انهيار الأممية الثانية
اندلاع الحرب العالمية الأولى أثار على الفور أزمة في صفوف الأممية الاشتراكية. ففي انتهاك لكل القرارات التي كانت المنظمة الأممية قد اتخذتها، اصطف زعماء أحزاب الأممية الثانية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا، خلف برجوازية بلدانهم وأصبحوا أكثر الشوفينيين سعارا. بدأت الصحافة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية في دعوة الطبقة العاملة “للدفاع عن الوطن”. وفي اجتماع لفريق الحزب في الرايخستاغ، في 03 غشت، قرر قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي التصويت لصالح اعتمادات الحرب. كما أنهم في اليوم الموالي صوتوا مع أحزاب البرجوازية واليونكر لتخصيص خمسة مليارات مارك لأغراض الحرب. حتى “اليساريون” الذين عارضوا هذا الموقف في اجتماع الفريق صوتوا الآن بـ“الموافقة” بمبرر الانضباط الحزبي! يكشف هذا الموقف بشكل واضح تماما الدور الخسيس الذي تلعبه التيارات الإصلاحية اليسارية والوسطية، والتي، رغم العبارات الجذرية التي ترفعها، تجدها في اللحظات الحاسمة مرتبطة ارتباطا لا ينفصم مع الجناح اليميني. إنهم يعملون دائما كغطاء يساري للإصلاحيين اليمينيين.
في جميع البلدان المتحاربة دخل القادة الاشتراكيون الديمقراطيون في حكومات ائتلافية مع ممثلي البورجوازية، وبدأوا يبشرون بعقيدة “الوحدة الوطنية” -التي تعتبر أكثر الشعارات فراغا- معارضين الإضرابات “طوال مدة الحرب” ومتقبلين لجميع الأعباء المفروضة على كاهل العمال والفلاحين باسم الكفاح من أجل النصر. في ألمانيا، نشرت صحيفة فوروارتز (Vorwärts) افتتاحية لهيئة التحرير وعدت فيها بأنها طوال مدة الحرب لن تنشر مقالات تعكس “الخلاف الطبقي والكراهية الطبقية”. كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني هو الحزب الأكثر أهمية ونفوذا في الأممية الثانية، حيث كان يضم حوالي مليون عضو، وبالتالي فقد كانت خيانته حاسمة. لكن بقية الأحزاب الأخرى لم تكن أفضل حالا.
في 31 يوليوز 1914، تعرض الزعيم الاشتراكي الفرنسي المناهض للحرب، جان جوريس، للاغتيال على يد الرجعيين. وبعد أربعة أيام على ذلك، صوت القادة الاشتراكيون الفرنسيون لصالح اعتمادات الحرب، كما فعل البلجيكيون، ودخلوا الحكومة الائتلافية البرجوازية (أو ما سمي بـ“الاتحاد المقدس”). في بريطانيا فعل آرثر هندرسون الشيء نفسه. في فرنسا حظيت الخيانة بتأييد “قادة” النقابات الذين كانوا قبل الحرب يهددون بطريقة ديماغوجية بخوض الإضراب العام ضد الحرب. لقد عارض الماركسيون هذا الشعار حتى قبل عام 1914، حيث أن فكرة دعاة السلام والنقابيين- اللاسلطويين القائلة بأنه من الممكن الدعوة إلى إضراب عام لمنع الحرب هي فكرة تتجاهل حقيقة أنه لا يمكن الدعوة إلى الإضراب العام إلا عندما تكون الظروف الضرورية متوفرة. لكن عادة ما يكون الوضع عشية الحرب هو الأقل ملاءمة لمثل هذه الخطوة. وبالتالي ما لم يكن الأمر متعلقا بإضراب عام يكون جزءا من وضع ثوري، يمهد لاستيلاء البروليتاريا على السلطة، فإنه من المستبعد أن يشكل وسيلة لمنع الحرب. إنه في أحسن الأحوال وهم طوباوي، أما هو في أسوأ الأحوال طريقة لذر الرماد في أعين العمال المتقدمين من خلال إعطائهم الانطباع باتباع سياسة راديكالية، بينما الواقع شيء آخر تماما. وقد وصف تروتسكي ذلك بكونه: “أكثر أنواع الإضرابات العامة سوءا وأكثرها بؤسا على الأطلاق”، ويفسر سبب ذلك قائلا: «لا يمكن وضع الإضراب العام على جدول الأعمال كطريقة للنضال ضد التجنيد والحرب إلا في حالة ما إذا كانت كل التطورات السابقة في البلاد قد وضعت الثورة والانتفاضة المسلحة على جدول الأعمال. لكن استعمال الإضراب العام، كـ“وصفة سحرية” للنضال ضد التجنيد، سيكون مجرد مغامرة. وباستثناء الوضع الممكن، لكن الاستثنائي، لحكومة تنخرط في الحرب من أجل النجاة من ثورة تتهددها بشكل مباشر، فإن القاعدة العامة هي أن الحكومة تشعر بنفسها قبيل فرض التجنيد، وأثناء فرضه وبعد فرضه، أشد قوة، وبالتالي تكون أقل ميلا لأن تخاف من الإضراب العام. وكقاعدة عامة فإن المزاج الشوفيني الذي يرافق التعبئة للحرب، إضافة إلى الرعب المرتبط بالحرب، يجعل من تنفيذ الإضراب العام مسألة ميؤوسا منها. والعناصر الأكثر جسارة التي تنخرط في النضال دون أخذ الظروف بعين الاعتبار يتم سحقها. من ثم فإن الهزيمة والإبادة الجزئية للفئة الطليعة تجعلان من العمل الثوري أمرا صعبا لفترة طويلة من الزمن خاصة في جو الاستياء الذي تولده الحرب. من الحتمي أن يتحول الإضراب المصطنع إلى مجرد تمرد معزول وإلى عائق في مسار الثورة»[1].
لقد تم إثبات حقيقة هذا القول في عام 1914 عندما قام الزعماء النقابيون- اللاسلطويون، مباشرة بعد يوم من إعلان الحرب، بإسقاط شعار الإضراب العام ضد الحرب جانبا وحملوا بخنوع حقائبهم الوزارية في حكومة “الاتحاد المقدس”.
كل القادة الرسميين للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية من جميع البلدان المتحاربة سقطوا بسهولة، لأنهم لم يكونوا في حاجة أصلا لمن يشجعهم على الالتحاق بصفوف الداعمين لبرجوازيتـ“هم”. إن الحرب، حسب عبارة كلاوزفيتز الشهيرة، هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وقد كان قادة الجناح اليميني للحركة العمالية يطبقون سياسة موالية للبرجوازية في وقت السلم، وبالتالي فإن تعاونهم مع أكثر الدوائر الإمبريالية رجعية في وقت الحرب لم يكن سوى استمرار لتلك السياسة السابقة. الفرق الوحيد هو أن الحرب تنزع بالضرورة قشرة النفاق وتكشف بلا رحمة كل تيار سياسي على حقيقته. إن الإصلاحيين اليساريين، باعتبارهم نزعة برجوازية صغيرة، يتأرجحون بشكل غير مريح بين السياسة البرجوازية والسياسة البروليتارية، ويعبرون عن ارتباكهم وعجزهم بنزعتهم المسالمة. لكن الممثلين الجديين للطبقة السائدة داخل صفوف الحركة العمالية، خدام رأس المال داخل الحركة العمالية كما كانوا يسمون في الولايات المتحدة، لا يخفون دعمهم للحرب. والفرق الوحيد بينهم هو الاختلاف حول العصابات الإمبريالية التي يدعمونها. فقد دعم القادة العماليون البريطانيون الملك والوطن في ائتلاف مع لويد جورج وتشرشل، بينما دعم الاشتراكيون الديمقراطيون الألمان القيصر واليونكر الرجعيين. أما الاشتراكيون الديمقراطيون في البلدان الرأسمالية الأصغر فقد دعموا هذا المعسكر أو ذاك، مما كان يعكس تبعية بورجوازيتهم إما للإمبريالية الألمانية أو الأنغلو- فرنسية. وهكذا فقد اصطف الاشتراكيون الديمقراطيون البلجيكيون مع الحلفاء، في حين كان الزعماء الاشتراكيون الديمقراطيون الهولنديون والاسكندنافيون أكثر ميلا إلى ألمانيا.
اجتاحت موجة الشوفينية كل شيء أمامها. كان في متناول الطبقات السائدة في الدول المتحاربة كل الوسائل الضرورية لإرباك الجماهير وتسميمها بآلاف المبررات. وبسبب التعاون الحماسي من طرف قادة الحركة العمالية، نجحوا في بداية الحرب في تضليل شريحة كبيرة من بين العمال المنظمين. كان العديد من الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان -ليس فقط قادة الجناح اليميني، بل حتى بعض العمال الشرفاء- على استعداد لتبرير الحرب، على الأقل في البداية. كانت مبرراتهم على النحو التالي: انتصار القيصر [الروسي] يعني أن قوزاقه سيدمرون حزبنا ونقاباتنا وسيمنعون صحفنا ويغلقون مقراتنا. وبنفس الطريقة استمع العامل الفرنسي العادي بثقة لنداءات رينوديل وكاشين وشركائهم لحماية الجمهورية والديمقراطية من القيصر [الألماني] واليونكر. لكن قلق العامل العادي الألماني أو الفرنسي شيء، بينما جبن ونفاق وكلبية قادة الأحزاب الاشتراكية فإنه شيء آخر مختلف تماما.
إن هؤلاء الأخيرين، وعلى عكس الجماهير، لم يكن دافعهم هو الجهل. فالطابع الإمبريالي للحرب كان واضحا من أهداف القوى المتحاربة. لم تكن تلك حربا دفاعية من جانب أي من القوى المتنازعة، بل كانت فقط حربا لإعادة تقسيم العالم، من أجل امتلاك الأسواق والمواد الخام والمستعمرات ومناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وروسيا والنمسا- المجر. كانت أعين روسيا مركزة على تركيا، مما أدى مباشرة إلى اندلاع صراع بين ألمانيا وروسيا على القسطنطينية والمضايق. وكانت روسيا في صراع أيضا ضد تركيا حول أرمينيا، وضد النمسا حول البلقان وضد النمسا وإيطاليا حول ألبانيا. كما لا يمكنهم الادعاء بأن اندلاع الحرب أخذ الأممية الاشتراكية على حين غرة، إذ أن القوى العظمى، كانت قبل 1914 بعشر سنوات على الأقل، تستعد بشكل منهجي للحرب. وبالتالي فقد كانت مسألة من سيضرب الضربة الأولى غير ذات أهمية.
كان خطر الحرب قد نوقش على نطاق واسع داخل صفوف الأممية. وخلال مؤتمرين أمميين -مؤتمر شتوتغارت (1907) ومؤتمر بال (1912)- تعهدت جميع الأحزاب الاشتراكية في العالم رسميا بمعارضة أي محاولة لإشعال حرب إمبريالية.وكانوا قد وافقوا في مؤتمر شتوتغارت على تعديل قدمه كل من لينين وروزا لوكسمبورغ يقول: «في حالة اندلاع الحرب بأي حال من الأحوال، من واجبهم التدخل لإنهائها سريعا والسعي بكل قوتهم للاستفادة من الأزمة الاقتصادية والسياسية التي خلقتها الحرب لتحريض الجماهير وبالتالي تسريع سقوط حكم الطبقة الرأسمالية». ثم إن مؤتمر بال، الذي انعقد كاستجابة طارئة لحرب البلقان، صادق بالإجماع على القرار السابق. وكما علق زينوفييف في وقت لاحق: «لم يكن قرار بال أسوء من قرار شتوتغارت، بل كان أفضل منه. إن كل كلمة فيه هي صفعة في وجه التكتيكات الحالية للأحزاب “الرائدة” داخل الأممية الثانية»[2]. لأنه في لحظة الحقيقة، خانت كل الأحزاب الاشتراكية قضية الاشتراكية والطبقة العاملة. وحدهما الحزب الروسي والحزب الصربي من وقفا ضد الحرب، بينما وقف الحزب الإيطالي في منتصف الطريق رافعا شعار: “لا تعاون ولا تخريب”.
الجذور الاجتماعية للشوفينية
كافح الاشتراكيون في كل مكان لفهم ما حدث. لا يمكن تفسير حدث بذلك الحجم بالاكتفاء بالخصائص الشخصية للأفراد -على الرغم من أن الصفات الشخصية لعبت دورا بدون شك، كما رأينا في الموقف الشجاع الذي اتخذه كارل ليبكنخت في ألمانيا. لقد فسر كل من لينين وتروتسكي ذلك بالفترة الطويلة من الانتعاش الرأسمالي الذي سبق الحرب العالمية الأولى. كانت الأحزاب الجماهيرية للأممية الثانية قد تشكلت في ظل ظروف التشغيل الكامل والارتفاع المتزايد في مستويات المعيشة التي شكلت الأساس لسياسة “السلم الطبقي”. شهدنا حالة مماثلة في البلدان الرأسمالية المتقدمة بين عامي 1948 و 1974. وقد كانت النتائج متشابهة في كلتا الحالتين. أوضح ماركس منذ زمن بعيد أن: “الوجود الاجتماعي يحدد الوعي”. يميل القادة العماليون، في مثل تلك الظروف، إلى فصل أنفسهم عن الطبقة العاملة. وبسبب تعودهم على الجو الدافئ داخل البرلمان أو مكاتب النقابة المغلقة، واستمتاعهم بمستوى معيشة متميز، ينهارون تدريجيا تحت ضغط الطبقات الأخرى.
كان التعبير النظري عن ذلك الضغط هو بروز النزعة التحريفية، أي التأكيد على أن أفكار ماركس وإنجلز قد صارت قديمة ويجب تعديلها. وبدلا من السياسات الثورية، بدأوا يدافعون عن الإصلاحات البرلمانية السلمية والتدريجية. كان شعارهم هو: “اليوم أفضل من الأمس؛ وغدا سيكون أفضل من اليوم”. أكدوا أنهم سيصلحون النظام الرأسمالي ببطء وبشكل سلمي وتدريجي، إلى أن يتحول بشكل سلس إلى اشتراكية. يا لها من فكرة جميلة! كم هي عملية! كم هي اقتصادية! ليس هناك من إنسان عاقل قد يفضل طريق النضال والثورة الوعر على مثل هذا المنظور الرائع للمستقبل. لكن جميع النظريات يجب عليها، لسوء الحظ، أن تواجه عاجلا أو آجلا محك الممارسة. لقد وضعت أحداث غشت 1914 أحلام الإصلاحيين على الميزان فوجدتها بدون قيمة. فجميع الأوهام الجميلة عن البرلمانية السلمية والتغيير التدريجي انتهت في أوحال الخنادق والدماء والغازات السامة.
من خلال فضحه لأكاذيب الديماغوجية الشوفينية والنزعة السلمية العاطفية، شرح لينين الجذور السوسيو اقتصادية للاشتراكية الشوفينية وأساسها الطبقي الذي هو الأرستقراطية العمالية. لقد تشكلت أحزاب الأممية الثانية ونقاباتها الجماهيرية في فترة طويلة من الانتعاش الرأسمالي والعمالة الكاملة التي كان من الممكن خلالها تقديم الإصلاحات والتنازلات للطبقة العاملة ولا سيما فئاتها العليا. وفي ظل هذه الظروف تشكلت قشرة بيروقراطية سميكة على رأس المنظمات العمالية، تتألف من عدد كبير من أعضاء البرلمان ومسؤولي النقابات والصحفيين، ومن شابههم، ومن بينهم شرذمة من الوصوليين الراغبين في الترقي الاجتماعي، المنفصلين عن بقية الطبقة العاملة بأجورهم العالية وأسلوب حياتهم ونفسيتهم والذين تشبعوا بالأفكار البرجوازية المستمدة من مستويات معيشتهم والوسط الاجتماعي الذي انتقلوا إليه. كانت عقود من التطور البطيء والسلمي، في ظروف الازدهار وغياب الصراع الطبقي لفترات طويلة (باستثناء روسيا) تعني أن المنظمات الجماهيرية، وخاصة الفئة القيادية داخلها، قد أصبحت تحت ضغط متزايد للطبقات الأخرى. وبينما استمروا يعلنون ولاءهم للنضال الطبقي والاشتراكية أمام أنصارهم داخل الحزب، فقد كان سلوكهم في الممارسة محصورا بالكامل بحدود ما تسمح به الشرعية البرجوازية و“الرأي العام”. لقد وقعوا ضحية لذلك المرض الفتاك الذي سماه ماركس “البلاهة البرلمانية”. وفي مقالته “المصير التاريخي لمذهب كارل ماركس”، حدد لينين طبيعة تلك المرحلة قائلا: «تمتاز المرحلة الثانية (1872 – 1904) عن المرحلة الأولى بطابعها “السلمي”، بانعدام الثورات. كان الغرب قد انتهى من الثورات البرجوازية، بينما لم يكن الشرق قد نضج بعد لهذه الثورات. دخل الغرب في مرحلة التحضير “السلمي” للتغيرات المقبلة: في كل مكان تشكلت أحزاب اشتراكية، بروليتارية من حيث الأساس، وأخذت تتعلم استخدام البرلمانية البرجوازية وإصدار صحافتها اليومية وإنشاء مؤسساتها التثقيفية ونقاباتها وتعاونياتها. حقق مذهب ماركس انتصارا كاملا وأخذ في الانتشار. وببطء، لكن بثبات، تطور انتقاء وحشد قوى البروليتاريا، وإعدادها للمعارك المقبلة.
سار ديالكتيك التاريخ بحيث أن انتصار الماركسية في حقل النظرية أجبر أعداءها على إخفاء حقيقتهم بقناع الماركسية. وحاولت الليبرالية، التي كانت قد تعفنت، أن تستأنف نشاطها تحت ستار الانتهازية الاشتراكية. فسروا مرحلة إعداد القوى للمعارك الكبيرة بأنها عدول عن تلك المعارك، واعتبروا أن تحسين ظروف العبيد بغية النضال ضد العبودية المأجورة ينبغي أن يعني تنازل العبيد عن حقوقهم في الحرية مقابل بضعة سنتيمات. صاروا يدعون بجبن إلى “السلام الاجتماعي” (أي إلى السلام مع مالكي العبيد) والتخلي عن الصراع الطبقي، إلخ. كان لديهم الكثير من الأنصار بين البرلمانيين الاشتراكيين ومختلف المسؤولين داخل الحركة العمالية وبين المثقفين “المتعاطفين”»[3].
لم يكن القادة اليمينيون هم التيار الوحيد داخل الأممية الاشتراكية الديمقراطية، بل كانت هناك أيضا تيارات وسطية -كارل كاوتسكي ورودولف هيلفيردينغ وهوغو هاس في ألمانيا؛ جان لونغيت وألفونس ميريم في فرنسا؛ رامسي ماكدونالد في بريطانيا؛ فيكتور أدلر في النمسا، وغيرهم. كانت السياسة المعتادة لهؤلاء هي الاختباء وراء النزعة السلمية، لكن مع تجنب خوض صراع حقيقي ضد الاشتراكيين الشوفينيين اليمينيين. وقد وجه لينين هجماته الأكثر حدة ضد هذا الاتجاه باعتباره العقبة الرئيسية التي تمنع العمال من سلوك الطريق الثوري. لقد كانوا، كما قال: “يساريين قولا، يمينيين بالأفعال”، وهو الوصف الذي ينطبق على الإصلاحيين اليساريين في كل مرحلة.
ببطء بدأ الجناح الثوري في التعافي من الضربة القاتلة التي تعرض لها في غشت 1914. وبدأت عمليات التجميع تنشط تدريجيا في كل مكان. نشأت القوى الأممية الثورية، في كل مكان تقريبا، من تمايز داخلي وانشقاقات داخل المنظمات الجماهيرية القديمة، أي الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والنقابات. ضم اليسار الأممي كلا من كارل ليبنكنخت وروزا لوكسمبورغ وكلارا زيتكن في ألمانيا؛ ديميتر بلاغويف وفاسيل كولاروف في بلغاريا؛ جون ماكلين في اسكتلندا؛ وجيمس كونولي في أيرلندا، بالإضافة إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الصربيين الذين صوت نائباهم في البرلمان ضد ميزانية الحرب. أصدرت المنظمة الاشتراكية البلغارية “تيسنياكي” بيانا مناهضا للحرب وصوتت ضد عسكرة البلاد. كان هذا هو الجانب الإيجابي، لكن من جانب آخر، انتقل بعض اليساريين السابقين، مثل بارفوس في ألمانيا وبليخانوف في روسيا، إلى معسكر الاشتراكية الشوفينية. كان التيار اليساري الأممي داخل الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني هو الأقوى بعد روسيا وصربيا وبلغاريا.
في 02 دجنبر 1914، صوت كارل ليبكنخت ضد ميزانية الحرب في الرايخستاغ. كان هذا العمل الشجاع نقطة تحول أعطت الأمل للعمال اليساريين ليس فقط داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، بل في جميع البلدان المتحاربة. وفي 04 دجنبر صوت اجتماع لمناضلي الحزب في هال لدعم موقف ليبكنخت. حاول البلاشفة الاتصال باليسار الألماني، لكنهم وجدوا ذلك مستحيلا من الناحية العملية سواء عبر سويسرا أو البلدان الاسكندنافية. كان ذلك مهما بشكل خاص بسبب المكانة الهامة التي يحتلها الحزب الألماني داخل الأممية. لقد اتخذ الأمميون الثوريون، مثل روزا لوكسمبورغ وفرانز ميهرنغ، موقفا شجاعا ضد الحرب. وفي النمسا كذلك بدأ اليسار في تنظيم صفوفه. كما أنه في بريطانيا، ولا سيما في اسكتلندا، كانت هناك اجتماعات مناهضة للحرب وإضرابات.
أدت الحرب إلى طرح القضايا الأساسية بطريقة حادة للغاية، فأثارت سلسلة من الأزمات والانقسامات داخل أحزاب “اليسار” في بريطانيا – الحزب الاشتراكي وحزب العمال الاشتراكي وأيضا داخل حزب العمال المستقل- وهي الانقسامات التي تشكلت منها قوات الحزب الشيوعي في المستقبل. في فرنسا أيضا كانت هناك معارضة يسارية متنامية داخل الحزب الاشتراكي والنقابات العمالية. قاد التيار النقابي الثوري، بزعامة ألفريد روسمر وبيير موناتي، المعارضة ضد القادة الإصلاحيين اليمينيين السابقين. ومع استمرار الحرب بدأت قاعدة دعم الشوفينيين في التفكك. انخفض تداول الصحيفة اليمينية الشوفينية “لومانيتيه” بحوالي الثلث. وفي إيطاليا برز التيار الاشتراكي الثوري، الذي كانت تمثله صحيفة أفانتي، التي كان يحررها جياشينتو سيراتي، في حين كان زعيم الجناح اليميني داخل الحزب الاشتراكي هو الدكتاتور الفاشستي المستقبلي موسوليني. كما تبنى الاشتراكيون الديمقراطيون الرومانيون بدورهم موقفا ثوريا مناهضا للحرب. ونظم “اليساريون” الهولنديون صفوفهم حول صحيفة تريبيون، لكن قائدهم، أنتون بانيكويك عانى، مثله مثل العديد من القادة الآخرين، من النزعة اليسراوية المتطرفة التي كانت سائدة في ذلك الوقت كرد فعل ضد سياسة القادة اليمينيين. وبشكل عام كان اليسار مؤلفا من قوى ضعيفة إلى حد ما، معظمها من الشباب الذين كانوا يفتقرون إلى الخبرة وهو ما عبر عن نفسه في تبني مواقف يسراوية متشددة أقرب إلى النزعة اللاسلطوية النقابية.
التيارات داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية
إن الحرب، وبالرغم من كل أهوالها وقسوتها، لها على الأقل ميزة فضح كل الأكاذيب التي تكون مخفية في المجتمع والسياسة. فهي تضع جميع التيارات موضع الاختبار، وتعري جميع المزاعم بقسوة، بحيث تصير المناورات الدبلوماسية مستحيلة، ويقدم التاريخ حكمه النهائي. تبحث الحروب والثورات عن أي نقطة ضعف عند الأحزاب أو البرامج أو الأفراد وتدمرها. ظهرت موجة الشوفينية القومية، التي اجتاحت المجتمع، كما لو أنها تكتسح كل شيء أمامها. لقد سقط تحت تأثيرها الكثير من الثوريين البارزين، بمن فيهم منظّر اللاسلطوية الشهير: كروبوتكين، بحيث أصبح ذلك المدافع عن “المساعدة المتبادلة” داعية للتدمير المتبادل، كما قال ليونيل كوشان[4]. كل التيارات التي ظهرت في صفوف الأممية الاشتراكية الديمقراطية كان لها امتداد في روسيا، لكن مع اختلاف مهم وهو أن تأثير الجناح الثوري في الاشتراكية الديمقراطية -البلاشفة- كان أقوى بما لا يقاس، وذلك نتيجة لكفاح لينين العنيد ضد الانتهازية طوال الفترة السابقة كلها. وفي المقابل كانت الإصلاحية، سواء في شكلها اليميني أو اليساري، قد صارت ضعيفة ومريضة. وعلى الرغم من أن البلاشفة لم يفلتوا بشكل كامل من التيهان العام وعانوا بدورهم من التذبذبات، خاصة في الفترة الأولى، فإنهم سرعان ما استعادوا رباطة جأشهم، بفضل الموقف الحازم الذي تبناه لينين منذ اللحظة الأولى.
وعلى النقيض من ذلك فقد فضحت الحرب بحدة الضعف الإيديولوجي المزمن والتذبذب الشديد عند المناشفة الذين سرعان ما انشطروا إلى اتجاهات متصارعة. اندلاع الحرب أخذ المناشفة على حين غرة. وبسبب افتقادهم للبوصلة النظرية انقسموا إلى عدد لا يحصى من الفصائل والمجموعات حول جميع المسائل المهمة التي طرحتها الحرب، بدءا من بليخانوف القومي المتطرف إلى اليساري الوسطي مارتوف. وبين هذا وذاك كانت هناك مجموعة من وجهات النظر الانتقالية. لقد كشفت الحرب بقسوة عجز المناشفة السياسي والتنظيمي. كما أن المثقفين المتحلقين حول المجلة الأدبية ناشا زاريا، بوتريسوف وماينسكي وشيريفانين وماسلوف، تبنوا مواقف الدفاع عن الوطن.
كانت الحالة الأكثر إثارة للحزن هي حالة بليخانوف، الذي انتقل منذ البداية إلى الجناح اليميني المتطرف، حيث تبنى موقفا شوفينيا متشددا لم يتقبله حتى المناشفة. ومثله مثل كل الشوفينيين الآخرين، حاول بليخانوف أن يغطّي خيانته بسفسطائية “بارعة”، وهو الفن الذي كان يتقنه، حيث قال: «لا يتوقف الصراع بين المستغِلين والمستغَلين عن كونه صراعا طبقيا بمجرد أن يكون المستغِلون على الجانب الآخر من الحدود ويتحدثون لغة أخرى. إن بروليتاريا البلدان التي هاجمتها ألمانيا والنمسا، تخوض صراعا طبقيا أمميا بكونها تصارع، والسلاح في يدها، ضد تحقيق الخطط الاستغلالية للإمبرياليين النمساويين والألمان»[5].
لم يصدق لينين إلا بصعوبة ما حدث لمعلمه القديم، خاصة وأنه كان قد اقترب كثيرا من البلاشفة في فترة الردة الرجعية. تتذكر كروبسكايا قائلة: «اكتشفنا في أوائل أكتوبر أن بليخانوف، الذي كان قد عاد للتو من باريس، قد ألقى خطابا في اجتماع في جنيف وأنه سيتولى قراءة بيان في لوزان. كان موقف بليخانوف يقلق إيليتش كثيراً. لم يستطع أن يصدق أن بليخانوف قد أصبح نصيرا “للنزعة الدفاعية”. قال: “لا أستطيع أن أصدق ذلك”، وأضاف بعد تفكير: “لا بد أن ذلك بتأثير من ماضيه العسكري”».
وبمجرد أن رأى لينين أن بليخانوف قد تجاوز الحد، قرر على الفور أن يواجهه في نقاش مفتوح. كان في البداية، كما تتذكر كروبسكايا، يشعر بالقلق من أنه لن يتم السماح له بحضور محاضرة بليخانوف ويقول ما يريد قوله، قد لا يسمح المناشفة بدخول عدد كبير من البلاشفة. «أستطيع أن أتخيل كم كان غير مرتاح لرؤية هؤلاء الناس ومتابعة محادثاتهم التافهة، ويمكنني أيضا أن أتفهم الحيل الساذجة التي كان يبتكرها للتخلص منهم. كما يمكنني رؤيته بوضوح وسط صخب مائدة العشاء منطويا على نفسه ومنفعلا إلى درجة أنه لا يستطيع ابتلاع اللقمة. وعندما أعلن بليخانوف ساخرا بشكل متصنع أنه لم يكن مستعدًا لمخاطبة مثل هذا الجمهور الكبير، تمتم إيليتش قائلا: “يا له من ماكر”، وسلم نفسه بالكامل لسماع ما يقوله بليخانوف. الجزء الأول من المحاضرة، الذي هاجم فيه بليخانوف الألمان، لاقى موافقته وتصفيقه. لكن بليخانوف خصص الجزء الثاني من خطابه لطرح وجهة نظره حول “الدفاع عن الوطن”. لم يعد هناك مجال للشك بعد الآن. طلب إيليتش الكلمة -وكان هو الوحيد الذي قام بذلك- وصعد إلى المنصة مع كأس بيرة في يده. لقد تكلم بهدوء، لكن شحوب وجهه كان يفضح انفعاله. قال إن الحرب لم تكن حدثا عرضيا، وأنها كانت نتيجة لطبيعة تطور المجتمع البورجوازي نفسه»[6].
لم يكن أمام لينين سوى عشر دقائق للتحدث، حيث ذكّر الحضور بقرارات المؤتمرات الأممية في شتوتغارت وكوبنهاغن وبال، ودعا الاشتراكيين الديمقراطيين إلى مكافحة السموم الشوفينية والسعي لتحويل الحرب إلى نضال حاسم من جانب البروليتاريا ضد الطبقات الحاكمة. رد بليخانوف بسخريته المعتادة، ولاقى التصفيق الحاد من جانب المناشفة، الذين كانوا يشكلون أغلبية ساحقة. لا بد أن لينين قد أحس بأنه معزول بشكل كامل.
تسببت حمى الحرب في خسائر فادحة أخرى، حيث استسلم بوتريسوف، مثله مثل بليخانوف، للنزعة الشوفينية. بل إن منشفيا بارزا آخر، ج. أ. أيكسينسكي، انتقل إلى اليمين حتى أنه التحق بالجيش الأبيض بعد ثورة أكتوبر. ولم يكن الوحيد في ذلك. لكن دفاع بليخانوف الصارخ عن الاشتراكية الشوفينية لم يجد له صدى في صفوف قواعد الحركة الاشتراكية الديمقراطية، وبقي طوال فترة الحرب معزولا. كتب ماكين عن مجموعة بليخانوف قائلا: «عدد ضئيل فقط من المثقفين المناشفة في بتروغراد من تبنوا استسلام بليخانوف للنزعة القومية. ومن بين أنصاره القلائل نجد فين إنوتايفسكي، والمنشفي ومحرر مجلة سوفريمينيي مير الشهرية (التي أعادت طبع العديد من مقالات بليخانوف)، يوردانسكي. أوضح مخبر لجهاز الأوخرانا مكلف بتتبع مواقف الاشتراكيين من الحرب، في يناير 1916، أن مؤيدي بليخانوف الروس “لم يمارسوا سوى القليل من التأثير على المزاج العام”»[7].
لكن الأكثر خطورة، كما أدرك لينين على الفور، كانوا هم الشوفينيون المقَنَّعون، أي أولئك اليساريون السابقون مثل كاوتسكي، الذين كانوا يتمتعون بنفوذ شخصي ضخم والذين أخفوا خيانتهم وراء ستار من السفسطة “الماركسية” المنافقة.
في 17 أكتوبر 1914، كتب لينين إلى شليابنيكوف: «لقد أصبح بليخانوف، كما سبق ربما أن قلت لك، شوفينيا فرنسيا. وبين التصفويين هناك ارتباك واضح. يقولون إن أليكسينسكي قد صار مناصرا للفرنسيين. بينما كوسوفسكي (البوندي اليميني، وقد استمعت لخطابه) قد صار مناصرا للألمان. يبدو كما لو أن التيار الوسطي لكل قادة “كتلة بروكسل” التصفويين، إضافة إلى أليكسينسكي وبليخانوف، سيتبنى موقف كاوتسكي، الذي هو الآن أكثر ضررا من أي شخص آخر. كم هي خطيرة سفسطته التي تغطي حيل الانتهازيين القذرة بالعبارات الأكثر سلاسة ونعومة (في نيو زيت Neue Zeit). إن الانتهازيين خطر واضح، لكن “التيار الوسطي” الألماني، الذي يتزعمه كاوتسكي، خطر خفي، ملون بألوان دبلوماسية، يخدع عين وعقل وضمير العمال، والأكثر خطورة من أي شيء آخر. إن مهمتنا الآن هي النضال غير المشروط والمفتوح ضد الانتهازية العالمية وأولئك الذين يسترونها (كاوتسكي)»[8].
بسبب ضغط البلاشفة، اضطر المناشفة الروس إلى الوقوف على يسار معظم المجموعات الأخرى داخل الأممية. لقد تبنوا ما يشبه موقفا وسطيا، لكنهم سرعان ما انقسموا إلى مجموعتين. كانت غالبية المناشفة أقرب إلى موقف كاوتسكي “الوسطي” من موقف بليخانوف. وخلال الحرب، وفي تناقض حاد مع موقف بليخانوف، وجه المناشفة فريقهم في البرلمان للتصويت ضد اعتمادات الحرب وحافظوا على موقف متردد من مسألة الدفاع عن الوطن. تبنت “اللجنة التنظيمية”، برئاسة ب. ب. أكسيلرود، التي انتخبت في اجتماع غشت 1912، موقفا غامضا (كاوتسكيا) بشأن الحرب، ودعت، كما كانت دائما، إلى “وحدة” جميع الاشتراكيين الديمقراطيين -بمن فيهم بليخانوف وأليكسينسكي! لقد أيدت الفريق المنشفي في الدوما، الذي فشل في البداية في معارضة الحرب، لكنه صوت لاحقا ضد اعتمادات الحرب.
بعد ثلاثة أيام من صدامه مع بليخانوف وفي نفس القاعة -Maison du Peuple – ألقى لينين محاضرته. كتبت كروبسكايا قائلة: «كانت القاعة مكتظة ولاقت المحاضرة نجاحا باهرا. كان إيليتش ذا مزاج كفاحي متأجج. شرح وجهة نظره من الحرب التي وصفها بأنها حرب إمبريالية. وأشار في كلمته إلى أن اللجنة المركزية أصدرت في روسيا منشورا ضد الحرب، وأن منشورات مماثلة قد صدرت عن المنظمة القوقازية وغيرها من المجموعات. وأشار إلى أن أفضل صحيفة اشتراكية في أوروبا في ذلك الوقت هي غولوس (الصوت)، التي كان مارتوف يكتب فيها. وقال: “بقدر ما أختلف في أغلب الأحيان وبشكل جدي مع مارتوف، بقدر ما يجب علي، بكل تأكيد، أن أقول الآن إنه يقوم بما يجب على الاشتراكي الديمقراطي القيام به. إنه ينتقد حكومته ويندد ببرجوازية بلده ويناضل ضد وزراء بلده”»[9].
وقف مارتوف على يسار المناشفة طوال الحرب. كان الجناح اليساري عند المناشفة في بتروغراد ممثلا من قبل مجموعة المبادرة المركزية، التي دافعت، منذ غشت 1914، عن موقف أممي راديكالي ضد الحرب. في البداية بدا كما لو أن مارتوف يسير في اتجاه البلشفية، ليس فقط في موقفه الأممي، بل أيضا في ما يخص معارضته للتكتل مع الليبراليين. كتب روبرت ماكين: «وفي تناقض حاد مع معظم المناشفة، رفضوا [المناشفة الأمميون] بشكل قاطع قبول اعتبار البرجوازية “الرجعية” و“المعادية للشعب” حليفا للطبقة العاملة»[10].
أعطى ذلك للينين سببا في الأمل بإمكانية حصول تحالف بينه وبين رفيقه القديم مارتوف، الذي احتفظ له دائما، وحتى نهاية أيامه، بمشاعر تقدير حارة. لكن مارتوف توقف، كالعادة، في منتصف الطريق ولم يصل إلى درجة النضال ضد كاوتسكي. ومع ذلك فإن مارتوف ومجموعته، المناشفة الأمميون، وعلى الرغم من بعض التناقضات، احتفظوا بموقف أممي خلال الحرب.
كان بعض زعماء المناشفة، مثل نواب الدوما تشخيدزه وتولياكوف وسكوبيليف، يميلون إلى موقف “المناشفة الأمميين” المارتوفيين، ودعوا إلى حملة من أجل سلام ديموقراطي بدون إلحاقات، وبعد ذلك أيدوا قرارات كونفرانس زيميروالد، كما أيدوا إعادة بناء الأممية القديمة. وفي وقت لاحق، مع ظهور الكتلة التقدمية والصدام بين مجلس الدوما وبين حكومة جوريميكين، في صيف عام 1915، صارت لدى هؤلاء النواب البرلمانيين الثلاثة أوهام (تقاسمها معهم مارتوف على ما يبدو) حول إمكانية استبدال نظام الثالث من يونيو بجمهورية ديمقراطية من شأنها أن تكون بمثابة حافز لحركة السلام الأوروبية. لم تظهر الآثار الرجعية لهذا النوع من النزعة الإصلاحية اليسارية إلا بعد فبراير 1917، عندما أدت بالمناشفة إلى أن دعموا ليس فقط الحكومة البرجوازية المؤقتة، بل الحرب أيضا.
تروتسكي، الذي كان ما يزال غير منتم بشكل رسمي لأي فصيل، اتخذ موقفا ثوريا أمميا حازما وشارك بلا كلل في التحريض والدعاية ضد الحرب وضد الاشتراكية الشوفينية. ومن منفاه في باريس، نجح في القيام بشيء لم يحققه أي عضو آخر في التيار الأممي الروسي. فبالتعاون النشط مع رفيقيه موناتي وروسمر، اللذين كانا من أبرز قادة الجناح اليساري في فرنسا، نشر صحيفة يومية بعنوان ناش سلوفو (كلمتنا). قامت صحيفة تروتسكي، جنبا إلى جنب مع مارتوف وغيره من الأمميين، وخاصة في فرنسا، بدور هام في الحملة من أجل عقد كونفرانس أممي، وهو ما أسفر في النهاية عن زيميروالد. اعتاد المؤرخون الستالينيون تصنيف تروتسكي في ذلك الوقت كـ“وسطي”. هذا هراء. لم يكن موقف تروتسكي من الحرب يختلف من حيث الجوهر في أي شيء عن موقف لينين. حقيقة أنه لم يكن قد صار بعد عضوا رسميا في منظمة لينين لا تعكس وجود اختلافات سياسية، بل كانت نتاجا لميراث الجدال الذي حدث في الفترة السابقة. على الرغم من بعض الخلافات التكتيكية والشكوك المتبادلة الموروثة من الماضي، كان هناك في الواقع تعاون متكرر بين البلاشفة وبين ناش سلوفو التي استمرت في صراعها ضد الامبريالية حتى تم منعها في النهاية من قبل الحكومة الفرنسية عندما اندلع التمرد على متن الطرادة الروسية أسكولد، الراسية في طولون، وتم العثور على نسخ من الجريدة عند بعض المتمردين.
وكما كان الحال دائما فإن ما فصل بين لينين وتروتسكي لم يكن هو الخط السياسي، بل مسألة وحدة الحزب. فنظرا للصعوبات الهائلة التي كان الجناح الثوري الأممي يواجهها، اعتبر تروتسكي أنه من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، السعي لتوحيد جميع العناصر التي احتفظت بموقف أممي. لم يتضمن ذلك البلاشفة وحدهم، بل كذلك أولئك المناشفة الأمميون، مثل مارتوف، الذين وقفوا بقوة ضد الاشتراكية الشوفينية منذ بداية الحرب. في الواقع كان هناك من بينهم العديد من المناضلين الجيدين، الذين انضم جزء كبير منهم لاحقا إلى الحزب البلشفي ولعبوا دورا بارزا. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك نذكر مجموعة ما بين المقاطعات (ميزرايونتسي) في بتروغراد. كما كان هناك لوناتشارسكي، الذي صار لاحقا مفوض الشعب للثقافة والتعليم. لقد تعاون أيضا مع ناش سلوفو، ويتذكر جهود تروتسكي للتوصل إلى وحدة جميع العناصر الأممية الحقيقية، كما يتذكر تذبذب أشخاص، مثل مارتوف، تبنوا موقفا أمميا لكنهم لم يكونوا مستعدين لاستخلاص كل الاستنتاجات الضرورية، حيث قال:
«لقد أردنا بإخلاص أن نتوصل، على أسس أممية جديدة، إلى التوحيد الكامل لجبهة حزبنا من لينين إلى مارتوف. لقد دافعت عن هذا المسار بأكثر الطرق نشاطا، وكنت، إلى حد ما، أول من أطلق شعار “فليسقط الانهزاميون، ولتحيا الوحدة بين جميع الأمميين!”. وقد تبنى تروتسكي بشكل كامل هذا الموقف. لقد كان ذلك حلمه منذ فترة طويلة ويبدو أنه يبرر كل مواقفه السابقة.
لم تكن لدينا أي خلافات مع البلاشفة، لكن مع المناشفة كانت الأمور تسير بشكل سيء. حاول تروتسكي بكل الوسائل إقناع مارتوف بقطع صلاته مع المدافعين [أنصار نزعة الدفاع عن الوطن]. تحولت اجتماعات هيئة التحرير إلى مناقشات مطولة، تمكن خلالها مارتوف، صاحب القدرات العقلية المذهلة، وباستعمال نوع من السفسطة الماكرة، من تجنب الإجابة بشكل مباشر عن سؤال ما إذا كان سيقطع صلاته مع المدافعين. وفي بعض الأحيان هاجمه تروتسكي بشكل مباشر. وصلت الأمور إلى نقطة انفصال شبه تام بين تروتسكي ومارتوف -الذي، بالمناسبة، كان تروتسكي يحترم ذكاءه السياسي دائما- وفي نفس الوقت وقعت القطيعة بيننا، نحن الأمميون اليساريون، وبين مجموعة مارتوف»[11].
لعبت لجنة ما بين المقاطعات (ميزرايونكا) دورا هاما طوال الحرب، رغم أنها لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه من جانب المؤرخين. تعود جذور ميزرايونتسي، كما كان يطلق على أعضائها، إلى عام 1913، عندما تم تأسيسها بمبادرة من بلشفي شاب يبلغ من العمر 23 عاما، اسمه ك. ك. يورينيف؛ وم. ييغوروف الذي كان نائبا سابقا في مجلس الدوما الثالثة عن منطقة بيرم؛ والعامل في قطاع الصلب أ. م. نوفوسيلوف، والذي هو مناضل بلشفي منذ عام 1906، وقيادي بارز في نقابة عمال الصلب في جزيرة فاسيليفسكي. كان هدف المنظمة المعلن هو “إعادة توحيد جميع الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين انطلاقا من القاعدة” (أي البلاشفة والمناشفة الموالين للحزب)، والقيام بالتحريض الحزبي بين صفوف القوات المسلحة. لقد اتخذت منذ البداية موقفا مبدئيا فيما يتعلق بالحرب، كما أنها تبنت، بصورة مستقلة عن البلاشفة، في اجتماع عُقد في 20 يوليوز، شعار “الحرب ضد الحرب”.
كتب روبرت ماكين: «خلال الأشهر الستة الأولى، بعد اندلاع الأعمال العدائية، كانت المنظمة “الأكثر نجاحا” بين الفصائل الثورية هي ميزرايونكا. ففي جزيرة فاسيليفسكي كانت إحدى لجان الإضراب البيحزبية قد نجت بعد اضطرابات يوليوز 1914. وفي وقت ما في خريف تلك السنة، تم تأسيس لجنة مقاطعة سرية تابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي والتي تبنت خط ميزرايونكا. عملت الخلايا في 11 شركة، بما في ذلك شركة النفط وشركة سيمنز-شوكرت. وفي أكتوبر ظهرت مجموعة في المدينة، وأسست حلقات في عدة مصانع في بيترسبورغ، من بينها شركة بتروغراد للهندسة وشركة لانجينزيبين. وفي نارفا، حيث لم تكن لميزرايونكا أي جذور قبل الحرب، أسس البلاشفة والمناشفة الموالون للحزب لجنة تمكنت من كسب حوالي 130 عضوا، معظمهم في مصنع بوتيلوف. في نوفمبر صوتت هذه المنظمة المستقلة لصالح الانضمام إلى ميزرايونكا. وقد كانت هذه الأخيرة تمتلك مطبعة أصدرت خمس منشورات وطبعة واحدة من الصحيفة السرية فبريود. لكن، وكما في الماضي، فشلت ميزرايونكا بشكل واضح في اختراق أحياء نيفا وفيبورغ. وبالنظر إلى الأهمية الكبيرة التي أعطتها ميزرايونكا للجيش باعتباره عاملا حاسما لقيام ثورة ناجحة، فقد أنشأت مجموعة دعاية عسكرية تمكنت من إصدار منشور للجنود. لكنها لم تكن تمتلك أية خلايا في وحدات بتروغراد العسكرية. وبحلول نهاية العام، تمكنت ميزرايونكا من كسب أكثر من 300 مناضل. إذا ما نظرنا إلى عضوية لجنة ميزرايونكا، سنجد أن القيادة كانت مشكلة من ثلاث مجموعات في ذلك الوقت: الطلاب وعمال الصلب المؤهلين، ثم عمال المطابع على الخصوص. لكن سرعان ما جذب توسع المنظمة انتباه البوليس. وفي أوائل فبراير 1915، تسببت حملة اعتقالات واسعة في سحقها كليا تقريبا، مما شل نشاطها لعدة أشهر بعد ذلك»[12].
وفي عام 1917، انضمت ميزرايونكا، مع تروتسكي، إلى الحزب البلشفي، ولعبت دورا هاما، كما سنرى لاحقا.
موقف لينين
لعل كتابات لينين عن الحرب هي أكثر كتاباته التي تعرضت لسوء الفهم. لقد وقف لينين في أقصى يسار التيار الأممي طوال الحرب. وقد بدا موقفه بالنسبة للكثيرين في ذلك الوقت، حتى بين صفوف البلاشفة، كما لو أنه موقف مشوب بالتطرف اليساري. أثارت حدة بعض مواقفه الكثير من الجدال، وهي المواقف التي تم تخفيف بعضها في وقت لاحق أو تم التخلي عنها تماما. لقد تسببت تلك الخلافات في أن جعلت تحقيق الوحدة مع العديد من العناصر الأممية الحقيقية مسألة مستحيلة. لكن ذلك كانت له العديد من الأسباب. لقد تفاجأ لينين بانهيار الأممية، وبمجرد أن فهم طبيعة المشكلة، وصل إلى استنتاج مفاده أن هناك ضرورة للقيام بقطيعة جذرية ليس فقط مع الشوفينيين اليمينيين المتطرفين، بل أيضا مع من كانوا يسمون أنفسهم باليساريين (كاوتسكي، هاسي، ليبيدور). واجه الجناح الثوري، المعزول والتائه إلى حد ما في البداية، مهمة صعبة. لم يكن يكفي “القطع مع الاشتراكية الشوفينية” بالكلمات فقط، بل كان من الضروري كسب الجماهير إلى برنامج الأممية الحقيقية. لكنه لم يكن من الممكن الوصول إلى الجماهير. كان عمل الأممين الثوريين في ذلك الوقت يقتصر، في معظم الحالات، على إعادة تثقيف الكوادر داخل حلقات صغيرة، وانتظار حدوث تغير في الوضع.
من الصعب أن نتخيل الآن حجم التأثير المدمر والمحبِط للخيانة التي اقترفتها قيادة الأممية الثانية. كان ذلك وضعا جديدا وغير مسبوق تماما. لقد تعرضت طليعة العمال في كل مكان للشلل، وساد الارتباك لفترة من الوقت، إلى أن بدأ الأمميون تدريجيا في إعادة تجميع صفوفهم والقيام بهجوم مضاد. كان على لينين أن يعيد تثقيف الكوادر بمواقف حازمة ضد سموم الاشتراكية الشوفينية. لقد سقطت خيانة قادة الأممية الاشتراكية، في غشت 1914، كالصاعقة من سماء زرقاء صافية. كان تصويت الفريق البرلماني للحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني داخل الرايخستاغ لصالح ميزانية الحرب تصرفا غير متوقع إلى درجة أن لينين عندما قرأ الخبر في الجريدة الرسمية للحزب (Vorwärts)، رفض في البداية تصديقه، واعتبر المقال مجرد خبر كاذب صادر عن هيئة أركان الحرب العامة الألمانية. ولم يكن وحده في هذا. قال تروتسكي في مؤتمر زيميروالد: «اعتقدنا أن عدد 04 غشت من Vorwärts تم إنتاجه من قبل هيئة الأركان العامة الألمانية»[13]. كما لخص زينوفييف الوضع العام قائلا: «لقد تقاسم العديد من الاشتراكيين الاحساس بأن هناك شيئا ما فاسد في الدنمارك. لكن علينا أن نعترف بنزاهة أنه لا أحد منا توقع أي شيء قد يشبه ولو من بعيد ما شهدناه في 04 غشت 1914»[14].
وصف أكسلرود ردة فعل المناشفة قائلا: «لطالما كان الحزب الألماني معلمنا. وعندما قرأنا خطاب تصويت الفريق البرلماني الألماني لم نصدق ذلك»[15].
لكن الخبر كان صحيحا. وقد كان الموقف الأكثر إثارة للصدمة هو سلوك القادة الاشتراكيين اليساريين. لم يكن من قبيل الصدفة أن لينين قد سلط أثناء الحرب أشد انتقاداته حدة على من كانوا يسمون باليساريين، وكاوتسكي على وجه الخصوص. قبل الحرب كان كاوتسكي يعتبر على نطاق واسع بأنه زعيم اليسار الأممي. وقد كان لينين يعتبر نفسه “كاوتسكيا أرثوذكسيا”. بينما كانت روزا لوكسمبورغ، التي كانت تعرف كاوتسكي أفضل من لينين، أكثر انتقادا له، حيث شعرت أنه من وراء كل كتابته “الماركسية” المنمقة يكمن بيروقراطي توفيقي جبان. وقد تمكن لينين لاحقا من استيعاب صحة تحذيرات روزا، حيث قال: «لقد كانت روزا لوكسمبورغ محقة عندما كتبت، منذ زمن بعيد، أن كاوتسكي يمتلك “خضوع المنظر”، وخنوعه، أو بلغة أكثر اعتدالا موقفا عبوديا تجاه أغلبية الحزب، تجاه الانتهازية»[16].
أراد كاوتسكي وأتباعه أن يقنعوا العمال بأن المنظمة الأممية لا تستطيع أن تعمل في ظل ظروف الحرب، لكنه سيعاد إحياءها مرة أخرى بعد استعادة السلام. كان هذا الموقف أشبه بمظلة مليئة بالثقوب، أي أنها عديمة الفائدة على وجه التحديد عندما تمطر السماء! لم يدخر لينين أي مجهود لفضح دور “اليساريين” وتكوين رفاقه على أساس استحالة أي مصالحة مع المسؤولين عن أكبر خيانة في تاريخ الطبقة العاملة. لقد كان وقت المجاملات والصيغ الدبلوماسية قد انتهى، وصار من الضروري تسمية الأشياء باسمها الحقيقي!
لينين الذي كان يشعر بالعزلة الشديدة، صار يبحث بفارغ الصبر عمن يشاركه الموقف. وكما حدث له أكثر من مرة في سياق حياته السياسية، وجه أنظاره نحو رفيقه القديم مارتوف. قالت كروبسكايا: «كان إيليتش كثيرا ما يصرح في محادثاته الخاصة أنه سيكون من الجيد لو التحق بنا مارتوف. لكنه كان يشكك في قدرة مارتوف على أن يلتزم بموقفه الحالي لفترة طويلة. لقد كان يعرف أن مارتوف سريع الاستسلام للتأثيرات الخارجية. وأضاف إيليتش: “إنه يكتب مثل هذا عندما يكون وحيدا”»[17].
لكن تجربته الطويلة والمريرة مع تذبذبات مارتوف علمته أن يكون حذرا. وفي رسالة بعثها إلى شليابنيكوف، رحب لينين بموقف مارتوف ضد الاشتراكية الشوفينية، لكنه فتح على الفور المجال لشكوكه حول الرجل الذي كان يعرفه جيدا: «يتصرف مارتوف أكثر من الجميع مثل غولوس. لكن هل سيتمسك (مارتوف) بموقفه؟ أنا لا أعتقد ذلك». وقد أكدت الأيام أسوء مخاوفه في هذا الشأن.
كانت لدى لينين رؤية واضحة لما يجب القيام به. كانت الأممية الثانية قد ماتت، وكانت كل الجهود لإعادة إنعاشها بدون جدوى. كان من الضروري بناء أممية جديدة. كانت الرسالة جريئة مثلما هي بسيطة. لكن تحويل مثل هذا المشروع إلى واقع لم يكن بهذه البساطة. كان ملايين العمال من البلدان المتحاربة ما زالوا أعضاء في المنظمات القديمة، وكان الوصول إليهم، خاصة في ظل ظروف الحرب، يبدو مهمة مستحيلة، لكن عندما نأخذ بعين الاعتبار أن مجموعة لينين كانت قد تقلصت إلى حفنة صغيرة من الأعضاء، بدون أجهزة ولا مال ولا تأثير يذكر على الأحداث في روسيا أو في أي مكان آخر، فإن المهمة تبدو وكأنها مجرد جنون. لا عجب في أنه حتى أقرب الناس سياسيا من لينين كانوا مترددين في قبول كل تداعيات موقفه. ولا عجب في أنه وجد صعوبات جدية في إقناع حتى قادة حزبه. لكنه لم يتردد ولو للحظة. لم يكن لينين منظرا عظيما فقط، ولا صاحب منظور واسع فحسب، بل كان كذلك شجاعا جدا -ليس من ذلك النوع الذي يتألق لفترة مؤقتة ثم يختفي- كان شديد التصميم والعناد والحزم لاستخلاص كل الاستنتاجات الضرورية ورؤية الأشياء حتى نهايتها. وقد اتضحت هذه الصفات بشكل كبير خلال مرحلة الاختبار تلك، كما يمكننا أن نرى من خلال الفقرة التالية:
«هذه مهمة أممية، وتقع على كاهلنا، لا يوجد أحد آخر غيرنا للقيام بها. يجب علينا ألا نتراجع عنها. من الخطأ رفع شعار إعادة بناء الأممية “البسيط” (لأن خطر الوقوع في حل توفيقي فاسد متوافق مع خط كاوتسكي- فاندرفيلد هو احتمال كبير جدا!). إن شعار “السلام” خاطئ: يجب أن يكون الشعار هو تحويل الحرب القومية إلى حرب أهلية. (قد يكون هذا التحويل عملا طويلا، قد يتطلب، وسيتطلب، توفر عدد من الشروط المسبقة، لكن يجب أن يتم كل العمل في اتجاه هذا التحول بالتحديد، بتلك الروح وعلى ذلك الخط) لا عمليات تخريب ضد الحرب ولا أعمال فردية معزولة، بل الدعاية الجماهيرية (ليس فقط بين “المدنيين”) في اتجاه تحويل الحرب إلى حرب أهلية»[18].
يا له من تناقض هائل بين هذا الموقف وبين تردد وشكوك مارتوف، الشبيه بهاملت. «[المهمة] تقع على كاهلنا، لا يوجد أحد آخر غيرنا للقيام بها. يجب علينا ألا نتراجع عنها». نجد في هذه العبارات القليلة جوهر لينين الانسان والمناضل الذي بمجرد اقتناعه بصحة موقف معين لا يبقى بالنسبة له أي مجال للنظر إلى الوراء.
كانت توجد العديد من المشاكل هنا أيضا. فمعظم القوى الشابة وغير الناضجة التي شكلت يسار زيمروالد لم تفهم حقا ماذا كان يقصده لينين، وبالتالي فقد كانت المهمة الأولى إذن هي التأكيد على المبادئ الأساسية. لطالما احتوت طريقة لينين على شيء من المبالغة الجدالية. كان دائما ما يركز على نقطة معينة، بل ويبالغ في التأكيد عليها (كما فعل في عام 1902، عندما ذكر، مخطئا، أن الطبقة العاملة لا يمكنها، إذا ما تركت لنفسها، أن تحقق سوى الوعي “النقابي الخبزي”) وذلك لكي يصدم الناس ويجعلهم يفهمون وجهة نظره. إن الحرب تدمر بلا رحمة كل الحيل والأكاذيب وتجبر الرجال والنساء على مواجهة الحقيقة. لقد اتخذ هجوم لينين الشرس على القادة القدامى، على الانتهازية والشوفينية، شكلا متطرفا لأنه كان مصمماً على ألا يترك لهم ولو ثغرة صغيرة ليعودوا منها بعد الحرب. ولكي يرسخ هذه الفكرة في وعي الكوادر لم يتردد لينين في استخدام اللغة الأكثر حدة وتطرفا. صحيح أن ذلك أدى إلى خلق بعض الصعوبات، لكن لينين اعتبر أن ذلك ضروري للغاية من أجل إعادة تثقيف الطليعة البروليتارية وإعدادها للمهام العملاقة التي تنتظرها. كان هدف لينين من بيان “الحرب والاشتراكية الروسية” هو تثقيف أعضاء حزبه الذين كانوا يعانون من بعض التذبذب، كما هو متوقع في ظل تلك الظروف. لم تصل أطروحات لينين عن الحرب إلى بيترسبورغ إلا في شتنبر، لكنها لم تستقبل بالكثير من الحماس. يقول شليابنيكوف إن موقف الانهزامية الثورية الذي دعا إليه لينين استقبل بنوع من “الحيرة”. ووفقا لجهاز الأوخرانا بموسكو: «لقد فاجأت الحرب “اللينينيين” واستمروا كذلك لمدة طويلة… لم يتمكنوا من الاتفاق على الموقف الذي ينبغي لهم اتخاذه من الحرب…»[19].
إن تلك التذبذبات التي ظهرت حتى بين صفوف القيادات البلشفية حول المسألة الهامة التي هي الموقف من الحرب، تفسر لنا لماذا تبنى لينين شعارات جعلتهم معرضين للاتهام بالتطرف اليساري مثل: «تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية»، وأن “هزيمة روسيا هي أهون الشرين”. لقد انتقد تروتسكي شعار لينين: “تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية”، لأنه رأى أن ذلك الشعار لا يمكنه أن يوفر أساسا للقيام بحملة واسعة ضد الحرب يمكن أن تجد صدى بين الجماهير، وكان يعمل على خلق أرضية يمكنها أن توحد كل الاشتراكيين الأممين الحقيقيين. ليس هناك من شك في أن تروتسكي كان لديه حق، إذ أن مثل تلك الشعارات لم تكن أبدا لتجد لها صدى بين الجماهير، على الأقل بذلك الشكل الذي طرحت به وفي تلك المرحلة. لقد وصف لينين موقف تروتسكي بأنه “وسطي”، بل وحتى “كاوتسكي”. كان هذا غير صحيح نهائيا، إذ أن تروتسكي حافظ طوال الحرب، مثله مثل لينين، على موقف أممي حازم. وقد كان موقفه من الحرب مشابها لموقف لينين في كل شيء من حيث الجوهر. إلا أنه بفضل جريدته اليومية ناش سلوفو (كلمتنا)، التي كان يصدرها من باريس، كان بإمكانه أن يتواصل مع جمهور أوسع مما كان بإمكان لينين. كان ذلك جزئيا هو ما جعله يستعمل لغة مختلفة، حيث أكد على ضرورة خوض النضال الثوري ضد الحرب بعبارات مختلفة يمكنها أن تحدث صدى بين العمال الأكثر وعيا على الأقل، والذين كانوا قد بدأوا في البحث عن بديل يساري.
خلال الحرب العالمية الأولى كان لينين معزولا بشكل تام عن الجماهير. والشعارات التي تقدم بها في ذلك الوقت لم تكن موجهة للجماهير، لقد كان لينين يكتب للكوادر. إن عدم فهم هذه الحقيقة يمكنه أن يؤدي إلى السقوط في أخطاء فادحة. وعلاوة على ذلك فإن الطريقة التي صاغ بها لينين شعار الانهزامية تركت الكثير من الأشياء التي تحتاج إلى توضيح. لم تكن تلك هي المرة الأولى، كما سبق لنا أن رأينا، التي قام فيها لينين بالمبالغة في صياغة موقف معين من أجل جعله مفهوما من طرف رفاقه. لكنها أدت إلى ارتباك لا نهاية له عند هؤلاء الأشخاص الذين قرأوا بضعة أسطر من كتابات لينين دون أن يفهموا منهجه. من الضروري أن نفهم الظروف الملموسة التي كتبت خلالها تلك الأعمال ومن كانت تستهدفهم. لقد فوجئ لينين بالمد الكاسح للنزعة الشوفينية التي بدت وكأنها تكتسح كل شيء أمامها. كان بعيدا عن روسيا وكان قلقا جدا من احتمال التذبذب بين أنصاره في الموقف من مسألة الحرب والأممية. لذا كان من الضروري إعادة التأكيد على المبادئ الأساسية. كانت الرهانات هامة جدا؛ كانت القضايا المطروحة على المحك هي مصير الثورة، ليس فقط في روسيا بل الثورة العالمية كذلك. ولهذا السبب لم يكن هناك أي مجال للدبلوماسية والغموض.
تقول كروبسكايا: «لقد قام إيليتش متعمدا بطرح القضية بحدة كبيرة من أجل أن يوضح بشكل كامل الموقف الذي يتوجب اتخاذه. كان الصراع مع أنصار الدفاع عن الوطن حامي الوطيس. لم يكن الصراع شأنا داخليا للحزب يتعلق بالأمور الروسية وحدها، بل كان شأنا أمميا»[20].
جزء من المشكلة هو أن شعار لينين، الذي يهدف إلى تثقيف الكوادر بروح النضال الثوري الحازم ضد كل أنواع الشوفينية، كان يقدم بشكل متكرر في صورة كاريكاتيرية من قبل أنصاره. وكمثال على ذلك فقد نشر زينوفييف مقالا له في جريدة سوتسيال ديموكرات (عدد 38)، عرض فيه ذلك الموقف بطريقة فظة ومبتذلة، حيث قال: «نعم نحن نريد هزيمة “روسيا”، لأن ذلك سيسهل انتصار روسيا ويحررها، ويخلصها من قيود النظام القيصري»[21]. وكالعادة فقد تعرضت وجهة نظر لينين إلى التشويه على يد أنصاره، الذين أخذوا كلماته (التي كانت في الواقع مجرد مبالغة جدالية) وقلبوها رأسا على عقب. لقد كانت الفكرة القائلة بأن الهزيمة العسكرية للنظام القيصري من شأنها تسريع سيرورة الثورة في روسيا صحيحة بشكل كامل وقد أكدتها الأحداث. لكن الوقوف أمام الجماهير في روسيا والقول لها بأن الثوريين يؤيدون انتصار القيصر الألماني على روسيا سيكون موقفا انتحاريا. في واقع الأمر كان من الممكن أن يتحول ذلك إلى نزعة دفاعية بشكل مقلوب، وكان من شأنه أن يعرض البلاشفة لاتهامهم بأنهم عملاء للألمان (وهو الاتهام الذي استخدمته الحكومة المؤقتة ضدهم فيما بعد).
مزاج الطبقة العاملة
لم يكن ذلك هو المحتوى الحقيقي لشعار لينين، بل كان مجرد وسيلة للتعبير عن الحاجة إلى النضال ضد الشوفينية ومعارضة “Burgfrieden” (السلم الاجتماعي). كان جوهر الموقف هو التأكيد على أن الاشتراكيين لا يمكنهم تحمل أي مسؤولية في الحرب الإمبريالية، وأنه حتى هزيمة روسيا تعتبر “أهون شراً” من شر دعم البورجوازية الروسية وحربها التوسعية. لقد كان من الضروري غرس هذه الفكرة في عقول الكوادر، لتحصينهم ضد مرض الشوفينية. إلا أن لينين، من ناحية أخرى، كان واقعيا جدا ويفهم أنه من الخطأ الفادح الخلط بين الطريقة التي يرى بها الثوريون الأمور وبين مستوى وعي الجماهير. يتمثل كامل فن بناء الحزب الثوري وترسيخ جذوره بين صفوف الجماهير على وجه الدقة في معرفة كيفية الربط بين البرنامج الماركسي العلمي الكامل وبين وعي الجماهير الذي هو بالضرورة غير مكتمل ومشوش ومتناقض. ولهذا السبب بالتحديد، قام لينين بتعديل موقفه عندما عاد إلى بتروغراد في الربيع، مشيرا إلى أنه رأى أن هناك نوعان من النزعة الدفاعية، هما نزعة الاشتراكيين الشوفينيين الخونة ونزعة “الدفاعية النزيهة” عند الجماهير. وهو عندما قال هذا لم يتخل عن موقفه السابق حول الانهزامية الثورية، بل اعترف فقط بأنه يجب عند نقل هذه الأفكار إلى الجماهير أن تأخذ في الحسبان المستوى الفعلي لوعيها. إن عدم القيام بذلك كان من شأنه أن يحول الحزب إلى مجرد عصبة.
لم تكن لخطابات لينين، التي ألقاها في ذلك الوقت، أية علاقة بالموقف الذي طرحه في بداية الحرب. ويكفي أن نقرأ خطابه الذي ألقاه في المؤتمر الأول لسوفييتات عموم روسيا لكي نرى الفرق. عندما تحدث لينين إلى العمال أنصار “الدفاع عن الوطن” -العمال المناشفة والاشتراكيين الثوريين النزهاء الذين كانوا يؤمنون فعلا بأنهم يناضلون للدفاع عن جمهورية ديمقراطية وعن الثورة- أخذ وجهات نظرهم في الحسبان. قال نحن مستعدون للقتال ضد الإمبرياليين الألمان، نحن لسنا من دعاة السلام. لكننا لا نثق في الحكومة البرجوازية المؤقتة. إننا نطالب قادة المناشفة والاشتراكيين الثوريين بالقطع مع البرجوازية وأخذ السلطة بين أيديهم. عندها يمكننا شن حرب ثورية ضد الإمبريالية الألمانية، وندعو العمال الألمان إلى السير على خطانا. كان هذا هو الجوهر الحقيقي لسياسة لينين العسكرية الثورية، وليس تلك الصورة الكاريكاتيرية عن “الانهزامية الثورية” التي غالبا ما يقدمها اليساريون المتطرفون الحمقى.
في البداية حاول العمال المنظمون، تحت تأثير البلاشفة، معارضة الحرب، لكن سرعان ما طوحت بهم جانبا جماهير الفلاحين البورجوازيين الصغار الوطنيين والفئات المتخلفة من العمال. هل صحيح أن العمال الروس كانوا مصابين بنزعة الوطنية؟ لقد أثبت الكثير من المؤرخين غير الماركسيين العكس. وقد كتب روبرت ماكين، الذي لا يمكن الاشتباه في تحيزه لصالح البلاشفة، معلقا على التكوين الطبقي للمظاهرات ذات النزعة الوطنية، قائلا: «وصفت التقارير الواردة في وسائل الإعلام البرجوازية في العاصمة كيف أن الحشود كانت تتشكل في معظمها من أفراد الشرطة والطلاب وسيدات المجتمع وأصحاب المهن، مع بعض الحرفيين وأصحاب الدكاكين. يمكن للمرء أن يستنتج أنه كانت هناك نزعة معارضة للحرب بين عمال المصانع والحرفيين الصغار ولو بشكل ضيق وغير علني»[22].
يتطابق هذا تماما مع شهادة بلشفي بارز، وهو الكسندر شليابنيكوف، الذي كان شاهد عيان على تلك الأحداث. أخذ إعلان الحرب العمال على حين غرة في البداية. وقد وصف شليابنيكوف مزاج الذهول بينهم قائلا: «اجتمعت حشود من الناس حول المنشورات، يناقشون الأحداث بمزاج من القلق واليأس. واحتشدت مئات من أسر العمال أمام مراكز الشرطة، التي تم تحويلها إلى مكاتب للتجنيد. كانت النساء تبكين وتصرخن وتلعنّ الحرب. أما في ورشات العمل والمصانع، فقد خلقت التعبئة فوضى عارمة، حيث أنتزع ما يقرب من 40% من العمال من آلاتهم ومقاعدهم. لقد ساد العجز واليأس في كل مكان»[23].
لكن بمجرد أن انتهت الصدمة الأولية، استُبدلت بسرعة بموجة من الغضب. كانت هناك منذ البداية، في الواقع، محاولات لتنظيم احتجاجات ضد الحرب. يقول ماكين إنه: «في يوم إعلان الحرب لاحظت الشرطة السرية أن الشبان الثوريين المتطرفين كانوا ينظمون اجتماعات في المصانع، حيث دعوا جميع التيارات الاشتراكية لمعارضة الحرب ودعوا الجنود إلى تحويل أسلحتهم ضد العدو الداخلي، أي النظام الأوتوقراطي»[24]. خرج العمال إلى الشوارع للتعبير عن معارضتهم للحرب. وفي 31 يوليوز، تظاهر حوالي 27.000 شخص ضد الحرب في شوارع العاصمة. كانت هناك إضرابات ومظاهرات في جميع المراكز الصناعية الكبرى: في بيلاروسيا وأوكرانيا والقوقاز والأورال. وكانت هناك محاولات أولية لمقاومة التجنيد مما أدى إلى وقوع اشتباكات مع الشرطة والقوزاق قتل وجرح خلالها الكثيرون. ووفقا لأرقام حكومية رسمية، كانت هناك اضطرابات واحتجاجات مناهضة للحرب في 17 إقليما و31 مقاطعة. وقتل 505 من المجندين و106 من الضباط في 27 مقاطعة خلال الأسبوعين التاليين لإعلان الحرب. حتى الشرطة القيصرية نفسها اعترفت بواقع أن الحرب لم تكن تحظى بشعبية كبيرة بين صفوف الطبقة العاملة، بحيث كانت تؤكد في تقاريرها باستمرار أن المواقف الأممية كانت تلقى ترحيبا واسع النطاق[25]. لم يشهد أي بلد آخر، باستثناء أيرلندا، مثل هذه المقاومة ضد الحرب.
كانت تلك بشكل عام احتجاجات جماهيرية عفوية وغير منظمة. لكنها كانت محكومة منذ البداية بالفشل بسبب ميزان القوى الطبقي غير الملائم وموجة الحماسة الوطنية التي اكتسحت كل شيء أمامها. ويتذكر باداييف كيف تم استخدام الفئات المتخلفة من السكان ضد العمال:
«في بيترسبورغ تميزت الأيام الأولى للحرب باندلاع إضرابات وحتى ببعض المظاهرات المتفرقة. وفي اليوم الذي تمت فيه تعبئة قوات الاحتياط بالجيش، أضرب العمال في أكثر من 20 مؤسسة في بيترسبورغ احتجاجا على الحرب. وفي بعض الأماكن التقى العمال مع جنود الاحتياط بصيحات: “تسقط الحرب” وأغاني ثورية.
لكن المظاهرات جرت بعد ذلك في ظروف مختلفة عن تلك التي حدثت قبل أسبوعين أو ثلاثة. كانت حشود المتفرجين، لا سيما في وسط المدينة، ترفع هتافات وطنية. حتى أنهم لم يكتفوا بموقف الحياد “الودي”، بل إنهم هاجموا المتظاهرين وساعدوا الشرطة على اعتقالهم وضربهم. ومن بين الحوادث التي صارت معتادة في ذلك الوقت كان الهجوم “الوطني” الذي حدث في نفس اليوم الذي تم فيه تنظيم التعبئة في وسط المدينة، أمام مبنى مجلس مدينة، في شارع نيفسكي.
ففي نفس الوقت الذي كانت فيه مجموعة من جنود الاحتياط تمر من هناك، ظهر حشد من العمال المتظاهرين، يرفعون هتافات “تسقط الحرب”، وأحاطوا بقوات الاحتياط. كان الجمهور في شارع نيفسكي، ومعظمهم من البلطجية وجميع حثالة المجتمع، الذين كانوا عادة ما يفرون ويختبؤون في الشوارع الجانبية أثناء مرور المظاهرات العمالية. أو كانوا في بعض الأحيان يحتشدون بهدوء في الشرفات والبوابات يراقبون المتظاهرين من بعيد. لكن هذه المرة أظهر الجمهور “نشاطه”، وتولى دور الشرطة القيصرية. وبينما كانوا يزعقون: “خونة، عملاء” هرعوا من الرصيف إلى الشارع وبدأوا يضربون العمال المتظاهرين. ثم ألقت الشرطة القبض على المتظاهرين وأرسلتهم إلى مراكز الشرطة القريبة.
في ظل تلك الظروف صار أي تطور واسع لحركة الاحتجاج ضد الحرب مسألة مستحيلة. وغرقت الأعمال البطولية الفردية للعمال في بحر واسع من النزعة الوطنية المتطرفة»[26].
نجا النظام بسهولة من العاصفة. لقد أدت التعبئة من أجل الحرب إلى إغراق تلك الفئة القليلة نسبيا من العمال البلاشفة الطليعيين في بحر من الجماهير المتخلفة سياسيا. كان الجيش يتكون في أغلبيته الساحقة من الفلاحين. وقد استمر العمال البلاشفة عاجزين عن أي فعل، إلى أن غيرت الأحداث من وعي “الموجيك بالبذلة العسكرية”.
تفكك الحزب
«خمد صوت الحركة الثورية بمجرد ما بدأت طبول الحرب تقرع. تم إرسال الفئات الأكثر نشاطا من بين العمال إلى التجنيد. وانتزعت العناصر الثورية من المصانع وألقي بها إلى جبهات القتال. كما تم فرض عقوبات صارمة على الإضراب وتم قمع الصحافة العمالية، وخنق النقابات. تدفق مئات الآلاف من النساء والأطفال والفلاحين إلى ورشات العمل. تسببت الحرب -إضافة إلى تحطم الأممية- في خلق تيهان سياسي كبير بين العمال، ومكنت أصحاب المصانع، الذين رفعوا رؤوسهم آنذاك، من استعمال خطابات وطنية وجرفوا معهم قسما كبيرا من العمال، وأجبروا العمال الأكثر جرأة وحزما على اتخاذ موقف التحفظ والانتظار. بقيت الأفكار الثورية موجودة بالكاد في حلقات صغيرة وصامتة. في المصانع في تلك الأيام لم يكن أحد يجرؤ على وصف نفسه بأنه “بلشفي”، وذلك ليس فقط خوفا من الاعتقال، بل أيضا من أن يتعرض للضرب على يد الفئات المتخلفة من العمال»[27].
بمجرد ما أعلنت الحرب بدأ النظام في شن حملة قمعية شرسة. مرة أخرى عانى البلاشفة من وطأة القمع، وخلال الأشهر الأولى من الحرب أدت الاعتقالات إلى تفكك الحزب. لقد عانى الحزب بين عشية وضحاها تقريبا من تحول جد مفاجئ وقاس. اعتقل آلاف البلاشفة وأرسلوا إلى السجن والمنافي وتعرضت العديد من الفروع للتحطيم، واختفت هياكل الحزب. تم قطع الروابط مع المراكز القيادية. في سان بيترسبورغ وحدها تم اعتقال أكثر من ألف عضو في الحزب والنقابة بسبب مشاركتهم في الإضراب العام شهر يوليوز. كما تسببت الموجة الأولى من التجنيد في القضاء على عدد كبير من مناضلي الحزب، وخاصة الشباب. كان حظر البرافدا بمثابة الضوء الأخضر لحملة قمع شرسة ضد كل الصحافة اليسارية والتقدمية. تم إرسال معظم أعضاء اللجنة المركزية إلى سيبيريا. وكان العديد من القادة في المنافي. عند اندلاع الحرب وجد لينين نفسه محاصرا في الجزء النمساوي لبولندا، ولكي يتجنب اعتقاله من طرف السلطات النمساوية فر إلى برن في سويسرا، حيث بقي حتى اندلاع ثورة فبراير. لكن الثورة في تلك الأيام المظلمة من عام 1915 بدت وكأنها حدث مؤجل إلى مستقبل بعيد جدا. ومن هناك شرع في المهمة الصعبة المتمثلة في إعادة تجميع قوى الحزب الممزقة، والتي كان معظمها في المهجر، وركز قبل كل شيء على إعادة التسليح الإيديولوجي للكوادر على أساس الموقف من الحرب والثورة والأممية.
لكن ما جعل الضربة أكثر إيلاما هو الانهيار غير المتوقع للأممية. لقد خلفت خيانة قادة الأممية الاشتراكية آثارا مدمرة على المعنويات. وعلاوة على ذلك فإن عزلة القادة المنفيين كانت قد صارت أكثر فظاعة من أي وقت آخر. ففي ظل ظروف الحرب تسبب إغلاق الحدود بين البلدان في استحالة وصول أي خبر من روسيا لعدة أشهر. كان لهذا عدة عواقب، فقد بقيت قيادة الحزب في الخارج معزولة تماما عما يجري في الداخل حتى شهر شتنبر، بل حتى بعد ذلك بقي التواصل شبه مستحيل. لقد حرمت الرقابة، وغيرها من إجراءات الحرب، قوات الحزب الصغيرة التي بقيت تعمل داخل روسيا من أي معلومات. قال باداييف إن الظروف كانت أسوأ بكثير مما كانت عليه خلال أسوأ فترات الردة الرجعية. كانت الهزيمة تبدو كاملة لأسباب ليس من الصعب فهمها. ففي بداية أي حرب تكون هناك دائما تقريبا موجة من التسمم بالنزعة الوطنية التي تكتسح الناس وتجرف أمامها ليس البرجوازية الصغيرة فحسب، بل أيضا الفئات المتخلفة من الطبقة العاملة، فتجد الطليعة المتقدمة نفسها معزولة مؤقتا.
بعد انتقالهما إلى برن، حيث انضم إليهما زينوفييف، بدأ لينين وكروبسكايا المهمة الصعبة لإعادة تنظيم العمل. كانت المشكلة الرئيسية، بصرف النظر عن النقص الدائم في الأموال، هي العزلة. ظهر بيان لينين “الحرب والاشتراكية الديمقراطية الروسية” في العدد 33 من جريدة سوتسيال ديموكرات التي كان مجموع مبيعاتها 1500 نسخة، لكن هذا الرقم لا يعطي فكرة دقيقة عن عدد الناس الذين كان لينين يأمل في الوصول إليهم بأفكاره في ذلك الوقت. كان عدد قليل فقط من الجرائد يصل إلى روسيا آنذاك. وكانت الاتصالات مع الداخل قد صارت منعدمة تقريبا. بعد يوليوز 1914، كانت جميع الاتصالات بين روسيا والغرب تتم عبر الحدود السويدية الفنلندية الصعبة. وفي شتنبر، تمكن النائب البلشفي في الدوما، ف. ن. سامويلوف، الذي عاد إلى روسيا بعد رحلة علاج في مصحة سويسرية في بداية الحرب، من أن يجلب معه إلى روسيا نسخة من موضوعات لينين السبع. لقد أعطى الأمل في تجديد الاتصال مع لينين دفعة إيجابية لمعنويات مناضلي الحزب، الذين كانوا قد بدأوا يتعافون تدريجيا من الضربات التي تعرضوا لها منذ يوليوز.
كتلة الدوما
«في جلسة لمجلس الدوما، بتاريخ 26 يوليوز 1914، تبنى النواب بالإجماع قراراً يعلنون فيه استجابتهم “لدعوة ملكهم، للوقوف دفاعا عن بلدهم وشرفه وممتلكاته”. وكان المعارضون الوحيدون هم المناشفة الستة وخمسة من البلاشفة إضافة إلى نواب الترودوفيك، حيث غادروا الجلسة ورفضوا التصويت على ميزانية الحرب (على الرغم من أن كيرينسكي عبر على موافقته على الحرب الدفاعية). كانت تلك “أيام رائعة في أوائل غشت”، وبدا أن روسيا قد “تحولت بالكامل”، كما كتب السفير البريطاني»[28].
بقي الفريق البرلماني لبعض الوقت نقطة محورية مهمة للعمل. كان المخبر مالينوفسكي قد استقال فجأة قبل الحرب بقليل، وذهب إلى الخارج، فبقي خمسة نواب بلاشفة فقط هم: باداييف وبتروفسكي ومورانوف وسامويلوف وشاجوف، الذين كان موقفهم محفوفا بالمخاطر على نحو متزايد. أدى ضغط الجماهير البرجوازية الصغيرة إلى انهيار فوري للتحالف مع الترودوفيك. فقد أعلن كيرينسكي أن الترودفيك سيدعمون الحرب بنشاط، ومن هنا جاءت محاولاته فرض موقف “الدفاع عن الوطن” على الطبقة العاملة. في الواقع كان أغلب العمال معارضين للحرب، على عكس الفلاحين الذين دعموا الترودوفيك. وقد اضطر النواب البلاشفة، الذين صاروا يشعرون بالعزلة، إلى الاقتراب من المناشفة، وهو الأمر الذي أثار استياء لينين. كان تشخيدزه، زعيم الفريق المنشفي في مجلس الدوما، قد بدأ يتبنى موقفا شبه يساري، مما سهل التقارب المؤقت مع البلاشفة. وقع النواب البلاشفة داخل الدوما تحت ضغط شديد من قبل النزعة الشوفينية وحمى الحرب. لم يكن موقف النواب البلاشفة ثابتا على الإطلاق، وكانوا يميلون إلى تجاهل الاختلافات الموجودة بينهم وبين المناشفة الذين كانوا بدورهم قد صاروا يتجهون نحو تبني موقف الدفاع عن الوطن. وتحت تأثير كامينيف، صار النواب البلاشفة يخففون من موقف الانهزامية الثورية وحاولوا أن يلطفوا من حدة صياغات لينين. في البداية تبنى فريقا البلاشفة والمناشفة في الدوما نفس الموقف من الحرب. وتمت قراءة القرار المشترك بين الفصيلين في مجلس الدوما. والذي كان، على حد تعبير كروبسكايا، مصاغا “بكلمات جد حذرة وترك الكثير من الأشياء دون أن يتحدث عنها”[29]. لكنه كان كافياً لإثارة هتافات الاحتجاج من باقي أعضاء المجلس.
لقد أثار سلوك الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في مجلس الدوما انتباه قادة الأممية الاشتراكية، الذين كانوا قد بدأوا بالفعل يقومون بدور عملاء صريحين لحكوماتهم. في وقت ما من شهر غشت توصل الفريق البرلماني ببرقية من الاشتراكي البلجيكي إيميل فاندرفيلد، رئيس مكتب الأممية الاشتراكية، الذي كان قد دخل الحكومة كوزير للدولة، وكان يدعوا رفاقه الروس إلى اتباع خطواته. يصير نفاق الرجل أكثر إثارة للاشمئزاز إذا أخذنا في الاعتبار أنه قبل بضعة أشهر فقط، أي في ربيع 1914، كان قد زار روسيا في مهمة لتقصي الحقائق، وبالتالي كان على معرفة جيدة بالطبيعة القمعية للنظام القيصري الروسي. لكنه صار، وراء ذريعة الحاجة إلى “هزيمة النزعة العسكرية البروسية”، يدعوا الاشتراكيين الديمقراطيين الروس إلى تأجيل معارضتهم للنظام القيصري إلى ما بعد الحرب:
«تعتبر هزيمة النزعة العسكرية البروسية -أنا لا أقول ألمانيا التي نحبها ونحترمها- مسألة حياة وموت بالنسبة للاشتراكيين في أوروبا الغربية… لكن في هذه الحرب الرهيبة التي تلحق بأوروبا بسبب تناقضات المجتمع البورجوازي تجد البلدان الديمقراطية الحرة نفسها مجبرة على الاعتماد على الدعم العسكري من طرف الحكومة الروسية.
إن فعالية هذا الدعم أو عدم فعاليته تعتمد إلى حد كبير على البروليتاريا الثورية الروسية. بالطبع أنا لا أستطيع أن أملي عليكم ما يجب عليكم فعله، أو ما تمليه مصالحكم؛ أنتم وحدكم من يستطيع تقرير ذلك. لكني ألتمس منكم -ولو كان فقيدنا جوريس على قيد الحياة لكان سيؤيد ملتمسي- تبني نفس الموقف المشترك للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا… نعتقد أنه يجب علينا جميعا أن نتحد لدرء هذا الخطر وسنكون سعداء لو نتعرف على رأيكم حول هذه المسألة، وأكثر سعادة إذا اتفق مع موقفنا»[30].
إن هذه الكلمات المراوغة، التي حملت توقيع “إميل فاندرفيلد، مندوب العمال البلجيكيين إلى مكتب الأممية الاشتراكية والوزير البلجيكي منذ إعلان حرب”، هي بالتأكيد واحدة من أبشع الأمثلة عن المكر الدبلوماسي في التاريخ. لكنها مع ذلك تسببت في جعل النواب المناشفة في مجلس الدوما يترددون في موقفهم المعارض للحرب الذي تبنوه في البداية. اندلع نقاش عنيف داخل الفصيل حول كيفية الرد على الرسالة، وفي النهاية أصدروا بيانا يمثل تخليا واضحا عن الموقف السابق المناهض للحرب. وبعد أن وصفوا مظاهر معاناة الشعب الروسي في ظل القيصرية، خلصوا إلى أنه: «على الرغم من هذه الظروف، فإنه مع الأخذ في الاعتبار الأهمية الدولية للصراع الأوروبي وحقيقة أن الاشتراكيين في الدول المتقدمة يشاركون فيه (!)، مما يمكننا من الأمل (!) في أنه يمكن أن يصب في مصلحة الأممية الاشتراكية (!!)، نعلن أننا لا نعارض الحرب بعملنا في روسيا»[31].
لقد تابع لينين سلوك القادة البلاشفة في بتروغراد بقلق متزايد. كان يشعر بخيبة أمل خاصة من رد فعل نواب الدوما الضعيف على برقية فاندرفيلد. قال ماكين في هذا الصدد: «يمكن أن نستخلص من خلال بعض الأدلة أن لينين لم يكن راضيا عن موقف رفاقه من الحرب. لقد امتنع عن انتقاد بيان الفريق البرلماني بشكل علني، لكنه قام، في مراسلات ما زالت لم تنشر حتى الآن، بانتقاد رد البلاشفة على فاندرفيلد»[32].
ونظراً لشدة حمى الحرب ليس من المستغرب أن يتأثر نواب مجلس الدوما أيضا. لكن الشيء المحدد في آخر المطاف لم يكن تلك التذبذبات، بل واقع أنه كان من الممكن تصحيحها بسرعة. إذ بعد ترددهم الأولي استعاد الفريق في مجلس الدوما رباطة جأشه وبدأ في تبني موقف مبدئي ضد الحرب. رفض النواب الاشتراكيون الديمقراطيون التصويت لصالح ميزانية الحرب وألقوا خطابات ضدها في مجلس الدوما، وانسحبوا من القاعة احتجاجا. بعد ذلك تصرف أعضاء الفريق بشجاعة، وقاموا بزيارة المصانع وإلقاء خطابات مناهضة للحرب في اجتماعات العمال. كان نشاطهم يمثل، خلال الأشهر الأولى للحرب، أساس عمل الحزب.
وكتب تروتسكي معلقا على سلوك فريق الدوما قائلا: «لم يكن الفصيل البلشفي في مجلس الدوما، الذي كان ضعيفا بسبب طبيعة أعضاءه، في مستوى المهام التي طرحتها الحرب. لقد عملوا، جنبا إلى جنب مع النواب المناشفة، على صياغة بيان وعدوا فيه “بالدفاع عن ممتلكات الشعب ضد جميع الهجمات مهما كان مصدرها”. وهو الاستسلام الذي استقبله أعضاء الدوما بالتصفيق. لم تتبن أي من منظمات أو مجموعات الحزب داخل روسيا موقف الانهزامية الذي دافع عنه لينين في الخارج».
لكنه في نفس الوقت يضيف: «غير أن نسبة أنصار النزعة الوطنية بين البلاشفة كانت ضئيلة. وعلى عكس النارودنيين والمناشفة، عمل البلاشفة منذ عام 1914 على نشر تحريض مطبوع وشفهي ضد الحرب بين الجماهير. وسرعان ما استعاد النواب البلاشفة رباطة جأشهم وجددوا عملهم الثوري، الذي كانت السلطات على دراية كبيرة به، بفعل نظام استخباراتي متطور للغاية. يكفينا أن نعلم أنه عشية الحرب، كان ثلاثة، من بين سبعة أعضاء في لجنة الحزب في بيترسبورغ، يعملون لصالح المخابرات»[33].
كان العمل الثوري يعاني باستمرار من رقابة الشرطة التي كانت قد تسللت إلى أعلى مستويات الحزب. كانت مجرد محاولة تنظيم الاجتماعات -بما فيها الاجتماعات الصغيرة- في الداخل تؤدي إلى اعتقالات جديدة. لقد توقف الحزب عن العمل فعليا، باستثناء نشاط محدود على المستوى المحلي. لم يتم عقد أي اجتماع وطني حتى نوفمبر 1914، حين تم تنظيم لقاء في منزل ريفي صغير خارج بيترسبورغ، برئاسة كامينيف، الذي كان قد جاء من فنلندا. انعقد اللقاء في ظروف من السرية القصوى في منزل أحد العمال في ضاحية معزولة من بيترسبورغ. لم يحضر الاجتماع إلا أعضاء الدوما بالإضافة إلى بعض المندوبين عن المنظمات المحلية، من بتروغراد (كما صارت سان بيترسبورغ تسمى لتجنب استخدام اسم ألماني) وخاركوف وإيفانوفو- فوزنسينسك، إضافة إلى ممثل واحد عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي اللاتيفي. لا توجد تقارير عن ذلك اللقاء بسبب أن الشخص الذي كان يتوفر عليها تعرض للاعتقال. وعندما اجتمع المندوبون أخيرا، بعد قضائهم لساعات عديدة في محاولة التهرب من مراقبة الشرطة، قدمت تقاريرهم صورة قاتمة عن وضع المنظمة. ويتذكر باداييف، الذي كان حاضرا في ذلك اللقاء إلى جانب بقية أعضاء الدوما البلاشفة، قائلا: «لقد عانت خلايا الحزب بشدة وكذلك المنظمات الشرعية؛ كان حزبنا، زعيم البروليتاريا ودليلها، شبه محطم. ومع ذلك فإن الهيكل العظمي كان ما يزال قائما، وما زال هناك بعض العمل الحزبي، والذي كانت مسألة توسيعه مرتبطة بمسألة الحفاظ على الفريق البرلماني الذي كان بمثابة مركز وأساس المنظمة بأكملها»[34].
تمت مناقشة موقف لينين بشأن الحرب، ووفقا للرواية “الرسمية”، فقد تم تبنيه بعد إدخال “تعديلات صغيرة” فحسب. لكن الواقع هو أن نواب مجلس الدوما لم يكونوا مقتنعين نهائيا بموقف لينين الانهزامي. وفي وقت لاحق، عندما تمت محاكمتهم، قاموا جميعا، باستثناء مورانوف، بالتنكر له. كانت الضربة الأشد هي التي ستأتي بعد ذلك، فعلى الرغم من جميع الاحتياطات المتخذة، كان اللقاء معروفا للشرطة. في اليوم الثالث [04 نوفمبر]، عندما كان المندوبون ما يزالون يناقشون أطروحات لينين عن الحرب، انكسر الباب بركلات رجال الشرطة الذين ألقوا القبض على جميع الحاضرين و“قلبوا المكان” رأسا على عقب. تم إطلاق سراح نواب مجلس الدوما بعد وقت قصير، لكنهم لم يظلوا طلقاء لفترة طويلة. لقد تمكنوا من إتلاف الوثائق، لكن في المساء كان كل الفريق البلشفي قيد الاعتقال. كانت تلك هي الضربة النهائية. وبعد القضاء على النقطة الوحيدة التي كانت تسمح بحشد قوات الحزب المبعثرة، صار الوضع ميؤوسا منه. بعد إلقاء القبض على نواب الدوما الخمسة، كتب لينين إلى أ. ج. شليابنيكوف قائلا: «هذا مريع. من الواضح أن الحكومة قد قررت أن تنتقم من المجموعة الاشتراكية الديمقراطية العمالية الروسية، ولن تتوقف عند أي حد. يجب علينا أن نكون مستعدين للأسوء: تزوير الوثائق وتلفيق التهم وفبركة “الأدلة” وشهادات الزور والمحاكمة خلف الأبواب المغلقة، إلخ، إلخ»[35].
في ظل ذلك الجو العام للاكتئاب والخوف، لم يؤد اعتقال نواب مجلس الدوما إلى أي احتجاجات جماهيرية. كتب رئيس مكتب الأوخرانا في بتروغراد في تقرير لرؤسائه أن “العمال قد تفاعلوا بشكل خامل، وحتى ببرود” مع الاعتقالات[36]. لم تلق المحاولات التي قام بها البلاشفة لتنظيم الاحتجاجات أي صدى، باستثناء إضراب لمدة نصف يوم في المعهد النفسي العصبي. بدت حظوظ الحزب عند أدنى مستوياتها. ومع تصفية فريق الدوما، أصبح العمل في روسيا أكثر صعوبة من ذي قبل. صار من الصعب بشكل متزايد الحصول على متعاونين ذوي خبرة في روسيا. وبحلول يناير 1915، كانت الاعتقالات قد جرفت معظم أعضاء الحزب. وكانت التهمة هي نفسها دائما: “التحريض ضد الحرب”. كانت الطرق التي يمكن من خلالها إيصال الرسائل والدعاية طويلة وخطيرة، وتزايدت قوة الرقابة البوليسية مع استمرار الحرب. عندها انتقل مركز الثقل إلى الخارج. لكن هناك أيضا كانت المشاكل تتضاعف.
التذبذبات بين صفوف البلاشفة
واجه لينين طوال فترة الحرب الكثير من المتاعب داخل معسكره الخاص. ولم تكن تلك المرة الأولى أو الأخيرة التي يجد فيها نفسه معزولا داخل قيادة حزبه. فبعض البلاشفة، الذين كانوا أقلية على كل حال، فقدوا البوصلة تماما حتى أنهم تحولوا إلى الشوفينية، مثل أعضاء جماعة المهاجرين الباريسية الذين تطوعوا بالفعل للعمل في الجيش الفرنسي. فحتى البلاشفة أنفسهم لم يكونوا محصنين ضد ضغوطات نزعة الدفاع عن الوطن. وهؤلاء لم يكونوا مجرد أعضاء عاديين بل أعضاء القيادة البلشفية في المنفى. كان الحزب يعيش أوضاعا صعبة ولم تكن لديه حتى إمكانية تنظيم مؤتمر للمنفيين. وعلى أي حال من كان سيحضر؟ وهل كان لينين سيحقق أغلبية سياسية؟ لم يكن ذلك مضمونا. كانت هناك الكثير من المشاكل مع مختلف المجموعات المحلية للمنفيين، الذين كانت تظهر عليهم بوضوح علامات الإحباط، ولم تكن قضية مثقفي مجموعة باريس سوى تعبير واحد عن ذلك الوضع.
لم يكن في ذلك، إلى حد ما، ما يثير الدهشة. إذ أن الحرب كانت قد تسببت في اندلاع الأزمة في كل أقسام الحركة العمالية. ولم يكن من الممكن ألا يجد الجو المشحون بحمى الحرب صدى له في صفوف البلاشفة. تتذكر كروبسكايا مزاج الارتباك العام الذي ساد خلال الأشهر الأولى من الحرب، قائلة: «لم تكن المسألة واضحة عند الناس، والذين كانوا يتساءلون في الغالب عمن هي الجهة المسؤولة عن الهجوم. أعربت أغلبية المجموعة في باريس عن أنها ضد الحرب والتطوع للجيش، لكن بعض الرفاق: سابوزخوف (كوزنيتسوف) وكازانوف (بريتمان، سفياجين) وميشا إيديشيروف (دافيدوف) ومواسييف (إليا، زيفير)، وغيرهم؛ انضموا إلى الجيش الفرنسي كمتطوعين. وقد أصدر المتطوعون المناشفة والبلاشفة والاشتراكيون الثوريون (حوالي 80 شخصا) إعلانا باسم “الجمهوريين الروس”، والذي نشر في الصحافة الفرنسية، كما ألقى بليخانوف كلمة وداع تكريما لهم قبل مغادرتهم باريس. لقد قامت أغلبية مجموعتنا في باريس بإدانة التطوع في الجيش، لكن المجموعات الأخرى أيضا لم يكن لديها وضوح كامل حول هذه المسألة. أدرك فلاديمير إليتش مدى أهمية أن يكون لدى كل البلاشفة في مثل تلك الفترة الخطيرة فهم واضح لمعنى ما يجري. كان من الضروري القيام بتبادل رفاقي للآراء؛ إذ لم يكن من المستساغ الخروج بموقف إلا بعد نقاش المسألة بشكل مستفيض. ولهذا السبب كتب إيليتش في جوابه على رسالة كاربينسكي التي طرحت وجهة نظر مجموعة جنيف: “ألا يشكل هذا ‘النقد’ و‘النقد المضاد’ الذي قمت به موضوعا جيدا للمناقشة؟”. لقد أدرك إيليتش أن التوصل إلى تفاهم سيكون أسهل بواسطة النقاش الرفاقي عوض المراسلات. وبطبيعة الحال لم يكن ذلك وقتا مناسبا لإبقاء قضية كهذه محصورة في المحادثات الرفاقية البينية داخل دائرة ضيقة من البلاشفة»[37].
ما حدث في باريس كان حالة متطرفة معزولة. لم يسقط سوى عدد قليل من البلاشفة في مستنقع الشوفينية الصريحة. لكن البعض منهم انحرف نحو النزعة السلمية. تقدمت مجموعة الحزب في فرنسا (مونبلييه) بشعار: “فلتسقط الحرب!” و“يعيش السلام!”، وهو الموقف الذي سلط عليه لينين انتقادات حادة. لقد صب لينين، في كل كتاباته التي تعود إلى تلك الفترة، انتقادات لاذعة على النزعة المسالمة، التي اعتبر أنها تضعف عزيمة الطبقة العاملة. لم يكن شعار “السلام” هو المطلوب، بل الحرب الطبقية. وقد تكررت هذه الفكرة مرارًا في عشرات الرسائل والمقالات: «إن شعار السلام، برأيي، غير صحيح في الوقت الحاضر. إنه شعار الكهنة والجبناء. أما الشعار البروليتاري فيجب أن يكون الحرب الأهلية»[38].
في يوليوز 1915، كتب لينين للماركسي الهولندي، ديفيد ويجنكوب، معربا له عن سعادته بأن الرفاق الهولنديين تبنوا شعار الميليشيا الشعبية، حيث قال: «إنني أرحب بفرح شديد بالموقف الذي اتخذتموه أنت وغورتر ورافستين بشأن مسألة الميليشيا الشعبية (نحن أيضا لدينا هذه النقطة في برنامجنا). فالطبقة المستغَلة التي لا تسعى إلى امتلاك السلاح ومعرفة كيفية استخدامه وإتقان الفن العسكري، ليست سوى طبقة من العبيد»[39].
يتلخص جوهر موقف لينين من الحرب في أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب هي إسقاط الرأسمالية. وأي تصور آخر ليس في الجوهر سوى كذبة وخداع. لا يمكن لشعار “السلام” أن يلعب دورا تقدميا إلا بقدر ارتباطه الوثيق بهذا المنظور.
وقد كتب تروتسكي لاحقا: «إن النضال الحقيقي ضد الحرب هو التحضير للثورة، هذه هي مهمة الأحزاب العمالية والأممية. يطرح الماركسيون هذه المهمة العظيمة أمام أنظار الطليعة البروليتارية بوضوح شديد. وفي مواجهة شعار “نزع السلاح” المثير للشفقة، يرفع الماركسيون شعار كسب الجيش وتسليح العمال»[40].
لقد أثبتت الثورة الروسية في عام 1917 صحة هذا الموقف. ولكن في البداية استقبل موقف لينين هذا بالشكوك بل وحتى الرفض. سادت الشكوك والترددات حتى بين الزعماء البلاشفة ذوي الخبرة. إن موقف لينين الحازم ضد الشوفينية، والذي ركز نيرانه على “الوسط”، لم يتقبله رفاقه إلا على مضض، خاصة وأن العديد منهم كانوا توفيقيين قبل الحرب. كان من الواضح أنه حتى كامينيف، وعلى الرغم من أنه كان يشغل منصبا قياديا في الحزب ومكلفا بمهمة الإشراف على العمل في روسيا، لم يكن يتفق مع سياسة لينين الانهزامية الثورية. وقد ترك سلوكه أثناء محاكمة نواب الدوما، الذين ألقي القبض عليه معهم، الكثير مما يمكن قوله وقد انتقده لينين بحدة.
قال ماكين: «يتضح بالفعل من خلال عدة مصادر أن كامينيف كان هو من أبدى أكبر الشكوك بخصوص أطروحات لينين، لا سيما حول نشر الانهزامية. والشيء الأكثر إثارة في محاكمته في فبراير 1915 هو أنه أنكر صراحة جميع نظريات لينين حول الحرب ودعا “الاشتراكي الشوفيني” يوردانسكي إلى الدفاع عنه. لم يكن ذلك السلوك مجرد محاولة لضمان عقوبة أخف، وهو ما يتأكد من حقيقة أنه عندما داهمت الشرطة كونفرانس آخر كان ينظمه نواب بلاشفة مع عمال الحزب في 04 نوفمبر، اكتشفوا عند بتروفسكي ملاحظات أملاها عليه كامينيف كانت بمثابة تعديلات على أطروحات لينين السبعة، وكانت قبل كل شيء تتلافى الدعوة إلى الانهزامية. يبدو أن معارضة كامينيف لشعار هزيمة روسيا كان موقفا منتشرا على نطاق واسع بين غيره من البلاشفة»[41].
على أساس تحليل نصي قام به ماكين لـ 47 من المقالات والمناشير التي أصدرها البلاشفة بشكل غير شرعي ما بين يناير 1915 و 22 فبراير 1917، وجد أنه لا يوجد ولو منشور واحد يذكر شعار هزيمة روسيا باعتبارها أهون الشرين. أشارت عشرة منشورات بعبارات قصيرة إلى ضرورة تحويل الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية وتسعة منها إلى بناء أممية ثالثة. لكن الحزب، بشكل عام، تجنب الإشارة إلى الأطروحات في كتاباته غير الشرعية، وذلك في الغالب خوفا من أن تثير ردود فعل عدائية من جانب الجماهير، وركز، كما كان من قبل الحرب، على مهاجمة سياسات الحكومة تجاه الطبقة العاملة والدعوة إلى خوض نضال ثوري ضد الأوتوقراطية باعتباره الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب، وذلك على أساس الشعارات البلشفية القديمة: جمهورية ديمقراطية ويوم عمل من ثماني ساعات ومصادرة ممتلكات طبقة النبلاء (“الحيتان الثلاثة”).
البلاشفة “اليساريون”
إذا كان كامينيف يمثل انحرافًا في اتجاه الانتهازية، فقد كانت هناك أيضا انحرافات عصبوية ويسارية متطرفة، خاصة بين فئة من المنفيين. إذ تبنى بوخارين وبياتنسكي، إضافة إلى عناصر قيادية أخرى، موقفا يساريا متطرفا في ما يخص المسألة القومية. وقد أصر بعض أنصار جماعة بوخارين (ن. ف. كريلينكو وف. روزميروفيتش) في سويسرا على إصدار جريدة محلية خاصة بهم، في تحد منهم للجنة المركزية التي قررت، بسبب نقص الموارد المالية، أن تمنع المجموعات المحلية (باريس، جنيف) من القيام بذلك، الشيء الذي أدى إلى خلاف كبير حول هذه القضية. لينين، الذي كان يولي بوخارين مكانة خاصة، ويعترف له بإخلاصه وقدراته كمنظر، كان مع ذلك على دراية تامة بنقاط ضعفه. لقد احتلت مسألة تقرير المصير دائما مكانة مركزية في الترسانة النظرية للبلاشفة، لكنها صارت آنذاك، في خضم الحرب الإمبريالية، أكثر أهمية بكثير. لم يكن من الممكن تقديم أية تنازلات بخصوص هذه المسألة لأنها كانت تتضمن مسألة الإلحاقات- والتي هي مسألة مركزية في زمن الحرب.
معارضة لينين للحرب الإمبريالية لم تكن تعني إطلاقا معارضة كل الحروب بشكل عام. لقد كان يميز بحذر شديد بين مختلف أنواع الحروب. وقد وجه في جميع كتاباته نقدا شديدا للنزعة السلمية وشعارات السلام ونزع السلاح. لقد أشار دائما إلى أنه يجب على الماركسيين الدفاع عن الحروب العادلة، أي حروب التحرر التي تخوضها الشعوب والطبقات المضطهَدة. وفي رسالة كتبها لكولنتاي، في أواخر يوليوز 1915، رد على حجج بوخارين قائلا:
«كيف يمكن لطبقة مضطهَدة أن تكون عموما ضد تسليح الشعب؟ إن رفض ذلك يعني الوقوع في موقف شبه لاسلطوي تجاه الإمبريالية؛ وهو ما يمكن ملاحظته، في اعتقادي، عند بعض اليساريين حتى بين صفوفنا. يقولون إنه بما أننا دخلنا مرحلة الإمبريالية فإننا لا نحتاج إلى تقرير المصير ولا إلى تسليح الشعب! إن هذا خطأ فادح، إذ أننا من أجل الثورة الاشتراكية ضد الإمبريالية بالضبط نحتاج إلى كل من تقرير المصير وتسليح الشعب.
هل هو “قابل للتحقيق”؟ إن هذا الاعتراض غير صحيح، فبدون ثورة، يكاد أن يكون كامل الحد الأدنى للبرنامج غير قابل للتحقيق. إن اشتراط عدم تبني إلا ما يمكن تحقيقه فورا يؤدي إلى انحطاط الواقعية إلى خيانة»[42].
بالنظر إلى تدهور الوضع الداخلي قرر لينين في النهاية الدعوة إلى كونفرانس لمجموعات الحزب في المنفى، والذي افتتح أشغاله في بيرن في 15 فبراير 1915. حضره ممثلو اللجنة المركزية وهيئة تحرير جريدة الحزب سوتسيال ديموكرات ومنظمة المرأة البلشفية، وفروع الحزب في المنفى -في باريس وزيورخ وبرن ولوزان وجنيف وبوغي ان كلارنس ولندن. كان من بين الحاضرين كذلك لينين وكروبسكايا وأرماند وزينوفييف وبوخارين. وبالاضافة إلى نقاش الخلاف مع مجموعة بوغي، فقد انعقد الكونفرانس لمناقشة الاختلافات حول موقف الحزب من الحرب. في الواقع كان الخلاف التنظيمي حول إصدار صحيفة محلية هو التعبير غير المباشر عن تلك الاختلافات السياسية. قدم بوخارين أطروحات تعكس رأيه بأن ظهور الإمبريالية يعني أن المطالب الديمقراطية لم تعد مهمة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وقد كانت ملاحظاته موجهة تحديدا ضد حق الأمم في تقرير المصير، وهو ما كان صدى لحجج روزا لوكسمبورغ واليساريين البولنديين.
ليست هناك سوى إشارة واحدة إلى تلك التوصية التي تقدمت بها مجموعة بوغي بشأن مهام الحزب، حيث أعربت عن تحفظات قوية على شعار لينين عن “الحرب الأهلية” وخاصة ما كان يسمى بشعار “هزيمة روسيا”. وفي حين وافقت التوصية بشكل عام على فكرة أن الحرب ستثير، في مرحلة معينة، حركة ثورية وحربا أهلية، وبينما تقبلت الأهمية الثورية التي يكتسيها الشعار في النضال ضد “البورغفريدن” (“السلام الاجتماعي”، أي توقيف النضال الطبقي طوال فترة الحرب)، فإن التوصية تقول: «ومع ذلك فإن مجموعتنا ترفض رفضا قاطعا أن نرفع بخصوص روسيا ما يسمى بشعار هزيمة روسيا، وخاصة بالطريقة التي تم التعبير بها عنه في العدد رقم 38 من سوتسيال ديموكرات»[43]. إن المقال المشار إليه هنا هو المقال الذي كتبه زينوفييف والذي وضع موقف الانهزامية الثورية بطريقة فجة للغاية.
افتتح لينين أشغال كونفرانس بيرن بنقاش مسألة الحرب، وركز ملاحظاته على البيان. حاول لينين الوصول إلى اتفاق رفاقي مع مجموعة بوغي. لكن ومباشرة بعد نهاية الكونفرانس عاد كل من إ. ب. بوش و ج. ل. بياتاكوف (الثنائي اللذان لم يكونا ينفصلان والمعروفان باسم “اليابانيين” بسبب أنهما كانا قد فرا من المنفى عبر اليابان) وأصرا على إعادة فتح النقاش حول مسألة الحرب. وسرعان ما انضم بوخارين إلى موقفهما الذي كان صادرا عن طريقة تفكير ميكانيكية مجردة وغير واقعية. لقد جادلوا بأنه منذ انتهاء مرحلة المطالب الديمقراطية (بما في ذلك حقوق الأمم في تقرير مصيرها)، فإن المطلب الوحيد الذي يمكن طرحه الآن هو استيلاء البروليتاريا على السلطة. لم يؤيد أحد أطروحات بوخارين في الكونفرانس، بينما صوتت اللجنة بالإجماع لصالح توصية لينين بخصوص الحرب. وبما أن اللجنة كانت مكوّنة من لينين وزينوفييف وبوخارين، فإنه من الواضح أن بوخارين قد صوت ضد موقفه!
كما نوقش في بيرن شعار “الولايات المتحدة الأوروبية”. كان هذا الشعار قد ظهر في “بيان الحرب والاشتراكية الديمقراطية الروسية”، الذي كتبه لينين خلال الأيام الأولى للحرب ونشر في العدد 40 من سوتسيال ديموكرات. كان الشعار جزءا من النضال لإسقاط الأنظمة الملكية الرجعية، في كل من روسيا وألمانيا والنمسا- المجر. لكن لينين قام في وقت لاحق بمراجعة رأيه على أساس النقاش الذي دار في بيرن، فبعد الكونفرانس كتب لينين مقاله “حول شعار الولايات المتحدة الأوروبية”، والذي شرح فيه أن شعار الولايات المتحدة الأوربية في ظل الرأسمالية “إما مستحيل أو رجعي”، وهو الموقف الذي، على الرغم من أوهام الرأسماليين الأوروبيين اليوم، ما يزال صحيحا في الوقت الحالي. قال لينين: «إن الرأسمالية هي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وفوضى الإنتاج. والدعوة إلى تقسيم “عادل” للدخل على هذا الأساس هي نزعة برودونية محضة وتعبير عن الغباء». يمكن لمختلف الطبقات السائدة في أوروبا أن تتوصل إلى اتفاقات مؤقتة بينها لغرض تقاسم الغنائم والاستغلال المشترك للمستعمرات، مثل الاتفاق بين الفرنسيين والألمان وغيرهم من الرأسماليين بعد الحرب العالمية الثانية، لكنهم سرعان ما سينقسمون مرة أخرى حتما في فترات الأزمة. لقد سبق للينين أن شرح كل هذا مسبقا.
إن لينين يشير هنا بالتحديد بطبيعة الحال إلى توحيد أوروبا على أساس رأسمالي. إن توحيد أوروبا يبقى مسألة ضرورية، لكن لا يمكن تحقيقه إلا على يد الطبقة العاملة بعد حسمها للسلطة وتأسيس الولايات المتحدة الاشتراكية الأوروبية. كان أساس تلك المقالة، وجميع كتابات لينين في تلك الفترة، هو التأكيد بالضبط على ضرورة النضال من أجل الثورة الاشتراكية، ليس فقط في روسيا، بل في جميع أنحاء أوروبا. لكن تلك المشكلة لم يتم حلها آنذاك وتم تأجيلها للمستقبل.
الإمبريالية أقصى مراحل الرأسمالية
شرع لينين آنذاك في بحث نظري كبير للإمبريالية والذي بلغ ذروته في مؤلفه الهام “الإمبريالية أقصى مراحل الرأسمالية”. من بين أسباب تأليفه لذلك الكتاب الرد على كتاب هيلفردنغ “الرأسمال المالي”، الذي نُشر في عام 1910، والذي قام فيه هذا الأخير بتجاهل التناقضات المتأصلة في الرأسمالية وحتمية الصراع بين الإمبرياليين، وتحدث عن إمكانية ظهور كارتل عالمي، واقتصاد مخطط عالميا في ظل الرأسمالية الاحتكارية وحل النزاع بين العمل المأجور والرأسمال، أو فكرة “الرأسمالية المنظمة”، التي هي نسخة مبكرة لفكرة “الرأسمالية الموجهة” التي كانت محبوبة جدا عند القادة الإصلاحيين خلال الخمسينات والستينات. وقد اعتمد كاوتسكي في وقت لاحق على فكرة هيلفردنغ حول الرأسمالية المنظمة لبناء نظريته عن الإمبريالية العليا، وهي الفكرة التي انتقدها بوخارين في كتابه “الإمبريالية والاقتصاد العالمي”، الذي عبر لينين عن إعجابه به.
لم تكن تلك هي المحاولات الوحيدة لإعادة النظر في نظريات ماركس الاقتصادية. ففي كتابها “تراكم الرأسمال”، الذي كتب قبل فترة وجيزة من الحرب، كانت روزا لوكسمبورغ قد طرحت فكرة الانهيار التلقائي للرأسمالية، وهي الفكرة التي طالما استخدمها التحريفيون منذ ذلك الحين للتقليل من دور العامل الذاتي في إنجاز التحويل الاشتراكي للمجتمع. وكما هو الحال دائما كانت مهمة لينين الرئيسية هي تكوين الكوادر. لقد خاض نضالا إيديولوجيا شرسا على جبهتين: ضد الانتهازية وضد اللاسلطوية النقابية. وفي وقت لاحق انخرط الستالينيون في محاولات خبيثة لربط نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة بتصورات المناشفة والبلاشفة “اليساريين” -بوخارين، بياتاكوف، وبوش!-. في الواقع لا توجد أية علاقة على الإطلاق بين “الثورة الدائمة” وبين ذلك الرفض الطفولي للمطالب الديمقراطية الذي كان هؤلاء “اليساريون” يتبنونه. وبالتالي من المحتمل جدا أن تكون هجمات لينين على “الثورة الدائمة” في تلك الفترة إنما كانت موجهة ضد هؤلاء.
كان للتجنيد تأثير كبير على الطبقة العاملة، فقد تم استدعاء 17% من كوادر الطبقة العاملة في بتروغراد، بما في ذلك جميع الشباب تقريبا. ولتعويضهم اكتسحت المصانع حشود من الجماهير التي كانت تفتقد للوعي السياسي، ومرة أخرى جرى تمييع الهوية الطبقية للقوى العاملة بعناصر خام وشبه بروليتارية. أرسلت الفئات الأصغر والأكثر حيوية من المدينة والقرية إلى جبهات القتال. وسحب عدد كبير من النساء والمراهقين إلى المصانع. وقد جاءت تلك العناصر الجديدة بأوهامها الطبقية وأحكامها المسبقة معها. أما البروليتاريا الصناعية فقد تم دفعها جانبا. اضطر العمال البلاشفة إلى أن يطأطؤوا رؤوسهم لفترة من الزمن. صارت ظروف العمل أكثر فأكثر سوءا والأجور أقل، وتم فرض “الانضباط العسكري” في المصانع. تراجع المستوى السياسي العام على المدى القصير، لكن الضغط القاسي على العمال وبلترة فئات جديدة كان بدوره يمهد الطريق لحدوث انفجار جديد. كان الحزب نفسه قد تفكك، ولم يستعد بعض مظاهر التنظيم إلا بشكل تدريجي. لكن أفكار وتقاليد البلشفية كانت ما تزال حية في المصانع والخنادق. وتعكس إحصاءات الإضرابات، تراجع الحركة، كما يبين الجدول التالي:
الشهور | عدد الإضرابات | عدد المضربين |
غشت | 24 (أقل بـ 40% عن يونيو) | 24.688 |
شتنبر | 10 | |
أكتوبر | 9 | |
نوفمبر | 16 | |
دجنبر | 9 |
وفقا للأرقام الرسمية، لم تشهد كل الفترة الممتدة من غشت إلى دجنبر 1914 سوى 70 إضرابا، مع 37.200 مشارك في كل روسيا. وفي إيفانوفو-فوزنسينسك، التي كانت أحد المراكز الرئيسية لنضالات العمال، توقفت الإضرابات بشكل شبه كلي، بحيث لم يتم تسجيل سوى إضراب واحد صغير طيلة تلك الأشهر. ولم تكن الأوضاع أفضل بكثير في بتروغراد.
محاكمة النواب البلاشفة في الدوما
تسبب اعتقال نواب الدوما في مشاكل جديدة للحزب. ورغم أن الفروع المحلية تمكنت من إصدار بعض المنشورات الاحتجاجية السرية، فإنه لم يكن من الممكن تنظيم حركة عامة باستثناء بعض الإضرابات الصغيرة. سبقت محاكمة أعضاء الدوما موجة من الاعتقالات، كما كان هناك وجود مكثف للشرطة في شوارع المدن الرئيسية من أجل “تهدئة الطبقة العاملة”. وفي فبراير شارك 4.630 شخصا في الإضرابات السياسية الاحتجاجية، وهو الرقم الذي لا يعتبر سيئا بالنظر إلى الظروف الصعبة للغاية، لكنه، بالرغم من ذلك، عدد قليل جدا، كان يعكس حالة الاحباط السائدة بين غالبية العمال.
كان أداء النواب في المحاكمة غير متشابه، فقد اقتصر م. ك. مورالوف على الاعتراف بأنه عضو في الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي وكونه نائبا منتخبا من طرف العمال. لكن خطاب ج. إ. بتروفسكي “شرَّفه”، حسب تعبير لينين. ومع ذلك، فقد انتقد لينين بعض ممارسات الدفاع. فعلى سبيل المثال نفى المتهمون أي مشاركة شخصية من جانبهم في المنظمات غير الشرعية للحزب. كما أن كامينيف، عضو اللجنة المركزية، الذي اعتقل وحوكم مع نواب مجلس الدوما، ألقى خطابا لم يعبر فيه عن الشجاعة التي يمكن توقعها من شخص في منصبه، وهو ما أثار استياء لينين. وفي إشارة إلى محاكمة نواب الدوما، كتب تروتسكي: «حافظ المتهمون، في المحاكمة التي جرت في 10 فبراير، على نفس الموقف. ولم يكن إعلان كامينيف بأن الوثائق التي وجدت معه “تتناقض مع وجهات نظره الخاصة بشأن الحرب الحالية” راجعا لقلقه على سلامته الشخصية فقط، بل كان في الأساس يعكس موقف قيادة الحزب بأكملها تجاه تكتيك الانهزامية. لقد تسببت تكتيكات المتهمين الدفاعية في إضعاف الأثر التحريضي للمحاكمة، مما أثار استياء لينين الشديد. كان في مقدور الدفاع القانوني أن يسير يداً بيد مع الهجوم السياسي. لكن كامينيف، الذي بالرغم من ذكائه وثقافته، لم يكن مؤهلا لمواجهة الحالات الاستثنائية. قام المحامون من جانبهم بكل ما بوسعهم، حيث رفضوا تهمة الخيانة، وتنبأ أحدهم، بيريفيرزيف، في المحاكمة قائلا إن إخلاص النواب العماليين لطبقتهم سيسجل إلى الأبد في ذاكرة الأجيال القادمة، في حين أن نقاط ضعفهم (عدم الاستعداد واعتمادهم على مستشاريهم، وما شابه) كل ذلك سوف يسقط، مثل قذيفة فارغة، إلى جانب تهمة الخيانة الكاذبة»[44].
كان لينين يتوقع شيئاً أكثر من ذلك. ففي الوقت الذي كان فيه جميع قادة الأممية الثانية ينبطحون، كان لينين ينتظر من المحاكمة أن تكون فرصة للبلاشفة لكي يقفوا ويقدموا عرضا علنيا واضحا للحزم والشجاعة. كان ينبغي للمحاكمة أن تكون محطة لرفع الروح الكفاحية للعمال في روسيا وعلى الصعيد الأممي. لكن تم تضييع الفرصة. كما أن تكتيكات الدفاع المهادنة التي تبنوها لم تؤد إلى تخفيف العقوبات عليهم، حيث تم الحكم على المتهمين بالنفي المؤبد إلى سيبيريا. لكن وعلى الرغم من شكوك لينين فإن المصير الذي تعرض له النواب البلاشفة ساعد على زيادة مصداقية البلاشفة في نظر الجماهير، التي لم تتمكن من فهم تفاصيل النقاط الدقيقة للدفاع، لكنها رأت أن قادتها البرلمانيين كانوا على استعداد للذهاب للسجن من أجل الدفاع عن مبادئهم. بعد المحاكمة أكد لينين أن البلاشفة لديهم دعم أربعة أخماس العمال الواعين في روسيا. كان هذا صحيحا بالتأكيد في عام 1914، كما رأينا. فقبل الحرب كان حوالي 40 ألف عامل يشترون برافدا بشكل منتظم. وكان يقرأها عدد أكبر من ذلك. وعلى الرغم من الاعتقالات والسجن والنفي، فقد استمر هذا التقليد -الذي هو تقليد بلشفي- قائما. ورغم أن قوة المنظمة تراجعت بشكل كبير، فإنها استمرت حية في قلوب وعقول العمال. وكانت هذه هي التربة التي سمحت للتيار الثوري في النهاية أن يزدهر مرة أخرى.
لكن وضع الحزب في ذلك الوقت كان سيئا، فقد تراجعت أعداد أعضاءه مع اندلاع الحرب. كانت خلايا المصانع السرية تشكل التنظيم القاعدي البلشفي الأساسي. لكن عدد العمال النشيطين في تلك الخلايا صار قليلا جدا في ذلك الوقت. وبسبب الاعتقالات والتجنيد، صارت نسبة الأعضاء الجدد عديمي الخبرة عالية في الحزب. كانت اللجنة المركزية البلشفية تضم لينين وزينوفييف وشيليابنيكوف، الذي كان مسؤولا عن العمل داخل روسيا، وكروبسكايا التي كان عملها كسكرتيرة للحزب ضروريا لا غنى عنه. كان هذا كل شيء! لم يتم تشكيل مكتب روسي للجنة المركزية إلا في خريف 1915. ومع حلول خريف العام التالي أعيد تنظيم المكتب. آلت القيادة إلى كل من زالوتسكي ومولوتوف وشيليابنيكوف وبقي الحال كذلك حتى فبراير 1917. تدريجيا وبصعوبة شديدة بدأ الحزب يعيد تنظيم صفوفه داخل روسيا. كانت المجموعة الأكثر أهمية موجودة في بتروغراد بطبيعة الحال. ويقال (في كتاب Istoriya KPSS) إن عشر لجان محلية كانت تشتغل هناك، بالرغم “من الانقطاعات” (أي أن وجودها كان ضعيفا).
لكن بحلول عام 1915، تغير المزاج وبدأت الجماهير تتخلص تدريجيا من خوفها. وبحلول النصف الثاني من عام 1915 اندلعت بالفعل بعض الإضرابات المتقطعة في موسكو ضد ارتفاع تكلفة المعيشة. وقد انعكس هذا التغير على شكل انتعاش تدريجي لعضوية الحزب. في نوفمبر 1914، كان لدى منظمة الحزب في بتروغراد ما بين 100 و120 عضوا فقط، لكن بحلول ربيع 1915، ارتفع هذا العدد إلى 500 وإلى 1200 بحلول الخريف. وفي منتصف 1916 وأوائل 1917، صار هناك 2.000 عضو في العاصمة. حتى في المناطق النائية كانت منظمات الحزب قد بدأت بدورها في توسيع صفوفها. وبصرف النظر عن العمال، كانت هناك أيضا مجموعات من الطلاب، بل وحتى الجنود والبحارة من أسطول بحر البلطيق. كان الوضع نفسه في أماكن أخرى. ففي خاركوف كان هناك 15 عضوا فقط في ربيع عام 1915، لكن بحلول الخريف ارتفع العدد إلى 85، وبعد عام واحد وصل إلى 120. في ييكاتيرينوسلاف كان هناك 200 عضو في نهاية عام 1915، لكن بحلول نوفمبر 1916 وصل الرقم إلى 300، ومع بداية عام 1917 ارتفع إلى 400. لقد كان الحفاظ على انتظام الاجتماعات السرية، حتى عندما كان عدد الأعضاء قليلا، هو مفتاح النجاح الذي تحقق لاحقا.
وتدريجيا بدأ عمل الحزب ينتعش. كان العمل يتم في المنظمات الشرعية، مثل التعاونيات والجمعيات. ومع ذلك فقد كانت ظروف هذا العمل صعبة وخطيرة. يزعم كتاب Istoriya KPSS إن الحزب كانت له مجموعات في 29 بلدة ومدينة وهي: بتروغراد وموسكو وخاركوف ويكاتيرينوسلاف وكييف ومكييفكا وسمارة وساراتوف وريازان ونيجني نوفغورود وروستوف أون دون وأوديسا وإكاترينودار وباكو وتفليس وإيفانوفو فوزنيسينك وتولا وأوريخوفو زييفو وتفير وغوميل وفيازما وريفيل ونارفا ويوريفا وإيركوتسك وزلاتوست وييكاتيريبورغ وأورينبورغ. ومع ذلك ينبغي التعامل مع هذه المزاعم بحذر. فالعديد من تلك المجموعات كانت مجرد أسماء، وكان وجودها شكليا. تعرض العمل لعراقيل مستمرة بسبب اختراق البوليس والاعتقالات. في الغالب كانت العديد من تلك المنظمات تفتقر إلى الاستقرار والاستمرارية، مثلما كان حال لجنة بتروغراد التي تعرضت للتحطيم 30 مرة على الأقل، رغم أنه كانت تتم إعادة تشكيلها في كل مرة.
يتطلب العمل السري في زمن الحرب أشد أشكال المركزية والسرية صرامة. كان من المستحيل عمليا الإبقاء على مبدأ الانتخاب. كان الانتخاب هو الاستثناء وليس القاعدة. كانت اللجان تتشكل عن طريق التعيين: كانت اللجنة الإقليمية (Rayonny komitet) المشكلة من أعضاء خلايا المصانع المحلية، ترشح أعضاء اللجنة المحلية (Gorodsky’ komitet) التي كان لها الحق أيضا في ضم عمال ذوي خبرة. كان من الحتمي حدوث بعض التجاوزات، إلا أن القواعد كانت تبقى، بقدر الإمكان، على علم بجديد الاجتماعات والصحافة السرية. وقد لعبت الجريدة، على الرغم من جميع الصعوبات، دورا حيويا في الحفاظ على وحدة قوى الحزب. بعد ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب، تم اصدار جريدة بلشفية جديدة، سوتسيال ديموكرات (Sotsial Demokrat)، والتي صدر منها، في الفترة ما بين أكتوبر 1914 ويناير 1917، 26 عددا (من العدد 33 إلى 58)، بمعدل عدد واحد في الشهر- وهو الشيء الذي يعتبر إنجازا عظيما في ظل تلك الظروف.
حدود مغلقة
كان عمل لينين في المنفى يسير بوتيرة بطيئة مثيرة للإحباط ويواجه الصعوبات عند كل خطوة. كافح لينين بموارد ضئيلة لمواصلة العمل مع مجموعة صغيرة من المتعاونين في المنفى. فبالإضافة إلى زينوفييف وكروبسكايا، كان هناك إينيسا أرماند، وشكلوفسكي، وكاسباروف. كان هؤلاء فقط هم أعضاء “مكتب اللجنة المركزية في الخارج”. وقد حاولوا أن يجعلوا الجريدة البلشفية سوتسيال ديموكرات تعمل كمنظم لصفوف الحزب. تم توزيع 300 نسخة في باريس و100 في لندن وستوكهولم ونيويورك، و75 في جنيف وبيرن، و50 في زيوريخ ولوزان، كما تم بيع عدد من النسخ في ميلانو وجنوة. لكن روسيا لم يكن يصل إليها سوى عدد قليل جدا. كان جمع الأموال يحتل مكانة مركزية في انشغال المنفيين، لكن وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة فإن الصحيفة استمرت في الظهور بشكل منتظم، بل ونجحت في أن تعكس بشكل بارع حياة الحركة العمالية داخل روسيا. كانت أعمدتها تتضمن الأخبار والتقارير والتوصيات ومنشورات المنظمة السرية. ومن أجل حل المشاكل المالية الملحة تم تنظيم صندوق نضالي لمساعدة سوتسيال ديموكرات. كان الحزب يعيش ظروفا شديدة الصعوبة، وحياة المنفيين، التي كانت أصلا مريرة بما فيه الكفاية، صارت غير محتملة بسبب عدم وجود اتصال مع الحركة في روسيا.
لكن إذا كان إنتاج منشورات منتظمة صعبا للغاية، فإنه كان من الأصعب إيصالها إلى القراء المقصودين. تسببت الحدود المغلقة وظروف الحرب المرتبطة بها في جعل الاتصال المنتظم مع الداخل مهمة شبه مستحيلة. كان البوليس والجواسيس والمخبرون يحاصرون الثوريين من جميع الجهات، مما أدى إلى تفكيك جميع قنوات النقل السرية القديمة. فانتقل مركز ذلك النشاط إلى ستوكهولم، وكذلك إلى مورمانسك وأرخانجيلسك. كان الاشتراكيون الديمقراطيون الاسكندنافيون يقدمون بعض المساعدة، على الرغم من موقف القيادة الموالي لألمانيا. وقد جاءت تلك المساعدة بشكل أساسي من جانب الجناح اليساري، وخاصة منظمة الشباب الاشتراكي التي كانت قد اتخذت موقفا مناهضا للحرب، رغم أنه كان مختلطا بنزعة سلمية، أي شعار “إلقاء السلاح!”، كما كان الحال في جميع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الاسكندنافية. كان المسؤول عن النقل هو العامل البلشفي المخضرم ألكسندر شليابنيكوف، الذي توفر مذكراته مصدرا مهما عن أنشطة الحزب في تلك الفترة. وقد لعبت كروبسكايا، كما كان الحال دائما، دورا لا يقدر بثمن في تنظيم ذلك العمل بكل تفاصيله الدقيقة ومساعدة الرفاق الشباب على فهم أساليب العمل السرية. كان فريقها الصغير من المتعاونين يضم إلى جانب شليابنيكوف كولونتاي، التي كانت قد انفصلت مؤخرا عن المناشفة وتبنت القضية البلشفية بحماس كبير، إضافة إلى شقيقتي لينين: أوليانوفا وإليزاروفا، وكذلك ستال وكاسباروف. لم يكن هناك كثيرون آخرون. وحقيقة أنه كان من الضروري إشراك أختي لينين في العمل تشير إلى صعوبة الحصول على أشخاص موثوقين للقيام بذلك النشاط.
استمر لينين يواجه المشاكل مع رفاقه المقربين في الخارج. ففي غشت 1915، صدرت جريدة بلشفية أخرى، تحت اسم كومونيست (Kommunist)، والتي كان يحررها بوخارين. لكن سرعان ما أدت مواقف بوخارين اليسراوية المتطرفة إلى إثارة حنق لينين، والذي كتب في رسالة غاضبة إلى شليابنيكوف، قائلا: «لقد أصبحت كومونيست ضارة للغاية. يجب إيقافها واستبدالها بسبورنيك سوتسيال ديموكرات (التي كانت تحررها هيئة تحرير سوتسيال ديموكرات في المنفى). وبهذه الطريقة فقط نتجنب الشجار، ونتجنب التذبذب».
كان صبر لينين قد نفذ بعد أن قدم العديد من التنازلات لـ “الثلاثي” – بوخارين وبياتاكوف ويوجين بوش. كتب قائلا: «نيك [نيكولاي] إيف [إيفانوفيتش] اقتصادي مجتهد، وقد دعمناه دائما في هذا. لكنه 1) ثرثار و2) متذبذب في السياسة. لقد دفعته الحرب إلى تبني أفكار شبه لاسلطوية. وفي المؤتمر الذي اعتمد قرارات برن (في ربيع 1915) أصدر أطروحات (أمتلكها!) كانت ذروة الغباء والخزي وشبه لاسلطوية. لقد انتقدته بشدة. كان يوري وبوش يستمعان وعبرا عن رضاهما لأنني لم أتركه يسقط في التطرف اليسراوي (في ذلك الوقت كانا قد أعلنا اختلافهما التام مع نيك إيف [بوخارين]). مرت ستة أشهر، ونيك إيف يدرس الاقتصاد، ولا يولي أي اهتمام بالسياسة، فإذا به يخرج علينا، فيما يتعلق بمسألة تقرير المصير، بنفس ذلك الهراء، وقد عبر بوش ويوري عن اتفاقهما معه!!»[45].
كانت أسوأ مشكلة هي العزلة عن الحركة داخل روسيا. كان العمل مع الداخل يعاني من العديد من الصعوبات والمخاطر. لم يكن من الممكن، سوى في حالات نادرة فقط، إرسال شخص موثوق به إلى روسيا لجمع معلومات مباشرة عن الحالة في الداخل. واجهت شليابنيكوف، الذي كان في ستوكهولم، مشاكل من جميع الأنواع، ليس فقط مع الرقابة البوليسية وحرس الحدود، بل أيضا مع نقص الأموال والإحباط الناتج عن انهيار الأممية. في البداية كان من الممكن الحفاظ على بعض الاتصالات مع روسيا عن طريق رجال أعمال ومهاجرين عائدين إلى روسيا من أجل التجنيد. لكن عندما تلاشت هذه الإمكانية وأصبحت الرقابة أكثر تشددا، مع تشديد عمليات التفتيش المنتظمة للمسافرين على الحدود، أخذت الأمور منعطفا خطيرا نحو الأسوأ. الكثير من المهاجرين الروس، الذين كانوا مستعدين سابقا لنقل الأدبيات السرية إلى روسيا، لم يعودوا يقبلون بالقيام بتلك المهمة، مفضلين تكريس أنفسهم لأنشطة تهريب أكثر ربحية. وقد تم التعبير عن مزاج الإحباط واليأس الذي ساد آنذاك في التعليق التالي: «إن أخبار بلاشفتنا في باريس الذين يلتحقون بالجيش، و“ثرثرة” الرجل العجوز في جنيف (بليخانوف)، والوضع ككل، ينيخ بسحابة قاتمة على رؤوسنا».
انعكس خراب التنظيم في الداخل، وخاصة بعد إلقاء القبض على أعضاء الدوما، على شكل أزمة مالية. تمكن شليابنيكوف من إيجاد بعض البحارة الذين كانوا على استعداد لتهريب بعض المنشورات السرية إلى الداخل، مقابل المال. لكن المال لم يكن متوفرا. وكتب قائلا: «لقد أبلغت لجنة بيترسبورغ وفريق الدوما بذلك، لكنني تلقيت أنباء محزنة مفادها أنهم غير قادرين على تقديم المبلغ اللازم، حوالي 300 إلى 500 روبل في الشهر. كان من الصعب عليهم أن يرسلوا لي المال لإعالتي، وبعد أن أرسلوا لي 100 روبل، أوصاني الرفاق بأن أتكفل بجميع نفقاتي. لم أستطع حتى البدء في التفكير في العثور على عمل، لأن تلك الأشهر الأولى من الحرب تسببت في بطالة كبيرة في السويد وكانت المصانع لا تعمل سوى لبضعة أيام في الأسبوع. لم تكن هناك أي فرصة لإيجاد موارد في مجتمع المهاجرين المحليين، على الرغم من وجود الكثير من المضاربين هناك. كانت اللجنة المركزية لحزبنا في الخارج أفقر من أن تتمكن من تخصيص مثل ذلك المبلغ لتلك العملية. ومن أجل مواصلة العمل لجأت إلى القروض والاكتفاء بإرسال الأخبار بشكل متقطع فقط»[46].
الدسائس الألمانية
تصاعدت، كما هو الحال دائما في زمن الحرب، أنشطة الأجهزة السرية التي بذلت كل الجهود الممكنة لكسب عملاء يمكنهم أن يكونوا مفيدين لها. ولم تقتصر محاولاتها على القادة الرسميين للحركة العمالية في البلدان الرئيسية. لتحقيق ذلك لجأت إلى المؤامرات والرشاوى والابتزاز. واستنادا إلى المثل الشهير “عدو عدوي صديقي”، حاولت القوى العظمى تشجيع التمردات في مؤخرة العدو، ورفعت بديماغوجية شعار “حقوق الأمم في تقرير مصيرها”. وهكذا أرسلت لندن عميلها، المغامر لورنس (لورنس العرب)، لتحريض العرب ضد الأتراك، ووعدت بكلبية كلا من اليهود والعرب بمنحهم فلسطين (في حين لم تكن تنوي إعطائها لأي منهم)؛ كما حاولت برلين دفع الفنلنديين إلى التمرد ضد روسيا. وفي خضم هذه المؤامرات والمؤامرات المضادة، كان عملاء الإمبريالية يلجؤون حتى إلى تحريض الثوريين بهدف دفعهم إلى القيام بأعمال تخريب قد تضعف العدو. وعلى سبيل المثال فإن اليساري السابق، بارفوس (ذلك الشخص الكفؤ لكن المغامر في نفس الوقت) والذي انتقل إلى معسكر الاشتراكية الشوفينية، افتتح ما أسماه “معهد دراسة الآثار الاجتماعية للحرب”، في كوبنهاغن، كأداة لاستقطاب الثوريين الروس من أجل التعاون مع الألمان. وبسبب الفقر والإحباط سقط الكثيرون في الفخ.
لقد حرص البلاشفة طوال الحرب على النأي بأنفسهم بعيدا عن كل محاولات الإمبرياليين الألمان لتوريطهم في المؤامرات التي كانت ستشوه بشكل كامل سمعة الحزب في أعين الطبقة العاملة العالمية. لقد عمل لينين على توضيح موقفه في مئات المقالات والخطب سواء تجاه الحلفاء أو الألمان، حيث قال عنهم: “جميعهم طاعون!”. وعلى الرغم من أن الحزب، كما رأينا، كان في أمس الحاجة إلى المال في ذلك الوقت، فإنه كان من المستحيل قبول أي أموال ألمانية، على الرغم من أن هذه الأخيرة قد عرضت ذلك بالفعل. كان موقف لينين من ذلك واضحا جدا، فعلى الرغم من أنه على الثوريين أن يستغلوا التناقضات الموجودة بين الإمبرياليين، فإنه يجب عليهم ألا يشاركوا في مؤامراتهم أو يصبحوا معتمدين عليهم بأي شكل من الأشكال. لكن ومع ذلك فإن أعداء البلشفية في وقتنا الحالي، وفي سياق حملتهم لتشويه سمعة لينين بكل الوسائل الممكنة، استخرجوا من مزبلة التاريخ الافتراء القائل بأنه كان “عميلا ألمانيا”. كانت هذه الكذبة البشعة من اختراع جهاز المخابرات القيصرية من أجل تشويه سمعة البلاشفة، ثم تكررت لاحقا وتضخمت على يد الحكومة المؤقتة، خلال فترة الردة الرجعية التي تلت أيام يوليوز عام 1917، لتشويه سمعة البلاشفة واضطهادهم. وها قد أعيد إحياؤها مجددا، في الفترة الأخيرة، على يد “مؤرخين” عديمي الضمير، مثل فولكوغونوف، والذين لا يحاولون حتى إخفاء كراهيتهم الشديدة تجاه لينين وتروتسكي والثوريين عموما.
يعيد فولكوغونوف، في كتابه عن لينين، استنساخ كل الأكاذيب القديمة التي قيلت عن لينين بكونه “عميلا ألمانيا”، والتي تم تفنيدها منذ زمن بعيد. ولذلك أضاف إلى الكذابين القدامى بعض الكذابين الجدد، الذين يتضح بعد التدقيق أنهم مجرد نسخ مكررة عن أسلافهم. يستشهد بـ“مؤرخ روسي”، يدعى ميلغونوف، يؤكد للقارئ أنه يجب على المرء أن يبحث عن “مفتاح الذهب الألماني في جيب بارفوس (هيلفاند)، الذي كان على اتصال دائم بالعالم الاشتراكي وجنرالات الجيش الألماني”، وأن هذا “ما يفسر النجاح السريع وغير العادي للدعاية التي قام بها لينين”. متى كتبت هذه المادة الجديدة المذهلة؟ إنها تعود إلى عام 1940، عندما ظهر في باريس كتاب بعنوان “المفتاح الذهبي الألماني للبلاشفة”، والذي كان جزءا من ركام ضخم نشره منفيون روس، جميعهم كانوا معارضين متعصبين ضد البلشفية، وتحركهم دوافع الحقد والكراهية وروح الانتقام. لا يمكن للمرء أن يتوقع من هذه المصادر أي تقييم علمي لهذا الموضوع أو لأي موضوع آخر.
لكن فولكوغونوف في النهاية أثار اهتمامنا عندما أضاف قائلا: «الآن وقد درست عددا كبيرا من الوثائق التي ما زال من المستحيل الحصول عليها حتى الآن…»، مما يجعلنا نفرح بأننا أخيرا سنتمكن من أن نلقي نظرة على هذه المصادر الجديدة والمثيرة! لكن ما الذي تظهره تلك المصادر؟ صدقوا أو لا تصدقوا إنها تظهر أن “سر الثورة” الشهير، والذي ظل مخفيا لفترة طويلة… “ما زال غير واضح”. (التشديد من عندي: آلان وودز). وبالتالي فإنه إما أن “الأسرار” انتقلت شفهيا بين دائرة صغيرة من القادة البلاشفة، أو أنه قد تم تدمير الأدلة، و “لينين كان يعرف جيدا كيف يحمي الأسرار”[47].
لقد تمخض الجبل لكنه لم يلد فأرا، بل صرصورا! لكن حتى الصرصور يمكن أن يتعرض لعملية تضخيم لحجمه حتى يصير بحجم الأرض، مثلما حدث في هذه الحالة، بفضل بعض المساعدة من أصدقاء فولكوغونوف في وسائل الإعلام، الذين سارعوا إلى طمأنة الجميع بأن هذا الكتاب يحتوي على دليل قاطع، استنادا إلى مصادر جديدة تماما (ما زال من المستحيل الحصول عليها حتى الآن!)، بأن لينين لم يكن أكثر من مجرد عميل للقيصر الألماني (تماما مثلما قيل عن تروتسكي فيما بعد بأنه عميل لهتلر).
نجد موجزا (وإن غير كاف) عن سيرة بارفوس، الذي صار، بحلول عام 1914، شخصا غنيا جدا ومقربا من هيئة الأركان العامة الألمانية. يبدو أن لينين قد التقى ببارفوس في سويسرا عام 1915. لكن لا شيء جديد في هذه المعلومات لأن كتاب شوب موجود منذ فترة طويلة جدا، وكذلك السيرة التي كتبها زيمان عن بارفوس، والتي استمد منها فولكوغونوف معظم هذا المعلومات “الجديدة والأصلية”. بل إن هذا الاتهام (الذي اختلقته الحكومة المؤقتة خلال حملة التشهير ضد لينين والبلاشفة في يوليوز 1917) قد تم الرد عليه بالفعل من قبل لينين نفسه حين قال: «إنهم يقحمون بارفوس، ويحاولون جاهدين إقامة علاقة ما بينه وبين البلاشفة. لكن البلاشفة في الواقع كانوا هم الذين وصفوا بارفوس، في سوتسيال-ديموكرات التي كانت تصدر في جنيف، بأنه خائن، ونددوا به بلا رحمة باعتباره بليخانوف ألماني، وقضوا إلى الأبد على كل احتمال لإقامة أي علاقة مع الاشتراكيين الشوفينيين أمثاله. كان البلاشفة هم الذين رفضوا بشكل قاطع، في اجتماع عقد في ستوكهولم، مع الاشتراكيين اليساريين السويديين، قبول بارفوس بأي صفة كانت، ولو حتى كضيف، ناهيك عن التحدث إليه. كان هانيكي يعمل مكلفا بالشؤون التجارية في الشركة التي كان بارفوس شريكا فيها. إن المراسلات التجارية والمالية تخضع للرقابة بالطبع، وهي متوفرة الآن لمن يريد الاطلاع عليها. وقد تم بذل الكثير من الجهد لخلط هذه الشؤون التجارية بالسياسة، على الرغم من عدم تقديم أي دليل على الإطلاق!»[48].
عندما أثار بوخارين مسألة العمل مع بارفوس، نصحه لينين بالعدول عن القيام بذلك، على الرغم من أن بعض المناشفة كانوا يعملون هناك، وهي الحقيقة التي لم يستخدمها لينين أبدا ضدهم، ولا يتم الآن ذكرها مطلقا، نظرا لأن المفترين لا يهتمون إلا بتشويه سمعة الثوريين. في الحقيقة لقد شن لينين أشد الهجمات على بارفوس وأمثاله، حيث وصفه، على صفحات سوتسيال ديموكرات، بأنه مرتد وخائن، لكن هذه الحقيقة لا تجد أي صدى لها في كتاب فولكوغونوف. في عام 1915، كتب لينين عن بارفوس في مقال بعنوان “إلى أقصى حد”:
«إنه يتملق هيندنبورغ، مؤكداً لقرائه أن “هيئة الأركان العامة الألمانية تعمل من أجل إحداث ثورة في روسيا”، ونشر مديحا ذليلا لهذا “التجسيد لروح الشعب الألماني”، و“مشاعر ألمانيا الثورية العظيمة”. لقد وعد ألمانيا بتحول غير مؤلم إلى الاشتراكية من خلال تحالف بين المحافظين وبين قسم من الاشتراكيين، ومن خلال “بطاقات حصص الخبز”. وباعتباره جبانا وتافها، فهو يوافق على مضض على بيان مؤتمر زيمروالد، متظاهرا بأنه لم يلاحظ فيه التعبيرات الموجهة ضد كل أشكال الاشتراكية الشوفينية، بدءا من أمثال بارفوس وبليخانوف، إلى كولب وكاوتسكي.
لا يوجد في أي من الأعداد الستة لصحيفته الصغيرة ولو فكرة واحدة نزيهة أو حجة جادة أو مقالة صادقة. إنها ليست سوى بالوعة للشوفينية الألمانية مغطاة بلافتة مرسومة بشكل سيء تدعي أنها تمثل مصالح الثورة الروسية! لذلك من الطبيعي تماما أن تتلقى هذه البالوعة الثناء من بعض الانتهازيين مثل كولب ومحرر صحيفة Chemnitz Volksstimme.
يمتلك السيد بارفوس الوقاحة الكافية لكي يعلن أن “مهمته” هي “العمل كحلقة وصل إيديولوجية بين البروليتاريا المسلحة الألمانية والبروليتاريا الثورية الروسية”. يكفي فضح هذه العبارة التهريجية أمام العمال الروس لإثارة سخريتهم»[49].
يشير فولكوغونوف مبتهجا إلى وجود العديد من الرسائل المكتوبة بالرموز التي كتبها لينين وتلقاها. لكن وبما أنه لا يمكن فك رموزها، للأسف، فإنه لا يمكننا معرفة أي شيء عن محتواها. ومع ذلك، على حد تعبير فولكوغونوف (الذي لم يتمكن بدوره من معرفة ما يوجد فيها)، يمكننا أن نفترض أنها تتحدث عن “الذهب الألماني” (ومن يدري كم من الأشياء الأخرى التي يمكنها أن تتضمنها؟). الكثير من الأشياء التي قام بها لينين كانت، لسوء الحظ، سرية مثل النشاط اللاشرعي، أي 90% من عمل الحزب في ذلك الوقت! خلال حملة الحكومة المؤقتة للتشهير بالبلاشفة، أشارت هذه الأخيرة إلى وجود الكثير من الرسائل، التي زعمت أنها تعود للبلاشفة، والتي كانت إما ملفقة أو مشوهة بشكل متعمد من قبل الصحافة الألمانية لأغراض الدعاية. ولا شك أن الرسائل التي أشار إليها فولكوغونوف تندرج ضمن هذه الفئة. وفي سياق تفنيده لهذه الافتراءات، وخاصة المتعلقة “بالرسائل المشفرة”، يقول تروتسكي: «تتعلق شهادة التاجر بورستين، بالعمليات التجارية التي قام بها هانكي وكوزلوفسكي بين بتروغراد وستوكهولم. لكن تلك العمليات التجارية التي تعود لزمن الحرب، والتي من البديهي أنها كانت تلجأ في بعض الأحيان إلى المراسلات المشفرة، لم تكن لها أي علاقة بالسياسة. لم يكن للحزب البلشفي أي علاقة بتلك التجارة. لقد ندد كل من لينين وتروتسكي علانية ببارفوس، الذي كان بارعا في التجارة سيئا في السياسة، وناشدا الثوريين الروس بقطع جميع العلاقات معه»[50].
وبعد أن صار فولكوغونوف أكثر فأكثرا يأسا، استنجد أخيرا بـ… كيرينسكي! عند هذه النقطة تكون العجلة قد أكملت دورة كاملة، وعدنا إلى حملة الأكاذيب الأصلية ضد البلاشفة على لسان “أكبر كذاب”، كما كان تروتسكي يسميه. يقتبس من سيدة تدعى ييفجيفيا مافريكيفنا سمنسن والتي هي مصدر آخر “جديد وأصلي”. يقال إنها أكدت وجود حساب خاص في بنك سيبيريا يضم “حوالي مليون روبل”، قيل إنه تم سحب مبلغ 800.000 روبل منه عشية الثورة. من هي هذه الآنسة سمنسن؟ إنها شاهدة أثناء محاكمات البلاشفة التي تمت خلال الحملة ضدهم في يوليوز 1917. من أين حصل فولكوغونوف على هذا الاقتباس؟ ليس من تلك “المصادر التي ما زال من المستحيل الحصول عليها حتى الآن”، بل من كتاب ميلغونوف الذي نشر في باريس عام 1940. وهلم جرا…
أليس من الممكن أن تكون بعض الأموال التي وزعتها هيئة الأركان العامة الألمانية، من خلال عملائها في الخارج، قد وجدت طريقها، بطريقة أو بأخرى، إلى حسابات البلاشفة؟ خلال الحرب استخدم الألمان، والحلفاء أيضا، عملاءهم داخل الحركة العمالية لشراء دعم الجماعات اليسارية في البلدان الأخرى. لكن الادعاء بأن الألمان قد اشتروا البلاشفة بالذهب وأن هناك تحالفا فعليا بين البلاشفة والإمبريالية الألمانية كذبة ليست فاحشة فحسب، بل وغبية للغاية أيضا. يعلم الجميع السلوك السياسي للبلاشفة أثناء الحرب وبعدها. وعلى سبيل المثال، يحاول فولكوغونوف إظهار أن الألمان قد حولوا الأموال إلى البلاشفة عبر السويد. كان ممثل الحزب البلشفي في السويد هو ألكسندر شليابنيكوف. وفي مذكراته، يشرح أن المخابرات الألمانية كانت بالفعل نشطة للغاية في السويد، واخترقت الاشتراكية الديمقراطية السويدية، وحاولت رشوة الثوريين الروس لخدمتها. فما هو الموقف الذي اتخذه؟
الجواب موجود في مذكرات شليابنيكوف. في أكتوبر 1914، وصل الزعيم الاشتراكي الديمقراطي الهولندي ترويلسترا، الذي كان مؤيدا لألمانيا، إلى ستوكهولم في مهمة باسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أي باسم هيئة الأركان العامة الألمانية. كان يريد حشد التعاطف مع ألمانيا من جانب الزعماء الاشتراكيين الديمقراطيين السويديين، ودافع عن فكرة نقل المكتب الأممي إلى أمستردام. انتهز الزعيم الهولندي الفرصة لسؤال البلاشفة عن موقفهم من الحرب. وقد أجابه شليابنيكوف في خطاب ألقاه أمام مؤتمر الاشتراكيين الديمقراطيين السويديين. حيث أنه بعد إدانته للحلفاء وفضح أهداف روسيا الرجعية من وراء الحرب، التفت إلى ترويلسترا قائلا: «إن تفاجئ الاشتراكيين الألمان من أننا لا نشعر بالبهجة إزاء تحالفهم المعلن مؤخرا مع حكومتهم من أجل خوض “حرب مقدسة على النظام القيصري الروسي”، ليس سوى ستار منافق لإخفاء خيانتهم للأممية والاشتراكية عن أعين الجماهير. لقد كنا دائما سعداء بقبول يد العون من جانب رفاقنا في الكدح والأفكار في كفاحنا الشاق ضد النظام القيصري، لكننا لم نطلب أبدا ولم ننتظر أبدا مساعدة الثورة الروسية من جانب الإقطاعيين الألمان، أو من جانب مستشار وصديق القيصر الروسي الرجعي ويلهلم الثاني. نحن لا نتخلى عن كفاحنا ضد النظام القيصري الروسي، لكننا لا نعتمد في هذا الكفاح إلا على قواتنا الخاصة.
إننا نطلب من الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان ألا يرسلوا ويلهلم الثاني بمدافعه لمساعدتنا، بل أن يحاولوا استخدام تلك المعدات الحربية ضد أمراءهم الإقطاعيين، تماما كما نأمل أن نستخدمها نحن ضد النظام القيصري الروسي. الفنلنديون، إخواننا في الكدح، رفضوا بدورهم جميع مناورات الرأسمالية الألمانية واتخذوا نفس الموقف. إن البروليتاريا الثورية في روسيا، إلى جانب جميع القوميات المضطهَدة، تأمل في تحقيق الانتصار دون عقد صفقات مع أي حكومة على الإطلاق»[51].
أثار الهجوم على الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، الذي شنه شليابنيكوف (الذي ظهر في المحاضر باسم أ. بيلينين لأسباب أمنية)، سخط القيادي السويدي برانتنغ، وأثار صراعا بين الجناحين اليميني واليساري للحزب: «أخذ برانتنغ الكلمة حول مسألة ما إذا كان من الضروري اتخاذ قرار. كان قد توصل للتو بنص تهنئة من أحد الأحزاب الروسية، تتحدث عن خيانة الحزب الألماني. وأشار المتحدث إلى أنه ليس من المناسب أن يقوم المؤتمر بتوجيه الإدانة إلى الأحزاب الأخرى، وقال إنه يرى أنه من الضروري إصدار توصية اعتذار بشكل رسمي بسبب الفقرة المدرجة في التهنئة.
يعتبر هوغلاند (ستوكهولم) أنه من غير المناسب أن يتخذ المؤتمر مثل هذا القرار لأنه يوجد داخل حزبنا أيضا رفاق يعتبرون سلوك الألمان خيانة. أقترح على المؤتمر ألا يصدر حكما، وأن يكتفي بإدراج بيان برانتنغ في المحاضر. وقال فينبرغ (ستوكهولم) إنه علينا فقط أن نذكر أن الحكم المعبر عنه يظل مسؤولية الروس وحدهم. وقد كرر برانتنغ مطلبه وأكد أنه في حالة رفضه سينشأ سوء فهم بأن المندوبين إلى المؤتمر يتعاطفون مع الحكم السالف الذكر».
وفي النهاية أسقط المؤتمر اقتراح فينبرغ وصادق على توصية برانتنغ، لكن بفارق ضئيل، 54 صوتا مقابل 50. لقد تكرر مثل هذا الوضع في جميع أحزاب الأممية الثانية، مما مهد الطريق لحدوث انشقاقات هائلة وتشكيل أممية جديدة، لكن بعد خمس سنوات، وبعد المرور من أشد المحن فظاعة.
وعلى عكس المزاعم التي تتحدث عن تمتع البلاشفة بمبالغ غير محدودة على شكل “ذهب ألماني”، فإنهم كانوا في الواقع يعانون من صعوبات مالية مستمرة. ويعد نقص الأموال موضوعا ثابتا في مذكرات شليابنيكوف: «لقد شرعت في تعزيز فريق العمل البلشفي في ستوكهولم وتدريب العديد من البروليتاريين على العمل السري لتهريب الجرائد، وما إلى ذلك. لم يبد البيترسبورغيون أي مبادرة لتنظيم الاتصالات. وقد واجهت محاولاتي في هذا الاتجاه عقبات بسبب نقص الأموال. كان من الممكن تنظيم التهريب، لكن مقابل مبالغ كبيرة، إلا أنه لم يكن لديّ أي مال ولا أمل في الحصول على أي أموال. كان علينا الارتجال. كان هذا غير مرض على الإطلاق، خاصة أنه كان بإمكاني، لو توفرت لي حوالي 500 روبل شهريا، إغراق منظماتنا في روسيا بالأدبيات ولحافظت على اتصال شهري منتظم مع كل ركن من أركان البلاد. لكن لم يكن من الممكن الحصول على هذا المبلغ البسيط، هكذا كانت الأوضاع».
لو أن البلاشفة كانوا على استعداد لقبول أموال من الألمان، لما كانوا في مثل تلك الظروف المالية البائسة خلال الحرب. لكنهم لو قبلوا مثل تلك المساعدات من ذلك المصدر لكانوا قد حكموا على أنفسهم بالانحطاط. ويتذكر شليابنيكوف الصعوبات التي واجهوها قائلا: «لم تكن هناك أية روابط دائمة ثابتة مع روسيا. كان علينا استخدام المساعي الحميدة للمهاجرين المغتربين، وكذلك الرفاق الفنلنديين، لنقل المال. وكانت العديد من الشركات التجارية والصناعية تقوم بتهريب البضائع والبشر. كان على رأس بعض تلك المؤسسات مهندسون روس اشتراكيون ديمقراطيون سابقون، لكن هؤلاء السادة كانوا يخشون من فقدان مناصبهم المريحة ولا يرغبون في تقديم أي مساعدة للعمل الثوري في روسيا»[52].
كيف تمكن الحزب من الاستمرار؟
نشطت خلال السنوات الأخيرة محاولات عديدة للتقليل من أهمية الدور الذي لعبه البلاشفة في الحركة العمالية في روسيا. ومن بين الدراسات الأكثر جدية في هذا المجال هناك كتاب روبرت ماكين، الموثق بشكل جيد، والذي يقول إن هدفه تصحيح الصورة الوردية والمبتذلة التي قدمها المؤرخون الستالينيون عن تاريخ البلشفية والتي تصوره كمسيرة مظفرة من الانتصارات المتواصلة، وكأن الحزب لم يرتكب أي أخطاء، وكان دائما في صعود، ودائما في قيادة كل إضراب وكل مظاهرة، وما إلى ذلك. لا يمكن لهذه القصص الخيالية أن تعلم المرء أي شيء عن الطريقة التي تم بها في الواقع بناء الحزب البلشفي. وهكذا فإن الطريق تصير مغلقة، ليس فقط إلى الماضي، بل وإلى المستقبل أيضا. من الضروري فهم حقيقة الماضي من أجل التعلم منه. وفي حين أن محاولة ماكين ربما تكون مبالغا فيها، فإنه لا يوجد سبب للشك في أن الحزب قد كان في حالة سيئة للغاية في بداية الحرب، وذلك طبيعي، فالظروف الموضوعية كانت صعبة للغاية في ذلك الوقت. يقول ماكين:
«تذكر إحدى المذكرات أن العمال في مصانع الصلب في بتروغراد تعاملوا خلال السنة الأولى للحرب بلامبالاة تجاه موقف البلاشفة المناهض للحرب. وفي بعض مؤسسات الدفاع الأساسية الأخرى، مثل إريكسون وبوتيلوف، قدم العمال بشكل طوعي ما يعادل خمس أجرهم الأسبوعي من أجل دعم العائلات التي تم استدعاء معيلها للخدمة العسكرية. بقيت الإضرابات من الأحداث النادرة للغاية حتى صيف 1915. وقد اعترف القادة البلاشفة في نقاشاتهم الداخلية بوجود هذا العائق. وفي ربيع 1915، على سبيل المثال، أقروا “بعدم قدرتهم على جذب الجماهير إلى المعسكر الاشتراكي من خلال المظاهرات ضد الحرب”».
يستشهد ماكين بعامل من منطقة فيبورغ الحمراء في بتروغراد، والذي قال إن: «المزاج في المصانع… خلال السنة الأولى للحرب، لم يكن ثوريا جدا». ويخلص إلى أنه: «لم يتجاوز عدد أعضاء الحزب [في بتروغراد] 500 على الأكثر. وبفعل الغياب شبه الكامل لأي تنظيم على صعيد المدن أو حتى المقاطعات، فإنه لم يكن من الممكن القيام بأي نشاط مخطط منسجم أو صياغة استراتيجية متفق عليها. لم يكن من الممكن القيام بالعمل التحريضي إلا على نطاق ضيق جدا. من المرجح أنه بسبب كل هذه الظروف الصعبة كان توزيع نسخ سوتسيال ديموكرات، إضافة إلى المنشورات المناهضة للحرب، التي بلغ عددها 25 منشورا، محصورا للغاية، حتى صيف عام 1915».
وفي رده على المؤرخين السوفياتيين الذين ادعوا أن النواب البلاشفة الخمسة، إلى جانب كامينيف، قد أعادوا، في بداية الحرب، بناء المكتب الروسي للجنة المركزية، يقول ماكين إنه: لم يجد أي تأكيد على هذا الادعاء في ملفات الأوخرانا ذات الصلة بالموضوع. لا يوجد سبب للشك في ما يقوله ماكين لأن اعتقال كامينيف، إلى جانب نواب الدوما، والاضطراب العام الذي أصاب لجان الحزب، كان من شأنه أن يوقف أنشطة الحزب، إن كان له أي نشاط أصلا. إن غياب القيادة، سواء من الهيئات القيادية في روسيا أو من الخارج، كان يعني أن كل شيء صار يعتمد على مبادرة العمال البلاشفة في المصانع. إن صعوبة الحصول على معلومات دقيقة حول عمل هؤلاء الأبطال والبطلات، الذين لم يكشف التاريخ عن هويتهم، أمر بديهي خاصة في ظروف السرية الصارمة التي كانوا يشتغلون في ظلها. لكن هذا النقص في المعلومات لا يعني أن هؤلاء الأشخاص لم يكونوا موجودين. وهي النقطة التي يؤكد عليها ماكين قائلا: «في ظل غياب قيادة فعالة من الخارج، أو من لجنة بيترسبورغ، صار وضع الاستراتيجية والتكتيكات الثورية، طوال السنة الأولى من الحرب، يعتمد على تقدير المناضلين الاشتراكيين القاعديين».
في سياق الاستعداد لتخليد ذكرى يوم الأحد الدامي، في 09 يناير 1915، نجحت لجنة بيترسبورغ في إصدار منشور يدعو إلى الإضراب في تلك المناسبة. يقوم ماكين بمقارنة الاستجابة الضعيفة لتلك الدعوة بالاستجابة التي لاقتها دعوة الإضراب بعد إطلاق النار على عمال لينا في عام 1912. لكن محطة 1912 كانت بداية نهوض في الصراع الطبقي، عندما كان العمال قد بدأوا يتعافون من آثار هزيمة ثورة 1905. أما في سياق الحرب وتصاعد النزعة الوطنية، يصير مجرد إنتاج منشور إنجازا في حد ذاته. لقد استجاب 2.000 عامل لنداء الإضراب، وهو عدد ضئيل مقارنة بأرقام ما قبل الحرب، لكنه شكل خطوة مهمة في تلك الظرفية. يظهر ذلك أن الجماهير كانت ما تزال مستسلمة وأن عربدة الردة الرجعية ما تزال متأججة. يقول ماكين: «وضعت غارات الشرطة وحملة الاعتقالات الواسعة، خلال نهاية شهر أبريل، حدا لما كان الثوار يخططون للقيام به للاحتفال بفاتح ماي. ذكرت تقارير الشرطة في ذلك الوقت أن “عمل اللينينيين المحليين في الوقت الحاضر تفكك بالكامل”. وعلى الرغم من أن من تبقوا من أعضاء لجنة بيترسبورغ قد نجحوا في إصدار منشور عشية “عطلة” العمال، فإن معظم النسخ لم توزع. ولم يضرب في ذلك اليوم سوى 600 عامل»[53].
ومع ذلك فإن عملاء الأوخرانا قد احتفلوا قبل الأوان. فالتيار اللينيني لم يكن قد سحق بأي حال من الأحوال. لقد كان إنشاء منظمة مركزية قوية ومنضبطة مؤلفة من كوادر ثورية هو ما سمح للبلاشفة بالبقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب. كانوا وحدهم من تمكنوا من مواصلة العمل الثوري في ظل ظروف العمل السري القاسية، بينما أدت الحرب إلى تحطيم المناشفة بالكامل. وبحلول يناير 1916، وجد مارتوف نفسه مجبرا على أن يكتب بنبرة حزينة أن: «الأمور في روسيا تسير بشكل سيء بالنسبة لنا… يخشى فـ إ (دان) أن كل القوى النشيطة تنتقل إلى صفوف اللينينيين»[54]. لم يكن هذا مصادفة، فالضعف التنظيمي والسياسي للمناشفة (واللذان يعتبران وجهان للعملة نفسها) جعلهم غير مهيئين للتعامل مع الظروف الشاقة للعمل السري في زمن الحرب. وعلى أي حال فقد كانوا قد تبنوا مبدأً تصفية المنظمة السرية لصالح الأنشطة القانونية البحتة. كيف يمكن تبرير مثل هذا الموقف؟
في الواقع، كانت المنظمة المنشفية بالكاد موجودة في روسيا في ذلك الوقت. هذا ما يعترف به حتى الكتاب غير الماركسيين، مثل روبرت ماكين، الذي يقول: «لم تقدم اللجنة التنظيمية ومجموعة المبادرة المركزية أي دليل على وجودها في تلك الفترة». ويضيف: «لقد أدت ندرة المنظمات المنشفية وكذا تذمر المثقفين “التصفويين” من الإضرابات كشكل من أشكال الاحتجاج، إلى عدم اكتراثهم الكامل بإمكانية الاستفادة من المناسبات السياسية»[55].
عدم امتلاك البلاشفة لجهاز منظم آنذاك لم يكن يعني موتهم. إذ كيف كان من الممكن للحزب البلشفي أن يتعافى بسرعة بعد فبراير، لو أنه كان قد تعرض للتصفية بالكامل خلال الحرب؟ كيف نجح في حسم السلطة خلال تسعة أشهر فقط؟ لن يكون المرء قادرا على الإجابة على هذا اللغز، إذا قبل بفكرة ماكين كحقيقة مطلقة. لكنه يوجد في الواقع جواب بسيط للغاية: ففي الفترة التي سبقت الحرب، كان أربعة أخماس العمال المنظمين يدعمون البلاشفة. لم يكن الكثير منهم ناشطين في لجان الحزب، لكنهم كانوا قرّاء للبرافدا ويتعاونون مع البلاشفة بطريقة أو بأخرى. كما أنه كان هناك مئات الآلاف من الأشخاص الآخرين الذين يتأثرون بشعارات البلاشفة. لقد استمرت فكرة الحزب حية في أذهانهم على الرغم من أن رؤوسهم كانت مطأطئة. كان هؤلاء هم الرصيد الحقيقي للحزب، الذي عاود الظهور مع تغير الظروف ولعب دورا رئيسيا في أحداث فبراير 1917. وفي نفس الرسالة إلى شليابنيكوف، التي أكد فيها على الموقف الصعب الذي وجد الحزب نفسه فيه بعد اعتقال نواب مجلس الدوما، يشير لينين إلى أن القوة الحقيقية للبلشفية هي تلك الفئة من العمال الثوريين الذين تلقوا تكوينهم على يد الحزب في الفترة ما بين 1912 و1914، إذ يقول: «لقد أصبح عمل حزبنا أصعب 100 مرة على جميع الأصعدة. لكن علينا رغم ذلك أن نواصله! لقد دربت برافدا آلاف العمال الواعيين طبقيا، والذين من بينهم سيتم، على الرغم من كل الصعوبات، تشكيل مجموعة جديدة من القادة، وبناء اللجنة المركزية للحزب في روسيا»[56].
لقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن لينين كان محقا، على الرغم من محاولات روبرت ماكين إظهار العكس. وفي غشت 1915، عندما بدأ المد في التصاعد داخل روسيا، كتب لينين إلى شليابنيكوف، مطالبا بإعادة بناء المنظمة، حيث قال: «سيكون من المهم للغاية بالنسبة للمجموعات القيادية أن تتجمع في مركزين أو ثلاثة (في السرية بشكل أساسي)، وإقامة الاتصال معنا، وإعادة بناء مكتب للجنة المركزية (يوجد واحد بالفعل في بيترسبورغ، على ما أعتقد) وبناء اللجنة المركزية نفسها في روسيا. عليهم أن يقيموا علاقات قوية معنا (وإذا لزم الأمر يجب إحضار شخص أو شخصين منهم إلى السويد لهذا الغرض). سوف نرسل لهم نشرات إخبارية ومنشورات، إلخ. إن الشيء الأكثر أهمية هو العلاقات القوية والمستمرة»[57].
كان الحزب ما يزال يواجه صراعا شاقا. فمنظمات الحزب داخل روسيا كانت مفككة بشكل كبير وكانت الاتصالات مع الخارج صعبة للغاية. لكن الشيء الأكثر أهمية، كما أشار لينين في هذه الرسالة، هو أن الحزب قد نجا، على الرغم من كل شيء: «من الواضح أن القطاعات المتقدمة من العمال البرافديين، الذين يشكلون حصن حزبنا، قد نجت، على الرغم من الدمار الهائل الذي لحق بصفوفها».
تذهب تعليقات لينين مباشرة إلى صميم الموضوع. فبغض النظر عن المتابعات وبغض النظر عن عدد الاعتقالات، وبغض النظر عن عدد المخبرين الذين نجحوا في التسلل إلى الحزب، فإنه كان من المستحيل القضاء على البلشفية. إذ طالما بقيت هناك نواة صلبة من الكوادر المدربة والمتعلمة على أساس أفكار الحزب وتقاليده وأساليب عمله، فإن البلشفية ستستمر لا تقهر. كتب تروتسكي:
«لقد تسببت الحرب في خراب مروع للحركة السرية. فبعد اعتقال فريق الدوما، لم تعد لدى البلاشفة أي منظمة حزبية مركزية على الإطلاق. كان للجان المحلية وجود عرضي، وغالبا ما كانت مفصولة عن المقاطعات العمالية. كانت المجموعات والحلقات المنعزلة والأفراد بالكاد يفعلون أي شيء. لكن عودة النشاط إلى حركة الإضرابات أعادت لهم بعض الروح وبعض القوة في المصانع. لقد بدأوا تدريجيا في العثور على بعضهم البعض وبناء علاقات على الصعيد المحلي. عاد العمل السري إلى الحياة مجددا. ونجد في تقارير الشرطة لاحقًا أنه: “منذ بداية الحرب، كان اللينينيون، الذين تدعمهم في روسيا أغلبية ساحقة من المنظمات الاشتراكية الديمقراطية السرية، يصدرون في مراكزهم الكبرى (مثل بتروغراد وموسكو وخاركوف وكييف وتولا وكوستروما ومقاطعة فلاديمير وسمارة) أعداد كبيرة من النداءات الثورية التي تدعو إلى وقف الحرب والإطاحة بالحكومة الحالية وتأسيس جمهورية. ولهذا العمل نتائج واضحة في إضرابات العمال وتحركاتهم”»[58].
كارثة في الجبهة
ظهر الجيش الروسي، في بداية الحرب، كآلة عسكرية هائلة: كتلة لا حصر لها من المقاتلين المستعدين لتقديم حياتهم من أجل القيصر. لقد أعجب الضباط الألمان، ثم شعروا بالذهول، لمشاهدتهم تلك الأعداد الهائلة من المعاطف الرمادية التي تتقدم بلا هوادة في الميادين المفتوحة، فقط لتحصدها الرشاشات الألمانية. كان ذلك هو الجيش الروسي القديم الشهير الذي وصفه تولستوي في روايته “الحرب والسلام”، الذي يتألف من فلاحين جهلة مستعدين لتنفيذ أوامر رؤسائهم بطاعة عمياء، والخضوع بصبر وتسليم مطلق لأقسى التكاليف. إن الأسطورة التي ما تزال، على الرغم من طابعها غير العلمي والعنصري، تقال حتى اليوم عن الشعب الروسي، كـ “تفسير” مفترض للوضع الحالي، قد تعرضت للتفنيد بشكل كامل على محك التجربة التاريخية الواقعية في 1914-1917. لم يستفد الجيش الروسي من العدد الهائل للقوات الموجودة تحت تصرفه. لقد كان يعاني من سوء التجهيز في كل شيء. وحتى الأدوات الأساسية مثل الأحذية والبنادق كانت قليلة، ناهيك عن الدبابات والطائرات والقذائف والرشاشات. ففي عام 1914 لم يكن هناك سوى 679 سيارة (وسيارتي إسعاف آليتين) للجيش بأكمله.
كان من المتوقع للجيش الروسي أن يلعب خلال الحرب دور لحم للمدافع لصالح الحلفاء. وهكذا فقد كانت الخطة الأصلية لهيئة الأركان الروسية هي شن هجوم على الجبهة الجنوبية الغربية ضد القوات النمساوية الأضعف، مع الدفاع عن الجبهة الشمالية الغربية ضد ألمانيا الأكثر قوة. لكن وتحت ضغط فرنسا، تم تغيير هذه الخطة إلى القيام بهجوم شامل على كلتا الجبهتين لإجبار الألمان على نقل قواتهم من الغرب، وبالتالي تخفيف الضغط على الفرنسيين. إن الهجوم، الذي ظهر وكأنه بدأ بشكل جيد، انتهى بكارثة تانينبرغ الدامية، حيث تعرض جيش سامسونوف، في نهاية غشت، للحصار والتدمير خلال أربعة أيام في واحدة من أكثر المجازر فظاعة. قُتل أو جُرح 70.000 جندي روسي وأُسر 100.000 آخرين. بينما بلغت خسائر الألمان 15.000 جندي. وفي رده على التعازي التي قدمها له مسؤول فرنسي، أجاب القائد الأعلى للقوات الروسية، الدوق الأكبر نيكولاي، بلا مبالاة: “Nous sommes heureux de faire de tels sacrifices pour nos alliées” (“نحن سعداء بتقديم هذه التضحيات لأجل حلفائنا”). وبحلول نهاية 1914، كانت الخسائر الروسية قد بلغت حوالي 1,8 مليون قتيل.
كان لكل هذا تأثير تدريجي على سيكولوجية الجنود ومعنوياتهم، بنفس الشكل الذي تحطم به قطرات الماء أكثر الصخور صلابة. ومثلما كانت الطبقة العاملة الروسية بشكل عام متخلصة من النزعة الوطنية، فإن جماهير الفلاحين بالزي العسكري كانوا غير متحمسين لحرب لم يفهموها ولم يتمكنوا من التماهي معها. وسرعان ما وصلت طاعة الموجيك الروسي إلى حدودها القصوى بسبب أشهُـر وسنوات من المشقة والمعاناة والموت. يؤكد أورلاندو فيجيس أن: “الجنود الروس كانوا في أغلبهم متخلصين من النزعة الوطنية”. ولتأكيد هذه النقطة يقتبس العديد من الأمثلة المفيدة:
«خلال الأسابيع الأولى من الحرب، سمع عامل مزرعة من سمولينسك، خدم في الحاميات الخلفية، جنودا فلاحين يقولون:
“أي شيطان جلب علينا هذه الحرب؟ نحن نتدخل في شؤون الآخرين”.
“كنا نقول فيما بيننا إنه إذا كان الألمان يريدون الدفع، فسيكون من الأفضل لو يؤدوا عشرة روبلات للرأس بدلا من قتل الناس”.
“أليس القياصرة متشابهون؟ لا يمكن أن يكون الأمر أسوء في ظل [القيصر] الألماني”.
“فليذهبوا ويقاتلوا بأنفسهم. سيأتي الوقت الذي سنقوم فيه بتصفية الحسابات معكم”.
ومع استمرار الحرب أصبحت هذه المواقف أكثر شيوعا في صفوف القوات، كما اشتكى من ذلك بروسيلوف: “ليست للقيادة في روسيا أدنى فكرة عن كيف يرى الجنود الحرب. كثيرا ما أسأل رجالي في الخنادق لماذا نحن في حالة حرب؛ فيكون الجواب دائما هو أن أحد الأرشيدوقات وزوجته تعرضوا للقتل، وعندها قرر النمساويون إذلال الصرب. عمليا لم يكن أحد يعرف من هم هؤلاء الصربيون؛ وقد كانوا متشككين بنفس القدر فيما يتعلق بمن هم السلافيون. لماذا تريد ألمانيا شن الحرب علينا بسبب هؤلاء الصرب، لا يمكن لأحد أن يجيب… لم يسمعوا أبدا بطموحات ألمانيا؛ بل لم يكونوا يعرفون حتى بوجود مثل هذا البلد”».
إن الجيش يعكس دائما المجتمع الذي يتشكل منه. إن الانقسامات الطبقية داخل الجيش القيصري، والنظام العسكري القاسي، والفساد وعدم الكفاءة، واللامبالاة القاسية للضباط تجاه معاناة وقتلى جنودهم، صارت واضحة حتى للجندي الفلاح الجاهل سياسيا. بل حتى قادة الحلفاء أنفسهم صدموا بحجم الفساد المستشري في هيئة الأركان العامة الروسية، التي كانت مجرد صورة طبق الأصل لفساد نظام القيصر وراسبوتين. إن القائد الأعلى نفسه، الدوق الأكبر نيكولاي، لم يشارك أبدا في أي قتال ولم يكن أكثر من صورة، كما يكتب فيجيس: «لم يكن لرئيس أركانه، الجنرال يانوشكوفيتش، أي ميزة سوى أن القيصر منَّ عليه بالمنصب بعد أن اكتشفه عندما كان حارسا شابا في القصر. لم يسبق له أن قاد ولو حتى كتيبة. وقد قال عنه الملحق العسكري البريطاني في ستافكا، العقيد نوكس، إنه كان يعطي “الانطباع بأنه خادم بلاط أكثر من كونه جنديا”». كان العفن منتشرا من أعلى إلى أسفل. «لقد ارتكب الجنرالات الأرستقراطيون أخطاء لا حصر لها (حتى أن أحدهم كان يمتاز بإصدار أوامر لمدفعيته بإطلاق النار على خنادق مشاته)».
وينعكس المزاج الثوري بين الجنود في تصريحاتهم، حيث كتب أحد الجنود الفلاحين لصحيفة محلية في الوطن: «انظر إلى الطريقة التي يعيش بها ضباطنا الكبار، أصحاب الأراضي الذين طالما خدمناهم. إنهم يحصلون على طعام جيد وتحصل عائلاتهم على كل ما تحتاج إليه، وعلى الرغم من أنهم قد يعيشون في الجبهة، فإنهم لا يعيشون في الخنادق حيث نعيش نحن، بل على بعد أربعة أو خمسة فيرستات».[59]
سوف تُظهر أي دراسة عن تمرد الجيش أن قادة التمرد هم في الغالب ضباط الصف. لأنه عادة ما يتم اختيار هؤلاء “القادة الطبيعيين للرجال” من بين أكثر فئات الجنود حيوية وذكاء. وبسبب مسؤوليتهم عن معظم العمليات اليومية التي يقوم بها الجيش، تجدهم في كثير من الأحيان يعادون ويزدرون أصحاب الرتب العليا. كان ستون في المائة من ضباط الصف في الجيش القيصري من أصول فلاحية، معظمهم في أوائل العشرينات من العمر ولم يتلقوا سوى القليل من التعليم. لكن، كما يشير فيجيس: «كانت الحرب… أداة عظيمة للدَّمَقْرَطة، إذ فتحت قنوات الترقي للملايين من أبناء الفلاحين. كانوا متعاطفين بقوة مع الجنود العاديين، ولم يكن هناك أي أمل في أن يشكلوا جسرا بين الضباط النبلاء وبين الجنود العاديين. كان هذا القطاع العسكري الراديكالي -المتعلم والنشط والمرتبك اجتماعيا والذي صلبته الحرب- هو الذي سيقود تمرد فبراير، ولجان الجنود الثوريين، ويدعم أخيرا قيام السلطة السوفياتية عام 1917. كان العديد من أفضل قادة الجيش الأحمر (على سبيل المثال: تشاباييف وجوكوف وروكوسوفسكي) ضباط صف في الجيش القيصري، مثلما كان جنرالات جيش نابليون قد بدأوا حياتهم جنودا في جيش الملك».
كتب أحد ضباط الجيش القيصري، الفلاح ديمتري أوسكين، الذي أصبح فيما بعد عضوا في الحزب الاشتراكي الثوري، في مذكراته في أبريل 1915: «ماذا نفعل في هذه الحرب؟ لقد مر عدة مئات من الرجال من خلال فصيلتي وحدها وانتهى نصفهم على الأقل إما قتلى أو جرحى في ميادين المعركة. ما الذي سيحصلون عليه في نهاية الحرب؟… لقد منعتني سنة ونصف من الخدمة العسكرية، مع ما يقرب من عام في الجبهة، من التفكير في هذا الأمر، لأن مهمة قائد الفصيلة تتطلب انضباطا صارما، وهذا يعني، قبل كل شيء، عدم السماح للجندي بالتفكير بحرية. لكن هذه هي الأشياء التي يجب أن نفكر فيها»[60].
هذه هي العناصر التي يتم بها صنع الثورات.
من ماي إلى شتنبر 1915، وجه الألمان سلسلة من الضربات الساحقة ضد القوات القيصرية. لقد تم طرد الروس لمسافة 300 ميل، وتخلوا عن مساحة من الأرض أكبر من مساحة فرنسا. كان ثلاثة أرباع مليون جندي روسي في معسكرات أسرى الحرب، وأصبح عشرة ملايين شخص لاجئين. وبلغت خسائر الجيش من القتلى والجرحى والمفقودين ما بين 7,2 و8,5 مليون شخص، أي ما بين 45% و53% من مجموع القوى التي تمت تعبئتها. كما استسلم مليون شخص للقوات الألمانية والنمساوية خلال مرحلة التراجع الكبير. “لم يعد الجيش يتراجع بل كان يهرب بكل بساطة”، هذا ما قاله بوليفانوف، وزير الحرب. «ثقة الجيش في قوته تحطمت بالكامل… لقد فقد قيادته بالكامل. وتسببت الأوامر المتناقضة، التي كانت تتردد هنا وهناك، والتغييرات المتوالية لضباط القيادة، والارتباك العام، في تحطيم أعصاب حتى أكثر الرجال شجاعة… لم يعد ارتباك قيادة الأركان سرا وهو ما زاد في إحباط الجيش».
وفي نهاية شهر يوليوز، أبلغ وزير الزراعة، كريفوشين، مجلس الوزراء أن: «الناس الجياع والمعدمين ينشرون الذعر في كل مكان، ويطفئون كل آثار الحماس الذي كان خلال الأشهر الأولى من الحرب. يتحرك [اللاجئون] في كتلة صلبة، وهم يسحقون الحقول، ويدمرون المروج والغابات… خطوط السكك الحديدية مزدحمة؛ وحتى تحركات القطارات العسكرية وشحنات المواد الغذائية سوف تصبح مستحيلة قريباً. لا أدري ما الذي يجري في المناطق التي تقع في أيدي العدو، لكنني أعرف أنه ليس فقط خطوط جيشنا القريبة، بل حتى تلك البعيدة أيضا، مدمرة… إنه من صميم اختصاصي، كعضو في مجلس الوزراء، أن أعلن أن ثاني أكبر هجرة للشعوب، والتي تسببت فيها هيئة الأركان العامة، ستدفع روسيا إلى الهاوية، وإلى الثورة والدمار»[61].
البلاشفة في القوات المسلحة
كانت إمكانيات القيام بعمل ثوري داخل صفوف القوات المسلحة محدودة أكثر من أي مكان آخر بطبيعة الحال، وذلك على الرغم من أن الوضع بدأ يتغير بعد 1915. لم تكن سياسة الحزب تقوم أبدا على رفض الانضمام إلى الجيش أو القتال، بل كان الموقف هو الذهاب مع بقية أبناء طبقة العمال والفلاحين والقيام بالعمل الثوري بينهم في الثكنات والخنادق. إلا أن التكوين الطبقي للجيش الروسي، الذي كان يتشكل في أغلبيته الساحقة من أبناء الفلاحين، خلق في البداية ظروفا غير مواتية للنشاط الثوري. قام البلاشفة بعملهم داخل القوات المسلحة، خاصة بين البحارة، حيث أن سلاح البحرية كان مشكلا من أبناء الطبقة العاملة. وكانت المراحل الأخيرة من الحرب قد شهدت تصاعد نوع من التجذر والغليان في الأسطول الحربي. تسبب سوء التغذية والظروف السيئة والعمل القاسي في اندلاع تمرد بين البحارة في أكتوبر 1915 تم إخماده بوحشية. تشبه السفن الحربية مصانع عائمة وكانت طواقمها تضم عددا لا بأس به من العمال المهرة -المهندسين والوقادة[62] والكهربائيين وما إلى ذلك- الذين تم استقطابهم من المصانع نفسها. كان العديد من هؤلاء البحارة قد شاركوا في الحركات الثورية قبل الحرب وكانوا من البلاشفة، أو على الأقل كانوا قد تأثروا بالدعاية البلشفية. ففي أسطول بحر البلطيق، كانت لكل سفينة كبيرة مجموعتها من الاشتراكيين الديمقراطيين. لم يكن من قبيل المصادفة أن البحارة لعبوا دورا رئيسيا في ثورة عام 1917، أو في أن الغالبية العظمى منهم دعموا البلاشفة.
من بين الناشطين في أسطول البلطيق كان هناك ف. ف. إ. إيان -المعروف في التاريخ باسم راسكولنيكوف- والذي لعب دورا مهما في الثورة. سيرة حياته السياسية نموذجية إلى حد كبير، فقد ولد لعائلة فقيرة، اكتشف أفكار ماركس وإنجلز في سن المراهقة، وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي في عام 1910 أثناء دراسته في معهد سان بيترسبورغ للعلوم التطبيقية، حيث كان فياتشيسلاف مولوتوف أحد رفاقه في المنظمة الطلابية البلشفية. عندما صدرت برافدا في عام 1912، كان راسكولنيكوف أحد أعضاء هيئة التحرير، حيث عمل سكرتيرا لها. بعد ذلك ألقي عليه القبض وحُكم بالنفي لثلاث سنوات في ولاية أرخانجيلسك الشمالية. وبفضل طلب الاستعطاف الذي قدمته والدته الأرملة، تم تخفيض الحكم عليه إلى النفي من روسيا. عندها حاول السفر إلى باريس حيث كان يأمل في مواصلة عمله الثوري مع البلاشفة، لكنه اعتقل في ألمانيا بتهمة الجاسوسية وأعيد إلى روسيا. وفي عام 1913 تم العفو عنه وعاد إلى بيترسبورغ حيث واصل العمل في برافدا حتى اندلاع الحرب، فانضم إلى البحرية كتلميذ عسكري. كانت تلك هي الصفة التي وجد راسكولنيكوف نفسه عليها عندما اندلعت ثورة فبراير. وقد كان هناك العديد من أمثاله في الأسطول القيصري.
من المستحيل أن نعرف كم كان بالضبط عدد البلاشفة الذين كانوا ناشطين في صفوف الجيش، وذلك لأسباب واضحة. كان ذلك العمل سريا للغاية. يزعم المؤرخون الخروتشوفيون (في كتاب Istoriya) أنه كانت هناك أكثر من 80 خلية حزبية في أسطول البلطيق، و30 أو أكثر على الجبهة الغربية. هذه مبالغة بالتأكيد. لكن وجود بلاشفة ناشطين داخل صفوف الجيش، وخاصة في الأسطول، واقع لا يمكن إنكاره. لا يمكن الاستخفاف بأهمية الدور الذي لعبه هؤلاء المحرضون الجنود البحارة البلاشفة، لكن الأرقام الواردة في Istoriya، والتي وصفت بأنها “تقريبية”، بدون تقديم أي مصدر لها، يجب أن تعامل بحذر. كان الوضع الفعلي أكثر تعقيدا من هذا بلا شك. يوضح ألكساندر شليابنيكوف، الذي لعب دورا قياديا في الحزب البلشفي في روسيا خلال الحرب، أنه بينما كان هناك بالفعل العديد من البلاشفة ومنظمات الحزب داخل الأسطول، فإن صلاتهم بقيادة الحزب كانت، في أحسن الأحوال، ضعيفة. في ظل ظروف الحرب القاسية عملت لجان البحارة الحزبية كهيئات مستقلة، على الرغم من أن أنشطتها أثارت قلق السلطات التي بذلت أقصى المجهودات للقضاء عليها من خلال الاعتقالات والقمع.
إن القوة المتزايدة للتيار الثوري بين البحارة، وخاصة في أسطول بحر البلطيق، ظهرت بشكل غير مباشر من خلال موجة اعتقالات البحارة التي وقعت في بيترسبورغ وكرونشتاد وهلسنكي، بالتزامن مع موجة الإضرابات التي شهدتها بيترسبورغ أوائل عام 1916. عُقدت محاكمة كبرى لـ“المنظمة العسكرية للجنة بيترسبورغ للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي”. ويصف ملف الاتهام الضخم الذي أعدته الأوخرانا، الذي يضم 50 صفحة، أعمال الاشتراكيين الديمقراطيين في البحرية بتفصيل كبير. تقول تقارير الشرطة السرية، التي كان عملاؤها يراقبون عن كثب جميع الأنشطة الثورية داخل القوات المسلحة، ما يلي: «منذ خريف عام 1915، بدأت تقارير تصل إلى مقر الدرك بكرونشتاد بأن هناك زيادة ملحوظة في نشاط المنظمات الثورية، ذات الميول الاشتراكية الديمقراطية، بين أطقم سفن أسطول البلطيق. يسعى هؤلاء إلى وضع أكبر عدد ممكن من مؤيديهم داخل الأسطول لكي يقوموا بتدريب أطقم السفن على القيام بمجموعة من التحركات حول عدد من المطالب عندما تنتهي الحرب. إن النشاط المذكور أعلاه، ورغم أنه لم ينجح في تنظيم دعاية منهجية، قد كان له، كما أثبتت الأحداث، تأثير قوي على مزاج الطاقم المتحمس، وهذا ما أسفر في النهاية عن اندلاع اضطرابات كبيرة على سفينة هانغوت الحربية، في 19 أكتوبر 1915، والتي مثل المشاركون فيها أمام محكمة البحرية العسكرية، في 17 دجنبر من نفس العام، وحكم على 26 بحارا منهم بالعقوبات الملائمة. كما اندلعت اضطرابات مماثلة على متن الطراد ريوريك.
وقد أكد المشاركون وجود نشاط الدعاية وكذلك أكدته الاضطرابات التي اندلعت على السفن الأخرى، والتي نشأت عن استياء الطاقم من سوء التغذية ومن حمل الضباط لأسماء ألمانية. كما تلقت إدارة الأمن في بيترسبورغ تقارير مماثلة لهذه، حول ظهور منظمة عسكرية للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي بين أطقم سفن الأسطول البلطيقي وبين العاملين على الشاطئ.
تقول هذه التقارير إنه قد تم تشكيل حلقات اشتراكية ديمقراطية على متن كل السفن الحربية، وعين أفرادها البارزون في لجنة قيادة عامة. ومن خلال ترتيب هذه الأخيرة للتجمعات على الشاطئ في محلات بيع الشاي والمطاعم، وجهت طاقاتها بشكل رئيسي نحو شرح الأحداث الجارية للبحارة بشكل يؤدي إلى خلق مناخ من الاستياء بينهم».
وبتلك الفكاهة غير الواعية التي تميز تصريحات الشرطة حول المسائل السياسية، يستمر التقرير بلهجته البيروقراطية قائلا: «يبدو أن هذا النهج قد نجح في كسب بعض التأثير على البحارة، مما خلق بينهم مزاجا من الاضطراب الشديد بدون سبب معروف». يالحكمة هؤلاء البيروقراطيين! لقد واجه البحارة في أسطول بحر البلطيق ظروفا شنيعة، وطعاما سيئا، وضباطا مستبدين، وحربا دموية ورجعية، ومع ذلك لم يكن في مقدور رؤوس البوليس الصلبة أن تفهم السبب وراء “مزاجهم المضطرب” سوى “النشاط الخبيث” للمحرِّضين. نفس “السبب الخبيث” يكمن وراء كل إضراب وكل مظهر من مظاهر السخط الاجتماعي، لأنه من المفترض أن يكون العمال سعداء بالعمل لساعات طويلة في ظروف سيئة للحصول على أجور منخفضة، في سبيل الله وفي سبيل النظام الرأسمالي!
وبعد أن يقوم التقرير بهذا الاكتشاف العميق للقانون الذي يفسر كل شيء، من وجهة نظر البوليس، ينتقل إلى مناقضة نفسه قائلا: «على الرغم من أن الحلقات على السفن قد نشأت بشكل مستقل وبدون تأثير من المجموعة التي تعمل في بيترسبورغ، والتي تسمي نفسها لجنة بيترسبورغ للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، فإن اللجنة القيادية في المنظمة البحرية قد سعت منذ تأسيسها إلى إيجاد فرص لتوحيد جهودها مع “لجنة بتروغراد”، وهو ما تحقق في الواقع من خلال عمل أحد القادة النشطين في الحركة العمالية، وهو الفلاح إيفان فيدوروفيتش أورلوف، الذي كان ممثلا لمنطقة فيبورغ في لجنة بتروغراد»[63].
يصف هذا التقرير بدقة، إلى حد ما، وإن عن غير قصد، العلاقة الحقيقية التي كانت بين الحزب البلشفي وبين الحركة الثورية المتنامية. كان سبب “المزاج المضطرب للغاية” بين البحارة هو الظروف الموضوعية التي لم يخلقها الثوار، بل خلقها النظام القيصري والحرب الإمبريالية، والتي كانت بدورها نتاج التناقضات العميقة للرأسمالية العالمية. وفي مرحلة معينة وجد ذلك الشعور المتزايد من السخط السائد بين الجماهير تعبيرا واعيا عنه بفضل أقلية كانت قد راكمت بعض الخبرة السياسية قبل الحرب، والتي استطاعت أن تحول التطلعات اللاواعية للأغلبية إلى شعارات. وبشكل حتمي يسعى ذلك المزاج إلى التعبير عن نفسه بشكل منظم، وهو ما وجده في النهاية في المنظمات السرية التي أنشأها البحارة الثوريون، الذين حاولوا، بدورهم، إقامة اتصالات مع الحزب، الذي كان هو المرجع الوحيد لديهم. عند هذه النقطة فقط تحصل الأوخرانا على المعلومات التي تقنعهم بوجود مؤامرة كبرى وشريرة لبعض المنظمات الثورية التي تتمكن، بطريقة سحرية، من أن تحول بحارة مخلصين يخافون الله إلى أشخاص متمردين “دون سبب معروف”.
وجد صعود الحركة العمالية في سان بيترسبورغ صدى له في أسطول بحر البلطيق. بحلول خريف 1915، ظهر أن هناك منظمة اشتراكية ديمقراطية قوية إلى حد ما، مع لجان تشمل جميع السفن الحربية الكبرى وشركات الشاطئ في كرونشتاد وهلسنغفورز وبيترسبورغ، وغيرها من النقاط الأخرى على ساحل بحر البلطيق، والتي كانت كلها مرتبطة بـ“لجنة منظمة كرونشتاد العسكرية”. في 19 أكتوبر، انفجر الغضب من الطعام السيء والنظام القاسي، على شكل احتجاج على متن السفينة الحربية هانغوت. اعتَقل البحارة بعض الضباط واتصلوا بالسفن الأخرى طلبا للمساعدة. هذا النوع من الغضب غير المنظم هو بالضبط ما كان البلاشفة يحاولون منع وقوعه. سرعان ما عزلت السلطات تلك الحركة وأخمدتها بعمليات قمع انتقامية وحشية. تمت محاكمة 26 شخصا وتم حل المجموعة بأكملها ونقلها إلى الخدمة في الساحل. في المحاكمة، التي جرت في دجنبر 1915، تم الحكم على رجلين بالإعدام وعلى 14 آخرين بالأشغال الشاقة. لكن تلك الأحكام لم تستطع إطفاء شعلة التمرد، حيث اندلعت احتجاجات أخرى، مما أثار قلقا متزايدا عند السلطات. نجد في تقرير للشرطة ما يلي: «توجد على متن كل سفينة خلايا اشتراكية ديمقراطية تنتخب لجانها الخاصة، ولكل لجنة ممثلها في اللجنة القيادية. لقد نشأت الخلايا المذكورة أعلاه بشكل مستقل تماما، نظرا لوجود تربة مواتية، بسبب ارتفاع درجة التأهيل بين المجندين ووجود أفراد منهم كانوا، قبل الدخول إلى الخدمة العسكرية، قد صاروا ماهرين في العمل السري».
يوضح التقرير كيف كان الاشتراكيون الديمقراطيون يقومون بالتحريض والدعاية في المقاصف والمقاهي، حيث يوضحون الأحداث الجارية للبحارة ويستخلصون استنتاجات ثورية، ويضيف: «إن القادة الأيديولوجيين للعمل السري داخل السفن الحربية حاولوا بكل الطرق كبح البحارة عن الاضطرابات المتقطعة، من أجل خلق موقف يمكن فيه القيام بتحرك عام يأخذ في الاعتبار ضرورة وجود حركة نشطة من جانب الطبقة العاملة، قادر على إحداث تأثير حاسم يؤدي إلى تغيير النظام السياسي…»[64].
على الرغم من عنصر المبالغة الذي يميز هذا التقرير، فإن هذه الشهادة، من جانب عملاء النظام المخلصين، تتضمن بعض الصدق في بعض الجوانب على الأقل.
لكن على الرغم من استحالة التحديد الدقيق لطبيعة ومدى النشاط الثوري الذي كان في صفوف القوات المسلحة في وقت الحرب، فإنه لا يمكن الشك في أنه مع مرور الوقت وتدهور الظروف، بدأ مزاج الجنود في التغير وأصبح أكثر انفتاحا على الأفكار الثورية، وبدأوا يتطلعون نحو الاشتراكيين الديمقراطيين، وخاصة الجناح الأكثر جذرية، أي البلاشفة. وقد قام تروتسكي بوصف هذه السيرورة بشكل جيد في تاريخه، حيث قال: «إن العناصر الثورية، التي كانت مبعثرة في البداية، غرقت في الجيش دون أي أثر تقريبا، لكنها مع نمو الاستياء العام تمكنت من الارتفاع إلى السطح. لقد أدى إرسال العمال المضربين إلى الجبهة كعقوبة لهم، إلى زيادة عدد المحرضين وأعطتهم الهزيمة جمهورا متجاوبا. جاء في تقرير لعميل سري: “إن الجيش، وخاصة في الجبهة، مليء بالعناصر التي يمكن لبعضها أن يصبح قوة فاعلة في التمرد، وبعضها الآخر قد يرفض المشاركة في حملات عقابية”. وأعلنت إدارة مقاطعة بتروغراد، في أكتوبر 1916، استنادا إلى تقرير قدمه ممثل اتحاد الأرض، أن “الحالة المزاجية داخل الجيش مقلقة، والعلاقات بين الضباط والجنود متوترة للغاية، بل وتحدث حتى المواجهات الدموية. كان الفارون من الجبهة بالآلاف في كل مكان. وكل من يقترب من الجيش يحمل انطباعا كاملا وأكيدا عن التفكك الأخلاقي التام للقوات”»[65].
الليبراليون يبدأون في التحرك
تسببت الكارثة العسكرية في إخراج الليبراليين من حالة الجمود. وبفعل الضغط المتزايد وافق القيصر أخيرا على استدعاء مجلس الدوما، في 19 يوليوز 1915. كانت تلك فرصتهم لنزع مقاليد السلطة من قبضة الزمرة الحاكمة المهزوزة دون ثورة! كان النظام ممزقا بالانشقاقات. تشكلت “الكتلة التقدمية” في أواخر الصيف، عندما كانت روسيا في خضم أزمة عميقة. وقد جمعت بين القوميين المعتدلين والأكتوبريين والكاديت، وكانت لها أغلبية واضحة في مجلس الدوما: 241 مقعدا من إجمالي 407. قال سولغين، وهو نائب قومي، عن هذا الوضع: «نحن القوميون صرنا، منذ 1915، كاديت تقريبا، لأن الكاديت صاروا قوميين تقريبا». لكنهم لم يحصلوا في مجلس الشيوخ، الأكثر محافظة، إلا على 89 صوتا من إجمالي 196 صوتا. وقد أعلن أول بيان للكتلة أنه: «لا يمكن أن يقود الوطن الأم إلى النصر إلا سلطة قوية وحازمة ونشيطة».
المناشفة والترودوفيك -رغم أنهم كانوا رسميا خارج الكتلة- دعموا الليبراليين البرجوازيين. ومرة أخرى حاول تشخيدزه دفع البرجوازية لتولي السلطة بتهديدها بالجماهير. أما النظام القيصري الأوتوقراطي، الذي كان قد قدم بعض التنازلات للبرجوازيين (بإعادة تشكيل بعض الوزارات وتغيير عدد قليل من الجنرالات)، فإنه عاد وتراجع مرة أخرى. لكن كل مناورات القصر هذه، ولعبة تبادل الكراسي المرتبطة بها، لم تعد ذات معنى. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه بينما كان كل هذا يحدث، كان القيصر قد دخل، رغما عن إرادة البرجوازية، في اتصالات سرية مع برلين بهدف إبرام سلام أحادي مع ألمانيا. لم يكن هذا صدفة، فقد كان الوضع يزداد خطورة: الأزمة والانقسامات في القمة، والهزائم العسكرية في الجبهة، والإضرابات والمظاهرات والمعارضة البرجوازية في الداخل. حتى نيكولا الغبي صار قادرا على أن يفهم أن الأرض بدأت تهتز تحت قدميه. لم تكن لدى القيصر أي نية في “تقاسم السلطة” مع الليبراليين البرجوازيين، الذين كانوا في ذلك الوقت قد بدأوا يفكرون في إحداث انقلاب داخل القصر لوضع شقيق نيكولا، ميخائيل، على العرش. لكن هذه الخطة، مثلها مثل كل مخططات اللبراليين الأخرى، لم تصل إلى أي نتيجة.
إن البرجوازية، التي كانت تسعى جاهدة للحصول على مكان تحت الشمس وانتزاع الحكم من يد النظام الاستبدادي الفاسد والمفلس، عاشت في خوف من الثورة واستمرت تنظر بقلق إلى “تحركات الغوغاء”. اقتبس ليونيل كوشان بعض تعليقات مدير إدارة الشرطة حول أن موجة الإضرابات تسببت في بث الرعب في الكاديت. ولما كانت الحكومة تدرك تماما عجز الليبراليين، فقد عاملتهم باحتقار واضح ومستحق. أخبر وزير الشؤون الخارجية، سازونوف، زملائه الوزراء بازدراء أنه إذا تم عرض بعض الفتات على الكاديت فسيسارعون فورا إلى التوصل إلى اتفاق مع الحكومة. وأضاف: «ميليوكوف هو أكبر برجوازي على الإطلاق ويخشى حدوث ثورة اجتماعية أكثر من أي شيء آخر. كما أن غالبية الكاديت يرتجفون خوفا من ضياع استثماراتهم». كان على سازونوف أن يخاف بدوره على استثماراته…
«حدد شولجين هدف الكتلة بعبارات واضحة، حيث قال إنها: “محاولة تهدئة الجماهير”».
شرح ف. أ. ملاكوف بشكل بارع معضلة الكاديت -التي هي وعيهم بضرورة التحرك، مع خوفهم من التحرك- في مقال له بعنوان: “الموقف المأساوي”. حيث قارن روسيا بسيارة عهد بها إلى سائق عاجز إلى درجة أنه سيودي بالسيارة إلى كارثة حتمية، بينما الركاب القادرين على القيادة لا يجرؤن على ذلك. لا يمكن ترك السيارة بدون سائق ولو لثانية واحدة وإلا فإنها ستسقط في الهاوية. السائق يعرف ذلك لكنه يكتفي باستعمال المنبه وسعيد بعجز الركاب.
«وهكذا فإن الكتلة التي ترتجف خوفا، تعترف في السر بخلافاتها مع القيصر، وتقضي وقتها في مناقشات لا تؤدي إلى اتخاذ أي إجراء. ومثلها مثل أوبلوموف، تستمر في النقاش، حول اليأس المتزايد في البلاد والخوف من الثورة والحاجة إلى 11 مارس أخرى وأزمة السكك الحديدية وأزمة الوقود… وبالعودة إلى الوراء يتذكر ميليوكوف أن خريف عام 1915 كان “اللحظة بالضبط” التي صارت الثورة فيها حتمية»[66].
طرح الجناح اليساري للكاديت وكيرنسكي اقتراح تشكيل حكومة برلمانية مسؤولة أمام مجلس الدوما. دعم المناشفة هذا الاقتراح، لكن ميليوكوف، زعيم الكاديت والقيادي البارز داخل الكتلة، لم يوافق على ذلك. تراجع الكاديت إلى الوراء لصياغة مقترحات تكون مقبولة لدى القيصر. لكن كل تلك التنازلات كانت بدون جدوى. كان لزوجة القيصر وعصابة راسبوتين تأثير على نيكولا أكبر بكثير من تأثير “المعتدلين”. قالت الملكة لزوجها الضعيف: “أظهر قبضتك، أنت الحاكم المطلق وعليهم ألا يجرؤوا على نسيان هذا”[67]. وقد تصرف نيكولا وفقا لذلك. ففي 03 شتنبر أمر بحل مجلس الدوما حتى نوفمبر، وبدأ في طرد الوزراء الذين رأى أنهم غير جديرين بالثقة. وفي بداية أكتوبر استبدل وزير الداخلية بالوكالة، شرباتوف، وعوضه بالرجعي اليكسي ن. خفوستوف. عن ذلك كتب كيرنسكي بمرارة قائلا: «وهكذا قامت الملكة، التي تشارك القيصر في الحكم، بإشعار الأمة بأكملها بأنه لن يكون هناك مزيد من التردد في الدفاع عن مبادئ النظام الاستبدادي الروسي العريقة. لقد تم سحق كل آمال التوصل إلى اتفاق مع التاج، وهو الأمر الذي أدركه قادة الكتلة التقدمية الآن. ماذا عليهم أن يفعلوا الآن؟»[68].
ماذا يمكنهم أن يفعلوا؟ كانت الطريقة الوحيدة لإسقاط النظام هي تعبئة الجماهير لشن هجوم مباشر. لكن مجرد التفكير في ذلك كان يصيب هؤلاء السادة بالرعب. رد العمال على حل مجلس الدوما بإضراب عام احتجاجي. لكن شعارهم لم يكن “إعادة الدوما”، بل “فلتسقط الحكومة”. كان من المفترض أن يستمر الإضراب لمدة ثلاثة أيام، لكن عندما أصدر الجنرال فرولوف أمرا بمثول المضربين أمام المحكمة العسكرية وغيرها من الإجراءات، قررت لجنة بيترسبورغ تمديد الإضراب ليوم واحد إضافي لإثبات أن العمال لم ينهوا الإضراب امتثالا لأوامر الجنرال. عارض التصفويون ذلك وعاد مؤيدوهم إلى العمل؛ بينما عاد العمال البلاشفة إلى العمل بعد مرور يوم آخر، كما تقرر. وإجمالا فقد أضرب 150 ألف شخص في بيترسبورغ، و25 ألف شخص في نيجني نوفغورود (حيث أضربوا ليوم واحد فقط)؛ كانت هناك إضرابات كبيرة أيضا في موسكو وخاركوف وإيكاتيرينوسلاف. وقد أفادت صحيفة سوتسيال ديموكرات أنه «بعد هذه الإضرابات انخرط الليبراليون في حملة “تهدئة”، لكن العمال لم يكونوا مستعدين لأي تهدئة على الإطلاق. فقد أدى القمع الذي مورس ضدهم والارتفاع المذهل للتضخم، وما إلى ذلك، إلى اشتداد المزاج الثوري بينهم»[69].
لقد كان ذلك الإضراب بمثابة إشعار بأن البروليتاريا قد تعافت من النكسات السابقة وعادت إلى التحرك مجددا. ملأ هذا الاحتمال نفوس الليبراليين بالفزع. إذ من الأفضل لهم أن يعيشوا الإذلال تحت الحكم الاستبدادي من أن تندلع ثورة شبيهة بما حدث سنة 1905! كان خوف اللبراليين من الجماهير يعني أنه لن يكون هناك أي رد من جانبهم على هجمات القيصر. أرسل اللبراليون وفدا، بزعامة الأمير لفوف، ليلتمس من القيصر “وضع عبء السلطة الثقيل على أكتاف أناس تعززت قوتهم بثقة الأمة فيهم”. لكن نيكولا رفض استقبالهم. وبدلا من ذلك تم استدعائهم إلى وزارة الداخلية حيث قيل لهم إن “تدخلهم في سياسة الدولة” وقاحة.
حل مجلس الدوما فضح بقسوة عجز الليبراليين. وسيطر نظام رومانوف – راسبوتين على السلطة بقوة. بينما صار الليبراليون يائسين. قال أحد قادة الكاديت لزملائه، في خريف عام 1916: «أخاف من أن سياسة الحكومة ستؤدي إلى وضع سيصير فيه مجلس الدوما عاجزا عن فعل أي شيء لتهدئة الجماهير».
عندما أعيد فتح مجلس الدوما، في 01 نوفمبر، كان في مقدور حتى المعتدل ميليوكوف أن يفهم أخيرا أن وقت التعاون مع الحكومة قد بدأ ينفذ. وقد شن في كلمته الافتتاحية أمام مجلس الدوما هجوما على مختلف أشكال شطط الحكومة في استعمال السلطة، وفي النهاية طرح السؤال التالي: “هل هذه حماقة أم خيانة؟”. لم تكن لدى مليوكوف، بالطبع، أية نية في إثارة الثورة، بل كان يريد فقط تخويف النظام الاستبدادي لكي يعمل على تقديم تنازلات من أجل إنقاذ نفسه. لكن في تلك الأجواء المشحونة، كان لكلماته تأثير مختلف تماما، عكس ما كان يريده. وبما أن القانون كان يحظر نشر الخطاب، فقد تم نسخه وتوزيعه بوسائل غير قانونية. وقد استفاد العمال من محتوياته للتنديد بالنظام الاستبدادي ووزرائه وجميع ممارساته. «“لقد اكتسب خطابي سمعة التحريض على الثورة”، هذا ما قاله مليوكوف المرتبك فيما بعد. وأضاف: “لم تكن تلك نيتي. لكن المزاج السائد في البلاد كان بمثابة مكبر الصوت لكلماتي”»[70].
بداية المد
أشار تروتسكي ذات مرة أن النظرية هي تفوق التبصر على الدهشة. وهذا ما نجده عند لينين الذي أكدت الأحداث صحة توقعه، إذ أن الهزائم العسكرية الروسية أعطت الثورة قوة دفع عظيمة. في بداية الحرب كان لينين معزولا بشكل كامل. لم يكن العديد من رفاقه المقربين أنفسهم يشاركونه آرائه بشأن الحرب. لكن الأمور صارت مختلفة الآن. إذ أن الأحداث بدأت تثبت أخيرا أنه على حق. كانت نقطة التحول ربما في أبريل- يونيو 1915. وصارت رسائله تعكس ثقة وتفاؤلا جديدين: «لقد أكدت الأحداث في روسيا بشكل كامل موقفنا، الذي أطلق عليه حمير الاشتراكية الوطنية (من أليكسينسكي إلى تشخيدزه) اسم الانهزامية. لقد أثبتت الوقائع أننا على صواب!! تساعد الانتكاسات العسكرية في هـز أسس القيصرية، وتسهيل التحالف بين العمال الثوريين في روسيا وعمال البلدان الأخرى. يقول البعض: “ما الذي ستفعلونه، إذا تمكنتم أيها الثوريون من هزم النظام القيصري؟”. أجيبهم: (1) سيشعل انتصارنا لهيب حركة “اليسار” في ألمانيا مائة ضعف؛ (2) إذا هزمنا النظام القيصري بالكامل، سنقترح السلام على جميع القوى المتحاربة بشروط ديمقراطية، وإذا تم رفض ذلك سنخوض حربا ثورية»[71].
كان فساد النظام واضحا على جميع المستويات، في القضاء والجيش والاقتصاد. وكانت هناك علاقة حميمية بين الحكومة وبين شركات صناعة الأسلحة. «تلقى مصنع بوتيلوف الضخم، على سبيل المثال، طلبات قذائف بقيمة 113 مليون روبل -أي أكثر بكثير مما كان يمكنه تسليمه في الوقت المحدد- وذلك بسعر أعلى بستة أضعاف من متوسط سعر السوق. استخدم بوتيلوف تلك الأموال لدعم مشاريعه التي كانت تعاني من صعوبات، والاستمرار في أسلوب حياته الرائع، إلى أن أفلست شركته في نهاية المطاف واضطرت الدولة إلى تصفيتها في عام 1916»[72]. لذلك رد لينين بسخرية على شكاوى المسالمين الحزينة: «هل الحرب شيء “رهيب”؟ نعم، بالتأكيد. لكنها شيء مربح للغاية»[73].
لقد جلبت الحرب ارتفاع الأسعار ونقص الخبز والمضاربات والسوق السوداء. حققت الشركات المصنعة للأسلحة أرباحا هائلة. وقد أدت الظروف القاسية التي كانت تعيشها الجماهير إلى اندلاع موجة من الإضرابات. في عام 1915 كان هناك 1063 إضراب، أي 15 مرة أكثر مما كان عليه الحال خلال النصف الثاني من عام 1914 (أي الأشهر الستة الأولى من الحرب). وبلغ عدد المضربين 569.999 مضرب، أي أكثر بـ 15 مرة. أثرت الإضرابات بشكل خاص على المصانع الكبيرة. كما شهدت حركة الإضرابات صعودا متواصلا خلال الفترة الممتدة من أبريل إلى يونيو 1915. ففي هذه الأشهر الثلاثة وحدها كان هناك 440 إضرابا بمشاركة 181.600 مضرب، أي ضعف العدد الذي سجل خلال الشهور الثمانية السابقة للحرب. كان الرسم البياني المتصاعد لحركة الإضراب بمثابة تحذير للنظام بأن صبر الطبقة العاملة قد بلغ حدوده. وقد لعب عمال الغزل والنسيج في مصنع إيفانوفو فوزنيسك وكوستروما دورا رئيسيا في ذلك. إذ كانوا أول من تحرك.
وعلى الرغم من كل شيء فقد حققت تلك الإضرابات بعض الانتصارات. في يوليوز تمكن البلاشفة من عقد كونفرانس لمنظمة بتروغراد في أورانينباوم، بمشاركة 50 مندوبا يمثلون 500 عضو. كان هذا إنجازا كبيرا في ظل تلك الظروف. كان هناك أيضا كونفرانس في كييف. وتدريجيا بدأت الاتصالات بين المدن تتحسن. وفر إطلاق الشرطة النار على عمال إيفانوفو فوزنيسينك الأساس للدعوة إلى إضراب سياسي عام لعمال النسيج. بدأ هذا في 08 غشت، وانطلق في البداية بمطالب اقتصادية. في ليلة 10 غشت تم اعتقال 19 من قادة العمال، وفي اليوم الموالي شارك أكثر من 25.000 عامل من 32 مصنعا في مظاهرة احتجاجية. وعندما وصل العمال أمام السجن، للمطالبة بالإفراج عن رفاقهم المعتقلين، فتحت القوات النار عليهم، مما أسفر عن مقتل 100 شخص وإصابة 40 آخرين. وكان من بين القتلى أعضاء في الحزب البلشفي. لكن لم يكن في مقدور الرصاص أن يوقف الحركة. لقد كانت، مثل وحش هيدرا، كلما تمكن النظام من قطع أحد رؤوسه ينمو آخر في مكانه. كما اندلعت إضرابات في مناطق أخرى: في بيترسبورغ وتفير وتولا وخاركوف ونيجني نوفغورود ويكاترينوسلاف، وغيرها من المناطق. لقد أعلنت عاصفة الإضرابات عن استيقاظ البروليتاريا.
واصل منحنى الإضراب مساره التصاعدي. فمن غشت إلى أكتوبر 1915 كان هناك حسب المعطيات الرسمية، 340 إضرابا، بمشاركة 246.000 مضرب. لعب المناضلون العماليون البلاشفة دورا رئيسيا في الحركة، بعد أن تدربوا في مدرسة النضال خلال الفترة ما بين 1912 و1914. وبالتالي فإن دروس التاريخ لا تضيع سدى. فعلى الرغم من الحرب وعلى الرغم من اعتقال ونفي القادة وعلى الرغم من تعطل هياكل الحزب وتقلص منظماته إلى الحد الأدنى، وعلى الرغم من كل شيء آخر، فقد بقي هناك شيء ما. كان ذلك “الشيء” هو الوعي الثوري الذي تشربته البروليتاريا من تجاربها السابقة واستمر من خلال فئاتها الأكثر نشاطا وتطورا التي كانت تقضي وقتها في العمل بصبر في انتظار أيام أفضل. والآن، بعد إحساسهم بتغير مزاج العمال، عاد هؤلاء المناضلون -وأغلبهم من البلاشفة- مرة أخرى للظهور في مقدمة الصفوف. لعب أنصار الدفاع عن الوطن دور كاسري الإضرابات مما أدى إلى تزايد الرفض ضدهم في المصانع. وقد أصدر عمال العديد من المصانع قرارات تطالب بعزل ممثليهم من لجان مصانع الحرب.
شارك في إضراب شتنبر في بتروغراد 150 ألف عامل، احتجاجا على اعتقال 30 عاملا بلشفيا من عمال مصنع بوتيلوف. كانت هناك أيضا إضرابات أخرى في موسكو وغيرها. تحركت الجماهير وتذكرت الشعارات القديمة، التي لم تعد، منذ صيف 1914 المشؤوم، تسمع في المصانع إلا بصوت خافت، فإذا بها صارت الآن على كل الشفاه مجددا. وهي تلك الشعارات التي أصبحت معروفة باسم: “حيتان لينين الثلاث”، أي: «من أجل جمهورية ديمقراطية! من أجل مصادرة كل أراضي الملاكين العقاريين! من أجل يوم عمل من ثماني ساعات!»، كما رفعوا ضد المذبحة العالمية شعار: “التضامن الأممي للطبقة العاملة العالمية!” و“لتسقط الحرب!” و“الخزي لكل المسؤولين عنها!”.
في ماي 1915، انتقلت البرجوازية إلى تشكيل “لجان الصناعة الحربية” (VPK)، وذلك جزئيا لمحاولة تحقيق بعض السيطرة على صناعات الحرب المربحة، وفي نفس الوقت تقديم أوراق اعتمادها باعتبارها المنقذ المحتمل لروسيا، على أمل الفوز بتنازلات من القيصر. وكجزء من هذا التكتيك حاولت إشراك العمال في المجهود الحربي وزيادة الإنتاج.
قال كيرنسكي: «في ماي 1915، تم عقد لقاء للتجارة والصناعة لعموم روسيا بمبادرة من كبار رجال الصناعة ورجال الأعمال في موسكو، دون إشعار مسبق للحكومة. كان الهدف الرئيسي لهذا الاجتماع هو إنشاء لجنة مركزية للصناعات الحربية وعدد من الهياكل الفرعية التابعة لها. لقد تمت تعبئة كل القطاع الصناعي من أجل إرسال الذخيرة والملابس والمعدات فورا إلى الجبهة. وأصبحت كل القوى الحية في روسيا نشطة في هذه القضية»[74].
وفي يونيو 1915، تقرر في مؤتمر لهذه اللجان تشكيل “مجموعات عمالية”. نرى هنا مرة أخرى الفرق الموجود بين البلشفية والمنشفية. لقد أعاد المناشفة مرة أخرى إحياء فكرة “مؤتمر عمالي”، محاولين العمل في ظروف “قانونية” في زمن الحرب. إن هذا الموقف يظهر، أكثر من أي شيء آخر، مدى انفصال هؤلاء القادة “الواقعيين” عن الواقع. ففي ظل ظروف الحرب لم يكن النظام القيصري مستعدا لأي تساهل مع المنظمات الحقيقية للطبقة العاملة.
لقد تبنى المناشفة والاشتراكيون الثوريون موقف المشاركة في تلك اللجان، وقالوا بديماغوجية إنها تمثل “الرقابة العمالية” ويمكن استخدامها للدفاع عن مصالح العمال ضد رأس المال. شبهوها بالسوفييتات، متناسين عن قصد حقيقة أن السوفييتات الحقيقية هي أدوات للنضال وليست نوادي للثرثرة تهدف إلى تحقيق التوفيق بين الطبقات. وفي هذا السياق قال لينين: «يجب اعتبار سوفييتات نواب العمال والمنظمات المماثلة أجهزة للانتفاضة، أجهزة للحكم الثوري. لا يمكن لهذه المنظمات أن تكون ذات قيمة دائمة إلا بارتباط مع تطور إضراب سياسي جماهيري وانتفاضة، وبدرجة التحضير لهذه الأخيرة وتطورها ونجاحها».
لقد عارض البلاشفة بشكل جذري المشاركة في تلك اللجان، والتي كانت منظمات للبرجوازية أنشئت لمساعدة المجهود الحربي الإمبريالي. لكن هذه المسألة كانت تتضمن العديد من الأسئلة التكتيكية المعقدة والتي لا يمكن اختزالها ببساطة في موقف سلبي. أوضح لينين أنه في ظل الحاجة إلى الاستفادة من كل فرصة للعمل الشرعي، سيكون من الصحيح المشاركة في الجولة الأولى من الانتخابات لتلك اللجان، وذلك فقط من أجل غرض التحريض والدعاية وبناء المنظمة، وقال: «نحن نعارض المشاركة في لجان الصناعات الحربية، التي تساعد في أعمال الحرب الإمبريالية والرجعية. لكننا نؤيد استخدام الحملة الانتخابية؛ نحن، على سبيل المثال، مع المشاركة في المرحلة الأولى من الانتخابات لغرض وحيد هو التحريض والتنظيم»[75].
دعت لجنة بتروغراد العمال إلى المشاركة بكثافة في الجولة الأولى من الانتخابات، وعقدت اجتماعات في المصانع حيث كانت تعمل على شرح موقف الحزب بشكل واضح وعلني ومحاولة انتخاب أعضائه من أجل الذهاب إلى الاجتماع على مستوى المدينة. وهناك ينبغي عليهم قراءة خطاب يدين الحرب ويدعو إلى مقاطعة لجان الصناعة الحربية. ومن أجل إجراء انتخابات لجان الصناعة الحربية، اضطر النظام بالفعل إلى السماح بعقد اجتماعات جماهيرية مفتوحة في المصانع. لكنه لم يسمح سوى للمصانع التي يزيد عددها عن 500 شخص بالمشاركة في الانتخابات. وقد شارك البلاشفة، الذين كانت قاعدتهم الرئيسية في المصانع الكبرى، بشكل نشيط فيها، كما ناضل البلاشفة والمناشفة من أجل التأثير في تلك الحملات الانتخابية، وحملوا رسائلهم المختلفة إلى الجماهير. تم انتخاب بعض المناشفة، لكن البلاشفة كانوا هم المستفيد الرئيسي. كان لينين سعيدا بالفوز الذي اعتبره مهما جدا. وبعد نجاح البلاشفة في الحملة الانتخابية، طالب البرجوازي غوزفيديف بغضب بإجراء انتخابات جديدة، وهو المطلب الذي دعمه التصفويون بكل سرور.
تميزت الجولة الثانية من الانتخابات بسيادة الإرهاب البوليسي. كانت الحكومة مصممة على عدم السماح بتكرار ما حدث واتخذت الاحتياطات اللازمة للقبض على البلاشفة البارزين. وفي ظل تلك الظروف، نظم البلاشفة -الذين كانوا في “كتلة يسارية” مع الجناح اليساري للاشتراكيين الثوريين- اجتماعات في المصانع لإدانة الخونة وأعلنوا انسحابهم. كانت هناك اجتماعات احتجاجية في عدد من المصانع. وبعد تجربة بتروغراد لم تكرر الحكومة خطأها في انتخابات موسكو، حيث نظمت غارات بوليسية ضخمة. لكن ومع ذلك فإن حملة دعاة الدفاع عن الوطن لم تكن ناجحة. فمن بين ما مجموعه 244 لجنة للصناعة الحربية، لم يتم تشكيل “مجموعات عمالية” إلا في 58 لجنة فقط، كان معظمها في مصانع صغيرة متخلفة. أما في المراكز العمالية الرئيسية فقد انتصر تكتيك المقاطعة النشطة. كتب رئيس الأوخرانا في موسكو في تقريره قائلا: «جميع مبادرات هذه المجموعة تعاني حرفيا تقريبا من التخريب بسبب الموقف العدائي تجاهها من جانب الأغلبية الساحقة من العمال المتأثرين بالبلاشفة»[76].
طيلة الحرب واجه البلاشفة داخل روسيا ظروفا صعبة للغاية. وعلى النقيض من ذلك تمتع المناشفة اليمينيون (أنصار نزعة الدفاع عن الوطن) بمكانة متميزة بسبب انتهازيتهم واستعدادهم لإخضاع مصالح العمال للبرجوازية. وعلى الرغم من أن البلاشفة كانوا يتمتعون بالدعم بين العمال الأكثر نشاطا ووعيا، فإن أنصار نزعة الدفاع عن الوطن استفادوا من وضعهم القانوني. وبالإضافة إلى امتلاكهم لممثلين عنهم في لجان الصناعة الحربية، فقد كانوا يحصلون على أموال كثيرة من أصدقائهم الليبراليين، وكانت لديهم صحف قانونية ديلو (القضية) وإيكونوميشسكو أوبوزريني (الصحيفة الاقتصادية). بل إن “مجموعة العمل” التابعة لهم كان لها مقر في أحد الشوارع الرئيسية في بيترسبورغ، حيث كان في إمكانهم الاجتماع بحرية وتلقي تقارير من مجلس الدوما من تشخيدزه وكيرنسكي. كانت تلك الاجتماعات القانونية تعرف حضورا مهما، وقد اعتاد البلاشفة على حضورها من أجل فضح سياسات أنصار نزعة الدفاع عن الوطن، الشيء الذي أدى، في مناسبة واحدة على الأقل، إلى اعتقال “الضيف” الثقيل. ومع ذلك فقد كانت السلطات القيصرية تشك فيهم، وفي النهاية، فقد طال القمع مجموعة العمل أيضا، على الرغم من نزعتها الوطنية.
إن هذه الصعوبات الموضوعية جعلت من الضروري والصحيح محاولة التوصل إلى اتفاقات عمل مع التيارات الأخرى داخل الحركة العمالية. لقد حاول البلاشفة تشكيل جبهة موحدة مع تلك الجماعات الاشتراكية الديمقراطية التي كانت تدافع عن موقف أممي. خلال الحرب شارك المكتب البلشفي في عدة مناسبات في مفاوضات مع التيارات العمالية الأخرى في بتروغراد، ولا سيما مع اللجنة المشتركة لما بين المقاطعات (Mezhraiontsy) التي، كما يقول شليابنيكوف، لم يكن يمكن تمييزها سياسيا عن البلاشفة، لكنها رغم ذلك بقيت تتمسك بعناد بموقف “غير تكتلي”، حال بينها وبين الاتحاد مع البلاشفة[77]. وبحلول دجنبر 1916، كانت هناك اتصالات وثيقة للغاية بالفعل بين البلاشفة وبين أعضاء لجنة ميزرايونتسي، الذين أقنعهم تروتسكي، في صيف عام 1917، بالانضمام إلى البلاشفة. في الواقع كان هناك دائما عدد كبير من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين -أفرادا وجماعات- الذين لم ينضموا رسميا لا إلى البلاشفة ولا إلى المناشفة. أدت الصعوبات الهائلة خلال سنوات الحرب وضعف التنظيم المركزي للحزب، إلى وضع بقيت فيه العديد من المجموعات المحلية في عزلة. وفي هذا السياق كتب شليابنيكوف: «لقد تواجدت في بيترسبرغ مجموعات كثيرة من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين لم تكن لهم أي صلة دائمة مع منظمة المدينة. وقد بقيت العديد من تلك الحلقات منغلقة ومعزولة بسبب خوفها من تسلل المخبرين»[78].
لم تكن محاولة تشكيل جبهة موحدة مقتصرة على لجنة ميزرايونتسي. فقد كانت هناك أيضا مقترحات من البلاشفة لإقامة جبهة موحدة مع المناشفة اليساريين (“مجموعة المبادرة”)، كما قدموا اقتراح اتفاقات عملية لليسار المعارض لنزعة الدفاع عن الوطن، والذي كان يمثله تشخيدزه، الزعيم اليساري لمجموعة المناشفة في مجلس الدوما، وحتى لكيرنسكي زعيم مجموعة الترودوفيك في مجلس الدوما. كان هذا الأخير قد سمى نفسه في ذلك الوقت أمميا ومؤيدا لمقررات مؤتمر زيمروالد (!). لكن هؤلاء رفضوا القطع مع الإصلاحيين اليمينيين أنصار نزعة الدفاع عن الوطن. لقد كانوا مهوسين بفكرة العمل البرلماني، وكانوا، قبل كل شيء، يخشون الانفصال عن البرجوازية الليبرالية. وفي العمق كانوا جميعهم يخشون من الحركة الجماهيرية مثلما يخشون الطاعون.
إن محاولة تأمين اتفاقات عملية أو تشكيل تكتلات عرضية من أجل أهداف محددة لا تعني على الإطلاق إخفاء الاختلافات، بل على العكس تماما. إن الشرط المسبق لتكتيك الجبهة الموحدة هو الحرية الكاملة في النقد. لقد تعامل لينين باحتقار مبرر مع الفكرة القائلة بأن الوحدة تعني خلط البرامج والرايات. وفي مقاله “هزيمة روسيا والأزمة الثورية”، الذي كتبه في نوفمبر 1915، قال: «لا يوجد ما هو أكثر صبيانية وخطورة وضررا من الفكرة السائدة حاليا بين الانتهازيين، التي تقول إنه ينبغي “نسيان” الاختلافات “لأجل” توحيد العمل المشترك على مشارف الثورة الوشيكة. إن هؤلاء الذين لم تعلمهم تجربة العقد الممتد من 1905 إلى 1914 حماقة هذه الفكرة هم أناس ميؤوس منهم من الناحية الثورية»[79].
لم تكن سياسة لينين تتمثل في اللعب بشعار الوحدة، بل النضال العلني المفتوح من أجل قيادة الطبقة العاملة.
أزمة النظام القيصري
«تندلع الثورة عندما تصل جميع تناقضات المجتمع إلى أقصى درجة الغليان. لكن ذلك يجعل الوضع غير محتمل حتى بالنسبة للطبقات السائدة في النظام القديم، أي أولئك الذين صار محكوما عليهم بالسقوط»[80].
فضحت الأحداث بقسوة ضعف النظام القيصري الروسي والفساد المستشري في أحشاءه. كانت الكارثة العسكرية وارتفاع تكاليف المعيشة والاستغلال والمضاربات وتعفن النخبة الحاكمة، قد عبرت عن نفسها في أزمة شاملة. في ماي 1916 اندلعت اضطرابات متفرقة بين المجندين في المحافظات. بدأت انتفاضات الجوع في الجنوب وانتشرت إلى قلعة كرونشتادت البحرية. وبحلول أواخر الخريف، صارت بتروغراد مرة أخرى مسرحا لاضطرابات اجتماعية عاصفة وموجة إضرابات هائلة. أدت الهزائم العسكرية وعجز الحكومة وفضائح فساد نظام راسبوتين وارتفاع الأسعار والقمع المستمر، إلى إثارة شعور حارق من الغضب والظلم في أعماق المجتمع. وبحلول عام 1916، وصلت موجة الإضراب إلى آفاق جديدة وغير مسبوقة. تم تسجيل عدد كبير من الإضرابات، بلغ 1542 إضرابا، شارك فيها ما يصل إلى 1.172.000 عامل – أي أكثر بكثير من عام 1905. لم يشهد أي بلد آخر، أثناء الحرب العالمية الأولى، مثل هذا الكم من الإضرابات. رفع العمال في البداية مطالب اقتصادية أساسا. لكن عدد الإضرابات السياسية زاد بشكل مطرد: ففي عام 1915 تم تسجيل 216 إضراب سياسي؛ و273 عام 1916. كما ازداد عدد المشاركين أيضا: ففي عام 1915 شارك 156.900؛ و310.300 في عام 1916. وبحلول خريف عام 1916، كان مزاج السخط قد بلغ أبعادا منذرة بالانفجار.
ازداد قلق النظام مع اقتراب ذكرى الأحد الدامي. تصاعدت حملة القمع والاعتقالات، خاصة ما بين دجنبر 1915 ويناير 1916. وعلى الرغم من كل الإجراءات الوقائية التي قامت بها الشرطة، فقد نظم العمال في 09 يناير 1916، وفقا للأرقام الرسمية، اجتماعات احتجاجية جماهيرية في 55 مصنعا في بتروغراد وحدها. كانت هناك إضرابات في موسكو وخاركوف وريفيل وتفير وإيكاتيرينوسلاف. وقد استلم عمال قطاع الصلب -الذين يشكلون الكتائب الرئيسية للبروليتاريا- مشعل قيادة الإضرابات من عمال النسيج. كان أكثر ما ينذر النظام بالخطر هو بداية التآخي بين الجنود في الجبهة. بدأت أخبار تمرد الجيش تصل إلى السلطات من خاركوف واليونان وفرنسا. وكان الفلاحون قد بدأوا في التحرك مما يعكس مزاج الغضب الذي كان يتصاعد في القرى، وخاصة بين أفقر الفئات التي تحملت أكثر من غيرها وطأة الحرب. اندلعت الانتفاضات في كازاخستان وآسيا الوسطى واستمرت عدة أشهر خلال صيف 1916.
كانت تلك نقطة تحول حاسمة. وبحلول 17 أكتوبر، انخرط 45 مصنعا في الإضراب احتجاجا على ارتفاع تكاليف المعيشة والحرب والاستبداد. وفي تطور مبهر انقلبت قوات الجيش ضد الشرطة ودعمت العمال. كما أن القوزاق، الذين أرسلوا لاستعادة النظام، رفضوا إطلاق النار على الجنود. ولم تتمكن السلطات من إعادة الجنود إلى الثكنات في ذلك المساء إلا بصعوبة بالغة. كانت تلك مؤشرات واضحة عن ثورة وشيكة. وقعت إضرابات أخرى في وقت لاحق من شهر أكتوبر، رد عليها الرأسماليون بحملة إغلاقات، فرد عليهم العمال من خلال إضراب عام. خلال شهر أكتوبر بأكمله شارك حوالي 250.000 من عمال بتروغراد في إضرابات سياسية.
فضحت عملية اغتيال راسبوتين عمق الأزمة التي يعيشها النظام. إن الواقع البشع المتمثل في وجود “رجل دين” سكير متهتك يتآمر مع زمرة حاكمة منحطة ويملي على ملكة مؤمنة بالخرافات ما الذي عليها القيام به، ويوزع العطايا، بل ويقرر حتى السياسة العسكرية، كل ذلك أوصل التناقضات المستعصية بين مختلف أجنحة الدولة إلى ذروتها. قرر قسم من الأرستقراطية ضرورة القضاء على راسبوتين كوسيلة لتجديد النظام وتجنب الكارثة الوشيكة. ونظرا لفشل جميع محاولات إبعاده (بما في ذلك عرض رشوة بقيمة 200.000 روبل نقدا ليعود إلى سيبيريا) بسبب معارضة الملكة، صار الحل الوحيد هو قتله. قام السياسي الرجعي وعدو راسبوتين اللدود، بوريشكيفيتش، إلى جانب زمرة من النبلاء، بتنظيم مؤامرة لاغتياله ووضع الملكة في مصحة للأمراض النفسية، كوسيلة لتحرير القيصر من التأثير الخبيث للطغمة الحاكمة، لكي يتحول بأعجوبة إلى ملك دستوري!
لقد صاحبت مثل هذه الأحلام جميع الملكيات المطلقة خلال فترة احتضارها. لكن العيب الأساسي فيها جميعا هو نفسه: استحالة فصل الأنظمة الملكية، لا سيما المطلقة منها، عن مؤامرات الطغم الحاكمة. ولم يكن نظام راسبوتين سوى مثال أكثر بشاعة عن هذه الظاهرة. إن تفاصيل اغتيال راسبوتين، التي جمعت بين الأحداث المروعة والأحداث الكوميدية، معروفة وليست بحاجة إلى أن نوليها حيزا كبيرا هنا. فبعد أن تلقى جرعة كبيرة من السيانيد الممزوج في خمرته المفضلة، وتعرض لعدة طلقات نارية، والكثير من الضربات على رأسه، مات راسبوتين فتم ربط جثته بسلاسل حديدية وألقيت في نهر نيفا. احتفل النبلاء بخبر مقتله بشرب كاسات الشمبانيا. وتلقى القاتل الرئيسي، الدوق الأكبر ديميتري، ترحيبا حارا في مسرح البولشوي. لكن القيصر لم يكن راضيا عما حدث. تم نفي ديميتري إلى بلاد فارس، وعلى عكس كل التوقعات صار نيكولا أكثر خضوعا من ذي قبل لسيطرة زوجته المكلومة. وهكذا فإن محاولة إصلاح النظام الملكي عن طريق إجراء عملية جراحية تجميلية كان لها تأثير معاكس عما كان مأمولا.
لم تقدم فكرة ثورة القصر أي حل لروسيا. كانت الأمور قد تفاقمت بشكل كبير. كانت المؤامرات والمناورات التي تدور في القمة شبيهة برجل يرقص على حافة بركان. وفي الوقت نفسه كان المجتمع في حالة من الهيجان المستمر الذي لا يمكن السيطرة عليه. لم تكن لتلك المؤامرات التي تتم في القمة أية علاقة بمعاناة الجماهير التي تزداد سوءا باستمرار. بينما كان المضاربون ومصنعو الأسلحة الأثرياء يزدادون ثراء، كانت الجماهير تعاني من ارتفاع مستمر في الأسعار. ولدفع ديونها الضخمة لجأت الحكومة لطباعة الأوراق النقدية، فزاد عرض النقود ثمانية أضعاف بين عامي 1914 و 1917. وارتفعت الأسعار وأصبح الطعام شحيحا. في موسكو ارتفع سعر الذرة -التي كان يصنع منها الخبز الأسود الروسي- بنسبة 47% خلال السنتين الأوليتين للحرب. وفي نفس الفترة ارتفع سعر زوج من الأحذية بنسبة 334%، وصندوق أعواد الثقاب بنسبة 500%. بحلول نوفمبر 1916 وصلت إمدادات الغذاء للجيش والمدن إلى مستوى حرج. وعشية ثورة فبراير كان على المرأة العاملة المتوسطة في بتروغراد أن تقضي حوالي 40 ساعة أسبوعيا في طابور للحصول على الضروريات الأساسية للحياة. في ظل تلك الظروف لم يكن في مقدور الطغمة الحاكمة أن تثير أي اهتمام عند جماهير العمال والفلاحين الذين يكافحون من أجل البقاء. لكن رائحة الفساد والانحطاط التي كانت تنبعث من النظام ساعدت على تعميق الشعور بالغضب والكراهية والازدراء الذي كان ينضج في أعماق المجتمع. لقد أفلس النظام من جميع النواحي، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضا من الناحية السياسية والأخلاقية كذلك.
تغير المزاج
مع تواصل الحرب وبداية التغير في مزاج الجماهير، بدأ وضع الحزب يتغير، ببطء في البداية، ثم بسرعة متزايدة لاحقا. ولأول مرة بدأت الفرص في الانفتاح أمام الثوار. في بداية الحرب بدا وضع الحركة الثورية ميؤوسا منه، وخلال السنتين الأوليتين، كانت الاحتمالات أمامها ضئيلة. كان اعتقال ومحاكمة أعضاء فريق الحزب في مجلس الدوما قد قضى على أحد الإمكانيات القليلة المتبقية للنشاط الشرعي. ووضعت النقابات التي نجت من الحظر تحت رقابة الشرطة الصارمة، كما تم إغلاق معظم المراكز العمالية الثقافية والتعليمية. كان العمال الذين يشاركون في الإضراب يسلمون إلى الشرطة التي كانت تحرص على إرسالهم إلى الجبهة مع رسالة تضمن أنهم لن يعودوا منها مجددا. وكان معظم المناضلين العماليين إما في السجن أو مختبئين. قوات الحزب انخفضت إلى الحد الأدنى، واضطرت الجماهير إلى التزام الصمت. وتم إصدار عدد قليل من الصحف غير الشرعية داخل روسيا، مثل صحيفة بتروجراد بروليتارسكي جولوس، التي ظهرت أربعة أعداد منها فقط، على فترات زمنية متباعدة.
وفقًا لكتاب تاريخ الحزب الشيوعي[81] كانت عند البلاشفة في ذلك الوقت منظمات في 29 مدينة وبلدة: بيترسبورغ وموسكو وخاركوف وييكاتيرينوسلاف وكييف ومكاييفسك وسمارة وساراتوف وريازان ونيزني نوفغورود وروستوف أون دون وأوديسا وييكاتيرينودار وباكو وتيفليس وإيفانوفو-فوزنيسينسك وتولا وأوريخوفو وزويفو وتفير وغوميل وفيازما وريفيل ونارفا ويوريفا وإيركوتسك وزلاتاوست وييكاتيرينبرج وأورينبورغ. لكن الكتاب لا يعطي أي تفاصيل عن تلك المنظمات. من الممكن أن تكون هناك مجموعات صغيرة قد وجدت في وقت أو آخر في كل تلك الأماكن وأكثر. ويشير الكتاب إلى أن البلاشفة كان لهم في أوقات مختلفة وجود في أكثر من 200 مكان مختلف. قد تكون هذه مبالغة. لكن وجودهم في ظل تلك الظروف الصعبة كان محفوفا بالمخاطر وسريع الزوال في معظم الحالات. يبدو أن الاشتراكيين الديمقراطيين اللاتيفيين، الذين كانت لديهم تقاليدهم الصارمة في التنظيم، هم وحدهم من كانوا قادرين على إصدار جريدة سرية منتظمة، بينما الجرائد الأخرى كانت، في أحسن الأحوال، تصدر بشكل غير منتظم. لقد شهدت سنوات الحرب ظهور 11 جريدة سرية، لكنها في مجموعها بلغت 17 إصدارا فقط. أما اللاتيفيون فقد أصدروا 26 عددا، باللغة اللاتيفية وبلغت مبيعاتهم رقما مثيرا للإعجاب وصل 80.000، كما أصدروا، بالإضافة إلى ذلك، جرائد باللغتين الليتوانية والإستونية. إلا أن هذا كان استثنائيا جدا.
ويعطينا تقرير من مدينة تفير لمحة عن طبيعة الموقف الذي كان سائدا في معظم منظمات الحزب المحلية: «تم انتخاب لجنة المدينة في اجتماع الخريف لعمال المنظمة المحلية للحزب في عام 1915، لكنها لم تتمكن من البدء في العمل النشط إلا في مارس 1916، عندما وصلت مجموعة من عمال الحزب الجدد لمساعدة اللجنة المعطوبة. بدأت مجموعة النقاش عملها على الفور، لكن لم يكن هناك تنسيق في العمل بسبب عدم وجود مركز قيادي. لم يتم حل اللجنة لكنها لم تكن تفعل شيئا. الإضرابات التي اندلعت في النصف الثاني من أبريل انتهت بانتصار العمال في مناسبتين. وانتهت حركة الإضراب في نهاية ماي بهزيمة المنظمة. وخلال تلك الفترة تمكنت المنظمة من إصدار ثلاثة منشورات عن الحرب، وعن لجان الصناعات الحربية، وعن يوم فاتح ماي. تم استئناف العمل في بداية يونيو. وتم تشكيل مركز جديد ووضع خطة عمل (كانت النقطة الرئيسية هي تنظيم التحريض). لقد أصبح العمل أكثر صعوبة بسبب افتقار المركز لأشخاص ذوي معارف وخبرة كبيرة».
من خلال هذه السطور يظهر بوضوح أن الجهاز الحزبي في تفير لم يبدأ في العمل إلا نهاية عام 1915. وحتى ذلك الحين كان ضعيفا جدا (لم يتم تقديم أي أرقام عن عدد الأعضاء) وكان عبارة عن حلقة نقاش أكثر من أي شيء آخر. كان معظم الأعضاء يفتقرون إلى الخبرة والتكوين السياسي لإحداث تأثير كبير، وكان نفوذ اللجنة القيادية ضعيفا. وتظهر صورة مماثلة في تقرير من منطقة نيجني نوفغورود. يقدم هذا التقرير أرقاما عن عدد الأعضاء (ما بين 150 و200)، ويقول إنه كانت هناك أربع حلقات نشطة في ضواحي المدينة و14 حلقة أخرى في المصانع، مع لجنتين مسؤولتين عن مناطق مختلفة. يبدو أن العمل هناك كان يقوم على أسس أسلم مما كان في تفير. ومع ذلك فقد كان هناك “نقص رهيب في الأدبيات”.
«لم نحصل حتى الآن سوى على عدد قليل من نسخ الجريدة. صدرت المنشورات عن الحرب وعن ارتفاع تكاليف المعيشة بنسخ قليلة ومن الصعب الحصول عليها. لم نتمكن حتى من رؤية جريدة كومينست. جميع الأعمال داخل المنظمة، بما في ذلك أعمال الدعاية البحتة (توجد خلية للدعاية من ستة أعضاء) يتم تنفيذها حاليا من قِبل العمال. إن العيب الرئيسي للمنظمة هو النقص شبه الكامل في الأشخاص ذوي المعرفة النظرية والخبرة. ولا تشارك القوى الفكرية المحلية في العمل بشكل وثيق وذلك لأسباب مختلفة»[82].
تشير تقارير لجنة كازان إلى مظاهرة للطلاب ضد الحرب، لكنها لا تقول شيئا عن حجم المشاركة فيها. ومن ناحية أخرى ادعت منظمة خاركوف أن “حوالي 120 عضوا” يدفعون المستحقات المالية بانتظام. لكن هذا كان في لاتفيا حيث كانت درجة التنظيم، كما سبق لنا أن أشرنا، أعلى بكثير من أي مكان آخر. بل لقد نجحت منظمة خاركوف في طبع جريدتها الأسبوعية (غولوس سوتسيال ديموكراتا) بواسطة الهكتوغراف. كان الجهاز المركزي للمنظمة ضعيفا إلى أقصى الحدود، وكان “مقر” اللجنة المركزية في بتروغراد هو شقة لزوجين، حيث كانت الزوجة هي المسؤولة عن “حماية الصحيفة” والأرشيف الصغير. كانت هناك العديد من نقاط الالتقاء في المدينة حيث يمكن للرفاق الحصول على الصحافة الحزبية، وهو العمل الذي يكتسي خطورة بالغة إذ كان المكان يعج بعملاء الشرطة والجواسيس. كان فاديم (تيخوميروف) مسؤولا عن الشحن السري لأدبيات الحزب من فنلندا إلى المقاطعات، وكذلك تخزينه وتوزيعه في بتروغراد. ولهذا قام بتنظيم مجموعة من الشابات اللواتي يسافرن إلى فنلندا ويسلمن تلك المواد الخطيرة إلى عناوين معينة.
صحيح أن مزاج اللامبالاة والتشاؤم كان قد بدأ يتبدد تدريجيا. وبدأ عدد متزايد من العمال، الذين كانوا قبل الحرب أعضاء في الحزب، في العودة إليه مجددا. لكن المشاكل استمرت كثيرة. كانت أقوى المنظمات هي منظمة سان بيترسبورغ. عانت منظمة موسكو طوال الحرب من غياب مركز قيادي حقيقي ولم تتعاف إلا عام 1917 مع تدفق عدد من الرفاق الشباب الجدد. كما عانت موسكو كثيرا من أنشطة المخبرين المندسين. وكانت المشكلة الخطيرة هي الافتقار إلى الأموال، مما منع الجهاز المركزي البلشفي في بيترسبورغ من دعم منظمات المقاطعات. كانت الزيارات العرضية هي كل ما يمكن القيام به. ويتذكر شليابنيكوف ببعض المرارة كيف كان الرفاق السابقون، الذين كانت لديهم وظائف بأجور جيدة، يترددون في التبرع للحزب السري، رغم أن العديد منهم انضموا إليه لاحقا. يمكننا أن نتفهم تلك النبرة المريرة إذا أخذنا في الاعتبار المخاطر والمصاعب التي كان المناضلون يقاسونها في العمل السري كل يوم:
«كان علينا أن نعمل في ظل ظروف صعبة للغاية. لقد أثبتنا قدرتنا على تجميع العديد من الرفاق النشيطين من حولنا. لكننا، وبسبب نقص الموارد، لم ننجح في توسيع العمل على نطاق أكبر. لقد كنا فقراء جدا. ومن 02 دجنبر 1916 إلى 01 فبراير 1917، لم يدخل إلى صندوق اللجنة المركزية سوى 1117 روبل و50 كوبيكا فقط. كان علينا أن ننجز جميع الأعمال بهذه الإمكانيات. وإذا أرسلنا منظما إلى المحافظات، لم يكن يمكننا أن نضمن دعمه حتى ولو لشهر واحد؛ وبالتالي كان علينا الاعتماد على الزيارات العابرة من قبل الرفاق لمختلف المناطق أو على ضربات الحظ. أنفق المكتب القليل من المال لدعم موظفيه. كان الأغلبية يحصلون على أجورهم لكن المشتغلين في السرية لم يكونوا يحصلون حتى فبراير 1917 على أكثر من 100 روبل في الشهر. كان توفير الأدبيات يتطلب الكثير من الأموال، لكننا لم نتمكن من تخصيص الكثير لها.
لم تكن ظروف البقاء الشخصي أقل صعوبة. فمنذ الأيام الأولى لوصولي، عندما أصبحت هدفا لأعين الجواسيس، كان من الواضح لي أن الاستقرار في شقتي الخاصة، والحصول على جواز سفر ساري المفعول، وغير ذلك من أشكال الرفاهية، في مثل حالتي تلك، بمثابة وصفة لكارثة حقيقية. لكي أتمكن من مراوغة المخبرين كان علي التوفر على أكبر عدد ممكن من المنازل. لقد ساعدني الرفاق في العثور على أماكن، وكان علي أن أغير مكاني في كل ليلة. كانت تلك المنازل مشتتة في أجزاء مختلفة من بيترسبورغ، بما في ذلك أطرافها؛ كان هناك على سبيل المثال منزل في غرازدانكا وآخر في غالي هاربور، وكذلك آخر بينهما في وسط المدينة. كانت حياتي قد تحولت إلى تجوال دائم. كان من الصعب علي الكتابة والقراءة، بل وفي بعض الأحيان كان من الصعب علي حتى أن أفكر عندما كان بعض الرفاق المضيافين يشاركونني، في كثير من الأحيان، في نقاش برامجهم السياسية ومحادثاتهم الممتعة في أعماق الليل. يمكنك أن تستمر في القيام بهذا لمدة شهرين أو ثلاثة، لكن طاقتي البدنية لم تسمح لي بأكثر من ذلك»[83].
إلا أن النهوض الذي كانت الحركة العمالية قد بدأت تعرفه كان بمثابة محفز لاستعادة البلاشفة لنشاطهم. وقد ظهرت أولى علامات التعافي في المقاطعات. ففي فبراير ومارس 1916، ظهرت في حوض دونتس، وهي منطقة رئيسية لإنتاج الفحم، منشورات تدعو العمال إلى تنظيم صفوفهم وترفع شعارات البلاشفة. وفي أوائل شهر أبريل، اندلع أول إضراب في زمن الحرب في حقل دونتس للفحم، شارك فيه حوالي 50.000 عامل. انطلقت الإشارة إلى الإضراب من المنجم الذي ظهرت فيه المنشورات البلشفية. وقد تم انتخاب لجنة إضراب في منجم واحد على الأقل. فقامت السلطات بإرسال كتيبتين من الجنود إلى حقل الفحم، لكن الجنود رفضوا قمع المضربين، بل حتى الشرطة أبدت ترددها في التحرك. محاولة الإدارة لتحويل الإضراب إلى مسارات معادية للسامية تم التصدي لها بقوة من قبل العمال. وفي الأخير تمكنت السلطات من “استعادة النظام”، لكن فقط بعد مقتل أربعة عمال وجرح 20 آخرين. انهزم الإضراب لكن مزاج العمال تغير. وقد انعكس هذا الواقع في نمو التنظيم الثوري:
«بالتزامن مع موجة الإضراب بدأت تتشكل مجموعات سياسية قوية، واكتسبت الخلايا العمالية بسرعة قوة كما لو أن العمال يريدون تعويض الوقت الثمين الضائع. بدأوا في البحث عن روابط بين بعضهم البعض. وكان ذلك قد صار سهلا آنذاك. خلال الإضرابات أصبحت كل تلك المجموعات والخلايا تعرف بعضها البعض. وفي تلك اللحظة اتحدوا جميعا لتشكيل المنظمات الاشتراكية الديمقراطية في حوض دونتس، والتي كانت قوانينها وبرامجها مستمدة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي».
وهكذا بدأ البلاشفة، شيئا فشيئا، يعيدون تنظيم صفوفهم ويحققون النمو: «على الرغم من تصاعد القمع والاعتقالات الجماعية وفقدان عمال الحزب، تطورت منظمتنا السرية وتعززت قواها. كانت أقوى منظمة غير شرعية في بيترسبورغ هي لجنة بيترسبورغ التابعة لحزبنا والتي ضمت حوالي 3 آلاف عضو، ويمكن اعتبار غالبية عمال بيترسبورغ متعاطفين مع سياستنا المناهضة للحرب. ومن بين المنظمات الشرعية لحزبنا لم تتبق سوى لجنة التأمين العمالي، والتي كانت تشكل أيضا المركز الروسي لصناديق المستشفيات وجريدته فوبروسي ستراخوفانيا. كان قد تم منع نشاط هذه المؤسسات وصار العديد من أعضاء مجموعة التأمين في السجن أو المنفى»[84].
وعلى الرغم من أوجه القصور المزمنة التي كان يعاني منها الجهاز، فإنه من نهاية يوليوز 1916 إلى 01 مارس 1917، أنتجت المنظمات البلشفية المحلية أكثر من 600 منشور مختلف بإجمالي نسخ بلغ حوالي مليوني نسخة طبعت في حوالي 80 بلدة ومدينة مختلفة، مما ساهم في تعويد جماهير العمال والجنود على الشعارات البلشفية. وعلى الرغم من الطبيعة غير المنتظمة وغير المستقرة لهذه المنشورات السرية، فإنها لعبت دورا مهما في ظرفية كان من غير الممكن عمليا خلالها نشر الأفكار الاشتراكية الديمقراطية بطريقة شرعية. كان لا بد من استخدام كل ثغرة قانونية، على الرغم من أنها كانت محدودة للغاية. كانت النقابات العمالية في بتروغراد قد أغلقت، على الرغم من السماح لبعض “الجمعيات المهنية” بالوجود. في موسكو كانت النقابات مسموحا بها من الناحية النظرية، لكنه كان في الإمكان تعرض العمال الذين يشاركون فيها للعقاب بموجب القانون. وفي ظل تلك الظروف كانت الثغرات مثل مجموعات التأمين الصحي وما شابهها تكتسي أهمية كبرى. وقد استخدمها الثوار بأفضل ما في وسعهم للحفاظ على العلاقات مع الجماهير، بما في ذلك الفئات الجديدة من النساء والشباب.
العمل بين النساء
واجه العمل الاشتراكي الديمقراطي الثوري في روسيا صعوبات هائلة خلال الحرب العالمية الأولى. كان الحزب والنقابات منظمات محظورة. لكن بحلول 1915 بدأت الحركة تتعافى من الضربات التي كانت قد تلقتها خلال الأشهر الأولى من الحرب. ومن بين المجالات التي بدأت تتحقق فيها مكاسب مهمة مجال العمل بين النساء، اللائي كن قد ولجن سوق العمل الصناعي بأعداد كبيرة. شكلت النساء عند اندلاع الحرب ما يقرب من ثلث العمال الصناعيين، وكان القسم الأكبر منهن يعملن في صناعة النسيج. وقد ارتفع هذا العدد أكثر مع استمرار الحرب بسبب تعبئة الرجال للخدمة العسكرية. ازدادت حالة النساء سوءا خلال الحرب، حيث أصبحت العديد منهن العائل الوحيد لأسرهن وصارت ضروريات الحياة أكثر ندرة وأكثر تكلفة. وقد شاركت النساء العاملات في العديد من الإضرابات والمظاهرات ضد المصاعب الاقتصادية الناجمة عن تورط روسيا في الحرب.
«وضع الطبقة العاملة صعب، لكن وضع المرأة العاملة أسوأ بكثير. فهي في المصنع والورشة، تعمل لصالح رب العمل الرأسمالي، وفي المنزل تعمل لصالح العائلة.
تبيع آلاف النساء عملهن لرأس المال؛ الآلاف منهن يدفعن إلى لجة العمل المأجور؛ والآلاف ومئات الآلاف منهن يعانين تحت نير الأسرة والاضطهاد الاجتماعي. إن الغالبية العظمى من النساء العاملات تعتقدن أن هذا هو ما يجب أن يكون عليه الوضع. لكن هل صحيح حقا أن المرأة العاملة لا يمكنها أن تأمل بمستقبل أفضل، وأن القدر حكم عليها بأن تعيش كل حياتها في الكدح والكدح، ليلا ونهارا دون راحة ؟»[85].
الفقرة السابقة مأخوذة من منشور بعنوان: “إلى النساء العاملات في كييف”، والذي تم توزيعه من قبل البلاشفة في كييف (أوكرانيا)، في 08 مارس (اليوم العالمي للمرأة)، 1915. يعطينا المنشور فكرة عن كيف كان البلاشفة يطرحون المسألة النسائية في تحريضهم العام. كان نداءهم يربط اضطهاد النساء بمعاناة العمال الذكور، وببرنامج لتحرر الطبقة العاملة بأكملها.
كانت الحرب كارثة على شعب روسيا. فمنذ بدايتها وجه الألمان ضربات مدمرة متتالية للقوات الروسية. وفي الحملة الصيفية لعام 1915، تم طرد الروس من غاليسيا[86] وكان الجيش الألماني على وشك الاستيلاء على كل بولندا ودول البلطيق وبيلاروسيا. لقد عانت الجيوش القيصرية الضعيفة من هزائم مذلة متتالية. ومع حلول صيف 1914، كان هناك 150 ألف روسي بين أسرى الحرب. ومع نهاية الحرب ارتفع عدد الروس الذين قتلوا في الجبهة إلى 1,8 مليون. جيوش القيصر التي كانت في السابق تبدو وكأنها لا تقهر، بدأت تتحول تدريجيا إلى أشلاء. لتعويض تلك الخسائر الفظيعة، تم استدعاء ملايين العمال والفلاحين (ما يقرب من 16 مليون بحلول نهاية الحرب). ولتعويض اليد العاملة المفقودة في الصناعة، تم سحب فئات جديدة إلى المصانع -النساء والشباب والفلاحين- والتي كانت بدون أي خبرة سابقة في حياة المصنع أو النضال الطبقي. تسبب ذلك في مزيد من الصعوبات للثوريين. لكن ظروف الحرب القاسية سرعان ما قامت بتعليم تلك الفئات الجديدة.
كانت النساء هن الضحايا الرئيسيات للحرب. لم تكن المعاناة والموت في الجبهة سوى أحد وجهي الحرب، أما الوجه الآخر، الذي هو أقل شهرة لكنه ليس أقل رعبا، فقد كان مصير تلك الملايين من نساء الطبقة العاملة والفلاحين اللائي رأين عالمهم ينهار إلى أنقاض كما لو كان بأمر من إله قاس وجبار. بعد أن تم تجنيدهن في المصانع لاستبدال رجالهن الذين تم إرسالهم إلى الجبهة، كان على النساء البروليتاريات تحمل العبء الأكبر من المشاكل الاجتماعية للحرب. تلك النساء، اللائي كن في السابق متخلفات وغير منظمات، سرعان ما تعلمن درسا قاسيا في مدرسة حياة المصنع، وتغيرن. كن يتعرضن للاستغلال والقمع في المصنع والمنزل، ويعملن لساعات طويلة في ظل ظروف سيئة، وذلك فقط لكي يجدن في نهاية الشهر أن أجورهن قد تآكلت بسبب الارتفاع الحاد في الأسعار، كن يرين أن أرباب العمل الأثرياء يسرقون حرفيا لقمة الخبز من أفواه أبنائهن. وبعد أن نحين جانبا كل الأفكار المسبقة التقليدية حول دور المرأة، قمن باحتلال الخط الأمامي للمعركة.
«وجد تحقيق أجراه المجلس الخاص للدفاع بين 700.000 من العاملين في مجال الصناعة الحربية، في عام 1917، أن 17% من العمال كن نساء و12,5% من المراهقين. وفي الصناعة التحويلية عموما ارتفعت نسبة النساء من 27,4% عام 1914، إلى 34,2% في يناير 1917؛ بينما ارتفعت نسبة المراهقين والأحداث (من الجنسين) من 10,9% إلى 14%. وفي صناعة الهندسة، كانت النساء العاملات، عام 1913، لا تشكلن سوى 1,1% من إجمالي عدد العمال، لكن النسبة ارتفعت إلى 14,3% في يناير 1917؛ بينما ارتفعت النسبة المائوية للمراهقين والأحداث من 9,4% إلى 11,7%. وفي صناعة النسيج، حيث كانت النساء تقمن دائما بدور مهم للغاية، تضاعفت نسبتهن الآن [1917] لتصل إلى 43,4%. تم تشغيل النساء للعمل حتى تحت سطح الأرض في المناجم. وقد أظهرت سجلات تفتيش المصانع أن عدد النساء والشباب كان مساويا لعدد الرجال»[87].
لقد أكد لينين باستمرار على الإمكانيات الثورية لهؤلاء النساء البروليتاريات وأصر على أن يتخذ الحزب تدابير خاصة لكسبهن للقضية الثورية. ومن أجل هذه الغاية قام البلاشفة، في عام 1914، بإصدار صحيفة نسائية تدعى رابوتنيتسا (المرأة العاملة). وكان الحزب خلال النهوض الثوري لسنوات 1912-1914، قد بدأ بالفعل في القيام بعمل ثابت بين النساء، ونظم أول نشاط لتخليد اليوم العالمي للمرأة في روسيا في عام 1913. وفي الوقت نفسه بدأت برافدا في نشر صفحة ثابتة مكرسة للقضايا التي تؤثر على النساء. صدر العدد الأول من رابوتنيتسا في اليوم العالمي للمرأة، ليتزامن مع مظاهرة نظمها الحزب. كان تمويل رابوتنيتسا يتم، على غرار برافدا، بفضل المساهمات التي كانت النساء تجمعنها في المصانع. وقد تضمنت مقالات عن ظروف النساء العاملات وأخبارا عن نضالاتهن. كما تضمنت مقالات عن وضع النساء في البلدان الأخرى. وفي نفس العام الذي ظهرت فيه رابوتنيتسا، كان المناشفة قد بدأوا بدورهم في نشر صحيفة نسائية. لكن هذه المنشورات شاطرت نفس المصير الذي عرفته بقية الصحافة العمالية في روسيا بعد يوليوز 1914.
لم يكن لعمل الحزب البلشفي بين النساء أي علاقة على الإطلاق مع النزعة النسوية البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة، فقد كان مشبعا بروح ثورية وطبقية حازمة. ومنذ البداية شجع البلاشفة النساء على تنظيم صفوفهن والانضمام إلى نضال العمال الرجال، وحثوهن على مقاطعة الحركات التي أنشأتها النساء البرجوازيات بعد هزيمة ثورة 1905. وفي النشرة التي أشرنا إليها مسبقا نقرأ ما يلي:
«أيتها الرفيقات! أيتها النساء العاملات! إن رفاقنا الرجال يكدحون معنا. مصيرهم ومصيرنا واحد. لكنهم وجدوا منذ فترة طويلة الطريق الوحيد نحو حياة أفضل: طريق النضال العمالي المنظم ضد رأس المال، طريق الكفاح ضد كل أشكال القمع والشر والعنف. أيتها النساء العاملات، لا يوجد طريق آخر أمامنا. إن مصالح رجال ونساء الطبقة العاملة متشابهة، إنها مصلحة واحدة. ولن نحصل على حقوقنا ونكسب حياة أفضل إلا من خلال خوض صراع موحد إلى جانب العمال الرجال، وفي المنظمات العمالية المشتركة، في الحزب الاشتراكي الديمقراطي والنقابات والنوادي العمالية والتعاونيات».
لقد تبنى الحزب بالطبع المطالب ذات الأهمية الخاصة بالنسبة للنساء، مثل عطلة الحمل والأمومة والمساواة الكاملة في الحقوق المدنية والعائلية بين الرجال والنساء، وما إلى ذلك. لكن كل هذه المطالب أخذت كجزء من النضال العام للطبقة العاملة ككل وربطت بشكل لا ينفصل بمنظور الثورة الاشتراكية: «أيتها الرفيقات! أيتها النساء العاملات، لنذهب إلى العمل! فلنوقظ كل من ما زالوا نائمين؛ فلنتحد في النضال من أجل مطالب الطبقة العاملة بأكملها»[88].
ومع تدهور الأوضاع بدأت النساء في المشاركة أكثر فأكثر في الإضرابات والمظاهرات ضد الظروف المروعة التي تسببت فيها الحرب، ولم يتوقفن عند المطالب الاقتصادية فقط. قامت العاملات في صناعة النسيج في كوستروما بتوزيع منشور بين الجنود بعنوان: “من المرأة الروسية إلى الجندي الروسي”. فقام النظام المذعور بشن حملة قمع، حيث تم إرسال القوات والقوزاق إلى كوستروما، وفي 05 يوليوز وقعت اشتباكات دموية قتل فيها 12 شخصا وجرح 45 آخرون. في عام 1915 شكلت الإضرابات السياسية 20% من بين جميع الإضرابات، في حين كانت النسبة خلال 1914 هي 11% فقط. وقد أسفر عمل الحزب البلشفي بين النساء عن نتائج باهرة. وخلال أيام الحرب المظلمة لعبت النساء البلشفيات دورا رئيسيا في التحريض ضد الحرب وضد الشوفينية. ليس من قبيل المصادفة أن الثورة الروسية في فبراير 1917 بدأت في اليوم العالمي للنساء، وأن المبادرة الأولى جاءت من جانب العاملات اللائي كن قد صقلن بنار الحرب.
تحركات سلمية
كانت مشاعر الاستياء ضد الحرب أكثر حدة بين النساء بالطبع، لأنهن كن من نواح كثيرة الضحايا الرئيسيات لها. أخذت الصحيفة النسائية البلشفية (رابوتنيستا) مبادرة الدعوة إلى تنظيم كونفرانس أممي للنساء الاشتراكيات اليساريات، وقدمت مقترحا بذلك لكلارا زيتكين، التي كانت آنذاك سكرتيرة المكتب الأممي للنساء، والتي عبرت فورا عن موافقتها عليه. في مارس 1915 اندلعت في أوسلو مظاهرات حاشدة للنساء ضد الحرب. وفي نفس الشهر انعقد في بيرن كونفرانس آخر للنساء الاشتراكيات الألمانيات والنمساويات المجريات، بدعوة من القياديات الاشتراكيات الديمقراطيات في الكتلة الألمانية، وذلك حرصا منهن على ألا يتفوق عليهن نظرائهن في بلدان الوفاق. انتبه لينين سريعا إلى أن تلك فرصة من أجل الدعاية للأفكار الأممية الثورية. لقد كانت تلك فرصة للقيام بعمل مهم بين النساء.
حضرت الكونفرانس 25 منتدبة من ثمانية بلدان. كان البلاشفة ممثلين بأربع منتدبات، من بينهن إينيسا أرماند وكروبسكايا. كما دافعت المنتدبة عن الحزب الاشتراكي البولندي، كامينسكايا، بدورها عن موقف لينيني ثوري. لكن أغلبية المشاركات كن إصلاحيات متذبذبات وسطيات مسالمات.
لو أن روزا لوكسمبورغ كانت حاضرة، لكانت قد أحدثت فرقا، على الأقل في طبيعة النقاشات إن لم يكن في النتيجة النهائية. لكن روزا كانت معتقلة في سجن ألماني، واحتلت مكانها كلارا زيتكين، التي، كما توقع لينين، قدمت كل أنواع التنازلات لصالح الأغلبية من أنصار النزعة السلمية، وميعت موقف لينين وأفرغته من جوهره الثوري.
لو أن ذلك الكونفرانس تبنى موقفا شجاعا بشأن الحرب لكان بمثابة دعوة لحشد اليسار على الصعيد الأممي. كتب لينين إعلانا لذلك الاجتماع لكن لم يتم إقراره، وعوض ذلك اتخذت الأغلبية موقفا يقول: “لا يمكننا انتقاد الأحزاب”، ويجب علينا أن نقتصر على “دعم السلام”. وعندما عارضت المندوبات البلشفيات هذا الأمر وتمسكن بموقفهن، تعرضن لسيل من الانتقادات، ووصفن بأنهن عصبويات وانشقاقيات لوقوفهن في طريق الوحدة. كان لينين قد توقع مسبقا مثل هذه الاتهامات التي سبق له أن سمعها مرارا. فلطالما اتهم الإصلاحيون والوسطيون اليساريين الثوريين الحقيقيين بكونهم “عصبويين” لأنهم يرفضون المساومة على المسائل المبدئية. وفي هذا الصدد، كتب لينين إلى ألكسندرا كولونتاي قائلا: «تؤكدين على أن “ما يجب علينا أن نطرحه هو شعار يوحدنا جميعا”. بصراحة، إن ما أخشاه أكثر من أي شيء آخر، في الوقت الحالي، هو هذا النوع من الوحدة العشوائية، والتي هي في رأيي الشيء الأخطر والأكثر ضررا على البروليتاريا».
كان لينين غاضبا ولم يدخر أي عبارة في سياق إدانته لمبادرات السلام المزعومة تلك. وبالرغم من أن كلارا زيتكين كانت صديقة له، فإنه ركز نقده بشكل خاص على الدور الذي لعبته. وقال: «كان يتعين عليها أن ترى أن الانزلاق إلى النزعة السلمية في مثل هذا الوقت شيء مستحيل. لابد من التأكيد بشدة على جميع القضايا التي هي على المحك».
لم يول لينين أي اهتمام لتهم “الانشقاق” التي وجهت له. وقال ذات مرة: «بغض النظر عن قلة عددنا، فإن الملايين سيكونون معنا»[89]. وفي رسالة أخرى إلى ألكسندرا كولونتاي، كتبها في يوليوز 1915، أكد على عدم جواز إبرام اتفاقات غير مبدئية مع كاوتسكي و“اليمين” بداعي الحفاظ على الوحدة: «في ما يتعلق بالقضايا الأممية علينا ألا نقبل بالتقارب مع هاس- برنشتاين- كاوتسكي (لأنهم في الواقع يريدون الوحدة مع أمثال زوديكوم[90] وحمايتهم، إنهم يريدون الاختباء وراء عبارات يسارية وعدم تغيير أي شيء في الحزب الفاسد القديم). لا يمكننا أن ندافع عن شعار السلام، لأننا نعتبره في أقصى الحالات شعارا مخادعا مسالما برجوازيا صغيرا، في خدمة الحكومات (التي تريد الآن أن تكون جزئيا “مع السلام” من أجل الخروج من الصعوبات التي تواجهها) وتعرقل النضال الثوري.
في رأينا، ينبغي على اليسار أن يصدر إعلان مبادئ مشترك: (1) يدين بلا مواربة الاشتراكيين الشوفينيين والانتهازيين، (2) يطرح برنامجا للعمل الثوري (سواء أطلق عليه الحرب الأهلية أو النضال الجماهيري الثوري، فهذا ليس مهما جدا)، (3) يقف ضد شعار “الدفاع عن الوطن”، إلخ. سيكون لإصدار “اليسار” لإعلان مبادئ، باسم عدة بلدان، أهمية هائلة (بالطبع ليس بنفس العبارات الجبانة التي تبنتها زيتكن في كونفرانس النساء في بيرن؛ حيث تهربت من مسألة إدانة الاشتراكية الشوفينية!! بدافع الرغبة في “سلام” مع زوديكوم وكاوتسكي؟؟)»[91].
أياما قليلة بعد ذلك انعقد كونفرانس الشباب الاشتراكي الأممي في مدينة برن أيضا، بدعوة من الأمين العام للشبيبة الاشتراكية السويسرية، ويلي مونزينبرغ. رفضت الشبيبة الاشتراكية الألمانية والفرنسية المشاركة، بحجة أن مسألة الحرب خارج اختصاصهم. نفس الموقف عبرت عنه الشبيبة الاشتراكية النمساوية. لكن وعلى الرغم من ذلك جاء مندوبون من ألمانيا وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي ممثلا من قبل إينيسا أرماند وج. إ. سافاروف. وهنا أيضا كانت الأغلبية لصالح “الوسطيين”. خسر مقترح القرار البلشفي بـ13 صوتا مقابل 03 وتم تبني قرار سلمي، كما كان الحال في اجتماع النساء. إلا أن الكونفرانس قرر الاحتفال سنويا بـ“يوم أممي للشباب” (المناهض للنزعة العسكرية) وأصدر جريدة “الشباب الأممي”، التي نشرت مقالات كتبها لينين وليبكنخت.
قال لينين عن كونفرانس الشباب إنه مفعم بالنوايا الحسنة، لكنه تجنب المسألة الأساسية أي القطع الحاسم مع الاشتراكيين الشوفينيين. لم تذهب هذه الجهود بعيدا، فالوقت لم يكن قد حان بعد. ولم تكن الظروف ناضجة بما فيه الكفاية لحدوث تحول كبير في اتجاه اليسار. قد يقال، من جهة أخرى، إن موقف لينين لم يكن يحصل على الأغلبية لأنه كان يذهب أبعد وأسرع مما يسمح به الوضع، لكن ومع استمرار الحرب بدون نهاية في الأفق تغير الواقع. بدأ التيار في العديد من البلدان يتدفق في اتجاه اليسار، وفي النهاية انعكس هذا داخل المنظمات الجماهيرية، بدءا بالنقابات التي بدأت تعكس مزاج الغضب المتنامي بين صفوف الجماهير ضد الارتفاع الرهيب في الضرائب والاستغلال والتضخم، وهو ما تم التعبير عنه في موجة من الإضرابات. في بريطانيا كان ميلاد حركة مندوبي المصانع نتيجة مباشرة لتجذر العمال من جهة، والتعاون الطبقي والبيروقراطية النقابية من جهة أخرى.
كانت أول نتيجة لهذا الغليان الثوري هو تقوية التيارات الإصلاحية اليسارية والنزعة الوسطية في قيادة الأحزاب الاشتراكية. كانت التصريحات المسالمة لهؤلاء القادة تعكس بطريقة مشوهة وبائسة الرغبة الشديدة في السلام وكراهية الحرب الإمبريالية عند جماهير العمال والفلاحين والجنود والنساء. وفي يونيو 1915، نشر كاوتسكي وهاس وبرنشتاين بيانا ظهر في جريدة لايبزيغر فولكسزيتونغ، بعنوان “مطالب اللحظة”، للاحتجاج على “حرب الإلحاقات” والدعوة إلى إبرام السلام بسرعة. كان هذا الموقف المتأخر من جانب القادة الانتهازيين انعكاسا مشوها للمزاج السائد بين الجماهير. وقد حرص لينين، كلما سنحت له الفرصة، على تسليط نقد شديد للنزعة السلمية للوسطيين.
مؤتمر زيمروالد
على الرغم من أن البلاشفة لم تكن لديهم، من الناحية الرسمية، أي منظمة أممية، فإنهم لم يتوقفوا عن اعتبار أنفسهم جزءا من تيار أممي. لم يتخل لينين أبدا عن فكرة إعادة بناء أممية ثورية حقيقية. كان البلاشفة يتابعون عن قرب الحياة الداخلية لجميع الأحزاب الاشتراكية. وكان لينين كل يوم ينقب بشغف في الصحف الاشتراكية الأجنبية، ويرحب بحماس بكل هجوم تشنه على الاشتراكية الشوفينية. وبينما كان ينادي بضرورة إجراء قطيعة سياسية حاسمة مع اليمين، فإنه لم يقترح أبدا مغادرة المنظمات الجماهيرية للطبقة العاملة، بل العكس هو الصحيح، فقد أصدر المكتب السياسي تعليمات إلى جميع البلاشفة الذين يعيشون في الخارج بإنشاء “أندية أممية” محلية. وصدرت التعليمات لأولئك الذين لديهم معرفة بلغة البلد الذي يوجدون فيه بالمشاركة في الحركة العمالية لذلك البلد، وخاصة في الأحزاب الاشتراكية. كان التأكيد بشكل كبير على ذلك ليس فقط باعتباره وسيلة لكسب علاقات جديدة مع الأمميين في البلدان الأخرى، بل أيضا من أجل تفادي الإحباط الذي قد ينشأ حتما عن العزلة عن الحركة العمالية، التي تميز منظمات المنفى في كثير من الأحيان. إلا أنه كان هناك بعد آخر لهذا العمل.
كانت فكرة إنشاء أممية جديدة قد بدأت بالفعل تتشكل في ذهن لينين. لكنه كان يدرك تمام الإدراك أن مثل تلك المنظمة لا يمكن أن تأتي إلى الوجود بمجرد إعلانها. كان لابد من بنائها من خلال النضال ضد الاشتراكيين الشوفينيين وبلورة تيار أممي ثوري. كان انفصال البلاشفة عن المناشفة قد استغرق عشر سنوات، ولم يتحقق إلا عندما تمكن البلاشفة من كسب أكثر من أربعة أخماس الطبقة العاملة المنظمة إلى رايتهم. لكن البلاشفة والمناشفة تعايشا لفترة طويلة، حتى عام 1912، كفصيلين متصارعين داخل حزب واحد. كان البلاشفة يشاركون بنشاط مع التيارات اليسارية لمختلف الأحزاب الاشتراكية في الخارج. كان كل من إينيسا أرماند وغوبنر وستال يشتغلون داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي وكان أبراموفيتش وآخرون يشتغلون داخل الحزب الاشتراكي السويسري، الذي كان لينين بدوره يساهم فيه بالمحاضرات. كما حافظ شليابنيكوف على اتصال وثيق مع الاشتراكيين الديمقراطيين السويديين والنرويجيين، الخ. لقد وضع هذا العمل الأساس لنشوء اليسار الزيمروالدي، وبالتالي الأممية الشيوعية مستقبلا. لكنه لم يكن من الكافي القيام بالعمل الثوري المعزول في كل بلد على حدة، بل كان من الضروري الدعوة إلى عقد كونفرانس أممي لليسار.
جرت المحاولات الأولى لعقد اجتماع أممي في خريف عام 1914، في لوغانو (سويسرا). آنذاك أصدر الاشتراكيون الديمقراطيون الإيطاليون والسويسريون توصيات مناهضة للحرب، لكنهم أفسدوها بمناشدتهم لمكتب السكرتارية الأممية بأن تدعو لعقد اجتماع في أقرب وقت ممكن لمناقشة الأوضاع العالمية. وبطبيعة الحال فإن البلاشفة، الذين شاركوا في اللقاء بأطروحات لينين حول الحرب، لم يدعموا تلك المناشدة. وكما كان متوقعا جاءت قرارات لوغانو مشوبة عموما بالنزعة السلمية. وفي الأخير انتهى بالفشل، إلا أنه مع ذلك يمكن اعتباره نصف خطوة إلى الأمام، وأفضل من لا شيء على أي حال. استخدمه البلاشفة كنقطة انطلاق للدعوة لعقد كونفرانس أممي حقيقي للجناح الثوري.
في نوفمبر 1914، حضر شليابنيكوف مؤتمرَ الاشتراكيين الديمقراطيين السويديين، في ستوكهولم، حيث دافع عن الموقف البلشفي، مما تسبب في خلق عاصفة من النقاشات. كان لارين حاضرا في ذلك اللقاء باسم المناشفة. وكما كان متوقعا فقد اتخذ القيادي السويدي، كارل برانتنج، موقف الامتناع عن التصويت (“لا يمكننا التدخل في شؤون الأحزاب الأخرى”). لكن شليابنيكوف تلقى الدعم من زعيم التيار اليساري داخل الحزب الاشتراكي السويدي، كارل هولوند. كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الصغيرة المحايدة تميل إلى تبني موقف مهادن قلق “مسالم”، كان لينين يكرهه بشدة. لم يكلف البلاشفة أنفسهم عناء حضور الكونفرانس الذي دعا إليه اشتراكيو الدول “المحايدة” (السويد والنرويج والدنمارك وهولندا) في كوبنهاجن، في يناير 1915، وقال لينين باستخفاف: «لن نتعلم أي شيء. لا يمكنك أن تحقق أي شيء هناك. سنكتفي بإرسال بياننا فقط. هذا كل ما يتعين علينا القيام به»[92].
والأسوأ من ذلك كان هو مناورات القادة “الاشتراكيين” من الدول المتحاربة، الذين كانوا عملاء واعين للطبقة السائدة. في فبراير 1915، انعقد في لندن، كونفرانس لاشتراكيي بلدان الوفاق (بريطانيا وفرنسا وبلجيكا). ومن روسيا تمت دعوة المناشفة والاشتراكيين الثوريين. احتج البلاشفة في لندن ضد اقتصار الدعوة على اشتراكيي بلدان الوفاق وحدهم وأيضا ضد دعوة المناشفة. دعت صحيفة ناشي سلوفو البلاشفة إلى تنظيم مظاهرة في الكونفرانس ضد “النزعة الاشتراكية الوطنية” ومواجهة كونفرانس لندن بالموقف الأممي الحقيقي. وقد قام لينين، بعد فترة تردد، بإرسال مشروع قرار إلى هيئة تحرير ناشي سلوفو ليقرأوه في الكونفرانس[93]. لكنه كانت بين البلاشفة اختلافات حول كيفية التعبير عن الموقف. وفي النهاية حاول ليتفينوف أن يقرأ في الاجتماع توصية مناهضة للحرب، باسم البلاشفة، لكن رئيس الجلسة أوقفه. لذا فإنه بعد أن انتهى من توزيع نسخ من البيان على الحاضرين انسحب من الاجتماع.
كانت الظروف قد بدأت تنضج لعقد كونفرانس أممي للتيارات اليسارية. وكان الحزبان الإيطالي والسويسري (اللذان كان يسود صفوفهما مزاج قوي مناهض للحرب) في وضع أفضل لتنظيم ذلك الكونفرانس. كان قائدا هذه المبادرة (غريم وبابانوفا) ينتميان إلى التيار الوسطي. قاما بتنظيم كونفرانس في بيرن، في يوليوز 1915، لكنهما لم يدعوا أيا من المجموعات اليسارية الحقيقية، واكتفيا بدعوة قادة “الوسط”: هوغو هاس وكارل برانتنغ وبيتر ترويلسترا، وهو ما احتج عليه البلاشفة. كان الشغل الشاغل لغريم هو إثبات أن الظروف غير مناسبة لتأسيس أممية جديدة.
كان لينين على اتصال دائم مع التيارات اليسارية في العديد من الأحزاب الاشتراكية في السويد والنرويج وهولندا وألمانيا وبلغاريا وسويسرا. وقد لعب تروتسكي أيضا دورا مهما في تنظيم كونفرانس زيمروالد، الذي انعقد أخيرا في شتنبر 1915. وصل لينين مبكرا إلى القرية السويسرية الصغيرة النائمة لإجراء مناقشات طويلة مع المندوبين الآخرين. كان المندوبون متحمسين لعقد الكونفرانس، وهو الشيء الذي كان منطقيا بعد الفترة الطويلة التي بقي فيها الاشتراكيون المناهضون للحرب معزولين في ظل ظروف صعبة. لكن لينين كان حريصا على أن يقوم الكونفرانس بتسوية القضايا الأساسية، وألا يبحث عن حل وسط للخلافات. وقام باقتراح تعديلات على البيان الأصلي، الذي اعتبره أكاديميا جدا وغير جذري بما يكفي.
عند وصوله وبعدما جال ببصره في أرجاء الغرفة، ورأى ذلك العدد القليل في الحضور، ألقى مزحة، حيث قال: «يمكنك أن تجمع كل أمميي العالم في عربتين». ومع ذلك فإن غالبية المندوبين كانوا بعيدين كل البعد عن الانسجام في المواقف، وكانوا يميلون إلى النزعة الوسطية. في زيمروالد قام لينين بتنظيم “اليسار الزيمروالدي”. وقد كان أقلية ضمن الأقلية (ثمانية من أصل 38)، ومؤلفا من لينين وزينوفييف وج. بيرزين (لاتفيا) وكارل راديك (بولندا) وجوليان بورخات (ألمانيا) وفريتز بلاتن (سويسرا) وكارل هوغلاند (السويد) وتوري نورمان (النرويج). كان حزب البوند قد اكتفى بإرسال مراقبين. وقد تشكل مكتب الكونفرانس من روبرت غريم وكونستانتينو لازاري والاشتراكي البلقاني الشهير كريستيان راكوفسكي.
أرسل كارل ليبكنخت خطابا من زنزانته في السجن تمت قراءته في الكونفرانس، الشيء الذي هيج المشاعر خلال اللقاء. وقد قال في كلمته: «أنا أسير في يد النزعة العسكرية، أنا مقيد بالسلاسل، لذلك لا أستطيع أن أخاطبكم مباشرة، لكن قلبي وأفكاري وكل كياني معكم». وأنهى ليبكنخت رسالته بإدانة شديدة لخيانة الأممية، التي اقترفها قادة الأحزاب الاشتراكية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبشعار: “نعم للحرب الطبقية، لا للسلام الاجتماعي!”، وهو الشعار الذي ردد صدى شعار لينين. فكرة تأسيس “أممية ثالثة” أصابت الوسطيين بالرعب. فقام جورج ليبيدور للدفاع بحرارة عن “وحدة” الأممية! وهذا هو الدور الكلاسيكي للنزعة الوسطية، أي الحفاظ على الوحدة مع الجناح اليميني. كان هؤلاء الأشخاص يمثلون الجناح اليميني لزيمروالد. قال غريم، وكان محقا إلى حد ما، إن مشروع القرار الذي تقدم به لينين، “إلى عمال أوروبا”، كان موجها إلى أعضاء الأحزاب الاشتراكية أكثر مما هو إلى الجماهير.
بعد سنوات عديدة على ذلك، كتب تروتسكي عن تلك الفترة قائلا: «أتذكر الفترة ما بين 1908 و1913 في روسيا. لقد كانت فترة ردة رجعية. في عام 1905 كان لدينا انغراس في صفوف العمال، لكن في عام 1908، بل وحتى في عام 1907، كانت الردة الرجعية قد بدأت تنتصر. اخترع الجميع شعارات وأساليب لكسب الجماهير لكن لا أحد تمكن من كسبها، لقد كانت يائسة. كان الشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به، في ذلك الوقت، هو تعليم الكوادر وحتى هؤلاء كانوا ينهارون. كانت هناك سلسلة من الانقسامات في اتجاه اليمين أو في اتجاه اليسار أو في اتجاه النزعة النقابوية، وما إلى ذلك. بقي لينين مع مجموعة صغيرة، مع عصبة، في باريس، لكنه كان واثقا من أن فرصا جديدة سوف تبرز. جاء عام 1913، فبرزت أمامنا موجة مد جديدة، لكن الحرب جاءت فقطعت ذلك التطور. خلال الحرب كان هناك صمت رهيب داخل الحركة العمالية. كان كونفرانس زيمروالد في أغلبيته لقاء لعناصر مشوشة للغاية. في أعماق الجماهير وفي الخنادق، وما إلى ذلك، كان هناك مزاج جديد يغلي، لكنه كان عميقا جدا ومرتعبا لدرجة أننا لم نتمكن من الوصول إليه وإعطائه تعبيرا. هذا هو السبب في أن الحركة بدت لنفسها سيئة للغاية، وحتى تلك العناصر التي التقت في زيمروالد، انتقلت، في أغلبيتها، إلى اليمين في العام الموالي أو في الشهر الموالي. لن أبرئهم من مسؤوليتهم الشخصية، لكن التفسير العام هو أن الحركة كان مجبرة على السباحة ضد التيار»[94].
أنشأ زيمروالد لجنة اشتراكية أممية عملت على التنسيق بين التيارات اليسارية، لكنها كانت تتألف بشكل أساسي من الوسطيين مثل غريم وبابانوفا. كان معظم الحاضرين في زيمروالد، بشكل عام، مرتبكين ووسطيين متذبذبين. لم تكن لدى لينين أوهام فيهم، لكنه رأى في الكونفرانس خطوة إلى الأمام. وعلى الرغم من تحفظاته، فقد وقع على بيان زيمروالد، الذي كان تروتسكي هو من كتبه. لخص لينين موقفه تجاه زيمروالد في مقالته “الخطوة الأولى”، حيث كتب: «إن البيان يعني، من الناحية العملية، خطوة نحو الانفصال الأيديولوجي والعملي عن الانتهازية والاشتراكية الشوفينية. لكنه، وفي الوقت نفسه، يحتوي، كما يظهر تحليله، العديد من النواقص، ولا يقول كل ما يجب قوله»[95]. أي أن لينين، بعبارة أخرى، ينتقد البيان ليس بسبب ما يقوله، بسبب ما لا يقوله.
لقد كان الشيء الأساسي هو تطوير اليسار الزيمروالدي كتيار مستقل. ومع ذلك فإن العديد من “اليساريين” سرعان ما بدأوا يتذبذبون. وقد واجه لينين المشاكل بالخصوص مع رولاند هولست وراديك حول الخط الذي يجب أن تتبعه الجريدة الرسمية لليسار، فوربوت (البشير)، التي كانت تصدر في هولندا بمساعدة بانيكوك.
بفضل مشاركته في زيمروالد صارت كتابات لينين عن الحرب والأممية معروفة على نطاق واسع وبلغات مختلفة. وضع اليسار الزيمروالدي أسس دعم مهمة لبناء الأممية الثالثة في المستقبل. كانت رسالة زيمروالد، على الرغم من أوجه القصور فيها، قد بدأت تنتشر. لا يميل العمال عادة إلى قراءة “التفاصيل الصغيرة” في الوثائق السياسية، بل يتجهون مباشرة إلى ما يرون أنها الفكرة الرئيسية ويملئونها بمحتواهم الخاص. ويوضح شليابنيكوف، في مذكراته، كيف وصلت أخبار مؤتمر زيمروالد تدريجيا إلى العمال في روسيا والتأثير الإيجابي للغاية الذي كان لها في تشجيع المجموعات العمالية، وعلى وجه الخصوص تلك التي لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالبلاشفة. «وكما اتضح فيما بعد فقد صارت كل تلك الخلايا تتبع قرارات زيمروالد. يجب أن نلاحظ أن تلك المجموعات الصغيرة لم تكن على اتصال فيما بينها، كما أنها لم تكن تعرف حتى بوجود مجموعات أخرى تشبهها»[96].
لم يكن رد الفعل هذا مقتصرا على روسيا، فقد كانت هناك بدايات غليان داخل الأحزاب الجماهيرية للأممية الثانية. كانت ألمانيا نفسها تتجه آنذاك نحو وضع ما قبل ثوري. وفي أوائل عام 1916، دعا أوتو روهل، الذي كان أحد نواب الرايخستاغ، إلى القطيعة مع الاشتراكيين الشوفينيين. كان اليسار الألماني قد بدأ، بشكل مستقل، في رؤية الحاجة إلى أممية جديدة. وقد تتبع لينين عن كثب سلسلة “الرسائل” التي كان ينشرها اليسار الألماني، والتي كانت تحمل توقيع “سبارتاكوس”. كانت الشبيبة الاشتراكية التي أسسها كارل ليبكنخت هي القاعدة الرئيسية لليسار. كانت الأمور تتحرك في النمسا أيضا، ففي خريف عام 1916، تشكل جناح يساري داخل الحزب الاشتراكي النمساوي بالاعتماد على الشباب. وانطلق التحريض ضد الحرب من “نادي كارل ماركس” في فيينا. وفي فرنسا، تم تشكيل مجموعة يسارية من بين أعضاء البرلمان والذين تلقوا خطابات دعم من الخنادق. كما شهدت بريطانيا، في شهر أبريل، طرد مجموعة هيندمان الشوفينية من الحزب الاشتراكي البريطاني في مؤتمر سالفورد. أما في إيطاليا، فقد كان سيراتي، “الأكثر يسارية” بين قادة الحزب، ما زال مرتبطا بالوسطيين، بينما كان غرامشي، الذي كان ما يزال شابا، يدعم أفكار لينين. وفي سويسرا رفض الحزب الاشتراكي قرارات زيمروالد باعتبارها “متطرفة جدا”، لكن قطاعا كبيرا من القواعد دعموا تلك القرارات. في بلغاريا كان لدى تيسنياكي (الاشتراكيون “المتشددون”) موقف ثوري مناهض للحرب. لقد كان هناك تيار ثوري أو شبه ثوري قد بدأ يتبلور داخل المنظمات الجماهيرية في كل مكان.
كونفرانس كينثال
كانت أعراض الأزمة الثورية المتنامية واضحة للعيان. ومن بين الأمثلة: حشد من الناس في ألمانيا يستقبل الزعيم الاشتراكي اليميني شيدمان بصيحات الاستهجان؛ إضراب مستأجرين في غلاسكو؛ مظاهرات ضد ارتفاع تكلفة المعيشة في العديد من البلدان… إلا أن أبرز طريقة عبر بها عن نفسه ذلك الغليان الاجتماعي الذي كان موجودا في جميع البلدان المتحاربة، هي ارتفاع ملحوظ في عدد الإضرابات، كما يتضح من خلال الجدول التالي[97]:
البلد | السنة | عدد الإضرابات | عدد المضربين |
ألمانيا | 1915 1916 | 137 240 | 14.000 129.000 |
فرنسا | 1915 1916 | 98 314 | 9.000 41.000 |
روسيا | 1915 1916 | 928 1.410 | 539.000 1.086.000 |
كان لينين يراقب بعناية أي علامة على حدوث تحول في مزاج البروليتاريا الأوروبية. كان ذلك عنصرا محددا بشكل حاسم لمنظوراته للثورة في روسيا. في أكتوبر 1915، كتب قائلا: «إن المهمة التي تواجه البروليتاريا في روسيا هي إكمال الثورة البرجوازية الديمقراطية في روسيا من أجل إشعال الثورة الاشتراكية في أوروبا. إن هاتين المهمتين تقفان الآن جنبا إلى جنب…»[98].
لقد وجدت الأزمة الاجتماعية المتنامية صدى متأخرا لها داخل المنظمات الجماهيرية المنتمية للأممية الثانية، حيث عبّر سخط القواعد عن نفسه من خلال تزايد التأييد للجناح اليساري. وفي سياق سعيهم إلى ضرب اليسار، لجأ قادة الأممية الثانية إلى مناورة جديدة. كان المكتب الاشتراكي الأممي معطلا بشكل كامل منذ بداية الحرب. لكن وبشكل مفاجئ أعلن سكرتير المكتب، كميل هيسمانز، خلال مؤتمر للحزب الهولندي، في يناير 1916، أن “المنظمة الأممية لم تمت”. وكرد فعل من جانب اليسار انعقد اجتماع لـ“اللجنة الموسعة”، في فبراير 1916 في بيرن، بحضور مندوبين من النمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا ورومانيا وسويسرا وبلدان أخرى، لفضح مناورة هيسمانز باعتبارها “مؤامرة ضد الاشتراكية”. تم الاتفاق هناك على الدعوة لعقد كونفرانس أممي آخر لليسار. وهو ما تحقق في أوائل شهر ماي في كينثال، حيث تم عقد كونفرانس ثان بمشاركة 43 مندوبا من روسيا وبولندا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا والنمسا وصربيا والبرتغال. حضر ويلي مونزينبرغ ممثلا عن فرع الشبيبة الأممية. وكان البلاشفة ممثلين بكل من لينين وزينوفييف وإينيسا أرماند. بالنسبة للبولونيين كان راديك (وحضرت مجموعة بولونية أخرى مثلها كل من ف. دومبروفسكي وميخيسلاف برونسكي)؛ وثلاثة اشتراكيين سويسريين: إرنست نوبز وفريتز بلاتن وأغنيس توبمان؛ ومثل الصرب تريشا كانتسليفوفيتش؛ وعن مجموعة يسارية في بريمن جاء بول فروهليش، بالإضافة إلى مونزينبرغ وثالهيمر، وغيرهم. كان اليسار أقوى هنا عما كان عليه الحال في زيمروالد. لكن وعلى الرغم من ذلك فإنهم لم يتفقوا على قرار بشأن السلام. كان مزاج الأغلبية ما يزال وسطيا. جاءت النتيجة النهائية حلا وسطا، لكنها مع ذلك شكلت تقدما بالنسبة لزيمروالد.
كانت التوترات بين اليمين واليسار في تصاعد مستمر داخل حركة زيمروالد، التي أقل ما يقال عنها إنها كانت حركة غير متجانسة. كان لينين مستعدا للتعايش المؤقت مع الوسطيين، لكن ذلك لم يكن ليستمر طويلا. الانشقاق داخل الأممية، الذي كان لينين وحده من فهمه، كان موجودا بالفعل على أرض الواقع. ففي ظل ظروف الحرب والثورة تكون جميع التيارات الوسطية محكومة بالزوال. ولم يقم لينين سوى بتسريع زوالهم من خلال تأكيده على ضرورة الوضوح. إن الغموض أمر غير مقبول خلال الفترات التاريخية الحرجة، عندما تكون هناك ضرورة حسم الاختيارات. كان الظرف الموضوعي يدفع الجماهير نحو اليسار، نحو طريق الثورة. وكان تيار زيمروالد الوسطي يقف مكتوف الأيدي. وبالتالي فقد كانت هناك طريقتان فقط للمضي قدما: إما السير حتى النهاية والقطع بشكل نهائي مع الإصلاحية والانتقال إلى الموقف الثوري الواضح، أو العودة إلى مستنقع الإصلاحية. لقد جعل لينين، بالكلمة والفعل، هذا الأمر واضحا للغاية، ولهذا كرهه الوسطيون، إذ كما هو الحال تاريخيا دائما ما يكره الشخصُ المرتبكُ الشخصَ الذي تكون لديه أفكار واضحة.
كان روبرت غريم هو أول من انتقل إلى معسكر اليمين. فبحلول صيف 1916، كان قد استسلم. كان لينين صارما في انتقاده للوسطيين الذين كانوا ثوريين بالأقوال، لكنهم إصلاحيون برجوازيين في الممارسة. كان ذلك السلوك بالضبط هو ما يكرهه لينين. بعد ذلك سار كل من توراتي وميريم وبوردون، وسائر الوسطيين الآخرين، على نفس الدرب. وفي النهاية لم يتبق شيء من زيمروالد، باستثناء الذاكرة، واليسار! لم يكن ليسار زيمروالد نفسه أهمية مستقلة إلا باعتباره نقطة انطلاق لبناء الأممية الجديدة. لكن بناء تلك الأممية كان يحتاج لأحداث كبرى كانت ما تزال على بعد بضعة أشهر فقط. من خلال تجربة زيمروالد اكتسب لينين خبرة لا تقدر بثمن ومجموعة واسعة من العلاقات مع التيارات اليسارية الألمانية (مجموعة سبارتاكوس ومجموعة بريمن أربيتيربوليتيك)، ومجموعة فردناند لوريوت في فرنسا، وجون ماكلين في بريطانيا، وأوجين ديبس في الولايات المتحدة الأمريكية، وبانيكوك وغورتر في هولندا، وسيراتي وغرامشي في إيطاليا، وفريتز بلاتن في سويسرا، وهانييكي وراديك في بولونيا. كانت هناك أيضا مشاكل داخل يسار زيمروالد. إذ لم تكن المواقف السياسية موحدة بين كل من سبقت الاشارة إليهم. بل حتى أشخاص بارزين في دائرة لينين، مثل راديك وبوخارين وبياتاكوف وغيرهم، لم يكونوا يتبنون موقفا بلشفيا لينينيا واضحا. حتى اليسار كان مفتقرا للتجانس إلى حد ما. كانت تلك، أيضا، مرحلة ضرورية في الرحلة نحو ثورة أكتوبر. لكن هذا المنظور كان يبدو بعيد المنال في ذلك الوقت.
كان لينين المحاصر في منفاه السويسري يجوب أرجاء غرفته مثل نمر محبوس. ألن ينتهي كابوس الردة الرجعية هذا؟ كانت مشاعر العزلة والإحباط المميزة لحياة المنفيين بمثابة سم ينخر ببطء حتى أقوى الشخصيات. حتى لينين لم يكن محصنا ضد هذا السم. ففي بعض الأحيان كانت تعذبه فكرة أنه قد لا يعيش ليرى الثورة. وفي خطاب كتبه لإينيسا أرماند، مطلع عام 1916، عبر عن قلقه قائلا: “إن الحركة الثورية تنمو ببطء شديد وبصعوبة هائلة”. وأضاف بنبرة حزينة: “ما علينا إلا أن نتحمل”. وفي أحد أكثر أشكال سخرية التاريخ غرابة، نجد لينين في خطاب ألقاه أمام الشباب الاشتراكيين السويسريين، في يناير 1917، يقول: «نحن الجيل الأكبر سنا قد لا نعيش لرؤية المعارك الحاسمة لهذه الثورة القادمة»[99]. لكن وبعد شهر واحد اندلعت ثورة أطاحت بالقيصر. وبعد أقل من عام تمكن البلاشفة من الوصول إلى السلطة.
هوامش ومراجع
[1] Trotsky, Writings, 1935–1936, pp: 140–141.
[2] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, pp: 35 and 103.
[3] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p: 101.
[4] L. Kochan, Russia in Revolution, p: 177.
[5] G.V. Plekhanov, Voprosy Voiny i Sotsialisma, p: 69.
[6] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 286 and 287-288.
[7] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 362.
[8] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 17/10/1914, vol. 35, pp: 161-162.
[9] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 288.
[10] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 364.
[11] A.V. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, pp: 63-64.
[12] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions,. pp: 373-374.
[13] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p: 293.
[14] Ibid., p: 104.
[15] Ibid., p: 293.
[16] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 27/10/1914, vol. 35, pp: 167-168.
[17] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 288-289.
[18] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 17/10/1914, vol. 35, 161 footnote, p: 62.
[19] L. Trotsky, Stalin, p: 168.
[20] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 290.
[21] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p: 273.
[22] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 358.
[23] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p: 128.
[24] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 356.
[25] Ibid., p: 365.
[26] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, pp: 129-130.
[27] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp: 58-59.
[28] L. Kochan, Russia in Revolution, pp: 176-77.
[29] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 285.
[30] A.Y. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 208.
[31] Ibid., pp: 208-209.
[32] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 366.
[33] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 59.
[34] A.Y. Badayev, Bolsheviks in the Tsarist Duma, p: 212.
[35] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 28/11/1914, vol. 35, p: 175.
[36] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 370.
[37] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 285-286.
[38] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 17/10/1914, vol. 35, p: 164.
[39] LCW, To David Wijnkoop, vol. 35, p: 195.
[40] L. Trotsky, Writings 1935-1936, p: 26.
[41] McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 360.
[42] LCW, To Alexandra Kollontai, vol. 35, p: 198.
[43] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p: 272.
[44] L. Trotsky, Stalin, p: 169.
[45] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 11/3/1916, vol. 35, pp: 214-215.
[46] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, pp: 35 and 37-38.
[47] D. Volkogonov, Le Vrai Lénine, p: 130.
[48] LCW, Dreyfusiad, vol. 25, p: 167.
[49] LCW, At the Uttermost Limit, vol. 21, pp: 421-422.
[50] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, pp: 599-600.
[51] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, pp: 40-41.
[52] Ibid., pp: 44, 51 and 47.
[53] McKean, St. Petersburg Between the Revolutions. pp: 368, 369, 367 and 370.
[54] Pis’ima P.B. Aksel’rod Yu. O. Martova 1901-1916, p: 355.
[55] R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p: 371.
[56] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 28/11/1914, vol. 35, p: 175. (التشديد من آلان وودز)
[57] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 23/8/1915, vol. 35, p: 205.
[58] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 62.
[59] الفيرست وحدة قياس مسافات روسية قديمة تبلغ حوالي 1.000 متر -المترجم-
[60] O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924. pp: 257, 258, 259, 260, 264 and 265.
[61] L. Kochan, Russia in Revolution, pp: 181-182.
[62] الوقاد هو الشخص المكلف بالفرن على متن الباخرة البخارية -المترجم-.
[63] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917. pp:138-139 and139-140 (التشديد من آلان وودز)
[64] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, pp: 191 and 192.
[65] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 44.
[66] L. Kochan, Russia in Revolution, pp: 184, 185 and 186.
[67] O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p: 276.
[68] A. Kerensky, The Kerensky Memoirs: Russia and History’s Turning Point, p: 142.
[69] John Riddel : Lenin’s Struggle for a Revolutionary International
[70] O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p: 285 and 287.
[71] LCW, To A.G. Shlyapnikov, 23/8/1915, vol. 35, pp: 204-205.
[72] O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p: 273.
[73] LCW, May Day and the War, 1915, vol. 36, p: 325.
[74] A. Kerensky, The Kerensky Memoirs: Russia and History’s Turning Point, p: 136.
[75] LCW, Several Theses, vol. 21, pp: 401, 402.
[76] Istoriya KPSS, vol. 2, p: 581.
[77] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, p: 164.
[78] Ibid., p: 152.
[79] LCW, The Defeat of Russia and the Revolutionary Crisis, vol. 21, p: 379.
[80] L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p: 97.
[81] Istoriya KPSS, vol. 2, p: 547.
[82] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, pp: 181-82.
[83] : Ibid., p: 141.
[84] Ibid., pp: 163, 164.
[85] John Riddel : Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, p: 268.
[86] كانت غاليسيا جزءا من بولندا التي كانت تحت الحكم النمساوي قبل الحرب العالمية الأولى.
[87] J.L.H. Keep, The Rise of Social Democracy in Russia, p: 49.
[88] Lenin’s Struggle for a Revolutionary International, pp: 268, 269.
[89] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, pp: 301, 303.
[90] ألبرت أوسكار ويلهلم زوديكوم (1871- 1944) قيادي في الحزب الاشتراكي الألماني، من أنصار الدفاع عن الوطن خلال الحرب العالمية وتحالف الحزب الاشتراكي مع البرجوازية. -المترجم-
[91] LCW, To Alexandra Kollontai, 11/7/1915, vol. 35, pp: 193-194.
[92] V.I. Lenin, Collected Works, (بالروسية), vol. 49, p: 51.
[93] V.I. Lenin, Collected Works, (بالروسية), vol. 26, p: 128.
[94] L. Trotsky, Fighting Against the Stream, in Writings:1938-1939, pp: 252-253.
[95] : LCW, ‘The First Step’, vol. 21, p: 384.
[96] A. Shlyapnikov, On the Eve of 1917, p: 160.
[97] Istoriya KPSS, vol. 2, p: 624.
[98] LCW, Several Theses, vol. 21, p: 402.
[99] N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p: 335.