كتب هذا المقال ونشر يوم 14 يناير، عندما كانت الجماهير تحتل العاصمة تونس مطالبة بطرد بن علي وعصابته، وهذا ما تم، إذ لم تمر سوى ساعات قليلة حتى فرّ بن علي خوفا من بطش الجماهير التونسية، ونظرا لأهميته ننشر ترجمته العربية على موقعنا.
لقد اتخذت انتفاضة الشعب التونسي الرائعة أبعادا ثورية. ولم يكن لجرائم القتل الوحشي لأزيد من عشرين متظاهرا على يد قوات البوليس، خلال نهاية الأسبوع، التأثير الذي كانت الدكتاتورية تأمله. لم تكن النتيجة انخفاض عدد المظاهرات، بل على العكس حدثت مظاهرات أكثر وبمشاركة عدد أكبر من الجماهير المصرة على ألا تسمح بتخويفها بعد الآن. هناك شيء واحد مؤكد الآن: سوف تخوض الجماهير هذه المواجهة مع الديكتاتورية حتى النهاية.
لقد شلت الإضرابات الإقليمية العديد من المدن في الأجزاء الوسطى والشرقية من البلاد. وتواصلت الاشتباكات العنيفة مع الشرطة، تماما مثل مشاهد الانتفاضة في قطاع غزة، بدون انقطاع في أحياء العديد من المدن. في غضون بضعة أيام تطورت الحركة إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ تونس الحديث. ما يزال وابل الرصاص الذي تطلقه قوات البوليس يقتل الناس لكنه لم يعد يرهب الجماهير بعد الآن. وقد قتل لحد الآن أكثر من ستين شابا وعاملا في محاولة كسر روح النضال الجديدة. إلا أن هذه المحاولة بدون جدوى. والأهم من ذلك هو أن العمال قد بدئوا يتحركون عبر نقابتهم، الاتحاد العام التونسي للشغل، التي اضطرت قيادتها المهادنة إلى الدخول في معارضة النظام. وقد اتخذت الفروع المحلية والإقليمية للاتحاد العام التونسي للشغل المبادرة بالدعوة إلى الإضرابات. وكانت المسيرات الجماهيرية مثل احتلال حقيقي للمدن.
بعض فروع الاتحاد العام التونسي للشغل، مثل نقابة المعلمين، ونقابة عمال قطاع الصحة ونقابة عمال البريد، لعبت بالفعل دورا هاما في دفع الاتحاد العام التونسي للشغل إلى النضال. وقد كانت نقابات الصحفيين وجمعيات المحامين أيضا في طليعة النضال. والآن انتقلت شرائح واسعة من العمال إلى النضال. وقد سجلت التظاهرات، مثل تلك التي حدثت في المدينة العمالية الثائرة صفاقس، أو في القصرين، الدخول النشيط للعمال إلى ساحة الصراع. تكشف صور تلك المظاهرات عن موقف التحدي الصريح للنظام، وعن مزاج الثقة والشعور بأن النصر في متناول اليد.
يوم الأحد الماضي، 9 يناير، أصدر الفرع المحلي للاتحاد العام التونسي للشغل في صفاقس دعوة لإضراب عام في المنطقة. وما عدا استثناءات قليلة (المستشفيات وبعض المخابز التي بقيت مفتوحة لمساعدة الشعب في النضال)، حقق الإضراب نسبة مشاركة بلغت 100 ٪. في صفاقس تظاهر 30000 من العمال والشباب في الشوارع. وفي جندوبة خرج 12000 متظاهر، يوم 12 يناير، في مدينة يبلغ عدد سكانها 30000 نسمة.
وقد أصبحت الفروع المحلية للاتحاد العام التونسي للشغل مركز الثقل في المقاومة ضد الدكتاتورية. هناك تعقد الاجتماعات الجماهيرية، كما تستخدم المقرات لتنظيم العديد من الأنشطة. هذا ليس من قبيل الصدفة، ويمكن تفسير السبب وراء ذلك بالمكانة الخاصة التي تختزنها الذاكرة السياسية الجماعية للعمال التونسيين عن هذه النقابة. لقد لعب الاتحاد دورا حاسما في النضال ضد الاستعمار الفرنسي. وقد صار الآن، بالرغم من دور قادته، حجر الزاوية في حركة المقاومة التي تطورت في الأسابيع القليلة الماضية.
في الأيام الأخيرة وصلت هذه الحركة إلى ضواحي العاصمة، مما دفع النظام إلى فرض حظر التجول. نشرت المركبات العسكرية والجنود في نقاط إستراتيجية في جميع أنحاء تونس. حتى الوجهات السياحية مثل الحمامات لم تعد في منأى عن اكتساح الحركة. وقد اضطر قادة الاتحاد العام التونسي للشغل، تحت ضغط رهيب من جانب القواعد، إلى الدعوة اليوم الجمعة 14 يناير، إلى إضراب وطني عام لمدة ساعتين.
أعلن الرئيس الجنرال زين العابدين بن علي، الذي أدرك بأن القمع وحده غير قادر على وقف الحركة، في ثلاث مناسبات هذا الأسبوع، عن وعود بالإصلاح والتنازلات. لقد فهم نابليون بونابرت منذ زمن طويل أنه يمكن استعمال الحراب في العديد من الأشياء ما عدا الجلوس عليها.
الانقسامات داخل النظام تنفتح الآن أكثر فأكثر. تقول التقارير إن رئيس الجيش قد أقيل من طرف بن علي لرفضه إطلاق النار على المتظاهرين. كثيرا ما تكشف التقارير الوضع الحقيقي السائد داخل الجيش، مثل ذلك الضابط الشاب في شوارع سيدي بوزيد الذي يحيي المسيرة الغاضبة لتشييع احد المتظاهرين الذين قتلوا.
وقد شهد مساء أمس الإعلان عن أهم “التنازلات”، عندما أعلن بن علي انه سيرفع الرقابة على وسائل الإعلام، وسيسمح بالمزيد من الحريات، ويجري التحقيق في عمليات قتل المتظاهرين أثناء المظاهرات، وطلب من الشرطة عدم إطلاق النار على المتظاهرين بالذخيرة الحية وانه لن يسعى لإعادة انتخابه رئيسا لتونس في… 2014.
هذا مثال نموذجي عن “تغيير كل شيء حتى لا يتغير أي شيء”. مساء أمس خرجت مظاهرات لمؤيدين مفترضين لبن علي في وسط العاصمة، كانت تهدف إلى زرع البلبلة بين الشعب التونسي ووسائل الإعلام الدولية. لكنه ليس من السهل خداع شعب استيقظ. لقد قدمت وعود كثيرة في الماضي ووعود كثيرة نكث بها.
وقد تطورت الحركة أيضا من احتجاجات اجتماعية محدودة إلى حركة سياسية على المستوى الوطني تواجه القوة الجبارة للدولة. التنازلات الآن صارت أقل مما يجب ومتأخرة أكثر مما يجب. لم يعد احد من بين الجماهير يثق في زين العابدين بن علي وعصابته. لكن ما يزال هناك عدد قليل من الذين يثقون في هذا الرجل الممقوت. كان رد فعل الأحزاب الرئيسية لما يسمى بالمعارضة، بما في ذلك الحزب الشيوعي السابق، بمجرد سماع التنازلات، هو التفاؤل الحذر، ودعوا بن علي لتشكيل حكومة ائتلافية. لكن بن علي تلقى ردا مختلفا تماما من جانب الجماهير، لم يكن هو رد الفعل الذي توقعه على التنازلات التي أعلن عنها مساء أمس.
رد الشارع التونسي، الذي تعلم خلال سنوات من القهر والأكاذيب والخداع من جانب ممثلي النظام، بالتظاهر. هذا الصباح تدفقت الجماهير إلى الشوارع في جميع أنحاء تونس. والأهم من ذلك في العاصمة، حيث تجمع عشرات الآلاف أمام مبنى وزارة الداخلية الذي كان مرهوبا في الماضي. لم يكن في الإمكان، قبل 24 ساعة فقط، تخيل تنظيم مظاهرة أمام “وزارة الإرهاب”. كان هناك شعار واحد يوحد المظاهرة: بن علي اذهب! ليس غدا، وليس سنة 2014 بل الآن! بينما كان آخرون يقولون: “نفضل أن نعيش بالخبز الجاف والماء على العيش مع بن علي”.
وقد ظهرت مشاهد للتآخي بين الجيش والمتظاهرين على شاشة التلفزيون الفرنسي وبثت في جميع أنحاء العالم. قوات الشرطة التي كانت منتشرة في الشارع صباح هذا اليوم لم تكن تجرؤ على التدخل. وفي وقت لاحق أرسلت تعزيزات جديدة من قوات الشرطة لمحاولة تفريق المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والهراوات، لكن دون جدوى.
قرر متظاهرون آخرون أن يذهبوا إلى القصر الرئاسي في قرطاج من أجل الاعتصام أمامه. بدأت شخصيات بارزة داخل النظام في التخلي عن القارب، مثلما تقفز الجرذان من السفينة الغارقة. النظام يفقد سيطرته على قطاعات كاملة من أجهزة دولته. وتشير بعض التقارير إلى أن قطاعات من الجيش خرجت للدفاع عن المتظاهرين. كما تفيد التقارير أن الصحفيين في التلفزيون الحكومي التونسي تمردوا اليوم، حيث استولوا على استوديوهات التلفزيون وقرروا البدء في بث حقيقة ما يجري في البلاد.
وهذه كلها علامات لاحتضار النظام. لا أحد يمكنه أن يشك الآن في أن هناك ثورة تجري في تونس. هذه هي لحظة الحقيقة في تونس. سيتم تذكر يوم الجمعة 14 يناير 2011 كيوم تاريخي. وسوف نتذكره باعتباره اليوم الذي نهض فيه كل الشعب التونسي ضد الديكتاتور. مرة أخرى يتأكد أن الجماهير هي التي تصنع التاريخ.
يوم أمس لخص أحد المدونين بشكل جيد للغاية شعور العديد من التونسيين:
«اقترح بن علي علينا أن نعمل يدا في يد من أجل بناء مستقبل وهمي، لكن يديه ملطختان بالدماء! نحن لن نسمح بأن يفلت من العقاب.
«ستكون التضحية بمواطنينا مقابل بعض التخفيضات في أسعار الخبز، والسماح بالوصول إلى موقع يوتوب ووهم الديمقراطية في عام 2014، جريمة لا تغتفر بينما الحرية هي في متناول أيدينا، في متناول يد الشعب القادر على إخضاع النظام.
«بالأمس رأيت رئيسا قلقا ومرعوبا… رئيسا يرتجف، ويتلعثم، يصرخ أحيانا ويفقد السيطرة على نفسه. كان خطابه اعترافا بالضعف، وصرخة لطلب المساعدة. رجل “بكل حزم” يجثو على ركبتيه. فلنقض عليه».
النظام يناور من أجل إنقاذ جلده بالذات، ويقوم بكل أنواع تنازلات الدقيقة الأخيرة اليائسة. أقال بن علي حكومته بأكملها في محاولة لإنقاذ موقعه. وتستعد الأحزاب الإصلاحية الشرعية “المعارضة” لتقديم يد العون له. سيحاولون على الأرجح تشكيل حكومة وحدة وطنية مع بعض وزراء بن علي جنبا إلى جنب مع ممثلين من “المجتمع المدني” وما يسمى بالشخصيات المعارضة الشرعية. لكن، على الأرجح، وبالرغم من ذلك، سيتوجب على بن علي أن يذهب. ومن شأن مثل تلك الحكومة أن تكون ضعيفة جدا وتحكم وظل الجماهير المنتفضة فوق رأسها. هذه هي الكيفية التي سيحاولون بها حرمان الجماهير من انتصارها.
ينبغي على الجماهير ألا تثق في أي من هؤلاء السياسيين. ينبغي خوض النضال حتى النهاية. لقد تعلمت الجماهير في غضون أربعة أسابيع فقط أنه لا يمكنها الاعتماد سوى على قوتها الخاصة. وبدلا من التنازل عن السلطة لحكومة وحدة وطنية، ينبغي على الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمات الشبابية الجماهيرية والفلاحين ومناضلي الأحياء، تشكيل لجان منتخبة ديمقراطيا على المستوى المحلي والإقليمي والوطني. ويمكن لهذه المجالس أن تشكل العمود الفقري الديمقراطي والسياسي لتأسيس حكومة جديدة بهدف القضاء على الفقر والبطالة والفساد والقهر. من المستحيل تحقيق هذه الأهداف ضمن حدود الرأسمالية والهيمنة الإمبريالية. إن الديمقراطية الحقيقية تعني أيضا أن يتم تمتلك الثروة، والاقتصاد، بشكل جماعي ديمقراطي. هذه هي الاشتراكية.
الشعب التونسي، بشبابه وعماله، يكتبون التاريخ الآن، في هذه اللحظة بالذات. لقد أصبح رمزا للنضال ضد الظلم والاستغلال في كل العالم العربي. إنه يظهر للعالم بأسره الوجه الحقيقي للطبقة العاملة في العالم العربي، التي هي طبقة مستعدة للنضال حتى النهاية. لا نرى في هذا الصراع الحركات الأصولية الإسلامية في الصدارة، بل الطبقة العاملة ومنظماتها. يبين العمال التونسيون الطريق لإخوانهم وأخواتهم في الجزائر والمغرب ولشعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط بأسره وأبعد.
ليس هناك نظام مستقر في عموم العالم العربي. ونفس الشروط التي أثارت الحركة في تونس موجودة في الأردن وسوريا والسعودية ومصر… إن الظروف نفسها ستؤدي إلى حدوث التطورات نفسها. إن ما نشهده الآن هو انبعاث الثورة العربية، التي ستنتشر في نهاية المطاف من بلد إلى آخر. إن الشروط متوفرة لنضال أممي سيؤدي إلى خلاصة واحدة : الحاجة إلى فدرالية اشتراكية للعالم العربي كافة.
- فليسقط بن علي وعصابة المافيا المحيطة به!
- فليسقط المضطهِدون والمستغِلون التونسيون والأجانب!
- إلى الأمام نحو تونس اشتراكية!
- عاشت الثورة التونسية!
مراسل موقع الدفاع عن الماركسية في منطقة الشرق الوسط
الجمعة: 14 يناير 2011
مقاطع فيديو
عنوان النص بالإنجليزية:
Tunisia: From the uprising of Sidi Bizoud to the revolution! – Ben Ali and his clique must go NOW!