثورة العالمية يوجد بين أيد أمينة.

في ظل قيادة لينين وتروتسكي، تشبثت الأممية الشيوعية بخط صحيح. لكن عزلة الثورة الروسية، في ظل ظروف تخلف مادي وثقافي رهيب، تسببت في الانحطاط البيروقراطي للثورة. فصارت للشريحة البيروقراطية، بقيادة ستالين، اليد العليا، خاصة بعد وفاة لينين سنة 1924.

وفي وجه الردة الستالينية ناضل ليون تروتسكي، والمعارضة اليسارية، للدفاع عن التقاليد العظيمة لثورة أكتوبر، والدفاع عن التقاليد اللينينية بخصوص الديمقراطية العمالية والنزعة الأممية البروليتارية. لكنهم كانوا يصارعون ضد التيار. كان العمال الروس منهكين بفعل سنوات الحرب والثورة والحرب الأهلية. ومن جهة أخرى كانت البيروقراطية قد بدأت تحس بثقة متزايدة، فأقصت العمال جانبا واستولت على الحزب.

عندما كان لينين يعاني من المرض الذي توفى على إثره، انخرطت البيروقراطية، بقيادة ستالين وبوخارين، في مسار يميني، حيث عملت في روسيا على التوافق مع الكولاك وغيرهم من الرأسماليين وتقديم التنازلات لهم، وكافحت لخلق جبهة مع من أسمتهم بالعناصر البرجوازية التقدمية في البلدان المستعمرة (تشانغ كاي تشيك في الصين) وبيروقراطية الحركة العمالية بالغرب (اللجنة الأنجلو- سوفييتية). وقد تسببت هذه السياسة الانتهازية في تكبد الثورة الصينية لهزيمة دموية، كما أدت في ألمانيا إلى إضاعة فرصة ثورية هامة سنة 1923، وفرصة أخرى في بريطانيا سنة 1926.

مع كل هزيمة كانت تتعرض لها الثورة العالمية، كان العمال السوفييت يغرقون أكثر فأكثر في لجة خيبة الأمل والإحباط، وكانت البيروقراطية والكتلة الستالينية داخل الحزب تكتسب قوة جديدة وثقة أكبر. وبعد هزيمة المعارضة اليسارية، بزعامة تروتسكي (1927)، وبعد أن كان ستالين قد أحرق أصابعه بسياسة التقارب مع الكولاك، قطع مع بوخارين وتبنى مواقف يسراوية متطرفة قامت على سياسة التجميع الإجباري للأرض في روسيا، وفرض على الأممية (الكومنترن) سياسة “المرحلة الثالثة” الخاطئة.

تعرض تروتسكي وأنصاره، البلاشفة اللينينيون، للطرد من الحزب الشيوعي ومن الأممية. وبعد ذلك تعرضوا لحملة افتراءات واضطهاد واعتقالات واغتيالات. لقد رسم ستالين خطا من الدماء بين البيروقراطية، التي استولت على ثورة أكتوبر وخانتها، وبين التروتسكيين الذين ناضلوا من أجل الدفاع عن الأفكار والتقاليد الحقيقية للبلشفية اللينينية.

المعارضة اليسارية الأممية

قضى صعود الستالينية في روسيا على الإمكانيات العظيمة التي كانت تختزنها الأممية الثالثة. وحطم الانحطاط الستاليني للاتحاد السوفييتي القيادات الشابة والغير مجربة للأحزاب الشيوعية في بقية البلدان. وبينما كان لينين وتروتسكي ينظران إلى الثورة العمالية العالمية باعتبارها الضامن الوحيد لمستقبل الثورة الروسية والدولة السوفييتية، فإن ستالين وأتباعه لم يكونوا يولون الثورة العالمية أي اهتمام. لقد عكست “نظرية” الاشتراكية في بلد واحد ضيق الأفق القومي للبيروقراطية، التي اعتبرت الأممية الشيوعية مجرد إدارة تابعة لوزارة الخارجية بحكومة موسكو.

والنتيجة الأسوأ لهذه السياسة هي تلك التي شهدتها ألمانيا. دعا تروتسكي إلى تشكيل جبهة موحدة بين العمال الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين للنضال ضد الخطر النازي. لكن تحذيرات تروتسكي لأعضاء الأحزاب الشيوعية لم تجد آذانا صاغية. كانت الطبقة العاملة الألمانية منقسمة على نفسها. وقد تسببت سياسة ستالين الخاطئة، بخصوص “الاشتراكية الفاشية”، في شق صفوف الحركة العاملة الألمانية الجبارة وشلها، مما سمح لهتلر بالوصول إلى السلطة سنة 1933.

هزيمة الطبقة العاملة الألمانية، سنة 1933، والناتجة عن رفض الأحزاب الشيوعية اقتراح تكتيك الجبهة الموحدة على العمال الاشتراكيين الديمقراطيين، شكلت نقطة انعطاف حاسمة. استخلص تروتسكي خلاصة أن أممية عاجزة عن إبداء أي رد فعل أمام هزيمة من هذا الحجم، هي أممية ميتة وأنه من الضروري تشييد أممية ثورية جديدة. وقد أثبت التاريخ صحة موقفه. إذ في سنة 1943، وبعد سنوات من استخدامها بكلبية من طرف ستالين كملحق بوزارة الشئون الخارجية، قام هذا الأخير بإقبار الأممية الشيوعية بطريقة مشينة وبدون حتى الدعوة إلى مؤتمر. فتعرض التراث السياسي والتنظيمي اللينيني لضربة ساحقة طيلة مرحلة تاريخية طويلة.

الأممية الرابعة

تروتسكي
بعد إفلاس الأممية الثالثة، شيد تروتسكي الأممية الرابعة في عدة بلدان

في ظل ظروف المنفى القاسية جدا، حاول تروتسكي، الذي كان يتعرض لحملة افتراءات من جانب الستالينيين وكان متابعا من الغيبيو(1)، أن يعيد تجميع القوى الصغيرة التي بقيت مخلصة لتقاليد البلشفية وثورة أكتوبر. لكن مع الأسف، فبالإضافة إلى ضعف القوى، كان المستوى النظري للعديد من الملتحقين بالمعارضة منخفضا وكانوا فاقدين للخبرة، فارتكبت العديد من الأخطاء، خاصة ذات الطبيعة العصبوية. وقد عكس هذا جزئيا عزلة المناضلين التروتسكيين عن الحركة الجماهيرية. وما تزال هذه النزعة العصبوية موجودة حتى اليوم في أغلب المجموعات التي تدعي كونها تمثل التروتسكية، والتي عجزت عن استيعاب أكثر أفكار تروتسكي بديهية.

أعلن تروتسكي الأممية الرابعة، سنة 1938، على أساس منظور محدد. لكن التاريخ أظهر خطأ هذا المنظور. وجه اغتيال تروتسكي، على يد أحد عملاء ستالين، سنة 1940، ضربة هائلة للحركة كلها. لقد أبان قادة الأممية الرابعة الآخرون عن أنهم لم يكونوا في حجم المهام التي طرحها التاريخ على كاهلهم. حيث استمروا يرددون كلمات تروتسكي دون أن يفهموا منهاجه. ونتيجة لذلك ارتكبوا أخطاء فادحة، مما أدى إلى تحطيم صفوف الأممية الرابعة. لقد كانت قيادة الأممية الرابعة عاجزة بشكل كلي عن فهم الوضع الجديد الذي نشأ بعد 1945. وتعود أسباب الانشقاقات والتشتت الذي عرفته الحركة التروتسكية إلى هذه المرحلة.

ليس من الممكن الآن الدخول في المزيد من التفاصيل حول أخطاء قادة الأممية الرابعة آنذاك، لكن يكفي أن نقول إن ماندل، وكانون وأنصارهما، فقدوا الاتجاه تماما بعد الحرب، الشيء الذي أدى بهم إلى التخلي الكامل عن الماركسية. لقد انحطت الأممية الرابعة، بعد وفاة تروتسكي، إلى عصبة بورجوازية صغيرة. لم يعد لديها أي قاسم مشترك مع أفكار مؤسسها، أو مع التيار البلشفي اللينيني الحقيقي. ويعتبر الموقف العصبوي الذي تتبناه العصب، التي تسمي نفسها تروتسكية، من الثورة البوليفارية مثالا واضحا عن هذا الواقع.

لقد انحطت الأمميتان الثانية والثالثة إلى منظمتين إصلاحيتين، لكن على الأقل كانت لديهما قاعدة جماهيرية واسعة. لم يكن لدى تروتسكي في المنفى منظمة جماهيرية، لكنه كان يمتلك برنامجا صحيحا وسياسة صحيحة وراية طاهرة. لقد كان يتمتع باحترام عمال العالم بأسره وكانت أفكاره تلاقي اهتماما بالغا. واليوم لا توجد ما تسمى بالأممية الرابعة كمنظمة. وهؤلاء الذين يتحدثون باسمها (وهم قلة) لا يمتلكون لا الجماهير ولا الأفكار الصحيحة ولا الراية الطاهرة. وكل كلام عن إعادة بناء الأممية الرابعة على هذه الأسس مجرد هراء.

تراجع الحركة

كان لينين مناضلا نزيها على الدوام. كان شعاره هو: يجب قول الحقيقة دائما. وبالرغم من أن الحقيقة قد تكون في بعض الأحيان مرة، إلا أنه يجب علينا أن نقولها في كل الحالات. والحقيقة هي أنه، وبسبب تضافر مجموعة من الظروف، الموضوعية والذاتية، تعرضت الحركة الثورية للتراجع، وتحولت القوى الماركسية الحقيقية إلى أقلية ضئيلة. هذه هي الحقيقة وكل من ينكرها لا يعمل سوى على خداع نفسه وخداع الآخرين.

لقد تسببت عقود من النمو الاقتصادي، الذي شهدته البلدان الرأسمالية المتقدمة، في تفاقم غير مسبوق لانحطاط المنظمات الجماهيرية التقليدية للطبقة العاملة. تسببت في عزلة التيار الثوري، الذي تحول في كل مكان إلى أقلية صغيرة. وقد ساهم انهيار الاتحاد السوفييتي في نشر اللبس بين صفوف الحركة وفقدانها للاتجاه، وشكل آخر حلقة في مسلسل انحطاط القادة الستالينيين، الذين انتقل العديد منهم إلى معسكر الثورة المضادة الرأسمالية.

وقد استخلص العديد من الناس خلاصات متشائمة من هذا الواقع. ولهؤلاء الناس نقول: ليست هذه هي المرة الأولى التي نواجه فيها الصعوبات، كما أننا لسنا خائفين على الإطلاق من مواجهة هذه الصعوبات. إننا نحافظ على اقتناع راسخ بصحة الأفكار الماركسية، وفي الإمكانيات الثورية التي تختزنها الطبقة العاملة، وفي حتمية الانتصار النهائي للاشتراكية. إن الأزمة الحالية تفضح الطبيعة الرجعية للرأسمالية، وتضع انبعاث الاشتراكية العالمية على رأس جدول الأعمال. هناك تباشير لإعادة تجميع الصفوف على الصعيد الأممي. ما يجب القيام به الآن هو توفير تعبير تنظيمي لإعادة التجميع هذه، وإعطائها برنامجا ومنظورا وسياسة واضحة.

إن المهمة التي نحن أمامها تشبه، إلى حد بعيد، تلك التي طرحت على كاهل ماركس وإنجلز في وقت تأسيس الأممية الأولى. وكما سبق لنا أن شرحنا أعلاه، لم تكن الأممية الأولى منظمة منسجمة، بل كانت مشكلة من العديد من التيارات المختلفة. لكن ذلك لم يفل من عزم ماركس وإنجلز. بل عملا على الالتحاق بالحركة العامة من أجل تأسيس أممية للطبقة العاملة، واشتغلا بصبر لتمكينها من إيديولوجية وبرنامج علميين.

إن ما يفصل التيار الماركسي الأممي عن جميع التيارات الأخرى، التي تسمي نفسها تروتسكية، هو، تشبثنا الصارم بالنظرية الماركسية من جهة، ومن جهة أخرى موقفنا من المنظمات الجماهيرية. فنحن، وعلى خلاف كل المجموعات الأخرى، ننطلق من واقع أنه عندما سيبدأ العمال في التحرك، سوف لن يتجهوا نحو بعض المجموعات الصغيرة الموجودة على هامش الحركة العمالية. وفي الوثيقة التأسيسية لحركتنا كتب ماركس وإنجلز ما يلي:

«ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عموما ؟

إنّ الشيوعيين ليسوا حزبا منفصلا في مواجهة الأحزاب العمالية الاخرى وليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح عموم البروليتاريا.

وهم لا يطرحون مبادئ خاصة يريدون قَولَبَة الحركة البروليتارية بقالبها.

إن الشيوعيين لا يتميزون عن الأحزاب البروليتارية الأخرى إلاّ في أنّهم: من ناحية، إنهم في الصراعات القومية لبروليتاريا مختلف البلدان يُبرزون ويُغلِّبون المصالح المشتركة لعموم البروليتاريين، بغض النظر عن الانتماءات القومية؛ وهم، من ناحية أخرى، يمثِّلون دائما مصلحة مُجمل الحركة في مختلف أطوار التطور، التي يمر بها الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية.

إن الشيوعيون إذن هم عمليّا الفريق الأكثر حزما بين الأحزاب العمالية في جميع البلدان، والدافع دوما إلى الأمام، ونظريا هم متميزون عن سائر جُموع البروليتاريا، بالتبصّر في وضع الحركة البروليتارية، وفي مسيرتها ونتائجها العامّة.» (ماركس وإنجلز: البيان الشيوعي. بروليتاريون وشيوعيون)

ما هي الخلاصة التي نستخلصها من كل هذا؟ الخلاصة هي أنه لا ينبغي للماركسيين الحقيقيين أن يفصلوا أنفسهم عن المنظمات الجماهيرية. إن مأساة عصرنا تتمثل في كون القادة الاشتراكيين الديمقراطيين للحركة العمالية قد استسلموا للسياسات البورجوازية وصاروا يخنقون تطلعات العمال، لكنهم ما يزالون يتمتعون بدعم جماهيري في العديد من البلدان. من السهل جدا أن نعلن أن هؤلاء القادة منحطون. لكن المهمة الحقيقية هي بناء البديل.

لن يتم بناء الأممية بمجرد الإعلان عنها. لن يتم بنائها سوى على قاعدة الوقائع والأحداث، مثلما بنيت الأممية الشيوعية على قاعدة الخبرة التي راكمتها الجماهير خلال مرحلة 1914- 1920. الوقائع والأحداث، والوقائع والأحداث، ثم الوقائع والأحداث، هي ما نحتاجه لتعليم الجماهير ضرورة إحداث تغيير ثوري للمجتمع. لكننا نحتاج، بالإضافة إلى الوقائع والأحداث، إلى خلق منظمة تمتلك أفكارا واضحة ولديها قاعدة صلبة بين الجماهير على الصعيد العالمي.

كيف يمكن الدفاع عن الثورة الفنزويلية

Uh Ah !  ¡Chavez no se va !
هوغو تشافيز، قائد الثورة الفنزويلية، يقترح الآن تشكيل الأممية الخامسة. صورة:Uh Ah ! ¡Chavez no se va!

في خطابه الذي ألقاه بكاراكاس، أشار هوغو تشافيز إلى أن جميع الأمميات الأخرى قد ارتكزت في الأصل على أوروبا، وكانت تعكس الصراع الطبقي بأوروبا آنذاك، لكن بؤرة الثورة العالمية قد تحولت الآن إلى أمريكا اللاتينية، وإلى فنزويلا على وجه الخصوص. من الأكيد أن الثورة في أمركا اللاتينية قد سارت، في الوقت الحالي على الأقل، أبعد مما سارت إليه في أي مكان آخر في العالم. وقد سبق للتيار الماركسي الأممي أن شرح هذا المنظور منذ عشر سنوات خلت، وهو ما أكدته الأحداث بشكل كلي.

مع تأكيده على هذه الحقيقة المؤكدة، لم ينف تشافيز مطلقا وجود إمكانيات ثورية في بقية مناطق العالم، بما في ذلك أوربا وأمريكا الشمالية. بل إنه، على العكس من ذلك، بعث بنداءات متكررة إلى عمال وشباب هذه البلدان للالتحاق بالحركة نحو الثورة الاشتراكية. لقد بعث بنداءات مباشرة إلى العمال والفقراء، والأمريكيين من أصل إفريقي بالولايات المتحدة، ليدعموا الثورة الفنزويلية. ليس لهذا الموقف أية علاقة بالديماغوجيا الرجعية بخصوص “النزعة العالم ثالثية” التي تحاول جعل “أمريكا اللاتينية” في مواجهة الأمريكيين الشماليين،“gringos”. إنه موقف النزعة الأممية الصحيحة، التي رفعت قبل وقت طويل الشعار الملهم: “يا عمال العالم اتحدوا!”

إن الإمبريالية مصممة العزم على وضع حد للمسلسل الثوري الذي تشهده أمريكا اللاتينية. وفنزويلا هي طليعة هذا المسلسل، وتشكل سياسات تشافيز الأممية، ونداءاته المتكررة إلى الثورة العالمية، منارة لجميع المناضلين المعادين للإمبريالية عبر العالم. إن الثورة الفنزويلية تمثل خطرا مميتا على الطبقات السائدة في القارة الأمريكية. وهذا ما يفسر لماذا قامت الإمبريالية الأمريكية باتخاذ خطوات جديدة للسيطرة على الوضع، حيث عملت على إقامة سبع قواعد عسكرية في كولومبيا، وتنظيم الانقلاب في الهندوراس، وأخيرا، وليس آخرا، توقيع اتفاقية لإقامة قاعدة عسكرية جديدة في بنما، وهي الخطوات التي سوف تحاصر فعليا فنزويلا بالوجود العسكري الأمريكي.

ليست الأممية بالنسبة للثورة الفنزويلية مجرد مسألة ثانوية، بل إنها قضية حياة أو موت. ففي أخر المطاف، الطريقة الوحيدة لشل يد الإمبريالية الأمريكية هي بناء حركة جماهيرية قوية على الصعيد العالمي للدفاع عن الثورة. من المهم بناء هذه الحركة في أمريكا اللاتينية، لكن من الأهم أكثر بناءها في شمال الريو غراندي (Rio Grande). هذا هو السبب الذي جعل التيار الماركسي الأممي ينظم ويدعم بحزم الحملة الأممية: “ارفعوا أيديكم عن فنزويلا”. تمتلك حملة “ارفعوا أيديكم عن فنزويلا” رصيدا مشرفا في تعبئة الرأي العام في العالم لدعم الثورة الفنزويلية. ويعود لنا الفضل في تبني النقابات البريطانية بالإجماع لتوصية بخصوص الدفاع عن الثورة الفنزويلية، وفي ذلك اللقاء الجماهيري، الذي ضم 5000 من الشباب والنقابيين، في فيينا للاستماع لخطاب تشافيز، وغير ذلك من المنجزات.

نحن الآن موجودون في أكثر من 40 بلدا. وهذا إنجاز عظيم، لكنه ليس سوى البداية. إن الحاجة ملحة لأكثر من مجرد حملة تضامن. إن ما يجب بناؤه هو أممية ثورية ضد الإمبريالية والرأسمالية، من أجل الاشتراكية وللدفاع عن الثورة الفنزويلية. إن ما يجب بناؤه هو أممية ثورية عالمية حقيقية.

إصلاح أم ثورة؟

لقد قام اتفاق كاراكاس (El Compromiso de Caracas) على أساس نضال عالمي ضد الإمبريالية والرأسمالية ومن أجل الاشتراكية. وهذه قاعدة كافية لتوحيد أكثر القطاعات كفاحية داخل الحركة العمالية العالمية. إلا أن هذا النداء استقبل بطرق مختلفة، حتى من بين القادة الذين كانوا حاضرين في مؤتمر الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد. إن القادة الإصلاحيين والاشتراكيين الديمقراطيين لم يعجبهم إصرار تشافيز على القول بأنه يجب على الأممية الخامسة أن لا تكون مجرد أممية معادية للإمبريالية، بل يجب عليها أيضا أن تكون أممية اشتراكية معادية للرأسمالية. لقد أزعج هذا الكثير من الأشخاص. وقد عارض بعض الحاضرين في اجتماع أحزاب اليسار، الذي انعقد في كاراكاس، هذه الدعوة بحجة أنه لدينا “منتدى ساو باولو” وأنه ليس على هذه الأممية أن تكون معادية للرأسمالية بشكل صريح.

إن اللقاءات المتكررة لـ “منتدى ساو باولو” قد بينت بشكل واضح حدود مثل هذه التجمعات، والتي تحولت إلى مجرد ناد للثرثرة: مكان حيث يمكن لجميع أنواع الإصلاحيين أن يجتمعوا لكي يشتكوا من مظالم الرأسمالية، لكن دون أن يقدموا أبدا منظورا ثوريا أو يدافعوا عن الاشتراكية. بل يدافعون عن الإصلاحات الجزئية التي لا تغير أي شيء في الجوهر. هذا هو السبب الذي يجعل المؤسسات الإمبريالية الدولية، من قبيل البنك العالمي، تنظر باستحسان إلى مثل هذه الأنشطة، بل وتشجع وتمول المنظمات الغير الحكومية، باعتبارها وسائل لإبعاد الانتباه عن النضال الثوري الهادف إلى تغيير المجتمع.

لا تساهم المنظمات، من قبيل “منتدى ساو باولو” والمنتدى الاجتماعي العالمي، بأية ذرة في دفع النضال العالمي ضد الرأسمالية ولو خطوة واحدة إلى الأمام. هذا ما جعل تشافيز يقترح تشكيل الأممية الخامسة، مما يشكل قطيعة جذرية مع مثل تلك الحركات. قال تشافيز في خطابه إن الخطر الحقيقي على مستقبل الجنس البشري هو الرأسمالية نفسها. وبعدما أشار إلى الأزمة الرأسمالية العالمية، أدان محاولات الحكومات الغربية إنقاذ النظام عبر إنفاق أموال عمومية. قال إن مهمتنا ليست إنقاذ الرأسمالية، بل تدميرها.

قال تشافيز إن النداء موجه إلى الأحزاب والمنظمات والتيارات اليسارية. وقد خلق هذا النداء نقاشا جماهيريا في فنزويلا، كما خلق نقاشا بين صفوف العديد من الأحزاب والمنظمات اليسارية في كل ربوع أمريكا اللاتينية وخارجها. لقد أدى هذا النداء، بطبيعة الحال، إلى حدوث خلافات، لكن هذه الخلافات كانت موجودة أصلا. إنها الخلافات التي وجدت دائما داخل صفوف الحركة: الخلاف بين هؤلاء الذين يريدون فقط إدخال بعض الإصلاحات على النظام، وتجميل وجه الرأسمالية، وبين هؤلاء الذين يريدون القضاء على الرأسمالية واجتثاثها من جذورها.

في السلفادور، على سبيل المثال، عارض الرئيس فونيس، العضو السابق في “جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني” (FMLN)، بناء الأممية الخامسة، وقال إنه لا علاقة له بالاشتراكية. إلا أن FMLN أيدت رسميا تأسيس الأممية الخامسة. وفي المكسيك استقبلت الفكرة بحفاوة من جانب قطاعات من حزب الثورة الديمقراطية وغيره من المنظمات الجماهيرية. وفي أوربا أيضا سوف تناقش هذه الفكرة بالتأكيد داخل صفوف الأحزاب الشيوعية وجميع أحزاب اليسار عموما. وسوف يتوجب على جميع التيارات، إن عاجلا أو آجلا، أن تتخذ موقفا منها.

ما هو الموقف الذي ينبغي على الماركسيين اتخاذه؟

ما هو الموقف الذي ينبغي على الماركسيين اتخاذه؟ إننا، باعتبارنا ماركسيين، نساند بشكل غير مشروط تشكيل منظمة أممية جماهيرية للطبقة العاملة. لا توجد في الوقت الحالي أية منظمة أممية جماهيرية حقيقية. الأممية الرابعة تم تدميرها بسبب أخطاء قادتها بعد اغتيال تروتسكي، وهي غير موجودة في الواقع إلا كأفكار، ومناهج عمل، وبرنامج يدافع عنها التيار الماركسي الأممي. إن التيار الماركسي الأممي يدافع عن أفكار الماركسية داخل المنظمات العمالية الجماهيرية في جميع البلدان. وداخل هذه المنظمات نفسها حيث يجب، بشكل عاجل، طرح النقاش حول مقترح تشكيل الأممية الخامسة.

من جد المبكر القول ما إذا كانت الدعوة إلى تشكيل الأممية الخامسة ستقود فعليا إلى تشكيل أممية حقيقية. فهذا رهين بالعديد من العوامل. لكن من الواضح أن واقع كون هذه الدعوة قد صدرت من فنزويلا ومن الرئيس تشافيز يعني أنها سوف يكون لها صدى بين الكثير من الناس في أمريكا اللاتينية في البداية. سوف يؤدي هذا النداء إلى طرح الكثير من الأسئلة في أذهان العمال والشباب حول البرنامج الذي ينبغي على هذه الأممية أن تتبناه وحول تاريخ الأمميات السابقة، وأسباب صعودها وسقوطها.

هذا نقاش يتوجب على الماركسيين أن ينخرطوا فيه بنشاط. ينبغي على التيار الماركسي الأممي، المعترف عالميا بدوره في بناء حملة التضامن مع الثورة الفنزويلية وفي إنتاج دراسات ماركسية حولها، أن يتخذ موقفا واضحا من هذه المسألة. ولقد اتخذنا هذا القرار. ففي اجتماع اللجنة التنفيذية الأممية، الذي انعقد خلال الأسبوع الأول من شهر مارس، وبحضور أكثر من 40 مناضلا ومناضلة، يمثلون أكثر من 30 بلدا مختلفا في آسيا وأوروبا وأمريكا (بما في ذلك كندا والولايات المتحدة)، صوت التيار الماركسي الأممي بالإجماع لصالح المشاركة في بناء الأممية الخامسة.

إننا نعلن دعمنا الكامل لتشكيل أممية ثورية جماهيرية، وسوف نطرح مقترحات واضحة حول البرنامج والأفكار التي نعتقد أنه على الأممية الجديدة أن تتبناها. إننا لا نسعى إلى فرض آراءنا على أي أحد. فالأممية ومكوناتها، ستحدد مواقفها السياسية عبر النقاش الديمقراطي وأيضا على أساس التجربة الجماعية.

  • من أجل جبهة عالمية موحدة معادية للإمبريالية وللرأسمالية!
  • من أجل الثورة الاشتراكية العالمية!
  • من أجل برنامج ماركسي!
  • عاشت الأممية الخامسة!
  • يا عمال العالم اتحدوا!

التيار الماركسي الأممي
الأربعاء: 17 مارس 2010


1- (GPU- المخابرات الستالينية آنذاك -المترجم-)

عنوان النص بالإنجليزية:

For the Fifth International