في الشهر الماضي هزت أحداث درامية سوريا المضطربة أصلا: إضرابات، ومظاهرات في وسط دمشق، وهجمات على مقرات الاستخبارات، وإدانة من قبل جامعة الدول العربية. يبدو النظام السوري الآن أضعف من أي وقت مضى، ومنهكا إلى حد بعيد، ويبدو أن موازين القوى صارت مواتية للثورة. إن دخول الميليشيات الجماهيرية إلى مسرح الأحداث شكل تحولا هاما في الوضع لا يقلق النظام وحده، بل يقلق أيضا المعارضة البرجوازية وحلفائها الإمبرياليين.
النهو ض الشعبي مستمر
هل يمكن لنظام عسكري أن يقوم بما هو أكثر من إطلاق نيران الرشاشات الثقيلة بشكل مباشر على منازل المواطنين وقصف الأحياء السكنية بالدبابات، لوقف النهوض الشعبي؟ ما الذي يمكنه أن يفعل أكثر من تعذيب المناضلين والأطفال حتى الموت، وترويع العائلات وكبار السن في منازلهم، وضرب النساء في الأماكن العامة واختطافهن واغتصابهن في مراكز جرائم الدولة المنظمة (أي مراكز الاعتقال)؟ لقد أثبتت أجهزة القمع الوحشي لنظام الأسد عجزها في مواجهة صمود وبطولة الجماهير في حمص، وحماه، ودرعة، ودوما، وسائر المدن والبلدات والقرى السورية الأخرى. ويبدو أن النظام قد فقد كل علاقة له بالواقع، كما فقد القدرة على فهم الوضع بعد تسعة أشهر من التحرك الجماهيري. انه ما يزال يعيش في الماضي عندما كان القمع ينتهي بالنجاح، ولا يستطيع أن يفهم لماذا لم تعد هذه المعادلة البسيطة والمألوفة صحيحة اليوم؛ ويحاول بيأس التشبث بها دون جدوى!
إن الحركة أبعد ما تكون عن “التوقف”، عكس ما يدعي النظام مرارا، فهي مستمرة في التكاثر في كل مكان، وأحيانا في أماكن غير متوقعة. لقد شهدت الفترة الماضية عددا من المظاهرات الصغيرة في بعض المناطق في قلب دمشق، التي استبعد العديد من المراقبين حدوثها، مثل المزة بالقرب من السفارة الإيرانية، وشارع الشعلان، والطلياني، وخالد بن الوليد، وشارع محطة الحجاز، والبرامكة بالقرب من مقر وكالة الاعلام السورية (سانا)، وغيرها من المواقع. بالرغم من أن تلك المظاهرات ما تزال صغيرة من حيث الحجم، فإن أمكنة اندلاعها تحمل الكثير من الدلالة. والطلاب ليسو أقل كفاحية ورغبة في النضال. فقد شهدت الجامعات العمومية الأربعة، دمشق، حلب، البعث (حمص)، وتشرين (اللاذقية)، العديد من الاحتجاجات سواء في الكليات أوالإقامات الجامعية. والشيء الأكثر تعبيرا أيضا هو انخراط طلاب الجامعات الخاصة مثل القلمون والجامعة الأوروبية (الدولية)، التي تضم طلابا من عائلات ميسورة، في النضال. والأهم من ذلك، هو وصول التفكك في صفوف القوات المسلحة الى مستوى جديد، حيث أن الجنود المنشقين قد نظموا أنفسهم تحت اسم “الجيش السوري الحر” ونفذوا هجمات بالصواريخ المحمولة على الكتف ضد مقر جهاز المخابرات.
ليست هذه سوى أمثلة قليلة للإشارة إلى أن مقولة النظام المفضلة: “لقد انتهى الأمر”، أبعد ما تكون عن الحقيقة. إن الحركة على قيد الحياة وتتطور. يسخر الثوار قائلين إن الأمر قد يكون فعلا قد انتهى، لكن النظام لا ينتبه إلى أن “الأمر انتهى” بالنسبة لمحاولته الصراع من أجل البقاء! وفي الوقت نفسه تتفاقم الأزمة الاقتصادية، مما يلقي بظلال قاتمة للغاية على جهو د النظام للحفاظ على ذاته.
السقوط الحر للاقتصاد
النشر المستمر للقوات المسلحة، والاضطرابات في الإنتاج، وتباطؤ النشاط التجاري إلى الحد الأدنى، والتوقف النهائي للسياحة، وضعت عبئا كبيرا على الاقتصاد السوري. وعلى الرغم من محاولات البنك المركزي اليائسة الحفاظ على الاستقرار المالي، فقد فقدت الليرة السورية 10% من قيمتها مقابل الدولار، وربما 20% في السوق السوداء. يعني التوجه نحو “اقتصاد السوق” الذي تم في السنوات الأخيرة، زيادة الاعتماد على التجارة والاستثمار الأجنبيين، مما يعني أن العقوبات الاقتصادية الجديدة ستؤدي إلى المزيد من تقويض الاقتصاد. هناك بالفعل أزمة واسعة النطاق في التزود بالوقود والكهرباء، خصوصا في مناطق التوتر العالي. يعاني السوريون من الانقطاع اليومي للكهرباء ساعات طويلة ومضطرين للانتظار في طوابير طويلة جدا من اجل الحصول على مجرد قنينة لغاز الطهي أو وقود التدفئة.
وقد اعترف وزير المالية، محمد نضال الشعار، ان سوريا تواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ سنوات، وربما الأسوأ في تاريخها. لكن ما الذي يقترحه السيد الشعار كحل؟ انه يقترح أنه “علينا أن نكون أكثر فعالية في ما يتعلق بموضوع الاكتفاء الذاتي، وبتوزيع مواردنا وفي إنتاجنا وإدارة معاملنا” وشدد على “ضرورة الاهتمام بالزراعة والغذاء، اللذين عانيا إهمالاً خلال السنوات الأخيرة، وإنعاش المصانع، التي أغلق عدد كبير منها، إثر اتفاق التبادل الحر مع تركيا”. هذا جيد للغاية يا سيد الشعار، لكن العديد من الصناعات تم بيعها، وتم كسر احتكار التجارة الخارجية لصالح القطاع الخاص وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية. هل يمكن أن يكون السيد الشعار يقترح عكس مسار الخصخصة وإحياء تخطيط الدولة للقطاعات الأكثر أهمية في الاقتصاد كحل لهذه الأزمة؟
ليس الأمر كذلك، فقد نفى الوزير امكانية العودة الى ممارسات مرحلة الثمانينات، حيث كان الجزء الأكبر من الاقتصاد مملوكا ومسيرا من طرف الدولة: “لم تتخذ أي خطوات في هذا الاتجاه، ونحن لا ننوي القيام بذلك” و”سندع القطاع الخاص، الذي يشكل 73% من اقتصادنا، يعمل بمرونة ويدير شؤونه بنفسه”. من الواضح أنه لم يبق شيء مما كان يسمى بالاقتصاد “الاشتراكي”، ولم تبق سوى قطاعات صناعية صغيرة في أيدي الدولة لدعم 73% من الاقتصاد الذي “يدير شؤونه بنفسه”، والذي بالرغم مما أشار إليه الشعار، يدير شؤونه بطريقة سيئة. أشار السيد الشعار إلى أن قطاعي الأغذية والزراعة أهملتا منذ الخصخصة، ومنحت لرامي (رامي مخلوف، ابن عم الرئيس) وأشباهه، لكن لا يمكن أن نتوقع من الطبقة الرأسمالية الجديدة في سوريا أن تقضي على نفسها، أو تسمح بتقييد أياديها. لقد جعلت الملكية الخاصة واصلاحات السوق الاقتصاد أكثر هشاشة وحساسية تجاه الضغوط الاقتصادية الخارجية، لكنها لا رجعة فيها من وجهة نظر الطبقة الحاكمة.
وعلى الرغم من أن هذه الاصلاحات أتاحت بعض الفرص للبرجوازية الإقليمية للاستثمار والربح في سوريا، فقد استولت الطغمة الحاكمة على أكثر الفرص المربحة. وهذا يعني أن الامبريالية والبرجوازية الإقليمية تريان في السقوط المرتقب للنظام السوري فرصة لنهب الاقتصاد السوري بشكل أكبر حتى من ذلك الذي سمح لهم به النظام.
الجامعة العربية تتحرك ضد الاسد
في هذه الأثناء بدأت النسور تحلق. وقد جاء قرار جامعة الدول العربية بتعليق عضوية سوريا مفاجأة لمعظم المراقبين. جاء هذا القرار فجأة، لكن ما هو واضح هو أنه لا يمكن أن يكون قد اتخذ من دون مباركة القوى الامبريالية. ومما يؤكد ذلك، من دون أي شك، هو دعوة ملك الأردن، المعروف بكونه دمية في يد الإمبريالية البريطانية، الأسد إلى الاستقالة. حتى الأطفال في الشرق الأوسط يعرفون أن هذا الملك لا يتكلم كلمة واحدة دون أن تلقن له من قبل أسياده في لندن وواشنطن. هذا يوضح أن القوى الامبريالية والإقليمية قد اقتنعت – بعد تردد طويل- أن مسألة سقوطه ليست سوى مسألة وقت، لذا عليهم أن يضمنوا سقوطه بطريقة متحكم فيها. كلما استمر الأسد في التشبث بالسلطة، كلما ازداد اضطراب الوضع وصار من الصعب أكثر فأكثر عليهم ضمان مصالحهم في سوريا بعد الاسد، أو احتواء الهزات الثورية التي بدأوا يشعرون بها بالفعل تحت أقدامهم.
استقبل النظام السوري القرار بهستيريا شديدة. لم يجد المندوب السوري لدى جامعة الدول العربية جوابا سوى سب ممثل دولة قطر علنا. واندفعت أبواق النظام على جميع القنوات التلفزيونية تشجب وتشتم العرب “الخونة”. بعد ذلك ظهر وزير الشؤون الخارجية السوري، وليد المعلم، على شاشة التلفزيون في اليوم التالي، يطلب إعادة فتح الحوار مع جامعة الدول العربية! إن رد الفعل المتناقض للدبلوماسية السورية يؤكد البلبلة والارتباك التي يعيشها النظام.
هاجم انصار الأسد الغاضبون سفارات قطر والإمارات العربية المتحدة في دمشق. وإلى اللاذقية، مسقط رأس عائلة الأسد واتباعهم، وصلت عشرات السيارات المكدسة بانصار النظام من القرى المحيطة بها. هاجموا القنصليات التركية والفرنسية وأحرقوا أعلامها. وقام قريب لرئيس الكلية البحرية باسقاط راية جامعة الدول العربية، وحرقها وتحطيم مبنى الجامعة. وأعقبت هذه المسرحية استعراض مسلح لهؤلاء المؤيدين في ساحة الشيخ ضاهر حيث حطموا المتاجر وألقوا شتائم طائفية على المواطنين. هذه هي أخلاق خريجي مدرسة البعث! هذه هي القيمة الحقيقية لشعارهم حول “الوحدة العربية”!
من الواضح أن قرار الجامعة العربية يفتح الباب أمام التدخل الاقليمي وربما حتى التدخل المباشر في الشؤون السورية. حتى هذه اللحظة، يبدو أن القوى الإقليمية مكتفية بالتدخل بشكل غير مباشر من الخارج، واستبعاد أي عمل عسكري مباشر من قبل القوى الامبريالية الرئيسية في باريس أو لندن أو واشنطن، بعد حملتهم المكلفة في ليبيا، خاصة إذا استمرت روسيا والصين في التشبث بموقفهما الداعم لحلفائهما في دمشق. إذا كان لا بد من التدخل، فسوف يأتي عبر وكلاء. من شأن استخدام قوة “عربية” أن يكون مريحا، وقرار الجامعة يعطي ذريعة لذلك.
ذهبت الدول العربية الآن بعيدا بفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على النظام، وتجميد كل الأنشطة التجارية والاستثمارات والتعامل مع مصرف سوريا المركزي. وقد وافقت تركيا، التي أصبحت أكثر عدوانية ضد النظام السوري منذ قرار جامعة الدول العربية، على العقوبات الاقتصادية. وقد طرحت أيضا فكرة إنشاء “منطقة آمنة” على طول حدودها للمدنيين والجنود المنشقين للاختباء فيها.
أيا كان مصير هذه الخطط، فإن النظام قد أصبح أكثر عزلة على الصعيد الدولي. ولهذا تأثير سلبي على الاقتصاد مما يزيد في زعزعة استقرار الدولة، ولديه تأثير على الروح المعنوية لكوادر النظام الحاكم، وعلى المدى الطويل لا يمكن ضمان حتى تأييد روسيا والصين، عندما سيريان أن لعبة الأسد قد انتهت. ومن الواضح أيضا أن الإمبرياليين كثفوا تدخلهم في مستقبل الثورة السورية.
المجلس الوطني السوري ومناورات الإمبريالية
القوى الإمبريالية مشغولة جدا في الفترة الأخيرة. وبالاضافة إلى الاجراءات التي اتخذتها الجامعة العربية، رتب وزير الخارجية البريطانية ويليام هيغ لقاء مع “المجلس الوطني السوري” في لندن، كما قامت غيرها من القوى بتكثيف الاتصال معه.
يتكون المجلس الوطني من أكثر من 200 عضو، من الجناح السوري للإخوان المسلمين في المنفى، وإعلان دمشق، وبعض المنظمات الكردية، وبعض الأشخاص المنتمين إلى منظمات أخرى. إنهم ليسو ممثلين منتخبين ديمقراطيا للحركة، بل مجرد مجموعة من الناطقين باسم بعض أحزاب المعارضة. علاقتهم مع الحركة في الواقع غير موجودة، وعلى الرغم من أنهم يدعون التحدث باسم الثورة، فإنهم لم يحصلوا على ثقة الحركة.
مع ذلك فإن الامبرياليين يتوجهو نحوهذا المجلس من أجل البحث عن قيادة موثوق بها لتنفيذ املاءاتهم. سيكون من المريح جدا بالنسبة لهم فرض هذا المجلس على الثورة، مثلما فرضوا المجلس الوطني الانتقالي الغير منتخب على الثورة الليبية.
اختار وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ اللقاء بالمجلس يوم 21 نوفمبر، وليس مع الجيش السوري الحر. وقد نشر موقع المجلس خبرا قصيرا جدا بعد الاجتماع، لكنه مثير جدا للاهتمام:
«يؤكد المجلس الوطني السوري على أن الشائعات حول تعليقات للدكتور برهان غليون خلال لقائه مع وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ، يوم الاثنين 21 نوفمبر، يطلب من الجانب البريطاني التدخل لدى السلطات التركية لوقف هجمات الجيش السوري الحر لا علاقة لها بالواقع…»
ويستمر البيان في الثناء على الجنود الذين اختاروا التخلي عن النظام، لكن الإنكار الشديد يوضح كثيرا أن هذا الطلب كان خطيرا من الناحية السياسية. وبالنظر إلى إصرار المجلس على “نبذ العنف”، وإدانته للهجمات على أجهزة المخابرات، فمن الواضح أنه تقدم بهذا الطلب. وعلاوة على ذلك، لا يمكن لمثل هذا الطلب أن يقدم لولا أنه يتوافق بوضوح مع مصالح “الجانب البريطاني”.
إن ما يحتاجه الإمبرياليون هو قيادة للثورة تكون تابعة لهم، وفي حاجة إلى مساعدتهم، وليس لها وجود مستقل عنهم. إن مثل هذه القيادة الضعيفة والمعزولة، لكن المدعومة من القوى الامبريالية والدول العربية، ستكون منفتحة جدا على التفاوض على شروط مناسبة لرؤوس الاموال الاجنبية في سوريا في المستقبل. والمجلس الوطني السوري يناسبه الدور تماما. المشكلة الوحيدة هي بداية تطور قوة مستقلة نشأت دون أي دعم من الخارج، ورغم كل الدول الامبريالية، قوة بأسلحتها الخاصة وتمتلك سلطة في الحركة اكتسبتها عن عملياتها العسكرية الجريئة ضد النظام.
يشكل هذا خطرا على قدرة الامبرياليين على السيطرة على الأحداث في سوريا. فإذا ما سقط النظام دون معونتهم، سوف يظهر باعتباره نصرا لجماهير الجنود المنشقين والشباب والعمال في سوريا، ضد تقاعس ما يسمى بـ “المجتمع الدولي”، أي الإمبريالية الغربية، التي ذرفت دموع التماسيح طيلة تسعة أشهر ولم تفعل شيئا على الاطلاق. من شأن سوريا التي ستولد بهذه الطريقة أن تكون سوريا الشعب الثوري الذي صار جريئا وواثقا من نفسه بفضل الانتصارات التي حققها، والغير الراغب في التنازل ولوعن شبر واحد ويطالب بكل شيء.
تنبع الدعوات المنافقة إلى حركة “سلمية” من هذه الحسابات. من وجهة نظر الامبريالية من غير المسموح للقوى المسلحة أن تسقط تحت سيطرة الجماهير السورية: يجب أن تكون القوات المسلحة جزءا من المشروع البرجوازي أولا تكون على الإطلاق. إن توقيت فورة النشاط التي شهدتها الساحة في الأسابيع الأخيرة، من عقد اجتماعات مع المجلس، وفرض العقوبات، وإدانة النظام من قبل الجامعة العربية، غريب جدا. فبعد تسعة أشهر من التصريحات بدون أفعال، لماذا التحرك الآن؟ إن السر هو ظهور الجنود الثوريين على الساحة، والذين نفذوا هجمات جريئة، لتقرر الامبريالية ضرورة أخذ زمام المبادرة، أو مواجهة خطر فقدانها لصالح قوة مستقلة ولدت من داخل الثورة نفسها.
جنود ثوريون منظمون تحت اسم الجيش السوري الحر
إن الهروب المستمر للجنود والضباط من الجيش السوري، وفي بعض الحالات من الشرطة السرية وقوات الاستخبارات، أدى إلى تشكيل الجيش السوري الحر. وقد بلغ عدده الآن أكثر من 15000 جندي وفقا لتصريحات الناطق الرسمي باسمه. وبالمقارنة مع التطور الذي يعرفه هذا الجناح المسلح للثورة، تصير مجموعات الأطباء والمحامين والأكاديميين في المنفى، الذين يطلقون على أنفسهم اسم “المجلس الوطني السوري”، والذين أعلنوا أنفسهم قيادة للثورة، مجرد مزحة.
لفترة طويلة لم يعط لميليشيات الجنود هذه اهتمام يذكر من طرف وسائل الإعلام التي تجاهلتها عمدا لصالح دعم المجلس الوطني السوري. لكن مثل هذه القوة المتنامية التي وضعت بصمتها على الواقع لا يمكن تجاهلها لفترة طويلة. وقد جاءت نقطة التحول، أوبالأحرى التجسيد الفعلي للتغير في ميزان القوى، عندما قامت وحدة صغيرة من الجيش السوري الحر بمهاجمة واحدة من أهم المراكز الامنية الأكثر تحصينا في البلد كله: المقر الرئيسي لمخابرات القوات الجوية في حرستا، عند المدخل الشمالي لدمشق. ثم اختفت دون التعرض لاصابات او اعتقالات. وعلق الناطق باسم الجيش السوري الحر في أعقاب الهجوم أن لديهم مقاتلين في جميع أنحاء البلاد – بما في ذلك العاصمة دمشق- وأعلن أن مثل هذا النوع من العمليات سيستمر ويتوسع.
وقد سبق هذا الهجوم بيان للجيش الحر أعلن فيه تشكيل مجلسه العسكري. أعلنوا الجيش السوري الحر باعتباره الهيئة المسلحة الوحيدة الشرعية في البلاد، وأن قوات النظام ستكون، بعد أن فقدت شرعيتها، هدفا للجنود الأحرار. وحث البيان جميع الأفراد في الجيش والشرطة والمخابرات أن يغادروا فورا وحداتهم وينضموا الى الجيش الحر. وأعلن البيان أن الجيش السوري الحر سيتحمل مسؤولية ضمان الأمن في البلاد بعد سقوط النظام. وقد حظر على قيادته الانتماء إلى أي من الأحزاب السياسية، ووعد بتسليم السلطة الى حكومة مدنية بعد الانتخابات الأولى. إن هذا الإعلان، الذي صدر بشكل مستقل عن المجلس الوطني السوري، رمى جانبا بالمجلس الوطني، الذي هو بالكامل تحت سيطرة تركيا والامبرياليين.
إن التطورات الأخيرة انتجت الذعر بالتأكيد، ليس فقط بين صفوف النظام، وإنما أيضا بين صفوف المعارضة “المحترمة” ومسانديها الامبرياليين. وقد بدأت تصريحات القلق ازاء “خروج الثورة عن المسارات السلمية” تأتي من جميع الزوايا. كلينتون التي كانت قد نصحت الجنود المنشقين، قبل بضعة أيام، بعدم تسليم أسلحتهم إلى السلطات، أدانت بعد يوم من هجوم حرستا استخدام العنف من قبل المعارضة! تلتها ادانة ألمانيا بعد بضعة أيام. ليس لنفاق الإمبرياليين أي حدود! إنهم نفس الامبرياليين الذين سارعوا الى ضمان مصالحهم المستقبلية في ليبيا من خلال التدخل المسلح على نطاق أوسع بكثير من العمليات التي يقوم بها الجيش الحر. بالنسبة للإمبرياليين ليس استخدام العنف في حد ذاته هو الغير أخلاقي، بل استخدام العنف من جانب قوى خارجة عن سيطرتهم وقد لا تتماشى مع مصالحهم. إن نفاق “النزعة السلمية” البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لا قيمة له من وجهة نظر العمال والجنود والشباب السوريين الثوريين.
بعد أن أدركوا وزن الجيش السوري الحر، لم يعد يمكن للساسة البرجوازيين الصغار ومسانديهم أن يتجاهلوه؛ ولهذا فإنهم يحاولون الآن احتوائه. قبل بضعة أيام تسربت أنباء عن محادثات في تركيا بين رياض الأسعد، رئيس الجيش السوري الحر، وبرهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري. وقد تم تأكيد هذا الخبر على موقع الجيش السوري الحر مع صورة لرياض الأسعد وبرهان غليون وآخرين، وبيان غامض حول التعاون والعمل سويا من أجل مستقبل سوريا. وتأكدت أيضا حقيقة أن المجلس قد طلب من الجيش الحر اقتصار تحركاته على “العمليات الدفاعية”، وتجنب الهجوم. لقد وافقت قيادة الجيش الحر رسميا، مما يبين أن هناك قوى داخل الجيش السوري الحر تؤيد التقارب مع المجلس وداعميه الإمبرياليين. لكن ليس من الواضح ما إذا كان في إمكان تلك القوى أن تسلم الجيش الحر إلى أصدقاءها الجدد.
تناقضات الجيش الحر
تكثر التساؤلات حول طبيعة الجيش السوري الحر، هل هو حقا مجموعة من الجنود الثوريين، هل هو ميليشيات مسلحة تابعة للثورة؟ هل تهيمن عليه عناصر إسلامية متطرفة، أويمكن أن يكون مجرد أداة في يد القوى الامبريالية؟ يمكن لأي مراقب جاد أن يدرك أن الجيش السوري الحر ليست ميليشيا اسلامية ولا عميلا لقوى خارجية: الحقيقة هي أن طبيعته لم تتحدد بعد.
إن الجيش السوري الحر انعكاس لأزمة النظام العميقة. في كل مرة استخدم الجيش الوطني أداة لتوجيه ضربات للثورة، ظهر المزيد من الجنود وجنود الاحتياط الذين صاروا مصممين على الدفاع عن إخوانهم وأخواتهم – أي هؤلاء الذين يطالب النظام بذبحهم. وقد استمرت هذه الأزمة لمدة تسعة أشهر، بدون أي نهاية في الأفق. ليست للنظام أي انتصارات مقابل هذه الجهود، أومقابل سفك الدماء. يمكن فقط أن يعتبر الجمود انتصارا؛ ويسعد بأنه استمر على قيد الحياة. لكن لا يمكن لأي جيش أن يستمر طويلا في استمداد الروح المعنوية من شعار “عدونا يتزايد، لكننا لم ننهزم بعد”. هذا هو السبب الجوهري للانشقاق. كل يوم يبدو احتمال انتصارا النظام أكثر فأكثر بعدا في نظر قواعد القوات المسلحة، والروح المعنوية تنحط بشكل واضح، في حين تصير روح التفاني والرغبة في التضحية بين الثوريين أكثر فأكثر اشتعالا.
بالنظر إلى الجيش السوري الحر من هذه الزاوية يبدو من الواضح أنه ليس منظمة ببرنامج معد سلفا أورؤية سياسية، ولا يمكنه أن يكون كذلك. إنه كتلة من الجنود الثائرين، اجتمعوا بأحكامهم المسبقة ونواقصهم وأفكارهم. إنهم أنفسهم انعكاس لإرادة الملايين من السوريين الذين نهضوا لإنجاز المهام التاريخية للنضال الثوري. احتاجت الحركة جيشا للدفاع عنها ضد هجمات النظام، وقد ولد هذا الجيش من رحم التطور الموضوعي للثورة. بعض هؤلاء الجنود الملتحقين بالثورة لديهم أوهام في الإسلام السياسي، مثل الكثير من الجماهير الكادحة السورية. البعض الآخر لديهم أوهام في التدخل الإمبريالي، الشيء الذي هو أيضا انعكاس لنقاط الضعف الحالية في الحركة الجماهيرية. هذا طبيعي ومتوقع. الشيء الأساسي حاليا هو أن الجنود المنشقين عن الجيش الوطني والملتحقين بصفوف جيش الثورة هم متأثرون بالتأكيد بالروح الثورية للجماهير.
في الطبيعة كما في المجتمع البشري، يمكن للضرورة أن تعبر عن نفسها من خلال العديد من الطرق. تتطور الثورة السورية في ظل ظروف خاصة، دون نقابات عمالية مستقلة، ودون وجود الحزب الثوري الذي يمكنه أن يوجه الثورة وينفذ المهام الضرورية لتحقيق النصر. ضغوط الثورة لا تنتظر نضج الظروف الضرورية؛ لقد انفجرت وعبرت عن نفسها من خلال الجيش الحر. إنه، في هذه اللحظة، المنظمة الجماهيرية الوحيدة داخل الثورة السورية. وبسبب عدم وجود بديل، صار أيضا المؤسسة القيادية في الثورة. وهذا يعني، في الظروف الراهنة، أن جميع المسائل المتعلقة بالثورة ستعبر عن نفسها في هذه المنظمة.
لقد نما الجيش السوري الحر بما يكفي ليمتلك دينامية خاصة به؛ لكن مثل هذه الدينامية لا يمكنها أن تكون مختلفة كثيرا عن تلك الموجودة في المجتمع الذي يأتي منه. إن جيش أي بلد هو نموذج مصغر للمجتمع. إنه يحمل ثقافة مجتمعه، ويعاني علله وتناقضاته، ويتمتع بمزاياه وخصاله، ويعبر عن معتقدات وأمزجة مختلف طبقاته وفئاته. ويصير هذا صحيحا على وجه الخصوص في مرحلة الثورة، مع ميليشيا ثورية شعبية. ليس من المستغرب أن قسما من الجيش السوري الحر يحمل معتقدات دينية وأوهاما حول الإسلام السياسي، كما هو حال جزء كبير من المجتمع السوري. كما أنه ليس مفاجئا أن قسما من الجيش السوري الحر لديه أوهام في الحصول على مساعدة قوى أجنبية للإطاحة بالنظام، على اعتبار أن هذه الأوهام منتشرة على نطاق واسع بين العديد من السوريين العاديين الذين يبحثون عن وسيلة لتحقيق النصر. إن السذاجة السياسية للجماهير التي تواجه مثل هذه المهمة التاريخية دون أي قيادة سياسية تنعكس بالتالي في صفوف الجيش السوري الحر.
صحيح ان قيادة هذه الميليشيا لا تمتلك منظورا سياسيا، ودعت عدة مرات للحصول على مساعدة أجنبية، وهي الآن تنجرف في اتجاه الإمبريالية – لكن تظل الحقيقة هي أن قواعد الجيش مختلفة عنها بالرغم من أن لديها أوهامها الخاصة. في الواقع من غير الواضح مدى السيطرة التي تمتلكها القيادة على وحدات الجيش في هذه الظروف الصعبة. نرى يوميا أشرطة فيديو لجنود يعلنون انشقاقهم، وتشكيل وحدات قتال جديدة، وتنفيذ عمليات ناجحة، وسقوط شهداء، الخ. وتظهر في هذه البيانات وأشرطة الفيديو غالبا عدم الثقة في القوى الأجنبية (الغربية والعربية) والغضب من خيانتها للشعب السوري. هناك أشرطة فيديو يظهر فيها جنود الجيش الحر بين الجماهير يتحدثون إليهم ويتآخون معهم، وفي أشرطة فيديو أخرى يظهر جنود الجيش الحر وهم يرددون شعارات أو أغاني ثورية.
تدعي قيادة الجيش الحر أنها لم تتلق أي مساعدات عسكرية من القوى الخارجية، وقد اشتكى الناطق الرسمي باسمه مرارا من عدم وجود الأسلحة والذخيرة بين أيدي الجنود الأحرار. يبدو أن هذا صحيح وتؤكده البيانات عن العمليات الناجحة التي تظهر الاستيلاء على عدد صغير من الأسلحة الخفيفة، 10 بنادق آلية على سبيل المثال، كإنجازات هامة. من المنطقي ان الامبرياليين ليسوا على استعداد لتسليح الميليشيات الثورية لخوفهم من العواقب. هذا يشير إلى أن الجيش السوري الحر ما يزال محتضنا من طرف الحركة الجماهيرية، الشيء الذي يجعل من الصعب على الامبرياليين الثقة فيه كأداة لتنفيذ خططهم للثورة – أو بعبارة أصح خططهم الرامية الى عرقلة الثورة. على الرغم من التيارات المختلفة المعتملة في الداخل والخارج والتي تجذبه في اتجاهات مختلفة، فإنه ما يزال أكثر ارتباطا بالحركة، من أن يكون موضع ثقة للإمبريالية. فقبل كل شيء كيف يمكن لجنود الجيش الحر أن يعيشوا حياة حرب العصابات، ويتمكنوا من البقاء على قيد الحياة يوما بعد يوم، وكيف يأكلون ويشربون ويختبؤون، وما إلى ذلك، دون مساعدة نشطة من قبل العمال الثوريين والشباب في المدن والقرى؟ من الواضح أن هذه العناصر ما تزال غير جديرة بالثقة من وجهة نظر الإمبريالية، مقارنة بهؤلاء الأكاديميين الذين يعيشون في باريس، بعيدا عن المزاج الثوري للجماهير.
إن ظهور وتطور الجيش السوري الحر خطوة إيجابية إلى الأمام بالنسبة للحركة، لكن مستقبل الثورة لا يمكن أن يصير مضمونا طالما أن التطور السياسي لهذه المنظمة ليس بين أيدي الثوار أنفسهم، بل في يد قلة غير منتخبة تنظم النقاشات خلف الأبواب المغلقة مع المجلس الوطني السوري والإمبرياليين.
يجب على الجيش الثوري أن ينتمي إلى الشعب!
لقد أخذت الامبريالية علما بالثورة السورية، وهي تتسابق لسرقة الثمار قبل حتى أن يسقط النظام. وحدها الرقابة الديمقراطية للحركة على جيشها وممثليها من ستمنع حدوث ذلك.
لقد صار هذا الجيش، بعد أن أخذ الدور القيادي في الثورة، في الوقت الحاضر هو مفتاح مستقبلها. إن القرارات التي سيتخذها ستؤدي إما إلى النصر أو إلى الهزيمة. إنها قرارات أهم جدا من أن يتم اتخاذها دون نقاش وتقرير ديمقراطيين. ما هو رأي المقاتلين الشجعان الذين هاجموا مقر المخابرات في دمشق بخصوص الإعلان الصادر عن المتحدث باسمهم حول أنه، وبالاتفاق مع المجلس الوطني، لن تكون هناك المزيد من العمليات الهجومية من هذا النوع؟
يحضر الجيش السوري الحر على قيادته الانتماء إلى أي حزب، لكن ليست هذه هي المسألة. المسألة هي أن البرجوازية والإمبرياليين لديهم أحزابهم داخل المجلس الوطني، ودون إجراء نقاش حر داخل الجيش الحر حول مستقبل الانتفاضة والثورة، يمكن بسهولة أن تسقط تلك القيادة في أيدي هؤلاء العملاء. إن تحركات قيادة الجيش الحر في اتجاه المجلس تؤكد هذا الخطر.
على الجنود أن يطالبوا بوضع الجيش تحت سيطرة الحركة. يمكن للجيش الحر، وينبغي عليه، أن يصبح نقطة تنسيق لقوى الانتفاضة، لكن لا يمكن أن تترك الانتفاضة للجنود المتمردين وحدهم. يجب أن تتوسع في الأحياء والمصانع والمدارس. ينبغي تنظيم لجان العمال والشباب للتنسيق بين الإضراب والاحتجاج الجماهيري وبين الجيش الحر. يجب أن ينتمي هذا الجيش للشعب، ويجب أن تقرر أعماله بشكل ديمقراطي من قبل ممثلين من لجان الأحياء، ولجان العمال، والطلاب والجنود.
ستكون مثل هذه القوة تعبيرا حقيقيا عن الإرادة الثورية للشعب السوري، وهي السبيل الوحيد لتقرر – في مواجهة ديموقراطية مفتوحة بين الأفكار تسمح لجميع الأحزاب المعارضة بالتعبير- في كيفية المضي قدما. ليس المطلوب هو حظر مشاركة القيادة في الصراع بين الأحزاب، بل المطلوب هو المطالبة بأن يتم ذلك علنا تحت العين الساهرة للجماهير الثورية السورية، هذه هي الضمانة بأن يكون الجيش السوري الحر جيش الشعب السوري وليس جيش احد آخر.
لكن لا توجد بين جميع أحزاب المعارضة رغبة في رؤية هذا النضال يخاض حتى النهاية. الاخوان المسلمون وجميع الأحزاب المتواجدة معهم في “المجلس الوطني” لا يمثلون العمال والشباب الثوريين، ويشاركون في التآمر مع الامبرياليين لسرقة سوريا من شعبها. الشعب السوري شعب أبي، وفخور جدا باستقلاله، وبالثورات التي خاضها ضد الامبريالية لنيله. لقد تمكن النظام، في بداية هذه الثورة، من المحافظة على بعض التأييد في أوساط الجماهير على وجه التحديد بسبب خطاباته الديماغوجية ضد الامبريالية. إن ما تحتاجه الثورة الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو الحزب الثوري – المستقل عن مناورات الإمبرياليين- الذي من شأنه أن يطرح برنامجا للقضاء على أشباه رامي السوريين، ليس من أجل تسليم ثرواتها الى مجموعة أخرى من المحتالين مقرها الرياض، أو بيروت، أو عمان، أو باريس، أو لندن أو نيويورك.
ثروة الطبقة الحاكمة نهبت من الشعب السوري، وهي ملك للشعب السوري وحده. إن البرنامج الثوري سيطالب بتأميم ثرواتها، ليس تحت سيطرة البيروقراطية كما كان عليه الحال في الماضي، بل تحت الرقابة الديمقراطية للعمال والجنود والشباب. الشعب الثوري هو من سيقرر كيفية استخدام تلك الثروة لانهاء الازمة، وإنقاذ كل رجل وامرأة وطفل من أعماق الفقر الذي رمتهم فيه الطبقة الرأسمالية البعثية. لقد استحقت الجماهير الثورية السورية هذا المستقبل الأفضل بدمائها.
إن ما هو مطلوب هو بناء تيار ماركسي في سوريا يمكنه أن يحمل هذه الأفكار إلى الحركة ويقدم منظورا اشتراكيا للثورة. وإلا فإن جميع أنواع الشخصيات العرضية ستظهر على السطح، وستقع تحت تأثير الإمبريالية. وليس هذا ما تناضل الجماهير السورية من اجله.
موسى اللاذقاني، وعيسى الجزائري
الاثنين: 12 دجنبر 2011
عنوان النص بالإنجليزية:
Syria: Assad regime beginning to crack as revolution moves to higher level