توصلنا من طرف الرفيق أحمد حسن، بمقال هام يناقش فيه مواقف جلبير الأشقر “المفكر اليساري” حول الثورة الروسية وتراثها وتجربتها، وتمس تمس تقريبا كل المسائل الرئيسية في رؤيتنا للثورة، مفهومنا عن الحزب الثوري، تصوراتنا عن “النظرية الثورية” بالإضافة إلي مفاهيم تتعلق بماهية الحركة الجماهيرية نفسها، هذه المواقف عبر عنها جلبير في حوار مع موقع “رمان” بمناسبة مئوية الثورة الروسية.
بالنظر لأهمية هذا النقاش السجالي ولتعميم الفائدة وفتح نقاش بين عموم الماركسيين حول راهنية الثورة، ، نعمل هنا على نشر مقال الرفيق أحمد حسن على شكل أجزاء، ونعبر عن استعدادنا لنشر المقالات التي نتوصل بها بشأن هذا الموضوع.
جلبير الأشقر – هل نعتذر؟
أحمد حسن
03 أبريل 2018
في ذكري مئوية الثورة البلشفية، وعلى خلفية هزيمة موجة ثورية سميت مجازا “الربيع العربي”، هزت، بدرجة أو أخري، جنبات النظام العالمي في قارات مختلفة، تعالت أصوات – مراجعة – تصيح تحت ستار نقد وتقييم التجربة الروسية وتداعياتها، وهاهم، أثناء نقدهم، يستدعون المفاهيم والأفكار من جعبة التيار المنشفي (الجناح اليميني للاشتراكية الروسية) ومن جعبة الفابيين والاشتراكية الديموقراطية، ومن جعبة الليبرالية البرجوازية الصغيرة،التي تدعو لرأسمالية تراعى نسبيا مشاكل الفقراء، دون مساس بقوانين السوق واليات حركته.
تلك المراجعة انصبت على قضايا أساسية، منها نظرية التنظيم في الفكر البلشفي، إستراتيجية الثورة، سلطة العمال، بل ثورة أكتوبر الروسية نفسها بقيادة الحزب البلشفي.
إنها قضايا جديدة / قديمة، تحاول الظهور بمظهر راديكالية جديدة (اقل حدة) قادرة على التعايش مع الأخر – الغير محدد سلفا – وإبداء نوع من التسامح الطبقي، والميل الديموقراطي، والواقعية السياسية، بل والعقلانية في مواجهة الجنوح – إن لم نقل الجنون – البلشفي بأفكاره المتطرفة التي، وفقا لتصورهم، اثبت التاريخ خطأها.
هل على البلاشفة الاعتذار عن ثوريتهم المتطرفة، هل علينا نبذ لينين “المتطرف” وإعادة صياغة لينين جديد يوافق متطلبات الحداثة البرجوازية ويمكن تسكينه ضمن أنواع المعارضة “الجديدة”؟
أستاذ جلبير الأشقر مفكر يساري مرموق له عدة مؤلفات سياسية هامة، وهو في هذه المناسبة يقدم رؤية – أو جرده – تاريخية للثورة الروسية وتراثها وتجربتها، تتضمن تصورا “حديثا” لماركسية تستطيع التخلص من ارث هذا التطرف البلشفي، والأخطاء النظرية والتاريخية للتجربة الروسية، وذلك في حوار مع موقع “رمان” المعبر عن فلسطينيو المهجر واللاجئين، دار اللقاء بمناسبة مئوية الثورة الروسية، في حديثه أثار السيد جلبير بعض القضايا الهامة التي تتطلب توقفا حذرا، إنها تمس تقريبا كل المسائل الرئيسية في رؤيتنا للثورة، مفهومنا عن الحزب الثوري، تصوراتنا عن “النظرية الثورية” بالإضافة إلي مفاهيم تتعلق بماهية الحركة الجماهيرية نفسها.
ولدواعي المساحة سوف أناقش على مقالات متفرقة أطروحات جلبير، واضع رابطا للحوار أسفل المقال، ليتمكن القارئ المهتم من الاطلاع عليه كاملا، وسوف أضع – بين قوسين – كل النقاط التي أتقاطع نقديا معها لرسم لوحة سجالية غير مبتورة أثناء قراءة المقالات.
– ما هي النظرية الثورية؟
يسأل المحرر: – اليوم، بعد سبع سنوات على اندلاع الثورات العربية، هناك فكرة يعبّر عنها الكثير من اليساريين، بغض النظر عن موقفهم، تقول إن ما حصل لم يكن ثورات وذلك بسبب غياب قيادة ثورية تعتمد نظرية ثورية. إلى أي درجة تعتبر هذا الكلام صحيحاً؟ يجيب جلبير:
«لا أعتقد أن المشكلة هي في غياب “نظرية ثورية” معيّنة. في القرن العشرين رأينا العديد من التجارب التي اعتمدت على “النظرية الثورية” (بأل التعريف، أي نظرية واحدة وحيدة) وكانت نتيجتها كارثية. والحال أن اليسار التاريخي والحركة العمالية لم ينشآ بالارتباط بنظرية ثورية وحيدة.
عبارة “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية” وردت في كتاب “ما العمل؟” للينين وقد استعارها من بليخانوف، (معظم الناس يجهلون ذلك اليوم، أما في عصر لينين فكان اليساريون الروس يدركون من هو صاحب تلك العبارة الأصلي). وهذه العبارة تتحوّل إلى مقولة دغمائية جامدة إذا تم فهمها كدفاع عن أحادية نظرية (ساهم ستالين في تحويلها إلى آية دينية في كتابه “مبادئ اللينينية”)، إذ أن الحركة الثورية لا يمكن أن تكون مقتصرة على أناس ينتمون إلى نظرية ثورية بعينها، وإلا لما حصلت أي ثورة. وليست هناك ثورة جماهيرية في التاريخ انتمى كل الذين شاركوا في صنعها إلى نظرية ثورية واحدة.»
السيد جلبير يدعو إذن إلى “تعددية نظرية” تشكيلة مختلفة من النظريات “الثورية” حتى لا نكون دوغمائيين، هكذا مع السيد جلبير تنمحي الخطوط الفاصلة بين نظرية وأخري، هكذا يمكن خلط الفابية والماركسية،الفكرة الثورية بجذريتها، مع التدرج البرلماني، القومية أو الاشتراكية الوطنية، مع الاتجاه الأممي، الإسلام والمادية الجدلية، إنشاء مدهش لتشكيلة،متباينة ومتناقضة، من النظريات حتى تناسب فكرة “التعددية”، هذا أو – كما يقول – الكارثة.
هذا الخلط – بين النظرية الثورية – والتعدد الإيديولوجي / النظري، ناقشته الماركسية بالتفصيل، ربما بداية من “البيان الشيوعي”، وفي كراس خاص كتبه إنجلز لنقد “الاشتراكيات” الأخرى، وتمييز “الاشتراكية العلمية” عنها، ثم في كتابات لينين وغيره من الثوريين الماركسيين، فضلا عن النقد الفلسفي لتلك النزعة التي تعرض لها بليخانوف في كتابه الشهير “تطور النزعة الواحدية في التاريخ” يسمى بليخانوف تلك النزعة ب “الانتقائية” ناقدا محاولة خلط عناصر من المادية الجدلية مع عناصر من المادية الميكانيكية، أو المزج بين عناصر من الفلسفة “المثالية” مع أخري من التفسير “المادي”.
فعلا هي كارثة، ذلك التصور الذي يقدم الانتقائية كبديل للاتساق المنهجي، أن راديكاليين دينيين، أو قوميين متعصبين هكذا يمكن تضفير رؤاهم ضمن تصور عن عالم بلا طبقات ولا كهنوت، وليس فقط على صعيد “الحركة” ولكن أيضا على صعيد النظرية.
تلك الانتقائية تقدم عمليا مسخا نظريا غير متناسق، كوكتيل من العطارة الفكرية وليس نظرية معينة، كمن يضع نفسه فوق الأيديولوجيات والنظريات، يرتدى ثوب الحكيم ويقترح التعايش والاندماج، رغم أن من البديهيات البسيطة انه إن تضاربت “المقدمات” النظرية تتضارب بالضرورة “النتائج” المبنية على أساسها، سواء على صعيد النظريات السياسية، أو الفلسفات والمناهج.
في السياسة على سبيل المثال هذا الفرق بين النظرية (الإصلاحية) والنظرية (الثورية) حيث تربي الأولى الجماهير على التكيف مع النظام الاجتماعي، والمطالبة في حدود الممكن، والتوافق مع الخصوم على حد أدني دائما، واعتماد المساومة وسيلة منهجيه. بينما الأخرى تدعو لتغيير النظام، رفض التعايش، وعدم الاكتفاء بطرح مطالب في نطاقه.
الليبراليون يتمسكون بسياسات السوق الحر كسر مقدس يجب الحفاظ عليه، الراديكاليون اليساريون يرون السوق كمصدر دائم للازمات وللإفقار،الموقف من الملكية الخاصة الجوهري في الصراع،والذي يضع معظم “إن لم يكن كل” التيارات الفكرية الحديثة في جهة، واليسار الراديكالي في جهة أخري.
في عالم الأفكار، بما هي تعبير مركب عن العالم الواقعي، لا تتعايش الأيديولوجيات في سلام، ولا تنشئ تحالفا فيما بينها، إن الإيديولوجيا بطبيعتها تسعي إلى الهيمنة، بما هي تعبير عن قوى اجتماعية وطبقية تناضل من اجل السيطرة وإدارة المجتمع لحساب مصالحها الطبقية، لذلك تسعي بالضرورة إلى دفع الأيديولوجيات الأخرى إلي الهامش، إن الأفكار هكذا تتحرك موضوعيا في حالة صراع مع غيرها، كتجلي لصراع “اجتماعي” يعمل في الواقع، ولا تتعرف على نفسها أو تميزها إلا من خلال الصراع، وذلك سواء كانت أفكار ضمن طبقة اجتماعية واحدة – تحديدا بين الاتجاهات والميول داخل أجنحة وتيارات هذه الطبقة – أو بين أفكار الطبقات المختلفة.
يشير ماركس في “الإيديولوجيا الألمانية” إلي مشهد دال، حيث يتصارع الهيجليون،أبناء المنهج الواحد، بعد أن انقسموا إلى تيارات ورؤى، على ارث هيجل ضمن رؤيتهم له، كان مجرد صراع فكري – ما قبل ثوري بكثير – أي دون تعقيدات الوضع الثوري المباشر الذي يثير صراعا اشد ضراوة بكثير:-
«كان ذلك صراعاً عالمياً يبدو حياله الصراع بين الديادوخات [1] تافهاً. وبسرعة عاصفة، لا تصدق، كان بعض المبادئ يزيح الآخر. وفي غضون ثلاث سنوات – من 1842 إلى 1845 – جرى في ألمانيا تطهير أكمل من الذي جرى عبر ثلاثة قرون.»
هذه الممارسة النظرية – كصراع – نشهدها، كما أشرنا، منذ “البيان الشيوعي” إلى الآن، وفى اغلب كتابات لينين التي يغلب عليها الطابع السجالي. فقد سعى البيان، الذي كان يهتم بإحداث قدر من التوافق بين تيارات الاشتراكية “الناشئة”، إلى نقد مدارس الاشتراكية الأخرى خارج دائرة قوى البيان. وتلاه كتابات ماركس وانجلس “المستقلة” التي انهالت بالنقد على “شركاء البيان الشيوعي” وغيرهم.
إن “تعددية” جلبير تعنى بالتحديد تذويب النظرية الثورية في مياه أيدلوجية غير ثورية. فضلا عن استبدالها الاتساق المنهجي بالفوضى النظرية المفتوحة، ومنتجات الطبيعة بخلطات العطارين.
قد نفهم أن تسعى أحزاب قومية برجوازية صغيرة إلى مثل هذا الخلط، مثلا الحزب الاشتراكي القومي الفاشي في ألمانيا، أو أحزاب البعث السوري والعراقي، أو حزب النظام الناصري (الاتحاد الاشتراكي)، حيث الموقع الاجتماعي للبرجوازية الصغيرة، ووضعها البيني المركب من شرائح وميول متعددة، وغياب نسق إيديولوجي متسق لها، أن تكون تلك التشكيلة “الخلطة”، المكونة من استعارات أيدلوجية، هي عدتها النظرية والأيدلوجية، لكننا لا نفهم أن تكون تلك رؤية، أو دعوى، على لسان كاتب محسوب على الماركسية ورؤيتها للعالم.
نختم هذا الجزء باقتباس من لينين يشير فيه إلى رؤية هذا النمط من المفكرين الاشتراكيين – الذي يعتبره تفكيرا انتهازيا – في كتابه “الدولة والثورة”: –
«في المعتاد يجمعون بين هذه وتلك جمعا اختياريا، عن طريق الاقتطاع الكيفي غير المبدئي والسفسطائي (أو لإرضاء القابضين على السلطة) لهذه الموضوعة طورا وطورا لتلك، علما بأنه في تسع وتسعون حالة من مائة، إن لم يكن أكثر، يوضع “الاضمحلال” بالذات في المقام الأول. يستعاض عن الديالكتيك بالمذهب الاختياري، وهذا التصرف حيال الماركسية هو الظاهرة المألوفة للغاية والأوسع انتشارا في الأدب الاشتراكي-الديموقراطي الرسمي في أيامنا. وهذه الاستعاضة ليست طبعا ببدعة مستحدثة، فقد لوحظت حتى في تاريخ الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. أن إظهار الاختيارية بمظهر الديالكتيك في حالة تحوير الماركسية تبعا للانتهازية، يخدع الجماهير بأسهل شكل، يرضيها في الظاهر، إذ يبدو وكأنه يأخذ بعين الاعتبار جميع نواحي العملية، جميع اتجاهات التطور، جميع المؤثرات المتضادة الخ.، ولكنه في الواقع لا يعطي أي فكرة منسجمة وثورية عن عملية تطور المجتمع.»
يبدو أن هناك جذرا لكل هذا الارتباك الذي يثيره طرح جلبير، انه لم يقدم، ولا يستطيع هكذا أن يقدم، تعريفا للنظرية الثورية، في موضع لاحق من الحوار سيعطى بعض الإجابات العمومية التي لا ترقي بحال إلى أي تعريف ذو شأن للنظرية، سواء ثورية أو غير ثورية، فلو قدم تعريفا منضبطا سيكون عليه أن يلتزم به، وهو ما سيهدم دعوته التعددية، غياب التعريف يسهل عليه المهمة، ليس فقط بل يسمح بتصور للثورة كل وظيفته أن يزيح السلطة القائمة، أنه تجمع الرفض فحسب، إذ أن كل ما يتعلق بالبديل الاجتماعي سيكون خلافيا وصراعيا، ولن يحسم في قاعات الحوار بل في نضال ضاري تنفصم فيه كل أوهام التعايش بين الأضداد الاجتماعية، سواء فكريا أو طبقيا.
الحركة والحزب والجماهير
بعد أن يعلمنا جلبير – دون ضرورة – أن مصدر عبارة “لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية” هو بليخانوف وليس لينين، يعود إلى التمسك بدعوته الضمنية إلى التعددية قائلا (هذه العبارة تتحوّل إلى مقولة دغمائية جامدة إذا تم فهمها كدفاع عن أحادية نظرية) ولكن هذه المرة بخلط لا يمكن اعتباره سهوا من مفكر في وزن جلبير، الخلط بين الحركة الثورية، وبين جماهير الثورة.
«أن الحركة الثورية لا يمكن أن تكون مقتصرة على أناس ينتمون إلى نظرية ثورية بعينها، وإلا لما حصلت أي ثورة. وليست هناك ثورة جماهيرية في التاريخ انتمى كل الذين شاركوا في صنعها إلى نظرية ثورية واحدة».
إن مصطلح الحركة يشير دلاليا وسياسيا إلى بشر في حالة نشاط، الحركة “الجماهيرية” غير موجودة إلا في حالة نشاط جماهيري، فالجماهير تقضي اغلب أوقاتها في حالة تعايش وقبول، تكيف نسبي مع شروط الاضطهاد الاجتماعي، يمكن لمصنع أو جامعة الاحتجاج على وضع ما، لا يعنى هذا أن نشاطا جماهيريا واسعا يحدث، انه نشاط موقع محدد فحسب، ولو اتسع ليشمل عدة مواقع سيكون أمامنا نشاط طلابي، حركة طلابية أو عمالية حسب الحال، أما مفهوم “حركة جماهيرية” فهو أمر يتضمن بالضرورة انخراط العديد من القطاعات في نشاط احتجاجي أو مطلبي في وقت واحد تقريبا، وفي غير تلك الأحوال – لنشاط جماهيري واسع – نحن أمام جماهير وليس حركة جماهيرية .
يختلف الأمر عند الحديث عن “حركة سياسية” التي تشير إلى مجموعات منظمة ونشطة لتحقيق أهدافها طوال الوقت، بغض النظر عن صور نشاطها -دعاية، تنظيم جماهير، احتجاجات.. الخ-.
الحزب أو التنظيم السياسي هو فريق خاص يعمل بصفة منظمة ودائمة لتحقيق أهدافه، سواء ضمن حركة أو بالاستقلال عنها، وهو بالضرورة يحمل تمايزا واختلافا في الأهداف، سواء الظرفية أو الإستراتيجية، عن المنظمات أو الجماعات الأخرى.
مفهوم الحركة الثورية إذا هو مفهوم يشير إلى نخب “منظمة” كرست نفسها لفكرة الثورة، قد يكون عدد من الأحزاب الراديكالية، أو منظمات مدنية كالنقابات والأحزاب في حالة نشاط ثوري، وهو أمر مختلف كليا عن مفهوم الجماهير ودورها الذي تبديه في حالة الثورة أو الانتفاض، ويختفي في أوقات السكون أو الاستقرار النسبي، الحركة الثورية أن تشكلت من عدة أحزاب ذلك يعنى أن صراعا ايدولوجيا على الهيمنة قائم داخلها، سواء في أوقات السكون أو في الأوقات الثورية، وقلما تتقاطع في عمل مشترك حول نقطة أو أخري، لتعود مجددا للصراع الايدولوجى فيما بينها والمنافسة على جذب الجماهير لرايتها الخاصة، وحتى في أوقات التقاطع لا تتلاشي الحدود التنظيمية ولا تذوب الرايات أو تندمج النظريات، حتى في تلك الحالة يسعى كل منها إلى توسع عضويته وبسط مساحة نفوذه ورؤاه، فثمة تعدد قائم بالفعل، لكنه تعدد قائم على أرضية صراع ضاري، مزاحمة على الهيمنة السياسية، مسارات قد يصل بها التباين إلى الانتقال من استخدام سلاح النقد، إلى نقد السلاح في لحظات محتدمة ومصيرية، إن مثال الثورة الروسية نفسها شديد الدلالة، فمن نبذ الاشتراكيين للتيارات الليبرالية، إلى نبذ البلاشفة الاشتراكية الوطنية التي صوتت في صف الحرب، إلى صراع بين اشتراكية كيرنسكي واشتراكية البلاشفة لم يخلو من عنف وسجون ومصادرة، لقد عبدت الثورة طريقها ليس عبر الاتفاق والتعددية، ولكن عبر إزاحة الوسطيين والإصلاحيين والوطنيين داخل معسكر الثورة، وناضل الجميع -أو بدقة الكل ضد الكل- لجذب الجماهير إلى أفكاره والى رايته، وانتقد البلاشفة بشدة محاولات طمس الفوارق، أو النزعة التوفيقية بين الرؤى المتعارضة معتبرين ذلك تنازلا انتهازيا عن الموقف الثوري.
جمهور الثورة هو ثوري فقط أثناء العملية الثورية فحسب، قبلها -وبدرجة ما أثناءها- لا صلة له بالأفكار الثورية، فمن الممكن جدا أن يكون رجعيا في بعض قطاعاته، برجوازيا صغيرا من حيث الأفكار، دولتيا أو قوميا.. الخ.
هذا الخلط بين جمهور الثورة – وهو بلا شك قطاعها الحاسم – والحركة المنظمة للثوريين – بما لهم من ادوار منهجية مستمرة قبل وأثناء الثورة-، مثير فعلا للدهشة، لحساب منظوره الخاص عن التعدد يقوم جلبير – عن عمد– بطمس الفوارق وخلط المفاهيم وتذويب الحدود التنظيمية والفكرية الفاصلة بين ثوري وإصلاحي، معارض على أرضية الفكر الليبرالي أو الديني، وآخر رافض لاستمرار النظام البرجوازي ودولته الهرمية ونسق تربيته والأنساق الأيدلوجية المتعددة له، انه يبحث عن مستحيل رومانسي – إن لم نقل تعبيرا آخر-، أيديولوجيات متعارضة في المرجعيات والأهداف تتعايش معا، فقط لأنها معارضة للسلطة القائمة وتردد بعض العبارات العامة عن (المساواة والعدالة) بل وتذوب في كيان واحد في مساومة نظرية لم تحدث في التاريخ .
لن نناقش مشكلة الشعارات والمقولات العامة مثل العدالة أو الحرية أو المساواة، لقد أشبعها الفكر الاشتراكي نقدا، لكن اللافت للنظر أن انتقادات المدرسة الماركسية، التي يعد جلبير احد ممثليها، دارت حول علاقة مع فرق كلها تدعى الانتساب إلى الماركسية، وتسمى نفسها اشتراكية، بينما جلبير يبحر بدعوته التعددية إلى شواطئ غريبة، ليبراليين وإسلاميين، إن جلبير لا يعطينا في ردوده تعريفا للنظرية الثورية سوى تلك العبارات شديدة العمومية (نهج سياسي وطني مضاد للإمبريالية والصهيونية لكنه أيضاً ديمقراطي واجتماعي بامتياز، يلتقي مع التوق إلى “العدالة الاجتماعية”) إنه تعريف مطاط للغاية يغيب عنه الدقة المنهجية ويغيب عنه المفهوم الطبقي، أن كل الأحزاب الحاكمة في المنطقة، وكذلك كل تيارات المعارضة السياسية والدينية، تستطيع أن تردد تلك العبارات بمنتهى السهولة، بل وان تضعها في برامجها أيضا .
تلك الصياغة المبسطة والعمومية ليست فقط تسمح بالتعدد ولكنها أيضا تساعد على إغراق وتذويب كل الفروق المنهجية والمبدئية لدى أي تيار جذري فعلا، إن حزب السلطة في حقبة السادات كان يسمى (حزب مصر العربي الاشتراكي)، وحزب الإخوان الذي نشأ في مجري الثورة المصرية كان اسمه (الحرية والعدالة).. الأيديولوجيات، كالطبقات الاجتماعية، لا تعيش بدون صراع فيما بينها، وبينما تتقاتل الطبقات حول المكانة الاجتماعية ونصيبها من الثروة، تتصارع الأيديولوجيات -نيابة عن الطبقات المتصارعة، لتبرر لكل طبقة وكل شريحة مكانتها وموقفها داخل الصراع الاجتماعي، وتجذب متعاطفين ومتضامنين اكبر من القوى الاجتماعية المختلفة، وان كانت الطبقات تسعى إلى السيطرة لضمان موقعها ومصالحها، تسعي الأيديولوجيات للهيمنة الفكرية على أذهان الجماهير، لكن عليها أن تزيح وأن تسقط هيمنة المسيطرين على الدولة، وأن تدفع إلى الخلف أو إلى الهامش الأيديولوجيات الأخرى وسطية أو إصلاحية، حتى هؤلاء الذين يتقاطعون في نقطة أو أخرى، يسعى كل منهم لحصة اكبر على حساب الآخرين، سواء في معسكر النظام، أو في معسكر الجماهير التي يجب كسبها أولا، حتى حالات الاندماج أو الوحدة بين بعض المنظمات السياسية، لا يحدث إلا إن كان ثمة تقارب كبير في المرجعية وفى الأهداف، ولكن ليس بدون صراع فكري يسمح لطرف بالهيمنة وبجر الطرف الآخر إلى نقاطه الرئيسية، بدون هيمنة نظرية ثورية متسقة، تتحول الحركة الثورية إلى هلام ولغو ثقافي مفتوح. شيء يشبه ما يسميه جلبير، بمعجزة لغوية، “أيديولوجيا غير مؤطّرة” كأن نقول مثلا (أفكار غير فكرية) فالايدولوجيا تحديدا هي تأطير للأفكار، هي نسق يتسم بارتباط عناصرها في وحدة واتساق، يعد هذا شرط رئيسي للتحدث عن ايدولوجيا، المثال الذي يستخدمه عن تلك الايدولوجيا “الغير مؤطّرة” هو أفكار (قسم كبير من الشبان والشابات الذين بادروا إلى الانتفاضة وتحتوي على جملة من القيم اليسارية) مجموعات مثل (العدالة والحرية، أو 6 ابريل، أو فرق طلابية، أو كفاية، أو كلنا خالد سعيد) هي هلام برجوازي صغير غاضب من السلطة السياسية، كان شعارهم الرئيسي هو دعوة إلى إسقاط عائلة مبارك وسلطته، أو الدعوة إلى تغيير مبهم بلا تفاصيل، أو استياء من التعذيب الذي تمارسه أجهزة الأمن، أو حتى أحيانا مجرد رفض توريث السلطة.
رحّب المجلس العسكري بشدة بهؤلاء، مقدما التحية إلى “ثورة الشباب”، واستضافهم الإعلام مضخما في أدوارهم لدرجة أن صورة “شباب 25 يناير” طغت تماما على “اللوحة التاريخية الهامة لجماهير – 28 يناير -“
هذه المجموعات في مجموعها ليست ثورية، لم يكن بعضها معاديا للإمبريالية، وليس خافيا أن 6 ابريل كانت تروج لثورة برتقالية، وبعض قيادات كفاية اقترح تأييد رئيس جهاز المخابرات عمر سليمان وترشيحه في انتخابات الرئاسة قبل اندلاع الثورة، كما أن مجموعة 6 ابريل وقفت موقفا رافضا لفكرة الحزبية والأيديولوجيات، بل وفكرة العمل السياسي حتى وقت اندلاع الثورة، إن أشهر شعار ردده هؤلاء في الفترة التي دعوا فيها إلى “التغيير” هو (أنت يا مصري إيه أفكارك؟ – يسقط يسقط حسنى مبارك) دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن بديل ثوري أو ثورة، بل أن الدعوة إلى الخروج في 25 يناير لم تكن بهدف ابعد من مجرد احتجاج على التعذيب والقمع البوليسي يوم عيد الشرطة، ولم يكن لا ضمن الأهداف، ولا حتى ضمن المخيلة، لا انتفاضة جماهيرية ولا ثورة ولا حتى مطالب ذات شأن. إن القياس على هلام احتجاجات برجوازية صغيرة في هذا المستوى من الفقر السياسي والأيدلوجي هو قياس فاسد بكل المعايير، مثل القياس على حالة شخص مريض لمعرفة مستوى الصحة الفعلية لشعب ما، قد يصلح هذا أن يكون قياسا ولكن لمعرفة العكس تماما، مدى توفر الرعاية الصحية للمرضى، أو مدى توفر مفاهيم سياسية لدى النشطاء، ولم يكن من باب الصدفة أن رحّب المجلس العسكري بشدة بهؤلاء، مقدما التحية إلى “ثورة الشباب”، واستضافهم الإعلام مضخما في أدوارهم لدرجة أن صورة “شباب 25 يناير” طغت تماما على “اللوحة التاريخية الهامة لجماهير – 28 يناير -” ولم يكن بلا دلالة أن يكون أهم أهداف هؤلاء، بعد الإطاحة بمبارك، هو المطالبة بـ”تمكين الشباب” أي تسكينهم في وظائف في نفس الدولة المحكومة بالمجلس العسكري، صائحين في وجه بيروقراطية الدولة القديمة.. آن الأوان لترحلي يا دولة العواجيز، -فأقصي ما داعب مخيلتهم هو استبدال نخب قديمة بنخب جديدة يكونون هم ضمنها.
لا يعنى هذا أننا ننتقص بأي درجة من شجاعة وبطولة هؤلاء الذين قاتلوا بشجاعة ولم يكن هدفهم هذا التمكين الانتهازي، أو الجلوس على حجر السلطات الجديدة.
جدلية الثورة والحزب..
نناقش هنا تصورات جلبير بشأن عملية الثورة، والحزب الثوري.
يسأل المحرر – هل الثورة ممكنة بدون طليعة… بدون حزب ثوري؟
يجيب جلبير:
« يشير تاريخ الثورات نفسه إلى أن الثورة فعل تعددي إذا كان المقصود بالثورة تغييراً تحققه الانتفاضة الجماهيرية، وليس حرب التحرير أو الحرب الثورية التي يخوضها جيشٌ تسوده مركزية عسكرية. فليس من انتفاضة شعبية في التاريخ اقتصرت على وجهة نظر واحدة».
نلاحظ هنا أن جلبير شديد المراوغة في إجاباته، انه لا يفصح بوضوح ومباشرة عن قصده، بل يضع فكرته ضمن كتلة من الصور المختلفة والتفاصيل المتباينة، فإن تابعت الفكرة غرقت في التفاصيل، وان تابعت التفاصيل لم تبدو لك الفكرة في اتساق ووضوح، إن مهمتنا أولا هي أن نستنطق تلك الكتابة المراوغة، لجعلها تفصح عن مضمونها الحقيقي.
إن جلبير يبدأ إجابته عن سؤال مباشر يتعلق بمدى تصور قيام ثورة بدون وجود تنظيم ثوري -يدفع في اتجاهها ويساعد على انتصارها-، لكنه لا يجيب على السؤال، بل يبدأ مجددا جر النقاش تعسفيا إلى فكرته التعددية، لاجئا إلي خلط جديد بين الحزب والجماهير، بمقولة أن الثورة عمل “تعددي” مادامت تحققها انتفاضة جماهيرية، متغافلا كما أسلفنا، الفرق العملي، والنظري، بين مفهوم الجماهير ومفهوم الحزب، وبين الانتفاضة -كفعل جماهيري ظرفي- ودور الحزب الثوري كنشاط منهجي دائم، ناظرا إلي المشهد بهذا التبسيط “ما دام هناك جماهير كبيرة هناك تعدد تنظيمي”.
إن معادلة جلبير تغفل انه حتى في وجود تعدد تنظيمي بين صفوف الجماهير، أو حتى داخل حركة جماهيرية نشطة، فهذا لا يعنى بالضرورة أن جميعها أحزاب ثورية، أو أن هدفها من الانتفاضة واحد، أو أنها جميعا تسعى لدفع الانتفاضة للثورة، تلك القضية التي تصل إلى حد البداهة إذا نظرنا إلى تاريخ أي تجربة ثورية.
إن الانتفاضات الجماهيرية الكبيرة تحدث دائما بفعل عوامل موضوعية وتناقضات طبقية وسياسية عديدة، بل وجزئيا يساهم في وقوعها الصراعات بين الأجنحة داخل معسكر النظام نفسه، إلا أن تلك القضية لا تزال بعيدة عن جوهر السؤال، ولا تتعلق بالضرورة بأهداف ثورة، أو بالحزب الثوري، سواء كان تنظيما واحدا أو عدة تنظيمات.
يستكمل جلبير:
«يمكن تماماً للحركة الثورية المنظّمة الواحدة أن تقوم على تلاقي تيارات تستند إلى نظريات ثورية مختلفة، كتلاقي الأناركية والماركسية مع سواهما في إطار الأممية الأولى التي كان لماركس وإنجلس الدور الرئيسي في تأسيسها. أما التصوّر الأحادي لثورة يقودها حزب واحد معتمداً على نظرية ثورية وحيدة، فهي مدخل إلى التسلط الأحادي على السلطة الذي يؤدي إلى الدكتاتورية والانحطاط البيروقراطي، كما حصل في التجربة الروسية. ومن المُفرح أن نرى اليوم حالات يسارية تعددية تبرز في شتى أنحاء العالم، تجمع تيارات ومشارب وآراء مختلفة.
إن الحركة الثورية الجماهيرية هي بالضرورة نتاج انصباب تيارات ثورية تقدمية شتى في تيار واحد جارف. والتعددية الديمقراطية لا بد منها للحركة الثورية مثلما لا بدّ من الأوكسجين للإنسان، حيث أن القضاء عليها يؤدي إلى كوارث، سواء تمّ القضاء عليها قبل الثورة أو بعدها، أي في الدولة الناجمة عن الثورة.»
هنا … وبافتراض حسن النية، يقع جلبير في مجموعة فادحة من المغالطات، التي تصل أحيانا لقراءة مقلوبة أو مبسترة للتاريخ، نوضحها فيما يلي:
1 – إن الكيان الواحد المنظم هو حزب بالضرورة، وليس حركة عامة تضم في طياتها توجهات متباينة، قد تتلاقي، أو لا تتلاقي، تياراتها الفكرية.
حزب ينتمي إلى تيار محدد، ويستند إلى نظرية ثورية محددة تساعد على اتساق مواقفه وأهدافه، كالماركسية أو الليبرالية مثلا، كما أن الماركسية في الحقيقة لم تتلاقي مع الأناركية، بل وجهت إليها اشد النقد، سواء في التجربة المشار إليها أو بعد ذلك، نورد على سبيل المثال هذه الفقرة من مقال كتبه إنجلز في سنة 1872 ونشر بالألمانية لأول مرة -كما يشير لينين في “الدولة والثورة”- عام 1913، مهاجما به برودن والفوضويين:
«لو اقتصر أنصار الحكم الذاتي على القول بأن التنظيم الاجتماعي المقبل لن يسمح بالسلطان “السيطرة” إلاّ ضمن الحدود التي تفرضها ظروف الإنتاج بالضرورة، لأمكن التفاهم معهم. ولكنهم عميان حيال جميع الوقائع التي تجعل السلطان أمرا ضروريا. وهم يناضلون بحماس ضد الكلمة.
لماذا لا يقتصر خصوم السلطة على الصياح ضد السلطان السياسي، ضد الدولة؟ فجميع الاشتراكيين متفقون على أن الدولة تزول ومعها السلطان السياسي نتيجة للثورة الاجتماعية المقبلة، أي أن الوظائف الاجتماعية تفقد طابعها السياسي وتتحول إلى مجرد وظائف إدارية تسهر على المصالح الاجتماعية. ولكن خصوم السلطة يطلبون إلغاء الدولة السياسية دفعة واحدة، قبل أن تلغى العلاقات الاجتماعية التي نشأت عنها الدولة. إنهم يطلبون أن يكون إلغاء السلطة أول عمل تقوم به الثورة الاجتماعية. فهل رأى هؤلاء السادة ثورة في يوم ما؟
إن الثورة هي دون شك سلطة لا يوجد فوقها سلطة، الثورة هي عمل يفرض به قسم من السكان إرادته على القسم الآخر بالبنادق، بالحرب، بالمدافع، أي بوسائل لا يعلو سلطانها سلطانا. ويتأتى على الحزب الغالب أن يحافظ بالضرورة على سيادته عن طريق الخوف الذي توحيه أسلحته للرجعيين.
فلو لم تستند كميونة باريس إلى سلطان الشعب المسلح ضد البرجوازية فهل كان بإمكانها أن تصمد أكثر من يوم واحد؟ وهل يحق لنا أن نلومها، لأنها لم تلجأ لهذا السلطان إلاّ قليلا جداً؟ هكذا نجد أنفسنا أمام أحد أمرين: أمّا أن خصوم مبدأ السلطة لا يعرفون ما يقولون، وفي هذه الحالة لا يصنعون سوى خلق التشويش، وأمّا أنهم يعرفون ما يفعلون وفي هذه الحالة يخونون فعلا قضية البروليتاريا. وهم في كلا الحالتين لا يخدمون غير الرجعية».
فضلا عن أن تجربة الأممية الأولى يصعب أن تقاس عليها تلك القضية، فالتيارات -الاشتراكية- المكونة لها لم تكن قد تبلورت فكريا بعد، وعلى الخصوص الماركسية التي كانت لا تزال في طور تكون مقدماتها النظرية، والأناركية أيضا التي أفضت فيما بعد إلى تيارات شديدة التباين، واغلب القضايا الرئيسية التي تشكلت منها استراتيجيات الاشتراكيين لم تكن قد طرحت أو تبلورت بعد، مثل الموقف تجاه القوميات المضطهدة أو الحروب الامبريالية والوطنية.
يشير إنجلز ساخرا في مقدمته لكتاب (الصراع الطبقي في فرنسا، 1848-1851) إلى الوضع السابق على “هيمنة” النظرية الماركسية في حقل الأفكار “الثورية” في تلك السنوات:
«آنذاك كانت هناك كثرة من الأناجيل المبهمة لشتى الملل مع ترياقاتها الشاملة؛ أما الآن، فهناك نظرية واحدة يعترف بها الجميع، وواضحة غاية الوضوح، هي نظرية ماركس، التي تصوغ أهداف النضال النهائية بدقة؛ آنذاك، كانت هناك جماهير مقسمة ومتفرقة بفعل الخصائص المحلية والقومية، ولا يجمع بينها غير الشعور بالآلام المشتركة، جماهير غير متطورة، تنتقل بدافع العجز من الحماسة إلى اليأس».
ولنلاحظ أن “بيان” الأممية الأولى “الشيوعي” قد كتب في 1848 … في عصر الأناجيل الثورية المبهمة.
– الثورة –
يصور جلبير الثورة كأنها عملية تاريخية بسيطة لها نفس الأهداف، ويندفع لتحقيقها جميع من يعتبرهم قوى ثورية وجماهير وحركة.. الخ.
بينما يخبرنا تاريخ الثورات غير ذلك، أن الثورة بوجه عام حدث استثنائي في تاريخ الأمم والطبقات، ولا تكون مطروحة إلا عندما تبلغ أزمة نظام ما قمتها، حيث يتفسخ وينقسم من داخله، وتصب حوله موجات الغضب والتذمر من كل الاتجاهات، ويسعى كل الغاضبين والمضاربين والمغامرين (على اختلافهم وتنوعهم) إلى التخلص منه، وفى مقدمة كل هذا تكون الجماهير على أهبة الاستعداد للإطاحة به دون حتى أن تدرك هي نفسها ذلك، هكذا تستهل الثورة أعمالها على جدول التاريخ.
في مرحلتها الأولى، تكون مركبة وجماهيرية إلى حد كبير، بل يشارك فيها أيضا قوى غريبة عنها تماما، مثل قطاعات من البرجوازية الكبيرة المزاحة عن دائرة النفوذ، وأيضا من البرجوازية المتوسطة الغاضبة أو المتطلعة للحلول محل السلطة القائمة، وقد تضم رموزا من داخل النظام نفسه، بهدف مشترك عام (يخفي خلفه تفاصيل متباينة كثيرة) وهو الإطاحة بالسلطة القائمة، هذه مرحلة بدائية في الثورة، مرحلة تتسم بتعدد هائل (ومتناقض) للمشاركين، وليس كما يشير جلبير “بالضرورة نتاج انصباب تيارات ثورية تقدمية شتى في تيار واحد جارف”.
إن السمة الجوهرية لتلك المرحلة الأولية من الثورة هي هيمنة فكرة (إسقاط النظام) التي يدفعها الغضب العام والمركب، إن الاستياء الشعبي هو محركها، وليس بالضرورة العمل التنظيمي لأي قوى سياسية، التمحور حول هدف الإطاحة يؤدى إلى تواري البدائل إلى المرتبة الثانية، ولكن ليس تماما، فما أن تنطلق تلك الموجة من الثورة حتى تبدأ القوى المنظمة بالعمل الدعائي والسياسي والتنظيمي داخلها.
ما أن يطاح بالسلطة السياسية حتى تبدأ على الفور –وبوضوح- عملية الاستقطاب العنيف، والصدامات بين التيارات المشاركة حول طرح البدائل والاستيلاء على المقاعد التي صارت شاغرة، إنها المرحلة الثانية والأهم في الثورة، إما استعادة النظام بوجوه جديدة، أو سيطرة أجنحة أخري من النظام على الحكم، أو سيطرة هذا التيار أو ذاك من قوى المعارضة، فما بدا مجتمعا على سطح الأحداث، في مرحلة الإطاحة، يتحول إلى الانقسام والصراع عندما يتعلق الأمر بالبديل.
نورد هنا هذا المقطع لأهميته:
«لا تتبع الجماهير في حركتها خطة موضوعة سلفا، ولكن تحركها غريزتها الطبقية ومصالحها المباشرة، فتبدأ في الاندفاع لتحقيقها، ومن ثم يبدأ التباين والتناقض في الأهداف والمصالح، عندئذ يصرخ الديموقراطيون البرجوازيون محذرين الجماهير من الفوضى، وداعين إلى الاستقرار، اتركونا نبني الديموقراطية بمعرفتنا وعودوا إلى عبوديتكم القديمة، متجاهلين أنهم شاركوا من وقت قليل في زعزعة هذا الاستقرار، وان الجماهير التي يتهمونها الآن بالفوضى كانوا يناشدونها منذ قليل أن تواصل الثورة بكل قوتها.
الديمقراطيون البرجوازيون يريدون ثورة على مقاس مصالحهم الخاصة، ثورة تزيح السلطة ولا تمس أسس النظام، والجماهير تريد ثورة تخلصها نهائيا من البؤس والاستغلال، هكذا يكون استمرار الثورة حتى الخلاص، هدفا للجماهير، ورعبا للبرجوازيين الديموقراطيين.» 2[2]
هذا ما أغفله جلبير وهو يتحدث بصيغ شعبوية وجماهيروية عن الثورة أو الحركة الجماهيرية. في موضع ما قال لينين أن الثورة علم، واجتهد الماركسيون فاخرجوا عشرات المؤلفات في محاولة لوضع ما يسمى بعلم الثورة انطلاقا من استخلاص دروس الثورات الفعلية، في مراحلها المختلفة، وعلى ضوء شروط مركبة لتمييز العام والخاص فيها، باستخدام ورشة منهجية كاملة من المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والنفسية.
ومنذ ثلاثية ماركس عن الثورة الفرنسية، مرورا بكتابات لينين وتروتسكي شديدة الثراء عن الثورة الروسية والثورة الاسبانية وحتى الصينية، وبولنزاس عن الثورات البرجوازية، وعشرات غيرهم إلى الآن، لازال هذا المبحث يتسع ويزداد ثراء وعمقا، لكن يصعب أن تعثر على كل مثل هذا الخلط الذي وقع فيه السيد جلبير حتى في كتابات صحفية ماركسية مثل التقرير الصحفي المنشور تحت اسم “عشرة أيام هزت العالم” للصحفي الأمريكي جون ريد.
النظرية والقيم “الأخلاقية”
إن جلبير يحرك غبارا آخر في حديقتنا، فبعد أن استبدل الاتساق النظري والمنهج بالانتقائية، ها هو يضع النظرية تحت سلطة مجموعة مجردة من القيم التي يعتبرها قيم يسارية، وغالبا في ردوده يكاد يكون هو المرجع الوحيد لتلك القيم اليسارية التي لم تعد موجودة عند اليسار العالمي كما يشير.
يطرح جلبير الآمر على هذا النحو:
«في كتابي الأول عن الانتفاضة “الشعب يريد”، ذكرتُ أن هناك أيديولوجيا غير مؤطّرة، بل عمومية، يعتنقها قسم كبير من الشبان والشابات الذين بادروا إلى الانتفاضة وتحتوي على جملة من القيم اليسارية.»
إذن في هذا التصور تلك القيم هي طيور تحوم هائمة في سماء “أيديولوجيا غير مؤطّرة” فليس لها عش تبيت فيه أو جذع شجرة تحط عليه في غياب الأطر والمرجعيات المحددة، في هذا التيه المفتوح والمحكوم بحسن النية فحسب. فكما يقرر “القيم تسبق في رأيي أية نظرية أو أيديولوجية” هذا يعنى أنها قيم قبلية، سابقة على تشكل الطبقات الاجتماعية التي أنتجت أنساقا أيدلوجية، وسابقة على الماركسية أيضا وما قبلها، سلطة “مثل عليا” غير تاريخية، وغير مقيدة بأي شروط سوسيولوجية، إنها الحرية في المطلق والمساواة في المطلق والإخاء في المطلق، رغم أن كل القيم التي تحدث عنها هي قيم تاريخية أنتجتها نظريات وأيديولوجيات.
من الهام هنا التمييز بين سيولة أفكار وأخيلة وتصورات في أدمغة أفراد المجتمع، وتبلورها في شكل تصورات ومفاهيم محددة قابلة للتداول والانتشار، الأهم هو انتشارها بين أفراد وجماعات المجتمع، عند ذاك تتحول إلى جزء من نسق، تسكن بالضرورة في أطر تسمح بقبولها وتداولها، تصبح عنصرا ضمن عناصر أيدلوجيا محددة. فضلا عن أن الأيدلوجيا العمومية، كما نعرف، هي أيدلوجيا الطبقة المسيطرة، التي تستطيع تعميم أفكارها بواسطة التعليم والإعلام والتربية والمؤسسات الدينية. الخ. عدا ذلك نحن أمام انساق خاصة وليست عمومية، حتى لو كانت مكونة من عناصر غير مترابطة أو تشكيلة من منابع مختلفة، التحليل السياسي والاجتماعي يساعدون على فهم مكوناتها وظروف تكوينها على ضوء الظروف العينية التي تشكلت فيها، خاصة انه في حقل الدعاية والأفكار لا تعيش المفاهيم والشعارات في كمبوندات مغلقة، التحليل وحده هو ما يمكنا من رد عناصرها إلى أصولها، وفك لغز تقابلها العارض. إن الفئات الوسطى، أو البرجوازية الصغيرة، بما هي عليه من موقع بين طبقي، هي مسرح هذا الهلام الفكري، بل ومصنع إنتاجه، ووسيط نقل عناصر الأيديولوجيات من والى مجمل طبقات المجتمع. والتعرض إلى موقع تلك الفئات ودورها يتخطى حدود هذه الكتابة الآن.
يتحرك جلبير خطوة أخري قائلا:
«ما هي قيم اليسار تاريخياً؟ مفهوم “اليسار” في السياسة بدأ في فرنسا مع الثورة الفرنسية، التي جمعها شعار “حرية، مساواة، أخوة”. والمناداة بالحرية كانت قاسماً مشتركاً بين تيارات الثورة الفرنسية، بما أنها كانت ثورة على المَلَكيّة المطلقة وضد الاستبداد. وكانت المساواة قيمة مركزية أخرى في الثورة الفرنسية نادى بها اليسار بوجه خاص وببُعديها السياسي والاجتماعي. وما يحدد اليسار مذّاك فهو الجمع بين القيمتين كلبنتين أساسيتين. أما التركيز على قيمة واحدة دون الأخرى فيؤدي إلى إفسادها: الحرية بدون مساواة تفسد بالضرورة وتتحوّل إلى حرية وهمية، والمساواة بلا حرية تعيد إنتاج نظام الظلم بالضرورة. والتمسك بالقيمتين بالتساوي هو ما يحدد اليسار المنسجم مع مبادئه.»
إن جلبير يقدم شعارات الثورة البرجوازية الفرنسية باعتبارها “قيم اليسار” متجاهلا أن هذا “اليسار” التاريخي، كان يسار “مكانيا”، ومن الناحية الفكرية كان مشكلا من طلائع الليبرالية البرجوازية الفرنسية، فقد ولدته مصادفة جلوس كتلة المعارضة على يسار الملك لويس السادس عشر في اجتماع ممثلي الطبقات الثلاث للشعب عام 1789 في كيان لم يكن حتى برلمان بالمعنى الحديث وإنما أقرب إلى مجلس استشاري للملك، في مقابل كتلة النبلاء ورجال الدين الذين تصادف جلوسهم على يمينه، وليس له أي صلة بالدلالة السياسية لكلمة يسار.
اجتماع ممثلي الطبقات الثلاث للشعب عام 1789 /لوحة أوغيست كوتر، متحف تاريخ فرنسا
وبغض النظر عن غموض وهلامية هذا المصطلح، قيم اليسار، يبدأ جلبير باختزال تاريخ – ومفهوم – اليسار إلى مرحلة الولادة الملتبسة، مسقطا تاريخا ضخما، ومياه كثيرة جرت في مجراه، أعطت دلالات مختلفة لهذا المصطلح حين يتحدث به الآن، في ابسط مثال لم يعد هدفا مشتركا لليسار بتياراته مجرد الإطاحة بالملكية والاستبداد، بل بالنظام الذي أنجبته الثورة الفرنسية نفسها وهو يردد تلك الشعارات، ناهيك عن أن أوسع واكبر أقسام اليسار لم تكن ظهرت بعد على مسرح التاريخ، وهى الماركسية والاشتراكيات الأخرى، التي ما أن ولدت حتى أشبعت شعارات مثل هذه نقدا وتحليلا.
إن جلبير يغفل أيضا أن تلك الشعارات لم تكن يوما شعارات اشتراكية أو يسارية، بل كانت شعارات البرجوازية الفرنسية أثناء نضالها ضد الملكية الإقطاعية، ونظر لها مفكري عصر التنوير وطلائع الثورة البرجوازية، تلك الشعارات التي قدمت وروجت في صيغ نظرية عامة قصد بها أن تخفي التناقضات الطبقية العينية، فحتى تستطيع حشد “الشعب” خلفها كان علي مفكريها استخدام التجريد النظري والتعميمات، ليس فقط في الشعارات ولكن أيضا في المفاهيم والتعبيرات، إخفاء لبنية تفاصيل اجتماعية وطبقية متعارضة، لقد قدمت الماركسية نقدا قاسيا لتلك “القيم” العامة، أو بالأحرى الشعارات، مثل الحرية والمساواة، كاشفة مضمونها الواقعي عند البرجوازيين، مظهرة أنها تخفي تحتها حرية التجارة وحرية التملك، والمساواة لم تكن تعنى التساوي في الملكية والامتيازات الاجتماعية، ولكن في الحقوق الشكلية مثل حق الانتخاب والترشح والمواطنة.
بل كشفت الماركسية أيضا عن هذه الشعارات تجريدا ساذجا، لا يمكن ولا يجب تبنيه، ليست ثمة تساوى في الحاجات عند أفراد المجتمع، مما يجعل التساوي “في التوزيع” أمرا – غير عادلا -، ولا تساوي فيما يبذله الأفراد من عمل، وقس على ذلك ليس فقط حاجات الفرد بل الأحياء والمدن. الخ. أعطت الماركسية مضمونا عمليا هادما لتلك التجريدات، لنري مثالا عن نقد هذه التعميمات نطالع تلك الفقرة من مقالة “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” لإنجلز.
«لقد ظهر تعبير “الثروة الوطنية” للمرة الأولى بفضل سعي الاقتصاديين الليبراليين إلى التعميمات. ولكن لا معنى لهذا التعبير ما دامت المِلْكية الخاصة قائمة. إن “ثروة” الإنجليز “الوطنية” كبيرة جداً، ولكنهم مع ذلك أفقر شعب في العالم. ينبغي، إما طرح هذا التعبير جانباً تماماً، أو وضع مقدمات يكسب بموجبها معنى.»
كما أن العلمانية أيضا منتج تاريخي للثورة البرجوازية وليست اختراعا يساريا، وتظل، مثلها مثل المساواة، عبارة لا قيمة لها في ظل تفاوت المراكز الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
وبغض النظر عن تقديم جلبير لقيم قبلية حاكمة، وعن فكرته حول قيم يسارية ثابتة، رغم أن هذه القيم “الثابتة”، من باب المفارقات الطريفة، غير موجودة – حسب تقريره – في اليسار العالمي الآن.
«- هذه القيم التي تحدثت عنها، هل كانت هي القيم الأساسية لليسار الماركسي، عربياً وعالمياً؟ هل هنالك تاريخ يساري واضح في تبني هذه القيم كقيم أساسية؟
– لا، لأنّنا دخلنا مبكراً في القرن العشرين بحالة ساد فيها انحطاط تاريخي لدولة قامت باسم الماركسية وتحوّلت إلى دكتاتورية بيروقراطية تُعرف بالستالينية.»
الأمر الأكثر أهمية هنا هو أن الماركسية، التي يفترض انتساب السيد جلبير لها، تطبق مبدأ نسبية وتاريخية القيم، على كل حدث، فلا تعترف بما يسمى قيم مجردة أو مطلقة، أو أي قيم ثابتة من أي نوع، يسارية أو برجوازية. إن ما يعتبره الليبرالي سرقة “إن مست ملكيته” تعتبره الماركسية حقا للشعب مطالبة بتعميمه ومصادرة أملاك طبقة الرأسماليين، العدالة التي نادت بها البرجوازية تقف عند حدود التبادل الحر الذي ينتهي بإعطاء العامل أجر مقابل العمل، أما عدالة الأجر ذاته، أو الشك بوجود عدالة إذا ظلت الملكية احتكار خاص لطبقة دون باقي المجتمع، فكرة الوطن والوطنية المتغيرة الدلالة دوما حسب ظروف الحال، وحده الظرف المعطى ما يجب اعتباره عند تحديد موقف أو تصور، حتى في صفوف اليسار يظل الأمر خلافيا ومتطورا بلا أي ثبات.
لقد فزع المناشفة والليبراليون والوسطيون من سلوك البلاشفة عندما ألغوا ما يسمى بالجمعية التأسيسية متهمينهم بالديكتاتورية وإهدار الديموقراطية ومصادرة حق الشعب في الاختيار.. الخ. بينما من وجهة النظر الماركسية كان هذا صحيحا تماما لأن الديموقراطية كانت قد انتقلت فعلا للسوفيتات، ولم يعد في الجمعية التأسيسية غير من يريدون فرملة عجلة التاريخ وإعادتها إلى الوراء، كان هناك ديموقراطيتان وليس ديموقراطية واحدة، ديموقراطية المجالس القاعدية التي هيمنت بالفعل، وديموقراطية المجلس التأسيسي الفوقية التي فقدت أي معنى لوجودها سوى القيمة الشكلية تماما للديموقراطية البرلمانية، وصار يعتصم داخلها كل أعداء سلطة السوفيتات. إن الموقف هنا لا يحدده القيمة المجردة، ولا المثل الأعلى الأخلاقي، ولا الأيدلوجيا غير المؤطرة والنظريات الانتقائية، بل يحدده انحيازا لا فكاك منه لأي يساري حقيقي، وتقديرا مبنى على معطيات الظرف التاريخي بغض النظر عن سلطة المثل الأعلى الديموقراطي، كان خيار البلاشفة منذ البدء عدم مشاركة السلطة مع العدو الطبقي، حتى لو عرضت عليهم الدولة البرجوازية ذلك، الإطاحة وليس التعايش، الاستقلال وليس الاندماج، القضاء على الاستغلال وليس المشاركة الإصلاحية فيه. ليختار السيد جلبير ما شاء من المواقف، لكن التاريخ لا يعطى لطرف إلا على حساب آخر، وفقط في المخيلة الطوباوية يمكن التوفيق والجمع والدمج بين المتناقضين في المصالح والمصائر.
هل أخطأ البلاشفة؟
لم يكن انتصار البلاشفة أمرا سهلا، ولم يسر وفق خطة أو مؤامرة موضوعة سلفا، بل انه جاء على عكس تصوراتهم القديمة، وحتى توقعاتهم، لسير العملية الثورية في روسيا. لقد أطاحت أحداث الحرب العالمية الأولي بالسيناريو القديم للبلاشفة، كانوا جميعا كاوتسكيين بدرجة ما – باستثناء تروتسكي وبارفوس – فقد توقعوا ثورة تمر بمرحلتين تاريخيتين، أولا ديموقراطية، ولها مهام مضادة للاستبداد القيصري والتخلف التاريخي لروسيا، يليها ثورة اشتراكية تطيح جذريا بالرأسمالية وتحل محلها سلطة العمال وديكتاتوريهم الطبقية، بينما تصور تروتسكي مسارا آخر للثورة يتخطى تاريخيا وعمليا المرحلة الأولي في مجراه ليتحول – عبر معطيات وضع روسيا نفسها وتطورها المركب – إلى ثورة اجتماعية دون توقف عند المحطة الديموقراطية.
جاءت الحرب العالمية كطوفان اقتلع معه أسس تصورات البلاشفة التي وضعها لينين في كتابه (خطتي الاشتراكية الديموقراطية) المستوحاة من مفاهيم كارل كاوتسكي، أحدثت ابتداء انشقاقات ضخمة في الاشتراكية الأوربية والروسية وفى الأممية الثانية التي تجمعهم، ثم أفضت إلى تفسخ تام في الوضع الروسي، انهيار الجيش وتذمر الفلاحين والعمال وتفكك حاد في الدولة الروسية وأجهزتها وفوضي عارمة في البنية الاقتصادية واختفاء السلع ومبادرات جماهير احتلت الشوارع والميادين، كانت التيارات الوسطية تساند الدولة في الحرب التي رفضها البلاشفة باعتبارها حرب أطماع امبريالية يجب محاربتها، والليبرالية الروسية مشلولة تماما ومرعوبة من انتفاضة الجماهير، أجبرت الدولة القيصر على التخلي عن السلطة لكن الجماهير لم تهدأ ولم تجد الخبز، كان على البلاشفة إما التمسك بسيناريو تخطته الظروف التاريخية، أو التعامل مع الظرف الواقعي وما يتيحه، لإنقاذ روسيا والتخلص من الاستغلال الطبقي بضربة واحدة، المؤشر الجماهيري كان في أقصاه، فقد بادر الفلاحون إلى الاستيلاء فعلا على الأراضي ومخازن الغلال، وسيطر العمال على المصانع بعد هرب أصحابها، وانقسم الجيش رأسيا وأفقيا وبدأت تمردات الجنود أو هروبهم. حكومة كيرنسكي التي حلت أفضت إلى مزيد من الأزمات، وبدلا من مواجهة الأزمة استدار كيرنسكي ليواجه البلاشفة ويطاردهم ويعتقل قادتهم ويغلق صحفهم، وبالمقابل تحول البلاشفة من أقلية قبل الحرب إلى اكبر حزب جماهيري يثق فيه العمال وفقراء الفلاحين، لم تكن هناك أي مساحة لحلول وسطى من النوع الديموقراطي أمام سيولة هذا الوضع الثوري الجارف، تخطى البلاشفة التصور الديموقراطي الذي تخطته قاطرة الثورة عمليا، اعترفوا بسلطة كانت قد قامت قبل الاعتراف، سلطة السوفيتات، هكذا سايروا التاريخ الفعلي وليس النصوص المدرسية أو تعاليم المفكرين الديموقراطيين، وهكذا حملتهم (أصوات الجماهير) إلى السلطة عبر انتخابات السوفيتات في المصانع والأحياء والثكنات العسكرية واللجان الشعبية الأخرى، تزوير رديء القول انه كان انقلابا، ومدرسية تافهة تلك التي تملى على صراع طبقي تعاليم تخطاها مجري الصراع الفعلي .
اتهم الوسطيون وأنصار القيصر والبرجوازيين الصغار البلاشفة بتلك التهم، واليوم تطل التهم المدرسية مجددا لتقترح انه كان على البلاشفة مسايرة نمط ديموقراطي انهار فعلا، ولو أدى ذلك لتفسخ وتحلل روسيا نفسها.
بالعودة إلى السيد جلبير نجده يبدأ بفكرة غريبة نوعا ما. انه يسعى لحصر الفكر البلشفي في (روسيته) تماما، كما سعي آخرون لحصر نظرية ماركس في الواقع الأوربي.
«أن الفكر البلشفي الأصلي كان هو أيضاً نتاج ظروف روسيا القيصرية، فيه نزعات سلطوية، ويختلف اختلافاً واضحاً عن فكر ماركس وإنجلس في فهم الثورة وفهم الحزب الثوري ودور الطليعة».
هناك عدة نقاط تثيرها فقرة جلبير، حيث بتعسف بالغ – وبدون تقديم أي دليل – يخلع عنهم منهجية وتراث الفكر الماركسي الذي شكل مرجعية ثابتة لهم في كل مراحل تطورهم، ومن جهة أخري يسلبهم نطاق تفاعل أممي تشكلت فيه أفكارهم، ومن جهة ثالثة يغبن إسهامهم الجدلي والرئيسي في ماركسية عصر الامبريالية.
إن حزب يستند إلي نظرية تسعى لفهم القوانين الاقتصادية لنظام عالمي وفهم حركيته، ينظر إلى العالم كـ”سلسة مترابطة” لا يمكن اتهامه بالمحلية أو حصره في نطاقه القومي، كما أن كلا من البلاشفة وأسلافهم النظريين أنتجوا أفكارهم عبر تفاعل أممي مع قضايا الصراع الطبقي في العالم، سواء دول المركز الرأسمالي، أو مستعمراته، وليس فقط في بلدانهم، لم تكن الأممية الأولى والثانية منظمات اشتراكية قومية تعنى بشأن داخلي، وإنما تنظيمات متفاعلة ومشتبكة عالميا، هذا إن استبعدنا الأممية الثالثة من الحساب، لم تكن الامبريالية، التي تصدى لينين لفهمها بعبقرية، قضية روسية، ولا كتاباته عن المستعمرات وعن حق تقرير المصير أو مساجلاته مع الألمان والهنود وغيرهم.
صحيح أن على كل بلد أن يضع تكتيكه الخاص للثورة وللنضال السياسي حسب ظروفه، التي لن تتطابق مع غيرها، لكن المرجعية، وكذلك الأهداف، تظل هي الأطر التي يتحرك فيها مناضلو هذه الدولة القومية أو تلك، على كل تنظيم أن يبدع تكتيكه وأساليب نضاله الخاصة حسب ظروفه، تلك هي الرؤية الأممية وليست أبدا أن كل البلدان ستسير وفق وصفة أولية ثابتة رغم التطور المتفاوت والواقع المتغير، هكذا يصير الفكر عالميا وأمميا، ليراجع السيد جلبير منهجية ماركس في البيان الشيوعي ويري كيف مارس ماركس تصوره الأممي، وليقارنه بموقف البلاشفة في قضايا التحرر الوطني، وبنقد لينين لـ”ضيق الأفق القومي” ورؤية البلاشفة للحرب العالمية الأولى في مواجهة رؤى اشتراكية روسية وغير روسية.
يقول ماركس:
«يتضح بالبداهة موقف الشيوعيين من الأحزاب العمالية القائمة، وبالتالي موقفهم من الشارتين في إنكلترا، والإصلاحيين الزراعيين في أمريكا الشمالية. فهم (الشيوعيون) يناضلون لتحقيق الأهداف والمصالح المباشرة للطبقة العاملة، لكنهم في الوقت نفسه يمثلون، في الحركة الراهنة، مستقبل الحركة. ففي فرنسا ينضم الشيوعيون إلى الحزب الاشتراكي – الديمقراطي ضدّ البرجوازية المحافظة والراديكالية، بدون أن يتخلوا عن حق اتّخاذ موقف نقدي من الجُمل الرنانة والأوهام التي خلفها التقليد الثوري. وفي سويسرا، يساندون الراديكاليين، بدون أن يَغيب عن بالهم أنّ هذا الحزب يتكوّن من عناصر متناقضة، متَّسم بكونه (مُؤلَّف) من اشتراكيين وديمقراطيين بالمفهوم الفرنسي للكلمة، وقسم من برجوازيين راديكاليين.
وفي بولونيا (بولندا) يساند الشيوعيون الحزب الذي يجعل من الثورة الزراعية شرطا للتحرر الوطني.» [3]
إن الشعوب بوجه عام تتعلم من تجارب بعضها البعض ولا تنبذها باعتبارها عملا قوميا يخص أصحابه، ولا يعنى هذا نسخ حرفي للتجارب الثورية، فلم ينسخ البلاشفة الكوميونة، ولم تنسخ التجربة الاسبانية التجربة الروسية، لكن هذه المدرسة للثورات لا يوجد فيها فصول محلية وأخرى عامة، إنما تتكون عمومتيها من هذا الزخم المتنوع المشترك في منطلقات وغاياته. إن القول بروسية البلشفية هو قول صحيح من الزاوية المحلية المجردة، لكنه قاصر وخاطئ تماما من الزاوية النظرية والعملية، بل انه يشكل فهما يحتاج إلى مراجعة مفهوم الأممية ذاته.
نتعرض الآن للنقطة الأخطر في حوار جلبير:
«ثمة ضرورة ماسة لمراجعة نقدية صارمة لكل هذه التجربة التاريخية، أما القول إن الأمور كانت مثالية في زمن لينين وفسدت في عهد ستالين، فهو قول غير ماركسي إذ يتغافل عن ديالكتيك التواصل والانقطاع بين ما بدأ عام ١٩١٧ وما انتهى إليه الاتحاد السوفييتي بعد عشر سنوات».
جلبير يعيد الاتهام المنشفي والليبرالي للبلاشفة، انه يفصل عملية تاريخية مركبة، أولا تحت مسمى لا نعرف دلالته، التواصل والانقطاع، أي تواصل، وأي انقطاع، إن ابسط إطلالة على تاريخ الثورة الروسية يكشف عن مسار فرضه التاريخ على الشيوعيين الروس المتسقين مع أهدافهم التي تهدف منذ النشأة إلى الإطاحة بالنظام الرأسمالي، وليس مجرد الإطاحة بالقيصر، كانت الجماهير قد سبقت عمليا البلاشفة، وكان عليهم، كما اشرنا، أن يلتزموا بالمقررات المدرسية كتلامذة تافهين، أو أن يتفاعلوا كماركسيين ثوريين مع التطور في مجري الصراعات الجارية، حيث لا تزال الديكتاتورية البرجوازية بقيادة كيرنسكي، ومؤامرات الثورة المضادة بقيادة كورنلوف، وطبول الحرب العالمية الأولى الدائرة على الحدود، والاندفاع الثوري للجماهير، والسوفيتات المهددة بعرقلة الجمعية التأسيسية التي ستزيحها إلى الهامش، هل هذا تواصل أم انقطاع في رأى السيد جلبير الذي تكرما حبذ “ثورة المجالس” في فبراير، لكنه يمتعض من تحولها إلى سلطة بعد فبراير ويصف ممثليها وقادتها وقتذاك “البلاشفة” بالانقلابين، هل كان على المجالس أن تتحول إلى مجرد “رافعة ديموقراطية” ليعود المجالسيون الذين هم أغلبية الجماهير الثائرة إلى مقعد المشاهدين؟
إن السيد جلبير وقد حصرنا في مقولتي التواصل، والانقطاع، لا يري العملية الجدلية المسماة بالتحول، هذا التحول اليومي في مسار الصراع وظروف الجيش وميول المجالس واختبار سلطة الوسطيين ونتائجه وصعود شعبية شعارات البلاشفة وجماهيريتهم ونمو دور المجالس إلى مستوى سلطة موازية أقوى من بقايا الدولة المنهارة وغير ذلك من ظروف موضوعية، انه، كأستاذ أكاديمي، يعطينا درسا في مقولتين مجردتين، كأن التواصل هو استمرار بسيط لذات الظروف، والانقطاع هو تركها، وما من تحول يحدث، حقا انه درس ثمين من دروس الثورة.
وأي فصل يصنعه السيد جلبير وهو يتباكى هكذا:
«ما حصل في أكتوبر فهو استيلاء مسلح على الحكم نفّذه البلاشفة بصورة أساسية. وقد استولوا على المباني الحكومية بدون مساهمة عمال العاصمة سان بطرسبورغ ولو بإضراب عام».
استولوا على المباني الحكومية، هل هذا ما يثير غضبك! كان البلاشفة يمثلون الأغلبية في السوفيتات، وكانت السوفيتات تمارس سلطة فعلية في مواجهة نظام كيرنسكي، لقد تأخر البلاشفة في مايو وحاولوا منع العمال من الخروج في “مظاهرة مسلحة” وتأجيلها، حتى تكون الأغلبية الكاسحة من الجماهير في صف الثورة، لم يكونوا مغامرين إذن، بل تلمسوا بدقة ميل الحركة الجماهيرية حتى ضمن القطاعات المترددة، وما الحاجة إلى هذا (الإضراب العام) الذي يتحدث عنه جلبير عندما تكون الجماهير مسلحة وتملأ الميادين ومنظمة في لجان تمارس السلطة الفعلية؟
إن الإضراب العام خطوة اقل بكثير جدا من المصادرة والاستيلاء على الأراضي والمصانع والسيطرة على مخازن الحبوب وتوزيع السلع الذي قامت به الجماهير في الريف والمدن، لم نكن بصدد عمل احتجاجي أو نضال مطلبي يا سيد جلبير، بل كنا إزاء ثورة تقودها فصائل وميلشيات مسلحة، على رأسها حزب من أكثر الأحزاب التي قدمها التاريخ ثورية وتماسا مع الواقع.
ردا على سؤال – ما هي حصيلة ثورة أكتوبر اليوم؟ يجيب السيد جلبير:
«بحكم التاريخ، للأسف، فإن آثارها التاريخية السيئة أكبر بكثير من آثارها الإيجابية، وذلك بالنظر إلى ما نتج عنها من دولة ستالينية توتاليتارية … الصورة المنفّرة عن الماركسية التي عكسها الاتحاد السوفييتي والتي استفادت منها الرأسمالية العالمية في حربها الأيديولوجية استفادة عظيمة … فإن الحصيلة التاريخية للتجربة الروسية سلبية».
ولا ينسي السيد جلبير طبعا – باعتباره مفكر جدلي ومحلل موضوعي – أن يشير إلى انه «طبعاً لعبت ثورة أكتوبر ولعب الاتحاد السوفييتي دوراً بارزاً في دعم الحركات المناهضة للاستعمار».
إن جلبير يدمج ببساطة لينين وستالين معا، يضع البلاشفة – نتاج روسيا الفظة والمتوحشة – في قالب تعميمي بسيط وساكن عبر كل مراحل تطورهم، وعند رصده التحول إلى الستالينية يغفل تماما كل التحديات التي واجهت محاولة تأسيس أول سلطة سوفيتية في التاريخ، انه يغفل أثار الحرب على الاقتصاد الروسي، الحصار الاقتصادي الامبريالي على دولة منهكة تماما اقتصاديا وعسكريا، تدخل الجيوش الامبريالية لتدمير سلطة وليدة لم تقف على قوائمها بعد، حوالي 14 جيش إمبريالي قدموا مؤازرين الثورة المضادة بقيادة الجيش الأبيض في الحرب التي شنها ضد الثورة داخل روسيا بهدف الإطاحة بالحكومة العمالية وسلطة السوفيتات واستعادة السلطة البرجوازية والنظام القيصري.
بحلول ربيع 1921، وضعت الحرب الأهلية أوزارها، على الأقل من زاوية الصراعات العسكرية الكبيرة. لقد هَزَم الجيشُ الأحمر الجيشَ الأبيض، ولم يكن واضحاً ما إذا كانت هذه الهزيمة نهائية أم مؤقتة، فجيوش الثورة المضادة لم تكن سحبت قواتها بشكل كامل.
ففي تركيا، على سواحل البحر الأسود بالقرب من جورجيا، وفي سيبيريا، استمر الجيش الأبيض في حشد قواته استعداداً لشن هجوم جديد ضد دولة المجالس العمالية. كان قائد الجيش الأبيض، الجنرال رانجل، لا يزال يسيطر على وحدات عسكرية تتراوح بين 70 و80 ألف جندي في تركيا.
ذلك الجيش كان خليطاً من البرجوازيين الروس المعادين للثورة، في تحالف وثيق مع الحكومة الفرنسية على الأخص، ويتلقى منها دعماً بالإمدادات.
هذا فضلا عن آثار التذمرات الداخلية والتحريضات (ضد حكم البلاشفة اليهود) التي أثارها خصوم البلاشفة وأدت إلى تمردات مسلحة كانت لتطيح بسلطة العمال والتي لعب فيها المناشفة والفوضويون ومتآمرون آخرون دورا كبيرا، هذا مجرد جانب من المشهد ربما الأكثر تعقيدا في التاريخ.
إن السيد جلبير يتجاهل ببساطة تلك المعطيات الاستثنائية، وبكل أريحية تكرم فقط بالاتهام والاستنكار والحكم السلبي، لا يمكن إنكار أن هناك إجراءات استثنائية فرضتها تلك الأوضاع (الدرامية بحق)، وليست من الاشتراكية في شيء، اتخذها البلاشفة، سواء ما يتعلق بتطبيق الديموقراطية العمالية، أو ما يتعلق بالسياسية الاقتصادية الجديدة “النيب”، إن من يخلع هذه الإجراءات من سياقها التاريخي سيصل لأحكام من نوع أحكام السيد جلبير تحلق في فضاء من القيم الأخلاقية العامة، وسيطالب البلاشفة بالاعتذار، وربما التاريخ أيضا بتغيير مجراه للحفاظ على “القيم اليسارية” نقية كما تخيلها جلبير.
وإذا مددنا خط أفكار السيد جلبير على استقامته، الحكم هكذا ببساطة على التجارب الثورية للشعوب بما أسفرت عنه من نتائج، وإدانتها – هي ونتائجها معا – هكذا بتلك البساطة وجملة واحدة، لتوجب على الثورة الألمانية أيضا أن تعتذر، فقد آلت إلى تأزيم الأوضاع في ألمانيا مما أدى إلى ولادة الفاشية، ولتوجب أيضا على الثورة الصينية التحررية أن تعتذر، لأنها أسفرت عن إخطبوط امبريالي حديث شديد الاستغلال والقمعية، ولتوجب أيضا على الثورة المصرية أن تعتذر، فقد آلت إلى ديكتاتورية عسكرية رجعية، ولن نرجع إلى الوراء أكثر كي يعتذر بروليتاري انتفاضة عمال فرنسا في يونيو 1848 عن إعلانهم – كما يشير ماركس في الحرب الأهلية في فرنسا – جمهوريتهم الاجتماعية، لأنه أعقبها مذابح دموية للعمال وصعود لاحق لانقلاب لويس بونابرت في 1851، أو الكوميونة لما أسفرت عنه من مذابح وحشية وتراجع طويل المدى في حركة العمال الفرنسيين. الخ.
لا يمكن لأي مفكر منصف أن يخلط هكذا بين الدوافع الموضوعية الثورية لشعب ينتفض، والنتائج التي تحدث تاريخيا نتيجة – ليس انتفاضته بالقطع، بل تحديدا – هزيمة انتفاضته، إن المائلات الرجعية والديكتاتورية التي حدثت للثورة الروسية – والمصرية والألمانية والصينية – لم تكن نتاجا لعملية الثورة، بل لهزيمتها تحديدا، فستالين لم يكن امتدادا للحزب البلشفي، بل أقام سلطته على جثث قادة البلشفية، والسيسي لم يكن امتدادا لثورة يناير، وإنما صعد تحديدا بسبب وأدها والمناورة عليها ثم قمعها وتصفيتها، وقس على ذلك.
نحن نتفق على أهمية القراءة النقدية للثورة الروسية فهو مطلوب لا شك، ولكنه مشروط بفهمها أولا دون إطلاق عموميات أو أحكام مجردة، بحثا عن الدرس المستفاد في مجري تاريخ من الصراع والثورات تعيشه البشرية، إن التعرض لتحولات السلطة والنفوذ في الثورة الروسية بعد 1917 هو قضية أوسع واعقد بكثير لا يتسع لها المقام في هذا المقال، ومن ثم سنتوقف هنا، رافعين القبعة لهؤلاء الذين قدموا درسا من أعظم الدروس الثورية في التاريخ المعاصر، العمال الروس والحزب البلشفي، الذين استطاعوا في أحلك الظروف أن ينفذوا اقتحام السماء .