تركت الانتفاضة الثورية للجماهير السورية العديد من مكونات اليسار السوري في حالة تشوش وارتباك. ولقد اتخذ العديد ممن يسمون أنفسهم “تقدميين” و”يساريين” موقفا سلبيا تجاه الحركة الثورية، حتى أنهم وصلوا في بعض الحالات إلى حد تكرار دعاية النظام حول “المؤامرة الامبريالية”، “المتطرفين الإسلاميين”، و” المحرضين المندسين”. لكن كل هذا يعبر عن قراءة خاطئة تماما للوضع.
لمحة موجزة عن التطور التاريخي لسورية
استعمرت الإمبريالية الفرنسية سورية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. انتهى الانتداب الفرنسي في عام 1946 بعد صراع من أجل الاستقلال الوطني وتشلكت الجمهورية العربية السورية بحدودها الحالية (بعد الانفصال عن لبنان(بعد الاستقلال، شهدت البلاد حياة سياسية شديدة الاضطراب وحدثت عدد من الانقلابات العسكرية. تشكلت العديد من الحكومات وسقطت، وانفكت أواصر الوحدة مع مصر، في ظل جمال عبد الناصر في 1958، بعد ثلاث سنوات من ظهورها. وفي عام 1963، وصل حزب البعث إلى السلطة من خلال انقلاب ضم ضباطاً عسكريين ومدنيين، وأعقبت ذلك عدد من الانقلابات داخل حزب البعث أدت إلى وصول حافظ الأسد إلى السلطة في عام 1970.
بعد وصوله إلى السلطة، شرع حزب البعث (المعروف أيضا باسم حزب البعث العربي الاشتراكي(في تأميم أهم القطاعات الاقتصادية وبناء اقتصاد مخطط مركزيا على غرار الاتحاد السوفيتي. وقد تسرعت العملية أكثر بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة، مما أدى إلى تقدم ملموس في مجالات الصناعة والزراعة والخدمات. كانت الستينات وبخاصة السبعينات فترة نمو اقتصادي باهر، مما وفر فرص العمل لكثير من الشباب السوري وارتفاع مستويات المعيشة لسكان سورية ككل. ولكن وبالنظر إلى أن ما تم بناؤه لم يكن دولة عمالية حقيقية مؤسسة على الديمقراطية العمالية، بل كاريكاتير بيروقراطي فضيع لدولة العمال، مع كل القيود التي سببها هذا في نهاية المطاف على النمو، بدأ الاقتصاد في التباطؤ في الثمانينيات وأصبحت المشكلة أكثر حدة في التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
سنة 2000، توفي حافظ الأسد وأصبح ابنه بشار رئيسا للبلاد. منذ مجيئه إلى السلطة، سعى النظام السوري بقيادة بشار إلى تحرير الاقتصاد تدريجيا من سيطرة الدولة وإدخال ما يسمى بـ “اقتصاد السوق”. بقيت هذه العملية مع ذلك بطيئة وما يزال الاقتصاد اليوم إلى حد كبير في يد الدولة، لكن مع قطاع خاص متزايد في النمو والذي تسبب في تزايد متواصل للامساواة الاقتصادية والاجتماعية.
تطور الدولة السورية وطبيعتها في ظل حزب البعث
قامت الجماهير السورية بالثورة ضد الاستعمار بهدف تحقيق الاستقلال الوطني وتوحيد البلاد التي قسمتها الإمبريالية الفرنسية آنذاك، وتلبية الاحتياجات الاقتصادية الأكثر إلحاحا للبلد. كانت الدولة التي ظهرت مباشرة بعد الاستقلال، دولة ديمقراطية برجوازية، أي دولة رأسمالية مع نظام سياسي ديمقراطي. ولكن تبين أن هذه الدولة كانت غير مستقر للغاية، بدليل الانقلابات العسكرية العديدة وإلغاء الحقوق الديمقراطية في عدد من المناسبات. بالإضافة إلى ذلك، فشلت الدولة السورية في تحقيق استقلال سياسي حقيقي عن القوى الامبريالية، كما فشلت في الإجابة عن المسألة الاقتصادية الأكثر أهمية لبلد كان الفلاحون يشكلون فيه أغلبية السكان في ذلك الوقت: أي مسألة الإصلاح الزراعي.
سبق لتروتسكي أن أوضح منذ زمن طويل، في نظريته الثورة الدائمة، أنه في عصر الإمبريالية تكون البرجوازية الوطنية، الطبقة الرأسمالية، في البلدان المتخلفة غير قادرة على تحقيق المهام التاريخية التي كانت البرجوازية في أوروبا الغربية قادرة على تحقيقها في عصر الثورة الصناعية. والسبب في ذلك هو أنه، في بلد متخلف، ترتبط الطبقة الرأسمالية ارتباط عضويا مع الطبقة الإقطاعية، أي ملاك الأراضي، وتعتمد وتخضع إلى حد كبير للرأسماليين في البلدان الامبريالية الذين هم أقوى بكثير منها والذين تكون مصالحهم غالبا معادية للمصالح الوطنية للبلدان المتخلفة. بالنسبة لتروتسكي، تعتبر البروليتاريا، أي الطبقة العاملة، الطبقة الوحيدة القادرة على تحقيق المهام التاريخية للثورة البرجوازية ومن تم التحرك قدما باتجاه الثورة اشتراكية.
لينين بدوره فهم هذا الأمر بشكل جيد في العام 1917، عندما خاض الصراع ضد تلك العناصر داخل قيادة الحزب البلشفي، التي أصبحت في وقت لاحق من كبار الشخصيات داخل صفوف البيروقراطية الستالينية، وأصر على أن الطبقة العاملة الروسية، وليس البرجوازية الروسية، هي الوحيدة القادرة على تحقيق المهام البرجوازية الديمقراطية للثورة الروسية، في حين أن الجزء الأكبر من القيادة البلشفية أعتقد أن الثورة الروسية ستكون ثورة برجوازية حيث تلعب البرجوازية الروسية دورا تقدميا فيها. ولقد أثبتت تطورات الثورة الروسية، كثورة اشتراكية، أن كلا من تروتسكي ولينين كانا محقان تماما.
البرجوازية السورية ليست استثناء. يحتاج تحقيق ديمقراطية برجوازية مستقرة، وحكومة وطنية قوية، وإصلاح زراعي وجود طبقة رأسمالية قوية، وهي الطبقة التي لم تكن موجودة في سورية. كانت الانقلابات العسكرية العديدة مؤشرا عن وجود أزمة في المجتمع السوري، كانت مؤشرا عن وجود صراع بين طبقات مختلفة من المجتمع، وحتى بين قطاعات مختلفة من نفس الطبقة، وأنه لا توجد طبقة اجتماعية قوية بما فيه الكفاية لقيادة الأمة في اتجاه تطور برجوازي مستقر.
استمرار هذا الوضع لسنوات، أدى إلى حالة من الإحباط في صفوف العديد من ضباط الجيش والقادة المدنيين. لقد سعوا إلى إيجاد مخرج، وفي ظل غياب منظمات ماركسية سليمة لقيادة النضال، اتجه نظرهم نحو روسيا القوية وأعجبوا بإنجازاتها. مثلت البيروقراطية في روسيا، وغيرها من البلدان الستالينية الشمولية، صورة كاريكاتورية للاشتراكية، لكن، ومع ذلك، أثبت الاقتصاد المخطط المؤمم فعالية عالية وتفوق بكثير على اقتصاد السوق الرأسمالي، أثبت أنه بديل أكثر جاذبية بالنسبة إلى فئة الضباط السوريين الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق انقلاب عام 1963. شهد النظام السوفيتي في ظل ستالين نموا اقتصاديا هائلا، وبالتالي “استقرارا”، لكنه سمح، في نفس الوقت، بنمو فئة ذات امتيازات في القمة، فئة البيروقراطية، وقد تزاوج هذا مع استعمال أكثر الوسائل القمعية في الحكم. كان هذا هو النموذج الذي على أساسه أقدمت فئة الضباط في سورية على تأميم الجزء الأكبر من الاقتصاد وإقامة نظام مماثل لنظام الاتحاد السوفيتي.
باختصار، بدأت الدولة السورية في ظل حزب البعث ليس من نموذج روسيا عام 1917، بل من نموذج الدولة السوفيتية كما انتهت في عهد ستالين. ألغى النظام السوري في ظل حافظ الأسد جميع الحقوق والحريات الديمقراطية، وسجن المعارضين، وخنق الحياة السياسية في البلاد، وفرض نظام الحزب الواحد. كانت دولة ذات طابع متناقض، لقد كانت قمعية جدا، لكنها في الوقت نفسه كانت ذا بعد تقدمي للغاية. في السنوات الأولى من قيادة حافظ الأسد، كانت سورية قادرة على التطور بقفزات. صودرت أراضي الملاكين العقاريين ووزعت على الفلاحين، وتطورت الصناعة بشكل سريع، تم بناء المدارس والمستشفيات، وأنشئ نظام تعليم ونظام صحي شامل ومجاني، كما بنيت حكومة وطنية قوية وجيش قوي. هذا هو المفتاح لفهم سبب استقرار النظام، كان هناك تأييد حقيقي بين شرائح كبيرة من السكان للتدابير الاقتصادية التقدمية التي جرى تطبيقها. لكن وكما هو الحال في كل الاقتصادات الأخر ى المخططة بيروقراطيا، سرعان ما أدى الفساد والمحسوبية وأساليب المافيا للزمرة الحاكمة إلى خنق الحياة الاقتصادية للبلد. تباطأ النمو أكثر فأكثر وجاءت أكبر ضربة مع انهيار الاتحاد السوفيتي، الحليف السياسي والاقتصادي المهم للنظام السوري.
بعد انهيار الأنظمة في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي نفسه، سعت البيروقراطية الستالينية السورية، بشكل مماثل لما حدث في الصين بقيادة دنغ، إلى شن ثورة اجتماعية مضادة وتحويل نفسها إلى الطبقة الرأسمالية الجديدة، وقد تسرعت هذه العملية على نطاق واسع مع وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم بعد وفاة والده. اتخذت تدابير كثيرة بهدف “تحرير الاقتصاد” و”الانفتاح” على نظام السوق. وهذا يعني السماح لبعض البنوك الأجنبية الخاصة بالعمل داخل البلاد، وتشجيع الاستثمار والشركات الخاصة، والأهم من ذلك إزالة بعض الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة وتقليص سيطرة الدولة على التجارة الخارجية.
وفي حين أفادت هذه العملية أقلية صغيرة من السكان، كان لها بعض العواقب الاجتماعية والاقتصادية الكارثية على طبقات واسعة من المجتمع السوري، بسبب ارتفاع الأسعار بشكل كبير (المواد الغذائية، والعقارات، الخ)، وإفلاس الشركات المحلية الصغيرة والصناعات الوطنية التي لم تتمكن من منافسة المنتجات المستوردة، ودفع بالغالبية العظمى من الطبقات ذات الدخل المتوسط نحو ظروف الفقر. العديد من بنوك القطاع الخاص التي افتتحت حديثا، والشركات (الهواتف المحمولة على سبيل المثال)، والشركات التجارية مملوكة من طرف أقارب الرئيس وأسرته أو كبار البيروقراطيين الحكوميين، مما يؤكد حقيقة أن بيروقراطية الدولة القديمة تقوم بتحويل نفسها إلى مالكين مباشرين لوسائل الإنتاج.
البونابرتية البروليتارية وجذور الأزمة الحالية
يمكن وصف نظام البعث السوري في الماضي بأنه “بونابارتي بروليتاري”. لقد تم تطوير مفهوم البونابارتية البروليتارية من قبل المنظر الماركسي البريطاني، ومؤسس التيار الماركسي الأممي، تيد غرانت. تم أخذ مصطلح البونابرتية من مثال نابليون بونابرت، الذي كان قادرا، بعد الثورة الفرنسية، على الحكم بطريقة شمولية قائمة على أساس الموازنة بين قوى الطبقات المختلفة في المجتمع، على الرغم من أنه في نهاية الأمر كان يدافع عن النظام الرأسمالي الصاعد آنذاك.
صحيح أن الدولة في حاجة إلى طبقة لتستند عليها. في الدولة الرأسمالية مع ديمقراطية برجوازية، تعتمد الدولة على الطبقة الرأسمالية وتمثل مصالحها. وفي ظل دولة عمالية سليمة، تعتمد الدولة على البروليتاريا وتمثل مصالحها. لكن في حالة عدم وجود طبقة اجتماعية قوية بما يكفي لكي تستند عليها الدولة، وعندما تلغي قوى الطبقات الاجتماعية المختلفة بعضها البعض، يمكن لجهاز الدولة، في هذه الحالة، أن يحقق مستوى معينا من الاستقلال عن جميع الطبقات الاجتماعية. هذا هو ما يشير إليه تيد غرانت بمفهوم البونابارتية.
مع ذلك، لا يمكن للدولة أن تحصل على استقلالها الكامل عن طبقات المجتمع المختلفة. ففي آخر المطاف، على الرغم من أن الدولة البونابارتية تقمع جميع الطبقات، فإنه عليها أن تفضل وتعمل لصالح طبقة معينة ضد الطبقات الأخرى، وهذا أمر يحدده الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة. إذا كان الاقتصاد رأسمالي، فالدولة تكون بونابارتية برجوازية، وتحمي مصالح الطبقة الرأسمالية؛ وهذا هو الحال مع الأنظمة الفاشية أو البوليسية- العسكرية على سبيل المثال. إذا كان الاقتصاد مخططا مركزيا وتم تأميمه كما تمت مصادرة أملاك البرجوازية، لكن دون ديمقراطية عمالية حقيقية، يمكن آنذاك وصف الدولة بأنها بونابارتية بروليتارية، بمعنى أنها تعتمد على القاعدة الاقتصادية للدولة العمالية، أي على اقتصاد مخطط مركزيا ومملوك من طرف الدولة، لكن العمال ليست لديهم السلطة السياسية. هذا هو الحال مع الستالينية.
كان المجتمع السوري قبل صعود حزب البعث إلى السلطة، على النحو المبين أعلاه، في أزمة سياسية مستمرة. كانت البرجوازية السورية عاجزة، وضعيفة جدا وغير قادرة على أخذ البلاد إلى الأمام، لا في ظل نظام ديمقراطي ولا في ظل نظام شمولي رأسمالي. والبروليتاريا السورية كانت صغيرة من الناحية العددية، والأهم من ذلك، كانت تفتقر إلى حزب ماركسي ثوري حقيقي لقيادتها إلى النصر. هذا هو السياق الذي كان فيه حزب البعث قادرا على المجيء إلى السلطة والبقاء فيها لمدة 40 عاما.
لم تقم قيادة البعث بتأميم الاقتصاد لأسباب أيديولوجية أو لأنها تؤمن حقا بالماركسية أو تفهمها، بل لأنها رأت، تجريبيا، أنها السبيل الوحيد للتغلب على التخلف الذي تعرفه البلاد وكسب بعض الاستقلال عن القوى الإمبريالية. وهكذا، فإن ما تحقق في سورية لم يكن يشابه بأي شكل من الأشكال الاشتراكية الحقيقية. لم يتم تأميم الاقتصاد تحت الرقابة الديمقراطية للعمال، بل تحت الرقابة البيروقراطية لفئة الضباط.
تمكن النظام السوري بمهارة من تحقيق التوازن بين طبقات المجتمع المختلفة، في محاولة لإرضاء الجميع قدر الإمكان واللعب بهم ضد بعضهم البعض. منذ السبعينات، كان هناك توازن دقيق للقوى بين الطبقة العاملة والفلاحين والبرجوازية الصغيرة في المدن والبلدات (وخصوصا طبقة التجار القوية في دمشق وحلب) وبين بقايا بعض الصناعيين والرأسماليين الصغار. ومع ذلك، فإن النظام البونابارتي بطبيعته يصبح في نهاية المطاف غير مستقر، وخصوصا بعد وصوله إلى نقطة لا يعود فيها قادرا على تطوير القوى المنتجة، وبالتالي يفشل في ضمان درجة معينة من المنافع المادية لمختلف الطبقات التي يقيم التوازنات بينها. على سبيل المثال، فإذا كان من الممكن للطبقة البروليتارية إسقاط النظام الديمقراطي البرجوازي المستقر، القائم على أساس برجوازية قوية مسيطرة، في فترة الأزمات، فإن النظام البونابارتي الذي يستند ليس على هذه أو تلك الطبقة، بل على التوازن بين الطبقات المختلفة هو أكثر عرضة وسهولة للإطاحة به.
إن ما نشهده اليوم في سورية ليس حركة أصولية إسلامية أو نوع من “مؤامرة أجنبية”. إن ما نشهده هو اضطراب ميزان القوى الطبقي السابق بسبب السياسات الاقتصادية (وآثارها الاجتماعية والاقتصادية) لبشار الأسد خلال أحد عشر عاما من رئاسته. الفقر في حد ذاته لا يكفي لإحداث ثورة، ولا القمع في حد ذاته يكفي؛ وإلا لكنا شهدنا ثورة في أيام حافظ الأسد. التغيير – أي الانتقال من وضع إلى آخر – هو ما يسبب ثورة. السياسة والاقتصادية للنظام في العقد الماضي خدمت مصلحة قسم صغير فقط من الطبقة العاملة، والذي تمكن من العثور على وظائف جيدة الأجر في القطاع الخاص الجديد. كانت السمة الرئيسية للفترة هي إثراء فئة صغيرة نسبيا من البورجوازية الصغيرة في المدن الكبيرة وتهميش شرائح واسعة من الطبقة العاملة، والبرجوازية الصغيرة والفلاحين. هذا يفسر جيدا لماذا تركزت الحركة الثورية في الأحياء ذات الدخل المنخفض والضواحي والمدن الصغيرة والقرى، في حين أن المقاومة ضد الحركة قادمة من داخل المدن الكبرى والأحياء ذات الدخل الأكثر ارتفاعا.
تطورت الحركة الثورية بشكل بطيء نسبيا مع انضمام فئات جديدة تدريجيا إليها. وهذا يمكن تفسيره بسببين. الأول هو غياب قيادة تمتلك برنامجا واضحا، مما يخلق حالة من الخوف وعدم اليقين لا سيما بين فئات معينة من الطبقة الوسطى التي تبنت مواقف رجعية والتي كان من الممكن كسبها إلى جانب الحركة الثورية، لو توفرت تلك القيادة. والسبب الثاني مرتبط بطبيعة الثورة نفسها، إن الظواهر الاجتماعية، كالثورات مثلا، تشبه الظواهر الطبيعية. البركان، إذا ترك لنفسه، يثور فقط عندما تتراكم الضغوط بما يكفي داخله وليس قبل ذلك، ولا بعد ذلك. لكن إذا حدث زلزال بالقرب من البركان، يمكن له أن ينفجر بشكل مبكر. لقد كان البركان السوري بالتأكيد يراكم الضغوط بسبب الاستياء من عدم المساواة الاجتماعية والظلم المتزايد. لكن في الوقت الذي انفجر فيه الزلزال التونسي، لم تكن الغالبية العظمى من المجتمع السوري قد وصلت بعد بالضرورة إلى نقطة الغليان، ويبدو أن الثورة التونسية دفعت قطاعات معينة من المجتمع السوري إلى التجذر قبل الأخرى، وتلك القطاعات بدورها أسهمت في دفع بعض الفئات الأخرى من المجتمع إلى التجذر. لكن التطور الكلي للوضع يظهر أن فئات معينة من المجتمع السوري فوجئت وأخذت على حين غرة، وهم يستوعبون الوضع تدريجيا فقط.
أكاذيب النظام
يعمل النظام السوري على استغلال بعض المخاوف والأحكام المسبقة (الدينية والعرقية والإيديولوجية…) لتخويف السكان من خلال تهديدهم بمستقبل مشئوم في حال سقوط النظام. لقد رفض النظام حتى الآن الاعتراف بالحركة الثورية. وهو ينشر جميع أنواع الأكاذيب والشائعات عن المؤامرات الخارجية والمتطرفين الإسلاميين، ويجمع بين هذه الدعاية وبين تدابير قمع الوحشية، إطلاق النار بالذخيرة الحية على المتظاهرين، اقتحام الأحياء وتنفيذ الاعتقالات الجماعية، حصار المدن والبلدات بالدبابات وحرمان سكانها من الغذاء والماء، بل وحتى اختطاف الجرحى من المستشفيات أو قتلهم هناك على الفور. إن النظام المضطر إلى اللجوء إلى تدابير من هذا القبيل في التعامل مع حركة احتجاجية، هو نظام يحتضر بوضوح ومتفسخ جدا حتى النخاع. هو نظام لا أمل له ولا مستقبل.
ذهبت دعاية النظام إلى أقصى حدود المبالغة بحديثها عن مؤامرة امبريالية لإسقاط النظام وتقسيم البلاد إلى أجزاء خدمة لمصلحة إسرائيل والغرب. هذا أمر مثير للسخرية إذا يلاحظ المرء اعتدال الإدارة الأمريكية في انتقادها للنظام، وكيف أن البلدان الامبريالية فعلت القليل جدا بخصوص الوضع في سورية، مقارنة مع تدخلها المباشر في ليبيا أو حتى مناوراتها وراء الكواليس في مصر. كما أن الصحف الإسرائيلية عبرت مرات عديدة عن خوف الطبقة الحاكمة الإسرائيلية من انهيار النظام وتداعياته. وعلى الرغم من أن النظام الصهيوني في إسرائيل يفتخر بأن يكون النظام “الديمقراطي الوحيد” في الشرق الأوسط، فإنه لا يبدو أنه حريص جدا على رؤية نظام استبدادي مثل النظام السوري وهو يسقط. إنه يفضل وجود نظام مستبد “مستقر” في السلطة في هذا البلد المجاور على أن يكون للشعب السوري أي من الحقوق الديمقراطية الأساسية. والأتراك، القوة العظمى الإقليمية الأخرى، يدعمون في الواقع بشكل كلي نظام الأسد. إذن أين هي هذه المؤامرة الخارجية؟
بعد أن نقول هذا، علينا أن ندرك أن الخوف من مؤامرة أجنبية ضد سورية له تأثير على بعض الفئات بين الجماهير؛ وهو ليس خوفا مبني على الفراغ. لدا الامبرياليين تاريخ في التآمر في التعامل مع سورية. كان النظام السوري لسنوات عديدة داخل مجال النفوذ السوفيتي، وكان ينظر إلى سورية باعتبارها “دولة مارقة” إلى جنب دول مثل إيران وليبيا وكوريا الشمالية. ولكن في السنوات الأخيرة تغيرت الأحوال، فقد تم فتح الاقتصاد أمام الاستثمار الأجنبي والنظام السوري تعاون مع الامبريالية في حالات عدة.
في مارس 2005 دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش النظام السوري إلى سحب قواته من لبنان بعد وجود استمر 30 عاما. ومع حلول نهاية ابريل من السنة نفسها طبق النظام السوري الأمر. وبعد ذلك بعام خلص تقرير بيكر الشهير (المسمى رسميا تقرير مجموعة دراسة العراق) إلى أنه بدلا من فتح مواجهة مع سورية وإيران، يتوجب على الإدارة الأميركية أن تستعين بهذين البلدين لتهدئة الأوضاع في العراق من أجل السماح بانسحاب القوات الأمريكية. لم يكن بوش في ذلك الوقت معجبا بالفكرة، ولكن ممثلي البرجوازية الأمريكية الأكثر ذكاء والأبعد نظرا فهموا أنه يمكن أن يتم استخدام النظام السوري لتعزيز مصالحهم في المنطقة.
الحقيقة هي أن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية ترغب في التدخل في هذا البلد، إذا استطاعوا، ولكن المشكلة هي أنهم لا يستطيعون. أيديهم غارقة بالكامل في أفغانستان والعراق. وقد أضافوا ليبيا الآن إلى مشاكلهم، حيث على الرغم من أنهم وافقوا على فرض منطقة حظر جوي، فإنهم خائفون جدا من الانجرار إلى وجود عسكري شامل على الأرض. ولذلك فإن القول بأنهم هم من يقوم بإثارة الأحداث في سورية هو سخافة مطلقة.
ومن المؤسف أن نرى بعض أوساط اليسار تعيد نفس الحديث عن المؤامرة الأجنبية. هذا ليس من قبيل الصدفة وليس فقط نتيجة للارتباك. هذا الشيء يصير متوقعا بمجرد التخلي عن الماركسية باعتبارها وسيلة لفهم السيرورة. الستالينيون خاصة تخلوا عن الماركسية الحقيقية منذ زمن طويل لصالح ما يسمى الطريق الوطني إلى الاشتراكية و”العالم ثالثية”. وقد أدى بهم افتقارهم إلى المنظور الأممي لإلقاء اللوم على البلدان الامبريالية في كل شيء خطأ، بنفس طريقة البيروقراطية البعثية! إنهم يرفضون أن يرو أن الثورة السورية هي نتاج للتناقضات الاجتماعية والاقتصادية داخل سورية نفسها، وأن الثورة العربية هي انعكاس للأزمة العامة للرأسمالية العالمية.
الفزاعة الكبيرة الأخرى التي لا يتوقف العلمانيون واليساريون وما يسمى بـ”التقدميين” عن التكلم عنها هي الأصولية الإسلامية. هذا أمر مثير للسخرية نظرا إلى أنه لا يمكن رؤية الإسلاميين في أي مكان في هذه الحركة، والإخوان المسلمون لم يلعبوا أي دور على الإطلاق في الأحداث التي تقع في سورية. ليس هناك أي مبرر لكل هذا الذعر حول صعود الأصولية الإسلامية. تصر الحكومة السورية على أن هؤلاء الإسلاميين هم الذين يقتلون الجنود خلال الشهرين الماضيين، لكن ولسبب ما لم تتمكن من وضع أيديها عليهم. يمكن للنظام أن يقتل المئات ويعتقل الآلاف، ولديه جهاز مخابرات يعمل على نطاق واسع للغاية، ويقوم بالتجسس على الجميع، لكنه رغم ذلك لا يستطيع وضع يديه على هؤلاء الإسلاميين الذين من المفترض أنهم يقتلون الجنود في شوارع المدن السورية. الفكرة فعلا مثيرة للضحك. ما يجب أن يقال، مع ذلك، هو أنه متى تمكنت الأصولية الإسلامية من لعب دور في الحركة فذلك بسبب أخطاء اليسار والشيوعيين. والمثال الصارخ هو إيران، حيث تمكن الأصوليون من خطف ثورة 1979 بسبب الستالينيين ونظريتهم بخصوص المرحلتين والتي صورت رجال الدين الإسلاميين على أنهم قوة “تقدمية”. والمفارقة في هذا الوضع هو أن هؤلاء اليساريين المذعورين من “سورية إسلامية” هم نفسهم من يناصرون النظام الإيراني وحزب الله ويقولون عنهما إنهما قوتان “تقدميتان معاديتان للامبريالية!” إن التخبط والضياع هو سيد الموقف بين هؤلاء الناس.
إن الثورة السورية جزء من الثورة الشاملة التي تجتاح شمال أفريقيا والشرق الأوسط. على الاشتراكيين والشيوعيين الحقيقيين دعم هذه الثورة بشكل كامل. لكننا ندرك أيضا أنه في ظل غياب القيادة من الممكن للحركة الثورية أن تتأخر، كما هو الحال في ليبيا، أو من الممكن أن تنجح في إسقاط الدكتاتور، كما هو الحال في تونس ومصر، ولكن دون إزالة إسقاط النظام السياسي والاقتصادي، الذي أنتج هذه الديكتاتوريات، برمته.
صحيح أنه إذا أطيح بالنظام السوري الحالي، ولم توجد قيادة عمالية حقيقة، فإن هذا يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى صعود عناصر “ديمقراطية برجوازية” ستستمر ببساطة في السير على خطى نظام البعث في المزيد من الانفتاح الاقتصادي أمام المفترسين للامبرياليين. ما يجب أن نفهمه هو أنه حتى لو قمعت الحركة الحالية بنجاح، فإن اندلاع حركة ثورية جديدة ليست سوى مسألة وقت فقط. إن النظام محكوم عليه بالزوال والسؤال هو: ماذا سيحل محله، هل نظام برجوازي ديمقراطي مضطرب، أو نظام ديمقراطية عمالية حقيقية؟
ولذلك ليس هناك مكان “للحياد” بالنسبة لليساريين السوريين. إنه الوقت لأخذ القرار إما الوقوف إلى جانب الثوار أو إلى جانب الرجعيين. ينبغي على اليساريين والشيوعيين والاشتراكيين أن يرفعوا الشعارات التالية:
- فليسقط نظام البعث. الإقالة الفورية للرئيس وتقديم جميع المسؤولين عن الأنشطة الإجرامية إلى العدالة؛
- تشكيل مجلس تأسيسي يستبعد كل شخصيات النظام القديم ؛
- وضع دستور جديد يضمن أقصى قدر من الحقوق الديمقراطية؛
- مصادرة الأصول وتأميم الشركات التي تنتمي إلى شخصيات داخل النظام ووضعها تحت الرقابة الديمقراطية للعمال؛
- تشكيل لجان الأحياء لإدارة الشؤون العامة للمجتمع والدفاع عن النفس؛
- لا دعم لأي من الجماعات الإسلامية الأصولية. على اليسار أن يحافظ على استقلاليته ويقدم بديلا اشتراكيا للخروج من المأزق الحالي.
موسى لاذقاني
الاربعاء: 11 ماي 2011
عنوان النص بالإنجليزية: