الرئيسية / قضايا نظرية / الأصولية الإسلامية / الحرب الأهلية والردة الرجعية في العراق: وحش فرانكنشتاين الذي صنعته الإمبريالية يرفع رأسه

الحرب الأهلية والردة الرجعية في العراق: وحش فرانكنشتاين الذي صنعته الإمبريالية يرفع رأسه

يوم الثلاثاء الماضي استولت جماعة دولة الإسلام في العراق والشام (داعش) الأصولية على مدينة الموصل، التي تعتبر واحدة من المدن الرئيسية في شمال العراق، وبعد ذلك شرعت في الاتجاه جنوبا نحو بغداد، حيث استولت على عدة مدن هامة في طريقها. وقد فر مئات الآلاف خوفا على حياتهم من حكم هذه الجماعة الرجعية. إن شبح البربرية هذا الذي يلوح في الأفق هو نتيجة مباشرة لمغامرات الإمبريالية الأمريكية.

في وقت مبكر من يوم الثلاثاء استولى الأصوليون الإسلاميون القادمون من الصحراء على مطار الموصل ومحطات التلفزيون فيها ومقر مكتب المحافظ. وتم إطلاق سراح آلاف السجناء أيضا عندما سيطر المتمردون على المدينة.

كان للجيش العراقي أكثر من 30.000 جندي في المدينة. ومع ذلك فإن هذه القوات فرت دون مواجهة، وتركت أسلحتها ومدرعاتها ورائها. وقد اتخذ رجال الميليشيا أماكنهم في الشوارع والمباني داخل المدينة. وذكرت التقارير أن الإسلاميين استولوا في بنوك المدينة على 480 مليون دولار نقدا، وبما أن الجيش العراقي تفكك، فقد استولوا كذلك على أسلحة بملايين الدولارات من بنادق ودروع وعربات مصفحة ومدفعية ثقيلة وطائرات شحن، بل وحتى طائرات هليكوبتر من نوع بلاك هوك.

تقول التقارير إن ما لا يقل عن 500.000 شخص قد فروا من المدينة خوفا مما سيأتي به المستقبل. وبالفعل أعلنت جماعة داعش أنها ستبدأ بعد يومين في تنفيذ قوانين الشريعة الاسلامية في المنطقة. تضم الموصل قوميات عديدة كانت تعيش معا لعدة أجيال. فجنبا إلى جنب مع الأغلبية العربية السنية، يعيش في المنطقة أيضا الآلاف من الآشوريين والأكراد والتركمان والشبك والأرمن. أما الآن فإن أولئك الذين ليسوا من السنة سيتعرضون للأسوء.

إن الموصل وبالإضافة إلى كونها واحدة من أكبر مدن العراق، من حيث عدد السكان، بما يقارب مليوني نسمة، فإنها أيضا مركز تجاري كبير. إن الاستيلاء على المدينة تحول كبير في مسار الحرب الأهلية المستعرة في سوريا والعراق والتي تهدد الآن المنطقة كلها. بعد الاستيلاء على الموصل، نجح الإسلاميون في الاستيلاء على مدينة تكريت ومدينة بيجي المهمة والتي تضم أهم مصفاة نفط في العراق. كان الاستيلاء على المدينة أسهل حتى من الموصل، حيث تشير التقارير إلى أن استسلام الشرطة وبقية القوات المسلحة الأخرى وقع بعد مكالمة هاتفية فقط.

sect-map-ai2html-180

إن الجيش العراقي، الذي يضم رسميا 800.000 جندي (من بينهم 300.000 جندي في الخدمة الفعلية)، يتفتت بالمعنى الحرفي للكلمة في مواجهة بضعة آلاف من الإسلاميين. ليست لدى أعضاء القوات المسلحة المحبطين والجوعى أية نية في خوض المعركة ضد قوات داعش المجهزة تجهيزا جيدا والمصممة على القتال. ونقلت تقارير صحيفة نيويورك تايمز من المحافظة ما يلي:

«في الوقت الذي كانت قوات الحكومة العراقية تنهار في حالة من الفوضى قبل الهجوم، كانت هناك تكهنات بأنها (القوات) تلقت الأمر من القادة بالاستسلام دون قتال. وقال أحد القادة المحليين في محافظة صلاح الدين حيث تقع تكريت، في مقابلة صحفية يوم الاربعاء: “تلقينا اتصالات هاتفية من قادة رفيعي المستوى يطلبون منا الاستسلام. لقد جادلتهم في ذلك، فقالوا: “هذا أمر”.»

وقد ترك الهجوم مساحة تمتد لأكثر من نصف العراق في أيدي الاسلاميين.

البربرية

أصول داعش هي الميليشيات التي شكلت الفرع العراقي لتنظيم القاعدة. وحتى وقت قريب كانت مجرد مجموعة هامشية داخل صفوف الحركة الإسلامية التي كانت تعتبرها متطرفة جدا. وقد اكتسبت سمعة سيئة بفعل أساليبها الوحشية والهمجية في الصلب وقطع الرؤوس. وقد عزلت أساسا في الصحراء والمناطق القبلية في غرب العراق، حيث سمح لها تفكك الدولة العراقية وتخلف تلك المناطق بكسب موطئ قدم لها.

اعتمدت الجماعة طريقة مهاجمة السجون (هاجمت ما مجموعه 24 سجنا) حيث يقبع أعضائها من أجل تحريرهم وتجنيد زملائهم. وقد هاجمت في العام الماضي سجن أبو غريب الشهير، وأفرجت عن 1000 سجين. كما أطلقت سراح 2400 سجينا في الموصل مؤخرا، بما في ذلك مجرمي الحق العام والقتلة الذين ينضمون إليها لممارسة النهب. وهكذا ضمت إلى صفوفها بعض أكثر العناصر فسادا في المجتمع العراقي – باستثناء هؤلاء الموجودين في الحكومة بالطبع.

وخلال العام الماضي حاولت داعش أن تتدخل بشكل متزايد في الحرب الأهلية السورية. وقد سعت في البداية لتندمج مع جبهة النصرة، التي كانت الذراع الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا. لكن ولأنهم لم يتمكنوا من التوافق على شروط الاندماج أعلنت الجماعة انشقاقها. وبسبب مواقفها المتطرفة، تمكنت من الحصول على موطئ قدم بين الإسلاميين المتشددين الذين يقاتلون في سوريا. تشير بعض التقديرات، على الرغم من أنها تبدو مبالغا فيها، إلى أن ما يعادل نصف مقاتلي النصرة انضموا إلى داعش، التي كانت أكثر اهتماما بإقامة دولة خلافتها عبر الحدود بين العراق وسوريا، من الاهتمام بمحاربة الأسد.

في سوريا صنعت المنظمة لنفسها شهرة سيئة جدا، وفرضت سيطرتها على المنطقة الريفية على الحدود مع العراق. وقد كانت مشغولة طيلة العام الماضي بالقتال ضد الميليشيات المتمردة الأخرى في سوريا، بينما تركهم الأسد وشأنهم. هذه الهدنة غير المعلنة ساعدت الأسد في حشد التأييد له في الداخل والضغط على الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل ودول الخليج. وقد انتشرت نكتة بين الصحفيين في سوريا تقول بأن مقرات داعش هي المكان الأكثر أمانا من خطر الغارات الجوية في سوريا.

سمح هذا لداعش بتعزيز قبضتها على جزء كبير من شرق سوريا. وهناك تمكنت من السيطرة على العديد من حقول النفط. ووفقا لأحد التقارير فإن أحد آبار النفط التي تسيطر عليها داعش في جنوب الرقة يحقق ما يقارب 1,3 مليون دولار في اليوم، في حين أن غيرها من حقول النفط في الرقة ونواحيها تحقق 500.000 دولار في اليوم الواحد. ويتم تمويل المجموعة أيضا من خلال عمليات الخطف وطلب الفدية التي تستهدف السكان المحليين والأجانب، بمن فيهم الصحفيين، فضلا عن السطو والسلب والنهب في المناطق التي تتم السيطرة عليها، بما في ذلك المواقع الأثرية والمصانع. وعلاوة على ذلك، تمكنت داعش من السيطرة على مواقع إنتاج الحبوب والقطن في المناطق الشرقية، ونهبت مخازن الحبوب التي ذكرت التقارير أن إحداها كان يحتوي على ما قيمته أكثر من 25 مليون دولار.

وقد أتاح الصراع في سوريا لداعش أيضا الحصول على ترسانة كبيرة من الأسلحة، تتألف من أسلحة صودرت أثناء القتال وأسلحة تم شراؤها مباشرة من تجار الأسلحة.

نمت الجماعة بسرعة خلال العام الماضي. وهذا ما مكنها، إلى جانب زيادة مداخيلها، من اتخاذ مبادرات أكثر جرأة. على هذا الأساس توسعت هجمات داعش وتطور حجمها. فانتقلت الجماعة من قتال الجيش العراقي في الصحراء والمناطق القبلية إلى قتاله في المدن. وجاء نجاحها بمثابة مفاجأة، على اعتبار أن هناك فرقا بين المشاركة في الحرب التي تعصف بسوريا وبين القتال في العراق، ضد جيشه الكثير العدد.

إن السبب الحقيقي وراء تمكنها من تحقيق ذلك هو الطبيعة المتعفنة لنظام العصابات الفاسد برئاسة نوري المالكي، الذي يأجج الصراع الطائفي منذ سنوات. لقد تسببت أساليب العصابات والفساد التي ينهجها المالكي على نطاق واسع في تنفير شرائح واسعة من السكان. هذا إلى جانب تفشي الفقر والبطالة. فوفقا للبنك الدولي تعيش 28٪ من الأسر العراقية تحت خط الفقر. وفي حالة ما واجهت البلاد أزمة كبيرة، مثل النزاعات المسلحة التي شهدتها العام الماضي، فإن تقديرات المنظمة تقول إن هذا المعدل قد يزيد بنسبة 70٪. وفعلا تتغذى آلاف الأسر على القمامة وتعيش في مطارح القمامة والأحياء الفقيرة.

من أجل تحويل الانتباه عن هذا الوضع عمل المالكي على استهداف السنة على وجه الخصوص، والذين عزل ممثليهم بشكل منهجي من الحكومة والدولة. اختفى كثير من زعماء السنة بشكل مريب أو قتلوا وأطلق العنان لموجة من الإرهاب على يد ميليشيات شيعية رجعية برعاية المالكي وحلفائه. وبالاعتماد على تفوقه العسكري العددي والتقني، حاول قمع معارضيه من السنة باستعمال القوة العسكرية.

الحرب ضد داعش أطلق عليها اسم الحرب على “الإرهاب”، وكثيرا ما استخدمت مبررا لاستهداف خصوم المالكي، بل وحتى المدنيين. دفعت هذه الممارسات الناس أكثر فأكثر إلى براثن داعش حيث فضلوا الرجعيين الاسلاميين على إرهاب المالكي. في يناير عندما تحركت داعش بقواتها إلى المدن، وخاصة الفلوجة والرمادي، تعاملت حكومة المالكي مع هذه المدن كلها كمناطق حرب عدوة.

تصرفات الحكومة مهدت الطريق للأصوليين لتعبئة الشباب الأكثر سخطا. وقد أشعلت أشهر من القصف العشوائي للأحياء في محافظة الأنبار، روح الانتقام بين أسر الضحايا.

في شهر فبراير أطلقت مجموعة من الناس حملة للمصالحة بين الحكومة وبين القبائل المحلية في محافظة الأنبار. وعلى الرغم من أن هذه الحملة لقيت تأييدا واسعا فإن الحكومة لم تقدم أي تنازل. زاد هذا في صب الزيت على النار. وقد خربت الحكومة عمدا الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المناطق السنية.

كل هذا يعني أن الحكومة فقدت كل شرعية في المناطق السنية من العراق. وهكذا تمكنت داعش، التي هي القوة الأكثر تصميما وتنظيما، من أخذ زمام المبادرة وزاد زخمها، ودمجت ميليشيات سنية أخرى، وكبار المسؤولين السابقين في نظام وجيش صدام حسين، والعديد من زعماء القبائل وحتى الدعم السلبي أو الإيجابي من طرف سكان المدينة. هذا هو أساس هجوم داعش.

الأكراد

في الشمال تمكنت الإجراءات الاستبدادية المستمرة التي ينهجها المالكي أيضا في تنفير سكان منطقة الحكم الذاتي الكردية. وقد طالب المالكي الأكراد بالطاعة، وهم الذين حاولوا التوازن بين السلطات العراقية والتركية. في الواقع، ولفترة طويلة كانت كردستان العراق بحكم الأمر الواقع دولة مستقلة. بل إنهم في الشهر الماضي قد بدأوا في تصدير نفطهم في تحايل على الحكومة المركزية. وفي نفس الوقت قامت الحكومة بتجميد الأموال المخصصة في الميزانية للمنطقة. وقبل أسابيع قليلة فقط حذرت الحكومة الكردية الحكومة المركزية بشأن هجوم وشيك على مدينة الموصل لكن المالكي لم يبد أي رد فعل.

يمتلك الأكراد أيضا قواتهم المسلحة، لكن ونظرا إلى تدهور العلاقة بينهم وبين الحكومة المركزية فإنهم لم يفعلوا سوى القليل أو لا شيء لمساعدتها ضد داعش في الموصل. وبينما كان الجيش العراقي يعرف حالة من التفكك، كانت قوات البيشمركة الكردية قد دخلت بالفعل إلى عدة مناطق من كردستان العراق التي كانت رسميا حتى الآن لا تخضع لسيطرة الحكومة الإقليمية الكردية وفرضت سيطرتها عليها. ومن بين تلك المدن سيطروا على مدينة كركوك المهمة جدا والغنية بالنفط. والآن ستحدث اشتباكات لا مفر منها بين الاسلاميين وبين القوات الكردية. لكن هذه المواجهات سوف تشكل تحديا أكبر بكثير لداعش من المواجهة مع الجيش العراقي.

جيش محبط

كانت سرعة تفكك الجيش مفاجئة حتى بالنسبة لبعض الإسلاميين. ففي اليومين الماضيين تمكنوا من الاستيلاء على خمس منشآت للجيش على الأقل وعلى مطار الموصل. وتحول الجيش العراقي اليائس إلى قصف قواعده الخاصة لتجنب سقوط المزيد من الاسلحة في يد العدو. لقد أنفقت الإمبريالية الأمريكية في واقع الأمر 14 مليار دولار على قوات الأمن العراقية لإعدادها لحراسة البلاد بعد مغادرة القوات الأمريكية، والآن بعض تلك الأسلحة تقع في أيدي قوات داعش.

تقف الاستثمارات الضخمة في الأسلحة على طرف النقيض مع النقص المزمن في تمويل الجيش نفسه. وقد أدى هذا إلى موجات هروب جماعي. الجنود غالبا ما يعانون من الجوع ونقص المعدات والذخيرة الأساسية. يقدر محللوا الجيش الامريكي أن ما بين 40 و50٪ من الجنود العراقيين قد فروا بالفعل. وقبل تفكك القوات في الموصل كان الجيش يفقد ما يصل الى 300 جندي يوميا، بسبب الفرار والوفيات والإصابات.

كان تكتيك داعش حتى الآن يتمثل في إطلاق سلسلة من الهجمات العنيفة على بعض المواقع ثم التراجع منها بعد ذلك بوقت قصير. وقد كانت تهدف بهذه الطريقة إلى الوصول بأقل الخسائر إلى إنهاك الروح المعنوية المنخفضة أصلا للجيش العراقي.

ذكرت صحيفة نيويورك تايمز:

«قال جندي سابق، لم يصرح سوى باسمه الأول، محمد، لأن الفرار غير قانوني، إنه كان قد خدم في الرمادي وأن زملائه بدأوا في الفرار منها قبل أشهر عندما بدأت الوفيات في تصاعد مستمر. وأضاف: “كنت أشعر وكأني كنت أقاتل جيوشا عديدة، وليس جيشا واحدا”.

جاء المسلحون في موجات، وعندما تناقصت ذخائرهم بعثوا بالانتحاريين. قال محمد إن ثمانية من أصدقائه قد قتلوا وإنه كاد يقتل هو أيضا، عندما انفجرت قذيفة هاون في عربته المصفحة. وعندما حدده المتشددون باعتبارها هدفا للاغتيال، مما اضطره إلى الفرار، كان ذلك بمثابة نجاة.

وأضاف: “أنا متعب، الجميع متعبون”.

لقد قللت الحكومة باستمرار من حجم الأزمة، جزئيا من خلال تسجيل الجنود الفارين تحت اسم ‘مفقود’. كما ألقى المسؤولون باللائمة على قضايا لا علاقة لها بالمشكلة، حيث قالوا، على سبيل المثال، إن الجنود لم يعودوا من إجازات زيارة الأهل، فقط بسبب أن الطرق المؤدية إلى ساحات القتال قد أصبحت غير آمنة».

وفوق كل ذلك، النظام ممقوت من طرف الجميع بسبب فساده ووحشيته. هذا هو السبب الذي مكن ما بين 4000 و5000 مقاتل من هزيمة جيش يضم أعدادا أكبر بكثير. ليس هناك من هو على استعداد للمخاطرة بحياته من أجل المالكي. والعديد من الجنود، وخاصة السنة لا يرون أي فرق حقيقي بين حكم هذه المجموعة أو تلك من رجال العصابات. ولا يمكن لأية كمية من المعدات العسكرية المتقدمة أن تعوض عن هذه الحقيقة البسيطة.

“المهمة قد أنجزت”

بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أعلن جورج وولكر بوش بفخر أن “المهمة قد أنجزت”. لكن وكما نرى فإن العواقب التي كانت متوقعة للأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الإمبريالية الأمريكية تهدد الآن بدفع المنطقة كلها الى أتون حرب أهلية.

كان نظام صدام حسين نظاما دكتاتوريا دمويا، لكنه لعب دورا مفيدا من وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية. فقد أبقى نظامه البلاد موحدة (بقبضة من حديد طبعا) وقمع الإسلاميين. أدت الاطاحة بصدام، وفوق كل شيء تفكيك الدولة العراقية من قبل قوات الولايات المتحدة الامبريالية، إلى صعود جميع التوترات القومية والقبلية والطائفية إلى السطح.

وبدلا من توحيد صفوف الأمة معا، أقامت الولايات المتحدة سيطرتها على العراق على تفجير كافة الصراعات والانقسامات الطائفية التي كانت كامنة. اعتمدت التكتيك الكلاسيكي فرق تسد، لمنع المجموعات المختلفة من الاتحاد ضد وجودها.

من خلال تفكيك الولايات المتحدة لجيش صدام دمرت التوازن العسكري في المنطقة بأسرها، ووضعت السعوديين والإسرائيليين على مسار تصادمي مع إيران التي كانت قوات صدام حتى ذلك الحين تحصر تقدمها.

ومع تمكن الإيرانيين من فرض هيمنتهم على العراق، بدأت دول الخليج في تمويل الجماعات الأصولية الإسلامية السنية في كل أنحاء المنطقة كثقل موازن للنفوذ الإيراني. لكن أسرة آل سعود الرجعية أطلقت سيرورة لم تتمكن من السيطرة عليها بشكل كامل. فالتطرف الحالي للحركة الإسلامية السنية أصبح الآن تهديدا مباشرا للنظام السعودي.

وكلما طال بقاء الولايات المتحدة، كلما صارت التوترات الطائفية أعمق فأعمق. وفوق كل هذا قاموا بوضع المالكي في السلطة والذي ترأس حكومة تزداد فسادا وطائفية. منذ البداية تم وضع رئيس الوزراء، نوري المالكي، في منصبه كحل توافقي بين الإيرانيين والأميركيين. لكن ضعفه يعني أنه عاجز عن البقاء إلا من خلال تعزيز الانقسام الطائفي في البلاد.

والآن جميع النقاد الأذكياء، الذين أمضوا العقد الماضي في الدفاع عنه وعن الحرب في العراق، صاروا يحملونه مسؤولية الفوضى. إن المالكي بالطبع رجل عصابات غير كفؤ في نظام للعصابات. لكن غزو واحتلال العراق هو بالضبط السبب الذي أجبر الولايات المتحدة على دعم مثل هؤلاء الناس. إنه في الواقع مخلوق مشابه جدا لكرزاي في أفغانستان. لقد أصبح هذا المخلوق الرجعي عبئا على الجميع، لكنهم يعلمون أنهم إذا ما خلعوه فإنهم سيواجهون سيناريو أسوء بكثير. حزبه، على الرغم من كونه حتى الآن أكبر حزب في البرلمان، لم يحصل سوى على 92 مقعدا من أصل 328 مقعدا، بينما احتل الحزب الثاني 34 مقعدا. يدل هذا على درجة الانقسام التي وصلت إليها البلاد.

إن المأساة الحالية هي نتيجة مباشرة لهذا. أما المالكي فلم يعمل سوى على إيصال الاستغلال المتهور للسياسة الطائفية، الذي مارسته الامبريالية الامريكية، إلى نهايته المنطقية. والنتيجة هي ما نشهده اليوم، وبداية تفكك العراق وانهيار كامل للنظام الذي لم يتمكن يوم أمس حتى من حشد النصاب اللازم في البرلمان لفرض حالة الطوارئ.

داعش صنيعة الامبريالية

مثل ثور هائج في متجر للخزف الصيني، دمرت الامبريالية الامريكية كل ما لمسته. وظهر أن كل تحرك قامت به الإدارة الأمريكية إنما هو التحرك الخطأ. لقد أزالوا صدام حسين من أجل الحصول على نظام أكثر مرونة في العراق، فاضطروا عوض ذلك إلى خوض حرب أهلية مكلفة وغير شعبية. وحصل تنظيم القاعدة فجأة على موطئ قدم في بلد كان ممنوعا عليه.

ثم بعد الربيع العربي حاولوا إسقاط كل من القذافي والأسد. اعتمدوا على أصدقائهم في المملكة السعودية وقطر للقيام ببعض الأعمال القذرة. ومع ذلك، سرعان ما واجهوا تسرب الإسلاميين المدججين بالسلاح والمال القطريين من ليبيا إلى مالي.

الامبريالية الامريكية، التي لم تتعلم شيئا من تجربتها في أفغانستان، حاولت الاعتماد على الإسلاميين في سوريا، حيث كانوا هم القوات الأكثر قدرة على خوض القتال في الحرب التي كان الأسد يكسبها. إن الإدارة الأمريكية قد دعمت، بشكل غير مباشر لكن بوعي، (بينما دعمت وكالة الاستخبارات المركزية مباشرة) المجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في سوريا وقامت بتسهيل تحركاتها في المنطقة. ولم تعمل داعش سوى على إعادة تلك القوات إلى المنزل بعدما تجذرت في نار الحرب الأهلية.

كان هذا واحدا من الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تتراجع عن حملة القصف في شهر غشت من العام الماضي. والآن تمكن الإسلاميون من بناء معاقل لهم في ليبيا وسوريا والعراق في حين كانوا مقتصرين أساسا على أفغانستان وباكستان فقط. نعم إن “المهمة قد أنجزت” بالفعل!

بعد أن أدركت الإدارة الأميركية ما أصبح الآن واضحا للعالم أجمع – أي حجم الفوضى الميؤوس منها التي ورطت نفسها فيها – دخلت في تحالف غير معلن مع الإيرانيين والأسد من أجل محاصرة الإسلاميين الذين يسيطرون الآن على المعسكر المناهض للأسد في الحرب الأهلية السورية. لكن من غير الواضح ما إذا كانت وكالة المخابرات المركزية نفسها قد اتبعت هذا الخط أم أنها ما تزال مستمرة في دعم الاسلاميين.

ويمكن قول الشيء نفسه عن الطبقة الحاكمة التركية التي راهنت منذ بداية الحرب الأهلية السورية بكل شيء على سقوط نظام الأسد. يبدو أنه ليس لدى أردوغان أية فكرة عما يقوم به. فبعد سنوات من استضافة الآلاف من مقاتلي المعارضة وغض النظر عن تكوينها الذي صار يهيمن عليه بصورة متزايدة الأصوليون الإسلاميون، استيقظ نظام اردوغان على التهديد الخطير الذي يشكله ذلك على استقرار تركيا نفسها. احتجزت داعش حوالي 80 مواطنا تركيا كرهائن. من بينهم ثلاثة أطفال و 28 من سائقي الشاحنات. لا شك أن هذا الحدث لن يلاقى بالترحيب في تركيا حيث تشكل المغامرات التوسعية لاردوغان مصدرا رئيسيا للسخط. فقط في الآونة الأخيرة أعلنت تركيا جبهة النصرة منظمة ارهابية. لكن قد يكون الأوان قد فات. فقد حققت الجماعات الاسلامية بالفعل معرفة وافية بالحدود التركية التي يسهل عليها اختراقها، وسوف يتطلب احتواء خطرها تكلفة كبيرة بالنسبة لتركيا.

الإيرانيون، المتحالفون مع بشار الأسد، سمحوا من جهتهم لداعش بالتجول بحرية في شرق سوريا كوسيلة للضغط على الغرب، ومن أجل استخدامها كفزاعة ضد المواطنين السوريين. لكن الآن كل المنطقة التي كانوا يطالبون بها قد تزعزعت، وأغلقت طرق الإمداد الإيراني إلى سوريا ولبنان، مما يجبرهم على اتخاذ تدابير أكثر صعوبة وكلفة ومكلفة لدعم حلفائهم في لبنان وسوريا. إن الوضع يهدد بتوريطهم في الحرب الأهلية، والتي يمكن أن تستمر لسنوات.

ليست داعش بالتالي سوى نتيجة لمناورات مختلف القوى الفاعلة في اللعبة. إنهم يذرفون دموع التماسيح اليوم، لكنهم استخدموا بكلبية النزعات الطائفية لخدمة مصالحهم الضيقة. لقد خلقوا وحشا يهدد الآن بزعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها. والآن يتراجعون جميعا الى الوراء وينظرون إلى بعضهم البعض دون أن يعرفوا ما الذي يجب عليهم القيام به.

هناك ضغوط متزايدة على الولايات المتحدة للتدخل عسكريا مرة أخرى، وهو آخر ما يريد أوباما أن يقوم به. ليست هناك شهية لواشنطن وقبل كل شيء للرأي العام الأمريكي في الدخول في مغامرة مكلفة أخرى. سيرفع الجمهوريون بطبيعة الحال أصواتهم للمطالبة بعمل عسكري، لكن واقعيا ستحاول الإدارة الحد من مشاركتها قدر الإمكان.

الضوء الآن مسلط على الإيرانيين، القوة الصاعدة الجديدة في المنطقة. وقد ذكرت التقارير أنه قد تم بالفعل حشد الحرس الثوري الإيراني وتم تجميع القوات على الحدود مع العراق. وهناك مزاعم بأن الإيرانيين سوف يتحركون بقوات برية إلى جانب ضربات جوية أمريكية وهجمات للطائرات بدون طيار. هذا استمرار لانفراج السنوات الماضية بين الولايات المتحدة والإيرانيين.

لقد أغضبت الولايات المتحدة حلفائها في المملكة السعودية وقطر، ناهيك عن إسرائيل، بسبب تذبذبها المستمر. بينما اضطرت الولايات المتحدة إلى الاعتماد بشكل متزايد على إيران، والتي منذ زوال العراق أصبحت القوة الإقليمية المهيمنة. وليست الصفقة التي يجري التفاوض حولها مع إيران سوى اعتراف بالأمر الواقع.

قد يتوجب على الإيرانيين اتخاذ خطوة من أجل الدفاع عن مصالحهم، لكنهم مع ذلك مترددون من الدخول في نفس الرمال المتحركة التي حاصرت الأمريكيين لعقد من الزمن وكلفتهم تريليون دولار. من الواضح أنه لا توجد قوة في الشرق الأوسط يمكنها السيطرة على غرب العراق ضد إرادة سكانه. والسنة العراقيون لن يرحبوا بالتأكيد بالقوى الشيعية القادمة من إيران. ومن شأن الهجوم العسكري الايراني والأمريكي في العراق أن يزيد فقط في تعميق الأزمة.

أعطت الحكومة التركية الضوء الأخضر لجيشها للقيام بعمليات عبر الحدود بمبرر إنقاذ الرهائن الأتراك. ومع ذلك، فلا تركيا ولا السعودية يمكنهما أن يتدخلا بشكل حاسم دون التسبب في فوضى أكبر. في الواقع لن يؤدي أي تدخل معادي سوى إلى تقوية داعش. لقد كانت داعش ضعيفة من الناحية عسكريا طوال فترة وجودها، لكن هجمات زمرة المالكي الوحشية ضد السكان السنة هي التي دفعت بهؤلاء إلى دعمها.

من غير الواضح ما الذي سيحدث الآن. ما هو واضح هو أن الدفعة المعنوية والمالية التي تلقتها داعش سوف تقويها في الفترة المقبلة، وستسمح لها بتعزيز قواتها. إنها تقترب الآن من بغداد من جهة الشمال ، لكن من المرجح أن تواجه مقاومة أكثر حماسا كلما اقتربت من العاصمة. من الممكن أنها ستحاول مهاجمة الحكومة المركزية وزعزعتها، وبعد ذلك سوف تتراجع وتعزز مواقعها بعيدا عن العاصمة.

وفي جميع الحالات لقد تسارعت عملية تفكك العراق كوطن بشكل كبير. المناطق القبلية في الغرب ستكون خارج سيطرة الحكومة المركزية وأي اتفاق معها سيكون مؤقتا فقط. وسوف تتصرف المناطق الكردية أكثر وأكثر كبلد مستقل.

سيؤدي التقسيم الطائفي للبلد إلى حدوث عمليات تصفية ومذابح وهجمات إرهابية وحرب استنزاف دموية بين الجماعات العرقية المختلفة التي تشكل الشعب العراقي والتي عاشت لقرون في سلام جنبا إلى جنب. إن البلد الذي كان مهد الحضارة يغرق في البربرية. هذه نتيجة المناورات الكلبية للامبرياليين الذين استغلوا دائما الاختلافات العرقية لخدمة مصالحهم وجشعهم.

وبسبب عدم وجود حركة عمالية مستقلة لمحاربتهم ومحاربة نظامهم الفاسد، تمكنوا من الحصول على موطئ قدم لهم داخل البلاد من خلال الاستناد على العناصر الأكثر رجعية. وبالتالي فإن حل الأزمة في العراق اليوم، تماما مثل سوريا، سيبقى موجودا لفترة كاملة خارج حدوده. يمكن للحركة الثورية في البلدان المجاورة، والتي يجب أن تلعب الطبقة العاملة فيها دورا حاسما، أن تغير الوضع في العراق.

لقد أظهرت الثورة العربية احتمال حدوث انتفاضة إقليمية للشعوب في هذه المنطقة. في مصر رأينا تحرك ملايين المحتجين وإسقاط نظام مبارك ثم نظام مرسي. وفي تركيا شاهدنا التعبئة الجماهيرية في العام الماضي، ومؤخرا الاحتجاجات الحاشدة على وفاة عمال المناجم في سوما. وفي إيران قدمت الحركة الثورية التي اندلعت عام 2009 صورة لما هو آت في المستقبل. بل حتى في المملكة السعودية هناك دوي لمعارضة جماهيرية.

في العراق، وكذلك في سوريا وليبيا، نرى كيف يمكن للردة الرجعية أن ترفع رأسها القبيح. إن الجماهير لا تريد وصول القوى الأصولية الإسلامية الرجعية إلى السلطة. فقط الفشل الذريع للرأسمالية في تقديم حل للمشاكل الملحة التي يعانيها الشعب الكادح، هو الذي فتح المجال لتلك العناصر لكسب قاعدة الدعم.

الطبقة الوحيدة التي يمكنها أن تقدم حلا للأزمة وتقدم الحلول الحقيقية في الشرق الأوسط هي الطبقة العاملة. كل البرجوازيات القومية في المنطقة على اختلاف أشكالها فاسدة حتى النخاع. لا بد من الإطاحة بها. إن تعفن الرأسمالية والإمبريالية في العراق هو سبب المأزق الحالي. ليس لديهم ما يقدمونه سوى الهمجية المطلقة. فقط عن طريق إسقاطهم وكنس نظامهم الفاسد من الجذور وإلى الأبد، سيمكن تأمين حياة متحضرة لصالح الأغلبية.

نيكلاس ألبين سفينسون وحميد علي زاده
الجمعة: 13 يونيو 2014

عنوان النص بالإنجليزية:

Civil war and black reaction in Iraq: a Frankenstein’s monster of imperialism raises its head

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *