بعد انقضاء أكثر من عامين على اندلاع الثورة السورية ضد نظام الأسد، تكثر التساؤلات حول الوضع الذي آلت إليه البلاد، وحول مستقبل يبدو قاتما. النظام الذي أمعن في القتل والتدمير يبدو متمسكا بالسلطة حتى النفس الأخير. حفنة السياسيين والمثقفين ممن يطلقون على أنفسهم اسم المعارضة لا حول لهم ولا قوة. حكومات الدول الامبريالية والحكومات العربية الرجعية تتآمر مع المعارضين السياسيين وتتلاعب بهم في نفس الوقت، في حين تتزايد هيمنتها على المليشيات التي تقاتل نظام الأسد من خلال مدها بالسلاح والمال. البلاد انزلقت إلى حرب أهلية دموية في الشهور الأخيرة والاستقطاب الطائفي يتعاظم داخل المجتمع السوري. الأخطار المحدقة بالبلاد جسيمة أولها التقسيم وأخرها الاقتتال المذهبي أو العرقي الذي قد يأكل الأخضر واليابس ويعيد البلاد عشرات السنين إلى الوراء عدا عن إمكانية امتداده إلى البلدان المجاورة واشتعال الحريق في كافة المنطقة.
الأخطار بحق كبيرة والتخفيف من شأنها ضرب من انعدام المسؤولية، لكن الفرص والإمكانيات أيضا لا محدودة وإنكار ذلك لا يعبر سوى عن ضعف في الرؤيا السياسية. ولكن الاستفادة من هذا الفرص رهين بنشاط التيارات التقدمية وفي مقدمتها قوى اليسار والشيوعيين التي على الرغم من قلة عددها وضعفها اليوم فأنها تواجه مهمة تاريخية يتوقف عليها مصير سوريا والمنطقة برمتها لا وبل سيكون لها أبعاد وأصداء عالمية.
الموقف المخزي لقيادات أحزاب اليسار من الثورة السورية وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي السوري ألحق ضررا بليغا بصورة الشيوعيين وشتت صفوف اليسار وحرم الحركة الثورية من دور قيادي هي بأشد الحاجة إليه تاركا إياها في مهب رياح قوى الرجعية والثورة المضادة التي أخذت تتلاعب بالجماهير يمينا وشمالا محاولة سلب إرادتها سواء بالمخادعة أو باستغلال حاجاتها أو حتى باستخدام القوة في بعض الأحيان.
تنظيم قوى اليسار هو إذا المهمة الأكثر استعجالا وإلحاحا في سوريا اليوم والتي تحتاج إلى جهد ووعي مضاعف في هذه المرحلة الصعبة والدقيقة. هذه المهمة تقع على عاتق الماركسيين بالدرجة الأولى وتتطلب منهم امتلاك فهم صحيح للوضع الحالي ومنظور سليم للمستقبل يمكنهم من التدخل بنجاح في أوساط الحركة الجماهيرية والشباب الثوري.
الثورة الشعبية المسلحة
بالنسبة للماركسية فإن صراع الطبقات هو المحرك الأساسي للتاريخ. وفي ظل النظام الرأسمالي يكون طرفي الصراع الرئيسيين هما البرجوازية والطبقة العاملة. وإلى جانب هاتين الطبقتين الرئيسيتين يوجد في المجتمع الرأسمالي طبقات اجتماعية أخرى هامة وهي الطبقة الوسطى (أو ما يعرف بالبرجوازية الصغيرة) والفلاحين وكذلك طبقة المحرومين والمهمشين (فقراء المدن والعاطلين عن العمل بشكل شبه دائم الخ). ولكن هذه الطبقات بسبب موقعها من عملية الإنتاج وبعدها عن وسائل وأدوات الإنتاج الرأسمالي (المعامل، المؤسسات المالية والإدارية، وسائط النقل والاتصالات الخ) تبقى غير قادرة على لعب دور سياسي مستقل وتتبع في نهاية المطاف إما لقيادة الطبقة العاملة أو لقيادة البرجوازية.
الأسلوب النضالي المميز للطبقة العاملة والنابع من موقعها من عملية الإنتاج هو الإضرابات واحتلال المعامل والمؤسسات الخ. يمكننا رؤية هذا الأمر في أية ثورة جماهيرية تلعب فيها الطبقة العاملة الدور القيادي كما في الثورة الروسية أو كمثال أكثر حداثة يمكننا النظر إلى الثورة التونسية التي لعب فيها الاتحاد العام للشغل دورا محوريا موحدا جماهير الشعب التونسي خلفه. ولكننا نجد في التاريخ أمثلة أخرى تأخذ فيها الحركة الثورية الشكل المسلح بأسلوب حرب العصابات بدأً بالأرياف وامتدادا إلى المدن كما حصل في الثورة الصينية أو الكوبية. يحصل هذا الأمر تحديدا عندما تكون الطبقة العاملة ضعيفة تنظيميا أو عدديا أو تملك قيادة إصلاحية تعمل على إعاقتها عن الانخراط في النضال الثوري فتقع المهام الثورية على عاتق باقي طبقات المجتمع الريفية والوسطى والمهمشة.
غني عن القول أن الإضراب العام واحتلال المصانع والمؤسسات بحد ذاته ليس كافيا لانتصار الثورة العمالية بل من الضروري أن تصادر الطبقة العاملة السلطة السياسية من البرجوازية. هذا الأمر يتطلب هزيمة أجهزة قمع الدولة من خلال اجتذاب ما يمكن اجتذابه من القوات المسلحة إلى جانب الثورة وتشكيل مليشيات مسلحة للطبقة العاملة تقع تحت السيطرة المباشرة للجان المنتخبة في المصانع والأحياء. هذا ما تبلور بشكل كامل في الثورة الروسية وهو ما توقفت عنده الثورة التونسية.
لكن هنالك فرق شاسع وجذري بين مليشيات الطبقة العاملة وبين مليشيات حرب العصابات الثورية. طبيعة مليشيات الطبقة العاملة تنبع بالأساس من أسلوب تنظيم الطبقة العاملة السياسي وهو في جوهره تنظيم ديمقراطي يخضع لإرادة الأغلبية وينبع من الوعي الجماعي للعمال نتيجة علاقتهم بوسائل الإنتاج كطبقة مستقلة في مواجهة البرجوازية. على العكس من ذلك، مليشيات حرب العصابات الثورية بطبيعة وجودها وتركيبتها الطبقية غير ديمقراطية فهي بشكل عام تعكس نمط تفكير الملكية الفردية للطبقة الوسطى والفلاحين. وبالإضافة إلى ذلك فهي تبقى بالمجمل معزولة عن غالبية السكان فهي تتركز في المناطق الريفية أو على أطراف المدن مما يجعلها غير خاضعة للسيطرة المباشرة للجماهير. وبسبب نمط نضالها القاسي جدا تغيب في داخلها الديمقراطية وتحل محلها التراتبية البيروقراطية كما نجد في الجيوش البرجوازية.
الفرق الشاسع من زاوية التركيبة الطبقية بين هذين النمطين من المليشيات هو أمر في غاية الأهمية. فمليشيات حرب العصابات الثورية مكونة بأغلبها من سكان الأرياف والأحياء المهمشة من فلاحين وبرجوازية صغيرة ومحرومين. هذه الطبقات هامة جدا وتلعب دور ثوري حاسم عندما تكون تحت قيادة الطبقة العاملة ولكنها قد تتحول بسهولة إلى موقع الثورة المضادة وتصبح أداة بيد الرجعية عندما تغيب هذه القيادة العمالية وتحل محلها قيادة البرجوازية. نحتاج فقط إلى تذكر أن أجهزة القمع في أنظمة الديكتاتوريات العسكرية تعتمد في أساسها على سكان الأرياف والمهمشين وفئات الطبقة الوسطى.
هذا لا يعني أنه لا يمكن للماركسيين دعم حرب العصابات الثورية بسبب عيوبها المذكورة أعلاه. الثورات لا تندلع دائما في الظروف المثالية وعلى الماركسيين بالتأكيد دعم أي نمط من الكفاح الثوري لكن بنفس الوقت يجب فهم حدود وعيوب هذا الشكل النضالي أو ذاك وشرحها بحيث يكون دعمنا هذا مشروطا وليس مطلقا بحيث نسند نشاطنا بالدرجة الأولى إلى الطبقة العاملة ومنظماتها وأساليب نضالها. في الواقع من الممكن أن يقوم هذا النمط النضالي بدور ثوري تقدمي ولو بشكل بيروقراطي كما في مثال الثورة الصينية أو الكوبية ولكن من الواجب علينا الحذر وتحليل خصوصيات كل حالة بشكل منفصل
الوضع السوري
باعتقادنا أن الثورة السورية هي أحد الأمثلة الحية عن ما يمكن أن تؤول إليه الأمور عندما تغيب قيادة الطبقة العاملة. في سوريا، الطبقة العاملة ليست ضعيفة عدديا ولكنها ضعيفة تنظيميا وقياداتها (النقابية والحزبية) ملتصقة بالنظام الحاكم. عندما اندلعت الثورة على شكل مظاهرات حاشدة كانت عفوية الجماهير مصدر قوتها وعنصر المفاجئة للنظام ولأذياله من مدعي اليسارية والتقدمية. لكن بعد العديد من أسابيع التظاهر تحولت العفوية من مصدر قوة الثورة إلى مصدر ضعفها وأصبح واضحا للعيان أن الثورة تحتاج إلى التنظيم والقيادة كي تنتصر. في هذه الفترة نفسها بدأ مسلسل الانشقاقات العسكرية وتشكل مليشيات ثورية والذي شكل خطوة مهمة نحو الأمام عاملتها المعارضة السياسية والقوى الإمبريالية في البداية بخوف وعدم ثقة.
العقبة الأهم التي واجهتها قوى الثورة المدنية والعسكرية على حد سواء كانت ضعف الحراك الثوري في المدينتين الأهم حلب ودمشق وامتناع الطبقة العاملة عن دخول الصراع كقوة منظمة. يمكن القول أن هذه كانت الضربة الأولى في مقتل الثورة. لقد أعطى هذا الوضع النظام الاستقرار الكافي كي يقمع الحراك المدني بهمجية، هذا بدوره دفع الصراع بشكل متزايد باتجاه الكفاح المسلح في الأرياف وأطراف المدن. لكن الوحشية المطلقة للنظام في قمع الحراك المدني وغياب دور الطبقة العاملة بالإضافة إلى التفوق العسكري للنظام أدى إلى تزايد عزلة مليشيات الثورة على الرغم من تناميها الكبير. وكما يقال فإن الطبيعة ترفض الفراغ والقوى الإمبريالية والرجعية عندما أيقنت أنه من غير الممكن تجاهل الحراك المسلح بدأت العمل على الهيمنة عليه مستغلة حاجة الثوار إلى الدعم والسلاح، هنا تأتي الضربة الثانية في مقتل الثورة.
التاريخ يعلمنا أنه إن لم تجد الثورات طريقها إلى الأمام تبدأ بالسير نحو الوراء. انسداد الطريق والأفق هو الشرط المسبق لنمو قوى الرجعية والثورة المضادة وتعاظم دورها إلى حد الهيمنة على الحراك. هذا لا يعني أن القوى الثورية اختفت ولكنها همشت حيث كانت في مقعد القيادة ولكنها أصبحت في المقعد الخلفي الآن، هذا الأمر يعبر عن نفسه من خلال عدة مظاهر:
- اعتماد العديد من المجموعات المقاتلة على الدعم والتمويل من رجال الأعمال ومن أعتي الأنظمة الرجعية مثل السعودية وقطر.
- طغيان الطابع والطرح الديني في صف الثورة والذي في بلد مثل سوريا يمكن اعتباره وصفة للاقتتال الأهلي.
- تعاظم دور المجموعات الجهادية والمتطرفة.
- تفشي الفوضى واللصوصية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
- تنازع المجموعات المسلحة بين بعضها على النفوذ والموارد.
هذه الأمور ليس بتفاصيل صغيرة. يمكننا الجزم بأن غالبية الشعب السوري ومن ضمنه المقاتلون ضد نظام الأسد يرفضون التطرف الديني ويرفضون الإمبريالية والتبعية ويرغبون في الحرية والعدالة الخ. ولكن الأمر هنا ليس متعلقا بالنوايا الحسنة! لو كانت الثورات تحل بالنوايا الحسنة لما احتجنا إلى الحزب الثوري ولكانت جميع الأنظمة الرجعية ومعها الرأسمالية سقطت أوتوماتيكيا!
من الحقائق التاريخية أنه يمكن لأقلية رجعية أن تقمع الأكثرية وتخضعها إن كانت أكثر تنظيما منها وقدرة على فهم الأحداث. يكفي النظر إلى الثورة الإيرانية التي كانت أكثر تقدما من الثورة السورية بمراحل حيث رأينا مظاهر السلطة العمالية من مجالس ولجان في المصانع والأحياء الخ ورأينا حزب شيوعي جماهيري على حافة السلطة السياسية ولكن ماذا حصل في النهاية؟ أخطاء القيادة وقبولهم بالتشارك بالسلطة مع الإسلاميين أودت بحياة الآلاف من الثوار والشيوعيين وأغرقت الثورة في الدماء وصعد نظام الخميني القبيح الذي مازال في السلطة إلى اليوم. في الواقع البرجوازية بحد ذاتها أقلية في المجتمع ولكنها ما تزال قادرة على الحفاظ على سلطتها السياسية.
أخلاق الثورة
يكثر الحديث عن ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي في الثورة السورية. في بداية الثورة واجهنا وابل مثقفي الطبقة الوسطى الذين اعترضوا على استخدام العنف وأصروا على “سلمية” الثورة. أخلاق هؤلاء السيدات والسادة لا تسمح لهم بالقبول بالعنف الثوري ولكنها تسمح لهم أن يتركوا شعبا أعزلا في مواجهة آلة القمع المنظمة للسلطة! في الحقيقة إن نظاما بمثل شراسة وهمجية النظام السوري من المستحيل إسقاطه بالوسائل السلمية وحدها. لذلك، وبالتأكيد، أيدنا كماركسيين حركة الانشقاقات وتشكيل المليشيات المسلحة للثورة بشرط أن تبقى هذه المليشيات أداة بيد الحركة الثورية وأن لا تفصل نفسها عن الحركة وتضع نفسها فوقها أو تصبح تحت سيطرة قوى أخرى مصالحها معادية للثورة.
الآن نواجه وابل فئة أخرى من المؤيدين بشكل أعمى للعمل المسلح ضد النظام من دون اعتبار لمن يقوم بهذا العمل ومن يقف ورائهم أو ما هي أفكارهم. والمنطق هنا هو منطق “السلمية” معكوسا، أي أنه بما أن النظام وحشي يقتل ويعذب بهمجية ومن دون رحمة لذلك يجب علينا مباركة كل من يقاتله وأن نتجنب انتقادهم من أجل وحدة الصف في مواجهة النظام وأنه من اللاأخلاقي شق الصف مما يقوي شوكة النظام. بينما في الواقع ما يضعف الثورة ويشق الصف هو بالضبط تغلغل القوى والأفكار الرجعية بين صفوفنا والتي أصبحت كمرض الشلل الذي ضرب جسد الثورة فأصابها بالعجز والوهن، فوقفت عاجزة عن توحيد مكونات المجتمع السوري خلفها وتوجيه الضربة القاضية للنظام.
الماركسية تشرح أن الأخلاقيات السائدة في أية مجتمع تعكس بالدرجة الأول مصالح ومعتقدات الطبقة السائدة فيه. ولكن بالإضافة إلى منظومة الأخلاق “الرسمية” نجد العديد من المنظومات الأخلاقية الأخرى المتضاربة فيما بينها والتي تتهم بعضها البعض بانعدام الأخلاق والانحطاط. هذا الأمر يبرز إلى السطح بشكل حاد في أوقات الأزمات. في الحقيقة هذه المنظومات الأخلاقية المتضاربة هي انعكاس لمصالح الطبقات والفئات المختلفة في المجتمع. إذن أين يقف الماركسيون من كل هذا؟ ما هي أخلاقنا؟
لا يمكن لأخلاقيات الماركسيين أن تستند إلى المعتقدات السائدة في المجتمع الرأسمالي بكل أحقادها وأمراضها وتشوهاتها. لا بل على العكس علينا القطع بشكل كامل مع هذه المنظومة الأخلاقية المنحلة وأن لا نقع في فخ السير وراء إحدى أشكالها دون الأخرى. المهمة التاريخية للطبقة العاملة هي إسقاط الرأسمالية وبناء مجتمع جديد أرقى، مجتمع لا طبقي تزول فيه مظاهر الهمجية والبربرية التي سادت في المجتمعات الطبقية التي سبقته. الماركسية هي التجسد النظري لهذا المهمة التاريخية، هي تراكم الذاكرة الحية للطبقة العاملة، والمهمة التاريخية للماركسيين هي قيادة الطبقة العاملة إلى هذا الهدف متسلحين ليس فقط بأفكار الماركسية، بل وبنفس الأهمية بأخلاق ثورية تعكس مصلحة الطبقة العاملة وتخدم مهمتها.
في الواقع كل ما يخدم نضال الطبقة العاملة ويوحد صفوفها ويعزز موقعها في مواجهة الرأسمالية هو مقبول وأخلاقي لنا. وكل ما يؤخر نضال الطبقة العاملة، ويقسم صفوفها ويزرع التناحر بين أطيافها، ويضعفها في مواجهة الرأسمالية والإمبريالية هو مرفوض وغير أخلاقي. لذلك فموقفنا من الطرق السلمية أو العنيفة ليس خارجا عن المكان والزمان كما هو الحال مع السادة دعاة السلمية أو دعاة التسلح، بل هو رهين بمقدرة هذا الأسلوب النضالي أو ذاك على خدمة رسالة الطبقة العاملة في إسقاط الرأسمالية وبناء المجتمع الاشتراكي.
من هذا المنطلق فإن العديد من المجموعات المسلحة التي تدعي الثورية اليوم في سوريا في حين أنها تتلقى المال والدعم من الدول الإمبريالية، تقدم نفسها بشكل طائفي، أو تقوم بممارسات قمعية شبيهة بممارسات قوات النظام، هي مرفوضة بالمطلق من جانبنا لأنها تساعد النظام في تقسيم المجتمع السوري على أسس طائفية، تلعب دور وكيل الدول الامبريالية في سوريا في مواجهة الطبقة العاملة والكادحين، وبالعموم تؤخر النضال الثوري وتقوي موقع الرأسمالية والرجعية في سوريا.
منظور المرحلة القادمة
من الصعب جدا التكهن بالكيفية التي ستتطور بها الأمور في المرحلة القادمة. هنالك نوع من التوازن العسكري على الأرض مع خسارة بطيئة للنظام لمواقعه. مع هذا، فمن الواضح أن الجيش الحر وباقي المليشيات التي تقاتل ضد النظام غير قادرة على حسم المعركة في المدى القريب. السبب الرئيسي هو أن شرائح واسعة من السوريين في مناطق سيطرة النظام لا تشارك في الثورة. استمرار النظام حتى الآن هو إذا بالدرجة الأولى مسألة سياسية وليس عسكرية. لا قوى المعارضة السياسية ولا المجموعات العسكرية تملك أي رؤية أو برنامج سياسي قادر على جذب قوى جديدة إلى صف الثورة. في الواقع تعامل العديد من هذه القوى بشكل مفضوح مع الإمبريالية بالإضافة إلى نمو دور المجموعات المتطرفة وحالة الفوضى في العديد من المناطق المحررة أصبحت تنفّر العديد من السوريين من الثورة.
باستمرار الوضع على حاله فإن موضوع التقسيم يصبح إمكانية أكثر واقعية يوما بعد آخر. من جهة أخرى رحيل النظام بحد ذاته لا يعني زوال خطر الاقتتال الطائفي وما يرافقه من إمكانية تقسيم البلد. المشكلة في سوريا اليوم هي غياب قوة سياسية قادرة على توحيد غالبية المجتمع السوري خلفها مما يعني أن الباب مفتوح لمزيد من الفوضى والدم في حال رحل النظام قريبا أم لم يرحل. التنافس على السلطة ضمن معسكر معارضي النظام نفسه مشكلة خطيرة. الدول الإمبريالية تدرك هذا الأمر بشكل جيد وهي قلقة على مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة على الأخص في ظل اقتصاد عالمي على حافة الانهيار. لذلك هم يدعمون بعض القوى السياسية والعسكرية لإقامة نوع من التوازن مع النظام بغاية الضغط لا القضاء عليه. هم يريدون الوصول إلى حل تفاوضي يضمن مصالحهم الاقتصادية ويبعد القوى الجهادية عن الاقتراب من السلطة.
ولكن على المدى البعيد وبغض النظر عن الطريقة التي ستتطور بها الأمور من الصعب تخيل نظام سياسي برجوازي مستقر في سوريا (أو في جزء من سوريا!) أكان قمعيا أم ديمقراطيا. الرأسمالية العالمية وأنظمتها السياسية الديمقراطية وغير الديمقراطية منها في أزمة عميقة. الطبقات العاملة وجماهير شعوب المنطقة والعالم في حالة غليان متزايد (تونس، مصر، اليونان، اسبانيا الخ). هذا الوضع يجعل من الصعب جدا لأي حكم برجوازي أن يوطد سلطته في سوريا. أنظمة الشرق الأوسط والتي تتدخل في سوريا اليوم (السعودية، إيران الخ) هي في الواقع على الحافة ويمكن أن تنهار في أية لحظة. إذن الوضع الداخلي والإقليمي والعالمي برمته شديد عدم الاستقرار وثوري إلى أبعد الحدود. يمكننا أن نرى منذ الآن أن الجماهير السورية في المناطق المحررة تعترض وتتظاهر ضد القوى التي تعتبرها معادية لثورتها. إذا يمكننا التوقع أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة من الصراع الحاد ولكنها في النهاية لا بد من أن تفرز تيارات سياسية جماهيرية ثورية.
مهام الشيوعيين
الغرض من الشروحات السابقة ليس الطعن بثوار سوريا وثورتها بل العكس تماما، الغرض مكافحة الثورة المضادة أيا كان شكلها. أمام اليسار والشيوعيين دور تاريخي كي يمارسوه اليوم. ولكن ذلك يتطلب منا فهما صحيحا لواقع الحال وجرأة في قوله للآخرين. التحليل والمنظور السياسي ليس تمرينا أكاديميا بل دليلا للنشاط الثوري.
شرح نقاط ضعف الثورة ليس عيبا. القول بوجد الطائفية في سوريا ليس عارا على السوريين. بعض المثقفين واليساريين السوريين يصرون على إنكار الطائفية في المجتمع السوري وبأن الأمر كله من صنع السلطة الحاكمة. النظام بالتأكيد عمل على تشجيع الطائفية وتغذيتها ولكنه لم يخلقها. الانقسامات والتناحرات الطائفية والعرقية هي سمة مميزة للمجتمع الطبقي وبخاصة الرأسمالي وهي لن تزول إلا بزواله وبناء مجتمع اشتراكي لا طبقي. تقسيم المجتمع إلى جماعات طائفية وعرقية متناحرة وتغذية الأحقاد بينها هو من أهم أدوات سلطة الطبقة البورجوازية وتكتيك أساسي لاستمرارها. في الواقع هذا ما يقوم به العديد من سياسيي المعارضة البرجوازية والنظام على حد سواء. هذا ما علينا شرحه لثوار سوريا وشبابها بدل من هراء المثقفين عن مثالية الشعب السوري.
بنفس الطريقة، الكلام عن التركيبة الطبقية السائدة بين الثوار واحتياجهم إلى قيادة الطبقة العاملة ليس إهانة لأهالي الأرياف وفقراء المدن وأبناء الطبقة الوسطى أو انتقاص من تضحياتهم. هو حقيقة علمية اجتماعية نابعة من موقع الطبقة العاملة من عملية الإنتاج وعلاقتها المباشرة بأدوات الإنتاج. هي الطبقة الوحيدة القادرة على قيادة المجتمع وإخراجه من مأزق النظام الرأسمالي وما يرافقه من تشوهات اجتماعية إلى مجتمع اشتراكي صحي ومتناغم. لو شرحنا هذا الأمور لشباب سوريا وثوارها لوجدنا أذانا صاغية بالتأكيد.
أيضا، تحليل واقع المجموعات المسلحة ليس نكرانا لتضحيات الثوار بل محاولة لتقديم قراءة صحيحة لواقع الأمور. وهو لا يعني أنه لا يمكن كسب العديد من شبابها الثوري إلى راية نظيفة بعيدة عن أية أجندات امبريالية أو تفكير طائفي أو عرقي. بل هذا واجب علينا. كما هو واجب دعم المجموعات السياسية والعسكرية التي حافظت على استقلالها عن الأجندات الخارجية وعلى خطابها الثوري البعيد عن أثار الطائفية.
كل هذا يتطلب من الشيوعيين موقف جدي تجاه تنظيم صفوفهم كتيار مستقل ضمن الحراك الثوري. هذا الأمر يجعل من المستعجل العودة إلى دراسة كلاسيكيات الماركسية والتجارب الثورية التاريخية لأنها دليلنا الثوري الأول والأهم. علينا أيضا دراسة وفهم التاريخ الحديث لسوريا والمنطقة كي نفهم الجذور التاريخية للوضع الراهن وكيف وصلنا إلى هنا. ما نحتاجه هو مزيج من النشاط الثوري على الأرض والنشاط التثقيفي بأفكار الماركسية من خلال حلقات الدراسة والنقاش.
بالإضافة إلى ذلك لا بد من أن نشرح أن إسقاط النظام بحد ذاته لن يحل مشاكل الشعب السوري لا بل قد تتجه الأمور نحو الأسوأ في المدى القريب. في الواقع جميع مطالب الثورة من حرية وعدالة اجتماعية وكرامة غير ممكنة التحقيق في ظل النظام الرأسمالي. تحقيق مطالب الشعب الثوري يتطلب ما هو أعمق من إسقاط نظام الأسد أي إسقاط النظام الرأسمالي برمته. ولكن حتى ذلك غير كافي، فمن الضروري خلق علاقات تواصل مع القوى الثورية العربية والعالمية؛ فالرأسمالية نظام عالمي يعبر عن نفسه من خلال الإمبريالية ولذلك نضالنا ضدها لا يمكن أن يكون إلا أمميا. قد تكون البداية صعبة والقوى ضعيفة ومشتتة ولكن متى ما بنينا تلك النواة الصلبة من الكوادر الخبيرة بالنشاط السياسي والمثقفة بالنظرية الماركسية فإن الإمكانيات غير محدودة.
موسى اللاذقاني
الأربعاء: 10 أبريل 2013