تعتبر الثورة الروسية إحدى أعظم الأحداث التي عرفها تاريخ البشرية. فالعمال الذين ثاروا، خلال شهر فبراير من سنة 1917، ضد مجزرة الحرب العالمية الأولى، وضد المجاعة، والبطالة والاستغلال، تمكنوا من إسقاط النظام الملكي في ظرف أيام معدودات. وبعد ثمانية أشهر على ذلك، استولت الطبقة العاملة على السلطة، لأول مرة في التاريخ- إذا ما نحن استثنينا المحاولة البطولية لكن القصيرة لكمونة باريس-.
حاول العمال والجنود والفلاحون الفقراء المنظمون في “السوفييتات”، التي هي مجالس منتدبين منتخبين ديمقراطيا وقابلين للعزل في أية لحظة، أن يشيدوا، في ظروف مادية جد صعبة، مجتمعا جديدا بالكامل. ومحل الطغيان القيصري، وضعوا أسس مجتمع اشتراكي. وقد بعثوا بنداء إلى كل المستغََلين في العالم لكي يحذوا حذوهم. إن تاريخ نضالهم يستحق أن يعرف ويدرس من طرف كل عمال العالم، لأنه دليل ملموس على إمكانية القضاء على الرأسمالية، كما أنه دليل على الإمكانيات الثورية التي تمتلكها طبقتنا.
ثورة فبراير
اندلعت الثورة خلال الحرب العالمية الأولى، التي كانت السبب المباشر ورائها. لقد تسببت المجزرة التي حدثت في الخنادق، والتي تزامنت مع أزمة اقتصادية خانقة، في آلام غير محتملة للجنود، والعمال والفلاحين في الإمبراطورية القيصرية. في المدن كما في القرى، كان البؤس يتفاقم، في نفس الوقت الذي كان فيه الترف والفساد يسودان البلاط الإمبراطوري وبين صفوف الارستقراطية والطبقة الرأسمالية. ومع نهاية سنة 1916، لم يعد من الممكن إيجاد اللحم في أسواق بتروغراد وكاد الدقيق أن ينعدم، كما أن عشرات المعامل أغلقت أبوابها بسبب انعدام الوقود أو الكهرباء.
منذ بداية سنة 1917، صارت بتروغراد على أعتاب الثورة. يوم 9 يناير، وبمناسبة الذكرى الثانية عشر لثورة 1905، ارتفع عدد المضربين، ببتروغراد، إلى 145.000، أي ما يعادل ثلث الطبقة العاملة في العاصمة. وخلال أواسط شهر فبراير، تظاهر عدد هائل من المضربين في شارع نيفسكي، رافعين لشعار: “لا للحرب!” و”فلتسقط الحكومة والقيصر!”.
يمكن التأريخ لبداية الثورة بيوم 23 فبراير 1917[1]، والذي تزامن مع اليوم العالمي للمرأة العاملة. تحولت تجمعات النساء إلى مظاهرات، حيث تظاهرن احتجاجا ضد انعدام الخبز وضد الحرب. وقد انتقلت هؤلاء النسوة من معمل إلى معمل، محرضات لرفاقهن العمال من أجل خوض الإضراب. وقد استجاب لندائهن 130.000 عامل. يوم 24 فبراير، أطلقت الشرطة النار على المتظاهرين في مناطق مختلفة من المدينة، لكن الجموع التي تفرقت سرعان ما عاودت التجمع. ويوم 25 من ذلك الشهر، صار الإضراب ببتروغراد عاما. يوم 26 منه، أطلقت الشرطة النار من جديد على المتظاهرين، بأمر مباشر من القيصر (نيكولاس الدموي)، لكن جنود كتيبة بافلوفسك (Pavlovsk)، الذين تلقوا الأمر بإطلاق النار على العمال، وجهوا أسلحتهم ضد قوات الشرطة. انقلبت موازين القوى لصالح المضربين. وقد انضم الجنود بكثافة إلى معسكر الثورة. وكانت المدينة في أوج درجات العصيان.
وجه الجنرال إيفانوف سلسلة من الأسئلة الكتابية إلى الجنرال خابالوف، الذي كان مكلفا بقمع المظاهرات. إن عبارات هذا الأخير تلخص بشكل جيد الحالة التي كانت عليها العاصمة بعد ثلاثة أيام من الكفاح:
إيفانوف: كم عدد الجنود تحت إمرتك، وكم هو عدد المتمردين منهم؟
خابالوف: تحت إمرتي […] أربعة كتائب من الحرس، وخمس سريات من الخيالة والقوزاق، وموقعين للمدفعية. بقية الجنود انضموا إلى جانب الثوار، أو هم متواطئون معهم، ويعلنون حيادهم. هناك جنود يتجولون في الشوارع […] ويجردون الضباط من أسلحتهم.
إيفانوف: ما هي الشوارع التي يسودها النظام؟
خابالوف: المدينة بكاملها تحت سيطرة الثوار. الهاتف لا يعمل، وليست هناك إمكانية للتواصل بين مختلف الأحياء.
إيفانوف: ما هي السلطة التي تحكم المدينة؟
خابالوف: لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال.
إيفانوف: هل الوزارات تعمل؟
خابالوف: لقد اعتقل الثوار الوزراء.
ايفانوف: ما هي وحدات الشرطة التي توجد تحت إمرتك الآن؟
خابالوف: ولا واحدة.
ثورة فبراير لم يقدها أي حزب. لقد وجدت الحركة الجماهيرية قادتها بين صفوف العناصر الأكثر شجاعة والأكثر إخلاصا داخل الحركة العمالية. بالتأكيد كان عدد كبير من هؤلاء المناضلين يعتبرون أنفسهم “بلاشفة”، أي ينتمون إلى التيار الثوري للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية. لكن هذا التيار لم يلعب، كمنظمة، أي دور قيادي في الأحداث. في الحقيقة، لقد فاجأ اندفاع الحركة الثورية القادة البلاشفة بالعاصمة.
“السوفييتات”، التي ظهرت إلى الوجود خلال ثورة 1905، عادت إلى الظهور مرة أخرى. إن الثورة بطبيعتها ذاتها، تستنهض حشودا كبيرة من الرجال والنساء الذين يدخلون فجأة وللمرة الأولى في حياتهم إلى الحلبة حيث يحدد مصيرهم، دون أن يكونوا مستعدين لذلك. فقط من خلال الصدمات، والهزائم وخيبات الأمل، تتمكن هذه الجماهير المنتفضة من رفع وعيها السياسي إلى مستوى المهام التاريخية المطروحة على كاهلها. لقد مكنت الحرب الجيش، وبالتالي جماهير الفلاحين التي تشكل أغلبية أعضائه، من لعب دور حاسم في حياة السوفييتات. اختار الجنود – الفلاحون نوابهم بالسوفييتات من بين الضباط والمثقفين، الذين يعتبرونهم، “على علم” بالسياسة. أدى الثقل الذي مارسه الجيش إلى تقليص ثقل قادة الحركة العمالية المحنكين لصالح العناصر البرجوازية الصغرى: المحامون، والأطباء، والصحفيون، الخ. لم يكن لهؤلاء الأخيرين، حتى تلك اللحظة، أية خبرة في النضال، ولا هم كانوا يريدون اكتسابها، لكنهم رغم ذلك وجدوا أنفسهم فجأة قد دفعوا إلى الصفوف الأمامية لحركة ثورية جبارة. الأيديولوجية المائعة لهؤلاء “القادة” تنتمي إلى التركيبة “الديموقراطية” و”الإنسانية” للحزب الاشتراكي الثوري وللجناح المعتدل للحزب الاشتراكي الديموقراطي (“المناشفة”). نتيجة لذلك كان هذان التياران، هما اللذان شكلا، خلال ثورة فبراير، أغلبية اللجنة التنفيذية لـ “سوفييت نواب العمال والجنود والفلاحين”.
أما فيما يخص البلاشفة، فإنهم وبالرغم من أنهم كانوا قد احتلوا المراكز الأولى، سنة 1914، بين صفوف الحركة العمالية في العاصمة، فإن تأثيرهم وانغراسهم التنظيمي تقلص إلى حد بعيد منذ بداية الحرب العالمية الأولى، تحت ثأثير القمع واحتداد المشاعر القومية التي ميزت الأشهر الأولى من الحرب. علاوة على ذلك، تفاقمت عزلة حزب لينين بسبب رغبة العمال المتعاطفين معه في التقرب أكبر قدر ممكن من المنتخبين القادمين من صفوف الجنود والفلاحين. لقد كانوا يخشون حدوث قطيعة بين حركة العمال والفلاحين، وهي القطيعة التي يعتقدون أنها كانت إحدى أسباب هزيمة ثورة 1905.
كان العمال والجنود الثوريون أسياد العاصمة، واجتاحت الثورة بسرعة المدن الأخرى بالإمبراطورية. وقد حاول الديمقراطيون الدستوريون (“الكاديت”)، المرعوبون، وباقي ممثلي الرأسماليين الآخرين “الليبراليين”، بيأس الحفاظ على الحكم الملكي الذي بدونه يصير النظام القائم – الذي يحتلون فيه مكانة جيدة جدا- مهددا بالانهيار كقلعة من ورق. لكنهم لم يجدوا ولو كتيبة واحدة مستعدة لدعم القيصر. سارعوا يوم 2 مارس، إلى تشكيل “حكومة مؤقتة”، يرأسها الأمير لفوف. كان الهدف هو إنقاذ الحكم الملكي من خلال استبدال نيكولاس الثاني بابنه، تحت رعاية شقيقه ميخائيل باعتباره الأمير الوصي. لكن هذا كان مستحيلا. وميخائيل، الذي عاين الهيجان الثوري الذي يقترب من باب النظام، فضل الانسحاب.
لم يكن للحكومة المؤقتة المكونة من ملكيين شهيرين، ومن كبار ملاك الأراضي ورجال الصناعة (غوشكوف، تريشينكو، كونوفالوف، الخ) أية قاعدة دعم في العاصمة. لم يكن العمال والجنود يضعون ثقتهم سوى في قادة سوفييت بتروغراد. لكن هنا، بالضبط، تكمن مفارقة هذه المرحلة الأولى من الثورة الروسية. لقد أراق العمال دمائهم من أجل إسقاط القيصر، ووضعوا ثقتهم في “الاشتراكيين المعتدلين” الذين يقودون السوفييت. لكن هؤلاء القادة، المدركين لضخامة السلطة الموجودة بين أيديهم، لم يكونوا يفكرون سوى في شيء واحد: التخلص من تلك السلطة بأسرع وقت ممكن لصالح “الحكومة المؤقتة” الرأسمالية التي كانت بدورها تأمل حدوث تحول في الأوضاع يسمح لها بإرجاع المَلكية!
هكذا، وبدل أن تقدم ثورة فبراير السلطة للطبقات التي قامت بها – العمال والفلاحون بالبذلة – أدت إلى خلق “ازدواجية السلطة”، حيث تعايشت السلطة السوفييتية، التي أولتها القوى الثورية ثقتها وقيادتها، مع ما تبقى من سلطة الطبقة الحاكمة السابقة. لم تكن الحكومة المؤقتة تمتلك أية سلطة خاصة بها. لقد كانت، إن جاز التعبير، معلقة في الهواء. كان وجودها يعتمد كليا على الدعم الذي تتلقاه من الإصلاحيين المسيطرين على اللجنة التنفيذية للسوفييت، الذين رفضوا المساس بالمصالح الأساسية للرأسماليين في ما يتعلق بالإصلاح الزراعي، وحقوق الأقليات القومية، والحكم الملكي، وعلى الخصوص، مواصلة الحرب.
لينين والحزب البلشفي
يوم 3 أبريل، وصل لينين إلى بتروغراد.، وكان قد ألقى، منذ وصوله إلى محطة فنلندا، بخطاب أكد فيه أن أهداف الثورة الحالية هي أهداف اشتراكية. كان لهذا الخطاب وقع القنبلة بين صفوف قادة الحزب البلشفي، الذين لم يكن منظور أغلبيتهم يتجاوز ثورة “برجوازية – ديموقراطية”. تركزت التحضيرات لكونفرانس الحزب على المسألة التالية: هل يجب على الحزب التوجه نحو حسم السلطة من طرف الطبقة العاملة أم الاقتصار على “إنجاز” ثورة برجوازية؟ هؤلاء الذين شكلوا في البداية أغلبية ساحقة، والذين كانوا يؤيدون الخيار الثاني، دافعوا عن طروحات مطابقة تماما لطروحات الاشتراكيين الثوريين والمناشفة. وعلى طرف النقيض، دافع لينين، في موضوعات أبريل الشهيرة، عن فكرة أن المهام البرجوازية – الديموقراطية والإصلاح الزراعي، والقضاء على الأرستقراطية، وكنس بقايا الإقطاعية وضمان حقوق القوميات، لا يمكن أن تتحقق إلا بإسقاط الحكومة المؤقتة واستيلاء الطبقة العاملة على السلطة، بتحالف مع الفلاحين. ومن هنا جاء شعاره “كل السلطات للسوفييتات!”
خلال كونفرانس 24-29 أبريل، وبفضل نضال داخلي شرس وعبر الارتكاز على القاعدة العمالية للحزب ضد “الحرس القديم”، نجح لينين في إعادة رسم برنامج الحزب وممارسته في نفس اتجاه موضوعات أبريل، التي كانت في جوهرها مطابقة للبرنامج والمنظورات التي دافع عنها تروتسكي، عشية ثورة 1905، في نظريته: “الثورة الدائمة”.
كانت للتوجهات الجديدة للحزب البلشفي نتائج حاسمة على المسار اللاحق للثورة. حتى تلك الساعة، كان البلاشفة ما يزالون بعيدين عن أن يشكلوا أغلبية بين أعضاء السوفييت. وقد أوصى لينين بالتوجه بحزم نحو العمال والسوفييتات من أجل القيام بشرح صبور لبرنامج وأهداف الحزب الاشتراكية. طالب بنشر الاتفاقات السرية المبرمة بين قوات الحلفاء، وطالب بالوقف الفوري للحرب، وبأن تتوقف لجنة السوفييت التنفيذية عن دعم الحكومة المؤقتة وأن تأخذ السلطة بين أيديها.
الحكومة الائتلافية والحرب
ارتفعت الأسعار، وحدث خصاص في الخبز وطال أمد الحرب. وفي وجه غياب أي رد فعل من جانب الحكومة وقادة السوفييتات، فقد العمال الصبر. وبدأ تأثير البلاشفة يتزايد. وقد شهد شهر أبريل تتالي المظاهرات والمواجهات. وبدأت تتصاعد المعارضة لسياسة “التوافق” التي انتهجها المناشفة والاشتراكيون الثوريون في جميع المراكز الحضرية. منذ ذلك الوقت صار البلاشفة يتمتعون بدعم ما يقارب ثلث عمال بتروغراد.
في بداية شهر ماي، شكل قادة السوفييتات “التوفيقيين” حكومة ائتلافية مع أنصار الحكومة المؤقتة الملكيون والرأسماليون. وقد تلقى مندوبو السوفييت في البداية هذه الخطوة بايجابية. اعتقدوا أنه صار باستطاعتهم التأثير على سياسة الحكومة. لكن على العكس من ذلك، صار قادة السوفييت، بعد توليهم للمناصب الوزارية، يتحملون المسؤولية المباشرة في السياسة الرأسمالية التي تطبقها الحكومة، بما في ذلك سياسة مواصلة الحرب.
سنة 1918، كتب تروتسكي قائلا: « لقد نتجت الثورة بشكل مباشر من الحرب، وأصبحت الحرب حجر الأساس في سياسة جميع الأحزاب وكل القوى الثورية. […] لم يكن في استطاعة الجنود الذين يموتون في الخنادق أن يفهموا بالطبع أن الحرب، التي يشاركون فيها منذ حوالي ثلاثة سنوات، قد اتخذت فجأة منحى آخر جديدا، فقط لأن بعض الأشخاص الجدد، الذين يسمون اشتراكيين ثوريين أو مناشفة، قد دخلوا في الحكومة»
طلبت قوى التحالف بإلحاح من روسيا القيام بهجوم جديد، وكان الائتلاف الحاكم قد انخرط بشكل سري في إرضائهم. لكن بعد الالتزامات، كان يجب الانتقال بشكل سريع إلى الأفعال. فتم شن موجة من الدعاية عبر الصحافة والسوفييتات، بهدف تسويغ فكرة القيام بهجوم جديد، متزامنة مع حملة من الحقد والافتراءات ضد البلاشفة. وقد حاولت الحكومة عبر كل الطرق إعادة “النظام” والسلطة لجنرالات القيصر داخل صفوف الجيش والبحرية. لكن غضب الجنود والبحارة والعمال كان قد وصل أوجه. لم يعودوا يريدون مواصلة الحرب. ومن أجل إعطاء صبغة أكثر تنظيما وقوة لهذا الغضب، قرر البلاشفة تنظيم مظاهرة مسلحة في بتروغراد، يوم 10 من يونيو. كان الهدف من وراء ذلك هو ممارسة الضغط على الوزراء المنحدرين من السوفييتات لكي يقطعوا مع الوزراء الرأسماليين ويأخذوا السلطة بين أيديهم.
لكن وأمام قوة الحملة التي نظمت ضد هذه المظاهرة، التي شنت بتعاون وثيق بين الاشتراكيين-الثوريين، والمناشفة، والرأسماليين “اللبراليين” وقوى الثورة المضادة، وبالنظر إلى وضع الأقلية الذي كان البلاشفة ما يزالون عليه في مؤتمر سوفييتات روسيا، الذي انعقد ابتداء من 3 يونيو، قرر البلاشفة التراجع عن هذه المظاهرة. في هذه الأثناء أراد الوزير “اليساري” تسيرتيلي (Tseretelli) تقوية موقعه، فعبر في الحال عن رغبته في نزع سلاح العمال والحامية الموالية للبلاشفة. لكن هذا كان مستحيلا. لقد وافقت السوفييتات على معارضة المظاهرة، لكنها لم تتبع الحكومة في مسألة نزع سلاح المعارضين للحرب. دعا مؤتمر السوفييتات إلى تنظيم مظاهرة سلمية، يوم 18 يونيو، من أجل تعويض عمال العاصمة عن منع مظاهرة 10 يونيو. إلا أن هذه المظاهرة – التي كانت ضخمة جدا، لأنها جاءت بدعوة رسمية من جانب السوفييتات – شكلت خطوة مهمة إلى الأمام بالنسبة للحزب البلشفي. ففي كل مكان كانت الشعارات المكتوبة على اللافتات والمنشورات تعكس شعارات البلاشفة: “لتسقط الاتفاقيات السرية!”، “أوقفوا الحرب!”، “ليسقط الوزراء الرأسماليون العشرة!”، “كل السلطة للسوفييتات!”. وكما لاحظ تروتسكي، الذي رجع إلى العاصمة في بداية شهر ماي، « لقد أثبتت هذه المظاهرة ليس فقط لأعدائنا، بل لنا نحن أيضا، أننا أقوى بكثير مما كنا نتصور.»
في هذا السياق أصدر الوزير”الاشتراكي” كيرينسكي، في نفس يوم المظاهرة، أمره بشن هجوم عسكري جديد على الجبهة. لم تكن هذه مجرد صدفة. لقد حاولت الحكومة إزالة التأثير النفسي والسياسي للمظاهرة، وإغراق التأثير المتصاعد للبلاشفة في بحر من السعار الشوفيني. وضع أمله في نجاح الهجوم، حيث تصور أنه سيمكنه من إعادة النظام للجيش وإعادة السلطة للحكومة في بتروغراد. لكن الهجوم كان قصيرا، وعجلت أزمة حكومية حادة برحيل الوزراء “الكاديت” من الحكومة. كانت تلك فرصة مواتية للقطيعة مع ممثلي الرأسمالية داخل الحكومة. لكن الاشتراكيين الثوريين والمناشفة المنحدرون من السوفييتات كانوا خائفين من أن يحكموا لوحدهم، الشيء الذي كان سيجعل قاعدتهم الوحيدة هي الطبقة العاملة والجنود الثوريون. فسارعوا إلى إدخال وزراء رأسماليين آخرين في الحكومة، وعملوا على الإعلان عن تشكيل حكومة ائتلافية ثانية.
فجر هذا الإعلان سخط العمال والجنود في العاصمة، حيث بدأ جزء كبير منهم يتهيأ لتنظيم مظاهرة مسلحة ضد الحكومة. لم يكن لينين وتروتسكي موافقين على هذا التحرك. كانا يفهمان أن بتروغراد كانت متقدمة على باقي أنحاء البلد. بل حتى في بتروغراد نفسها، لم تكن كل الحاميات العسكرية بعد في نفس مستوى سخط العمال، والبحارة، والجنود – وبالخصوص فرق المدفعية – الذين أرادوا التظاهر المسلح ضد الحكومة. سارت العناصر الأكثر ثورية أبعد كثيرا وأسرع كثيرا من باقي الطبقة. وقد بذل البلاشفة قصارى جهدهم لمنع القيام بخطوة سابقة لأوانها قد تؤدى إلى حمام من الدماء. لكنهم لم يتمكنوا من إيقافها. بدأ المتظاهرون يتجمعون بكثافة ابتداء من يوم 3 يوليوز. ويوم 4 منه، صار عددهم حوالي 500.000 متظاهر، بدون قادة، وبدون منظمات. فقررت اللجنة المركزية للحزب البلشفي أن تضع نفسها على رأس المظاهرة، بهدف منعها من التحول إلى انتفاضة مسلحة سابقة لأوانها.
في هذه الأثناء، جلب كيرينسكي إلى العاصمة قوات مخلصة للحكومة. كانت ساعة القمع قد دقت. تم تسليط قوات القوزاق والشرطة على المتظاهرين، فقتلوا مئات الأشخاص. واجتاحت المدينة موجة من الاعتقالات والاغتيالات. اضطر لينين إلى العودة إلى النضال السري. واعتقل تروتسكي. كما نهبت مقرات البلاشفة ومنعت صحافتهم.
برهنت “أيام يوليوز” في بتروغراد على أن الإصلاحيين قد فقدوا دعم العمال والجنود. لكنها أظهرت أيضا أنهم ما يزالون يتمتعون باحتياطي دعم في باقي أنحاء البلد. في العاصمة، صار ثلثا المندوبين العماليين إلى السوفييت بلاشفة. كما صارت أغلبية قوات البحرية والجنود تساند بدورها سياسة لينين. لكن بعض الكتائب كانت ما تزال متذبذبة، وأعلنت “حيادها”. ولم تقبل أية وحدة من حامية بتروغراد أن تقاتل في صف الحكومة وقادة السوفييت الإصلاحيين.
هزيمة الثورة المضادة
إن ثورة فبراير، التي كبحها القادة “التوفيقيون” عندما كانت في أوجها، ثم خانوها، تلاها هجوم للثورة المضادة. وخلف واجهة “الائتلاف” كان الجنرالات القيصريون يستعدون للانتقام عبر إغراق الثورة في الدم. إلا أن الثورة لم تكن قد قالت بعد كلمتها الأخيرة، ولم تدم آثار هزيمة يوليوز طويلا. كانت الأخبار القادمة من الجبهة سيئة. فبعد بضعة انتصارات متواضعة بدأت الهزائم تتوالى. واستمرت المجازر العديمة الجدوى. أصدر الجنرال القيصري كورنيلوف أمره بقتل الفارين من الجبهة وتطبيق الحكم بالإعدام ضد أعمال العصيان. كما طالب أيضا بمنع الإضرابات في المعامل وخطوط السكك الحديدية. وقد اعتبر أن القمع المسلط على البلاشفة من طرف كيرينسكي تعبير عن “انشقاق في معسكر الثورة”، فقرر انتهاز الفرصة من أجل أخذ السلطة وفرض نظام دكتاتوري عسكري. في هذه الأثناء، حاول كيرينسكي إقامة علاقات “ودية” مع كورنيلوف بهدف القيام بتحرك مشترك. لكن كورنيلوف لم يكن يريد أبدا اقتسام السلطة، الشيء الذي دفع بكيرينسكي إلى شجب “المؤامرة المعادية للثورة” المحاكة من طرف كورنيلوف. ويوم 25 غشت، بدأت كتائب الثورة المضادة زحفها على العاصمة.
قدم زحف كورنيلوف دفعة جديدة وقوية للثورة، محولا بشكل جذري الأوضاع في العاصمة. كان الجميع يعلمون أنه إذا انتصر كورنيلوف، فإن عمال بتروغراد سيلقون نفس المصير الذي لاقاه عمال كومونة باريس سنة 1871 على يد حكومة فرساي[2]. أمام خطورة الوضع، لم يعد أمام اللجنة التنفيذية للسوفييت من خيار سوى توجيه النداء إلى الطبقة العاملة في بتروغراد. كما أنها استدعت الحزب البلشفي – الذي شنت ضده في السابق حملة من الهجمات والقمع – للمشاركة في “لجنة الكفاح ضد الثورة المضادة” التي ستقود النضال المسلح ضد كورنيلوف. خرج تروتسكي من السجن ليتكفل بالدفاع عن بتروغراد. بالنسبة إليه، مثلما هو الحال بالنسبة إلى لينين، وبالرغم من السياسة القمعية والمعادية للثورة التي انتهجتها الحكومة المؤقتة واللجنة التنفيذية للسوفييت، فإنه كان من الضروري جدا تشكيل جبهة موحدة معهم في وجه قوى الثورة المضادة القيصرية. هذا لا يعني مطلقا أن البلاشفة دعموا الحكومة المؤقتة. لكن كان يتوجب التخلص من التهديد المحدق والخطير الذي يمثله كورنيلوف، قبل الاهتمام بمصير كيرينسكي وبقية “التوفيقيين”.
كانت كتائب البلاشفة ومليشياتهم هي الأكثر نشاطا وشجاعة وانضباطا في القتال ضد كورنيلوف. كانت مشاركتهم في المواجهات حاسمة. قام عمال السكك الحديدية بإخراج القطارات، التي كانت تحمل القوات التابعة لكورلينوف والمعدات الحربية، عن سككها. وبفعل التحريض البلشفي امتنعت أعداد كبيرة من الفرق التابعة للثورة المضادة عن القتال. ففشل الهجوم المعادي للثورة على نحو مثير للرثاء.
بعد هزيمة كورنيلوف، تطورت تركيبة السوفييتات في بتروغراد وفي مختلف أنحاء البلد بشكل سريع. ارتفع عدد المندوبين الموالين للبلاشفة على حساب التوفيقيين. وارتفع الضغط من كل مكان من أجل القطيعة مع الحكومة المؤقتة. مع بداية شهر سبتمبر، لم تعد هناك سوى أغلبية ضئيلة، في اللجنة التنفيذية للسوفييت، لصالح الحكومة، حيث حصل كيرينسكي على 97 صوتا وصوت 86 لصالح حسم السلطة من طرف السوفييتات. وبعد أسبوع من ذلك أعطى تصويت لمندوبي السوفييت بتروغراد 229 صوتا لصالح “حكومة العمال والفلاحين”، و115 صوتا ضد وامتنع 51 مندوبا عن التصويت. يوم 9 سبتمبر، ومن بين 1000 مندوب لم يحصل التصويت لصالح الائتلاف، سوى على 414 صوتا، و519 ضد، بينما امتنع 67 عن التصويت. وفي بتروغراد، صار البلاشفة يتمتعون بأغلبية واضحة في السوفييت وفي لجان المصانع.
تزامنت انتفاضة 24-25 أكتوبر 1917، التي أطاحت بالحكومة المؤقتة ووضعت السلطة في يد السوفييتات، مع افتتاح المؤتمر الثاني لسوفييتات عموم روسيا. لقد تم تنفيذ الهجوم تحت قيادة تروتسكي، واتسم بالسرعة والفعالية. كان البلاشفة قد حققوا، بفضل عدة أشهر من النضال، أغلبية حاسمة داخل السوفييتات، التي كانت الأجهزة التمثيلية الحقيقية للطبقة العاملة. كان حسم السلطة من طرف السوفييتات سلميا. في هذه اللحظة الحاسمة، لم يكن أي أحد يريد القتال في صف كيرينسكي، الذي غادر بتروغراد في سيارة وضعت تحت تصرفه من طرف السفارة الأمريكية.
في الغد، نشر المؤتمر في جريدة Rabotchi i Soldat، إعلانا إلى العمال والجنود والفلاحين يلخص بشكل جيد فحوى ثورة أكتوبر: « الحكومة المؤقتة قد أسقطت. وتم اعتقال أغلبية أعضائها. ستقترح سلطة السوفييتات سلاما فوريا وديمقراطيا على كل الشعوب وهدنة فورية على كل الجبهات. ستضمن مصادرة بدون تعويضات لأراضي الملاكين العقاريين، وللاحتكارات وأديرة الرهبان ووضعها تحت رقابة لجان الفلاحين. ستدافع عن حقوق الجنود في دمقرطة شاملة للجيش. وستطبق الرقابة العمالية على الإنتاج. ستضمن الدعوة إلى عقد الجمعية التأسيسية. وستضمن لكل الأمم التي تعيش في روسيا الحق في تقرير مصيرها»
محرر جريدة الفرع الفرنسي للتيار الماركسي الأممي
الثلاثاء: 24 غشت 2004
هوامش:
[1] نستعمل هنا التأريخ الروسي القديم، الذي يتأخر بـ 13 يوما عن التأريخ الأوربي. وهكذا فإن “ثورة فبراير” الروسية اندلعت، حسب التأريخ الأوربي، خلال شهر مارس، وثورة أكتوبر، خلال شهر نوفمبر.
[2] قصر فرساي بباريس حيث كانت تجتمع الحكومة البرجوازية المعادية للثورة للتحضير للهجوم ضد الكومونة – المترجم –
عنوان النص بالفرنسية: