الرئيسية / التيار الماركسي الأممي / بيانات ومنظورات / منظورات عالمية: 2018 عام الأزمة الرأسمالية

منظورات عالمية: 2018 عام الأزمة الرأسمالية

التيار الماركسي الأممي

نقدم فيما يلي، المنظورات العالمية لعام 2018، والتي تمثل تحليلنا، نحن التيار الماركسي الأممي، للوضع العالمي الحالي، وتوقعاتنا لاتجاهات تطوره. ستتم مناقشة هذه الوثيقة ووضعها في صيغتها النهائية خلال المؤتمر العالمي للتيار الماركسي الأممي، الذي سينعقد في صيف هذا العام في مدينة تورينو الإيطالية. كانت المسودة قد كتبت في الأشهر القليلة الأولى من هذا العام، وعلى الرغم من أن بعض الأحداث التي تم وصفها قد تطورت منذ ذلك الحين، فإن تلك التطورات لا تعمل سوى على تأكيد دقة تحليلنا العام للوضع العالمي.

بعد عشر سنوات على اندلاع الأزمة

لقد مرت عشر سنوات منذ الانهيار المالي في عام 2008. كانت تلك واحدة من اللحظات الحاسمة في تاريخ العالم، التي تمثل تغييرا جوهريا في الوضع، مثل سنوات 1914 و1917 و1929 و1939- 1945. ومن ثم فإن هذه اللحظة مناسبة للقيام بتقييم للعقد الماضي.

كانت تلك الأزمة مختلفة اختلافا نوعيا عن أي أزمة أخرى في الماضي. لم تكن أزمة دورية عادية، بل انعكاسا للأزمة البنيوية للرأسمالية. وبعد مرور عقد على انهيار عام 2008، ما زالت البرجوازية تناضل لتخليص نفسها من الأزمة التي دمرت توازن النظام الرأسمالي. وليس الانتعاش الحالي، إن صح الحديث أصلا عن أي انتعاش، إلا انتعاشا هزيلا جدا. إنه، في الواقع، أضعف انتعاش اقتصادي في تاريخ الرأسمالية، فحتى في ثلاثينيات القرن العشرين كان هناك انتعاش أكبر. وهو الواقع الذي تترتب عنه أشياء معينة.

توقعنا قبل عشر سنوات أن جميع محاولات البرجوازية لاستعادة التوازن الاقتصادي ستدمر التوازن السياسي والاجتماعي. وقد تأكد ذلك الآن من خلال الأحداث التي نشهدها على المستوى العالمي. في جميع البلدان، الواحد منها تلو الآخر، أدت محاولات الحكومات فرض التقشف، في محاولة يائسة لتحريك الاقتصاد (وهو ما فشلوا في تحقيقه)، إلى اندلاع انفجارات اجتماعية ذات طابع غير مسبوق.

“الاقتصاد المكثف”

قال لينين إن السياسة هي تكثيف للاقتصاد. وليست كل هذه الأزمات، في آخر المطاف، سوى تعبير عن مأزق الرأسمالية التي لم تعد قادرة على تطوير القوى الإنتاجية كما في الماضي.

هذا لا يعني، بالطبع، أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تطور للقوى الإنتاجية. لم يقل لا ماركس ولا لينين ولا تروتسكي أبدا إن هناك سقفا مطلقا لتطور القوى الإنتاجية في ظل الرأسمالية. إنها ظاهرة نسبية وليست مطلقة. ستكون هناك دائما إمكانية لبعض التطور، كما شهدنا في الصين خلال الفترة الماضية. لكن على الصعيد العالمي لا يوجد أي شيء مشابه لتطور القوى المنتجة الذي تحقق في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الثانية.

تشرح الماركسية أن سر صلاحية أي نظام اقتصادي هو قدرته على تحقيق أقصى قدر من الاقتصاد في وقت العمل. لقد كان أحد أهم عناصر تطور الرأسمالية هو بالضبط نمو إنتاجية العمل. فعلى مدار 200 عام الماضية رفعت الرأسمالية إنتاجية قوة العمل البشري إلى مستويات لم يكن من الممكن تخيلها في الماضي. لكن هذا التقدم يصل الآن إلى حدوده.

وجدت دراسة عن الإنتاجية، قام بها مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية، في شتنبر 2015 أنه بين عامي 2007 و2012، نمت الإنتاجية العالمية بمعدل سنوي قدره 0,5%، أي نصف ما كان عليه الحال في الفترة ما بين 1996 و2006. لكن في الفترة الأخيرة الممتدة من عام 2012 إلى 2014، توقف بشكل كامل عند نقطة صفر في المائة. كما أن النمو في بلدان مثل البرازيل والمكسيك كان سلبيا في الواقع. ويقول التقرير إن: «هذه واحدة من أكثر الظواهر إثارة للقلق والتي تؤثر، بدون شك، على الاقتصاد العالمي.»

هذه الأرقام إشارة مؤكدة إلى أن الرأسمالية تغرق الآن في خضم أزمة دائمة. إن النمو البطيء في إنتاجية العمل (بل وتراجعه في بعض الحالات) مظهر لافت للنظر لأزمة الرأسمالية، التي لم تعد قادرة على تحقيق النجاحات الكبيرة التي كانت تحققها في الماضي.

يكمن جوهر المشكلة في مستويات الاستثمار المنخفضة تاريخيا: حيث انخفض إجمالي تكوين الرأسمال في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى أقل من 20% من الناتج المحلي الإجمالي وذلك للمرة الأولى منذ الستينيات، في حين أن استهلاك رأس المال وانخفاض قيمته آخذان في التفاقم. في العالم الاستعماري السابق، أثارت الطفرة في أسعار المواد الخام زيادة سريعة في الاستثمار، لكنها تراجعت مرة أخرى على مدى السنوات القليلة الماضية.

تراجع الاستثمار في الإنتاج هذا ليس نتيجة لنقص المال، بل على العكس فإن الشركات العملاقة تسبح في الأموال. صرح آدم دافيدسون، في صحيفة نيويورك تايمز في يناير 2016، أن «الشركات الأمريكية تمتلك حاليا 1,9 تريليون دولار من الأموال الخاملة»… وهي الحالة التي «لم يسبق لها مثيل في التاريخ الاقتصادي…». يعتبر مؤلف المقالة هذه المسألة “لغزا”، لكن ما تظهره هو أن الرأسماليين لا يمتلكون حقول استثمار مربحة في ظل الحالة الراهنة للاقتصاد العالمي .

وتحدد أحدث البيانات الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن حجم الأصول السائلة “للشركات غير المالية”، والتي تشمل العملة الصعبة والودائع الأجنبية وأسهم الصناديق المشتركة، سجلت “سعرا قياسيا يبلغ 2,4 تريليون دولار في الربع الثالث” من عام 2017.

إن النظام يغرق بشكل حرفي في بحر من الثروات. ومثل ذلك الساحر الذي استحضر قوى لا يستطيع السيطرة عليها، تمتلك القوى المنتجة القدرة على إنتاج كميات من السلع لا يمكن أن للأسواق امتصاصها.

إن هذا العجز عن توظيف تلك الكميات الضخمة من فائض القيمة المستخرجة من عرق ودم العمال، هو دليل الإدانة النهائية للرأسمالية. وينعكس فائض الإنتاج على شكل أزمة عامة للاقتصاد العالمي الذي هو في حالة هشة للغاية. لم تعد القروض الرخيصة تساعد على تحفيز الاستثمار، إذ ما الفائدة من الاستثمار لخلق قوى منتجة جديدة في حين لا توجد أسواق لتصريف الإنتاج الحالي؟

انتعاش جديد؟

في كل يوم تعلن الصحافة عن وجود انتعاش. لكن ما يوجد، في أفضل الأحوال، هو ارتفاع طفيف في الناتج المحلي الإجمالي في سياق عام للركود على المدى الطويل. بالنسبة للماركسيين ليست هناك مفاجأة في هذا؛ فحتى خلال فترات التراجع يستمر النظام في التحرك في دورات، وبعد فترة طويلة من التراجع أو الركود، يصير من المتوقع حدوث انتعاش صغير. ومع ذلك فإنه ضعيف لدرجة أنه لا يعتبر انتعاشا ولا يمكنه أن يستمر.

يأتي هذا النمو المحدود على خلفية سياسة نقدية متساهلة للغاية. فقد أبقى الاحتياطي الفدرالي معدل الفائدة عند مستوى يقارب الصفر من خريف عام 2008 حتى بداية عام 2017. كما خفض البنك المركزي الأوروبي بدوره سعر الفائدة إلى ما فوق الصفر بقليل.

توجد فقاعات عقارية في أسواق الإسكان في بريطانيا وكندا والصين والبلدان الاسكندنافية. أسواق الأوراق المالية لم تسترد فقط انتعاشها بل تجاوزت معدلات عام 2007. وقد نجح مؤشر داو جونز ليس فقط في الارتفاع، بل زاد من قيمته بنسبة 36%. ووصلت نسبة السعر إلى الأرباح (أي السعر الذي يدفعه المستثمر مقابل كل دولار من أرباح الشركة أو مداخيلها) إلى ثالث أعلى مستوى لها في التاريخ (المرتان السابقتان في 1929 و2000). إلا أن كل هذا ليس مؤشرا على انتعاش صحي، بل عن أزمة أخرى في طريقها نحو السطح. كما أنها تؤدي إلى تحويل مبالغ ضخمة من المال إلى أرصدة الطبقة الرأسمالية، التي زادت قيمة أصولها مع تدفق القروض الجديدة.

حدود القروض

يرجع السبب وراء المأزق الحالي إلى أن الرأسمالية، خلال العقود التي سبقت عام 2008، لم تكن قد وصلت إلى حدودها “الطبيعية” فقط، بل كانت قد تجاوزتها. إن الاتساع غير المسبوق للقروض والائتمان هو من جهة ما مّكن الرأسمالية من التغلب على الحدود التي يفرضها السوق وفائض الإنتاج، ومن جهة أخرى كان هناك التوسع الهائل في التجارة العالمية وتكثيف التقسيم الدولي للعمل.

سبق لماركس أن أوضح أن إحدى الطرق التي تلتف بها الرأسمالية حول حدود السوق وميل معدل الربح إلى الانخفاض هي التوسع الهائل للقروض وتزايد التجارة العالمية (“العولمة”)، الشيء الذي مكنها جزئيا ولفترة محدودة (عقود قليلة) من التغلب على التناقض الرئيسي الآخر الذي هو: قيود الدولة القومية. لكن كلا هذين الحلين لهما تأثيرات محدودة وقد انقلبا الآن إلى عكسهما.

تاريخيا كان للولايات المتحدة مجموع قيمة ديون (حكومية وخاصة) تبلغ ما بين 100 و180% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن في أواخر الثمانينيات بلغ الدين الإجمالي 200%، واستمر في النمو حتى عام 2009، حين بلغ حوالي 300%. كما أن لكل من اليابان وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وكوريا الجنوبية مستويات ديون تزيد عن 300% من الناتج المحلي الإجمالي. ويبلغ الدين العالمي الآن 217 تريليون دولار أمريكي أي 327% من الناتج العالمي الإجمالي، وهو المعدل الأعلى في التاريخ.

سبق لماركس أن أشار في البيان الشيوعي إلى أن البرجوازية لا تحل أزمات اليوم إلا من خلال تمهيد الطريق أمام اندلاع أزمات أكبر في المستقبل. ما الذي حققوه خلال العقد الماضي بكل الآلام والتقشف والمعاناة التي تسببوا فيها؟

كان هدفهم هو الحد من العجز وتقليص جبل الديون الهائل الذي لم يسبق له مثيل والذي تم بناؤه خلال الفترة السابقة. لكن كل ما فعلوه هو تحويل الثقب الأسود الضخم في البنوك الخاصة إلى ثقب أسود ضخم في المالية العامة. كانت البنوك تقف على حافة الانهيار، ولم يتم إنقاذها إلا بتدخل الدولة، التي أنقذتها من خلال منحها تريليونات الدولارات من المال العام. لكن المشكلة هي أن الدولة لا تملك أي أموال باستثناء ما تستطيع اعتصاره من دافعي الضرائب.

والسؤال بالتالي هو: من سيدفع الفاتورة؟ من المعروف أن الأغنياء لا يدفعون ضرائب كثيرة، فلديهم ألف وسيلة لتجنب هذه الضرورة المؤلمة. وبالتالي فإنه على الطبقة العاملة أن تدفع، وعلى الطبقة المتوسطة أن تدفع، وعلى العاطلين عن العمل أن يدفعوا، وعلى المرضى أن يدفعوا، وعلى المدارس أن تدفع. يجب على الجميع أن يدفعوا ما عدا الأغنياء الذين أصبحوا أكثر غنى حتى خلال مرحلة “التقشف” الحالية.

هل أعطى كل هذا أي حل؟ تعاني سبعة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم من عجز حكومي سنوي يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وحدها ألمانيا من تعاني من عجز بنسبة أقل من 2%. قيمة الديون ترتفع في كل مكان. ولا توجد أية طريقة للخروج من الأزمة ما لم يتم التخلص من هذه الديون بطريقة أو بأخرى. كيف يمكن التخلص من الدين العمومي؟ يتم ذلك بطبيعة الحال من خلال وضع العبء بأكمله على أكتاف أفقر فئات المجتمع وأكثرها هشاشة.

إن السيناريو الذي نشهده على المستوى العالمي غير مسبوق حقا. ونحن نتحدث هنا فقط عن البلدان الرأسمالية المتقدمة، أما الوضع في ما يسمى بالعالم الثالث فهو مسألة أخرى، حيث يفرض البؤس البشع والمعاناة التي لا يمكن تصورها، والتجويع والانحطاط على ملايير الرجال والنساء والأطفال.

تهديد الحمائية

نمت التجارة العالمية، على مدى عقود، بشكل أسرع من نمو الإنتاج، مما وفر القوة المحركة لنمو الاقتصاد العالمي. لكن خلال الفترة الأخيرة تباطأ نمو التجارة العالمية إلى مستوى أدنى من الناتج الإجمالي. بلغت نسبة التجارة العالمية من الناتج الإجمالي ذروة 61% مرتين، المرة الأولى عام 2008 والثانية عام 2011، لكنها الآن انخفضت إلى 58%.

أعربت منظمة التجارة العالمية عن قلقها من احتمال لجوء الحكومات الوطنية إلى الدفاع عن أسواقها الخاصة باتخاذ إجراءات حمائية، وهو ما من شأنه أن يؤثر سلبا على نمو التجارة العالمية. وكأنما لتأكيد هذه المخاوف فقد اقتحم دونالد ترامب المشهد مثل فيل هائج داخل متجر للخزف الصيني. إن سياسته “أمريكا أولاً” هي بحد ذاتها انعكاس للأزمة العالمية. إنه يرغب في “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى” على حساب بقية العالم. وهذا يعني أنه يرغب في استخدام القوة الأمريكية للاستيلاء على حصة متزايدة من الأسواق العالمية.

خلال السنوات القليلة الماضية كان الرأسماليون الأمريكيون يكافحون من أجل عقد عدد من الصفقات التجارية مع أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا. لكن أول شيء قام به ترامب هو تمزيق اتفاقية الشراكة عبر الهادي (TPP) واتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار (TTIP). كما أنه يهدد بتمزيق اتفاق أمريكا الشمالية للتبادل الحر (NAFTA) إذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق تضحي فيه كل من المكسيك وكندا بمصالحهما لأجل الولايات المتحدة الأمريكية ويهدد بشل منظمة التجارة العالمية من خلال منع استبدال القضاة في محاكمها.

لدى الصين فائض تجاري ضخم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو رقم قياسي بلغ 275,81 مليار دولار عام 2017، وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل ترامب يشكو من أن الصين تضر بالاقتصاد الأمريكي. خلال الحملة الانتخابية اتهم ترامب الصين بـ “اغتصاب أمريكا” وسرقة الوظائف الأمريكية، إلخ. لكنه بعد ذلك اضطر لتلطيف لهجته أملاً في إقناع الصين بالضغط على كوريا الشمالية. لكن هذا الهدف لم يتحقق وما تزال التناقضات بين أمريكا والصين بدون حل. يحبل الوضع بالفعل باحتمال حرب تجارية مستقبلية بين أمريكا والصين.

إنه ليس الوحيد الذي يتبع هذه السياسة، فمنذ بداية الأزمة اتخذت البلدان الرأسمالية المتقدمة إجراءات لزيادة فوائضها التجارية. وقد تم ذلك جزئيا من خلال تطبيق عدد من الإجراءات الحمائية. كانت الولايات المتحدة (تحت قيادة أوباما) قد صارت رائدة على مستوى العالم في مجال الحمائية، لكن حتى المملكة المتحدة وإسبانيا وألمانيا وفرنسا صاروا أكثر حمائية من الصين.

يجب أن نتذكر أن الحمائية كانت هي السبب الذي أدى إلى تحويل انهيار عام 1929 إلى ذلك الكساد العظيم الذي شهده عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. تطبيق السياسات الحمائية يمكنه أن يتسبب في انهيار الهيكل الهش للتجارة العالمية، مع ما سيترتب عن ذلك من عواقب وخيمة.

الولايات المتحدة الأمريكية: أزمة غير مسبوقة

يظهر الضعف النسبي للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية في حقيقة أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كان يتم إنتاجه في الولايات المتحدة، في حين صار الرقم اليوم هو حوالي 20%. عندما نشير إلى الضعف النسبي للإمبريالية الأمريكية، لا ينبغي لنا أن نبالغ في هذه السيرورة. نعني بحديثنا عن ترجعها النسبي، أنها ضعفت ولا يمكن لها أن تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه في الماضي، كما نرى ذلك في الأزمة السورية. لكن الولايات المتحدة ما تزال القوة المسيطرة على الصعيد العالمي ولا توجد قوة أخرى في وضع يمكنها أن تحل محلها، مثلما حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا في الماضي، على سبيل المثال.

لقد أثر هذا التراجع النسبي على كل من قدرتها على السيطرة على العالم اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا، وقدرتها على أن توفر للعمال الأمريكيين مستوى المعيشة الذي كان وراء الاستقرار الداخلي النسبي في الماضي. وقد بدأت هذه الحقيقة الآن تتسرب إلى وعي الجماهير الأمريكية.

الحلم الأميركي انتهى، وقد تم استبداله بالكابوس الأمريكي. الحلم انتهى وليست هناك طريقة لاسترداده. وقد عبّر التغيير في الوعي في أمريكا عن نفسه بطريقة غريبة خلال الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2016.

على مدى مائة عام قام استقرار الرأسمالية الأمريكية على حزبين: الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري. وقد تناوب هذان الحزبان على الحكم طوال هذا الوقت.

هناك استياء كبير ورغبة ملحة في التغيير. رأينا ذلك عند التصويت لأوباما، الذي كان قد قدم بشكل ديماغوجي وعودا بالتغيير. كان ملايين الناس، الذين لا يصوتون عادة، يقفون في صفوف لأجل التصويت لرئيس أمريكي أسود. لقد فعلوا ذلك مرتين، لكن في النهاية لم يكن هناك أي تغيير. وبالتالي فقد اندلعت حالة من الغضب والمرارة والإحباط، خاصة بين الفئات الأكثر فقرا.

تم التعبير عن هذا المزاج بوضوح في حملة بيرني ساندرز. في البداية كان بيرني ساندرز بالكاد معروفا من عند قلة من الناس، بينما كان الجميع يعرف هيلاري كلينتون. لكنه عندما تحدث عن ضرورة ثورة سياسية ضد طبقة أصحاب الملايير، دق خطابه ذاك وترا حساسا عند العديد من الناس، وخاصة الشباب (لكن ليس الشباب فقط). كانت هناك اجتماعات جماهيرية من عشرات الآلاف لدعم بيرني ساندرز. وقالت دراسة، واحدة على الأقل، أنه لو كان ساندرز هو من وقف ضد ترامب لكان من الممكن أن يفوز. لكنه تعرض للمناورة من قبل آلة الحزب الديمقراطي. والأسوأ من ذلك هو أنه قبلها، الشيء الذي تسبب في نوع من الإحباط بين مؤيديه.

تحب الطبقة الحاكمة أن يكون لديها أناس يمكنها التحكم فيهم، تحب أناسا مثل هيلاري كلينتون. لم يرغب الرأسماليون في دونالد ترامب وما زالوا غير راغبين فيه، لأنه متمرد ويعاني من حالة متطرفة من جنون العظمة، وبالتالي من الصعب التحكم فيه. أما هيلاري كلينتون فهي عميلة للشركات الكبرى. يمثل ترامب نفس الطبقة لكن لديه أفكاره الخاصة لكيفية القيام بالعمل. وخلال الحملة الانتخابية خاطب العمال بشكل ديماغوجي. كانت تلك هي المرة الأولى، في التاريخ الحديث، التي يشير فيها مرشح رئاسي إلى الطبقة العاملة (مثلما فعل بيرني ساندرز كذلك). كان ذلك شيئا غير مسبوق. حتى الليبراليين اليساريين والقادة النقابيين كانوا يتحدثون دائما عن “الطبقة الوسطى”.

عمل النظام جاهدا لوقف ترامب، لكنه فشل. لقد وقفت الطبقة الحاكمة ضد هذا المتطفل الديماغوجي؛ كان الديمقراطيون ضده، بطبيعة الحال، وكذلك أغلبية الجمهوريين. كل وسائل الإعلام كانت ضده. بل إنه نجح في دفع “فوكس نيوز” ضده لبعض الوقت. وسائل الإعلام هي بلا شك أداة قوية في أيدي الطبقة الحاكمة، لكنه، مع ذلك، تمكن من الفوز.

كان ذلك زلزالا سياسيا، لكن كيف يمكن تفسيره؟ إن ترامب رجعي، لكنه في نفس الوقت ديماغوجي ماهر توجه بخطابه إلى الفقراء والعاطلين والعمال الغاضبين في حزام الصدأ [1]، مستنكرا الوضع ومنددا بامتيازات النظام القائم في واشنطن. وبهذه الطريقة تمكن من الالتقاء مع مزاج الغضب والاستياء العام.

وقد التقى بيرني ساندرز بنفس المزاج، لكنه تعرض للعرقلة، كما كان متوقعا، من قبل آلة الحزب الديمقراطي. وعندما استسلم ساندرز أخيرا ودعا إلى دعم هيلاري كلينتون، رأى الكثيرون في ترامب أنه “أهون الشرين”، فتمكن من الفوز في الانتخابات. كثير من الناس الذين كانوا سيصوتون لصالح ساندرز إما امتنعوا عن التصويت أو فكروا في أنه “إذا لم يكن ممكنا التصويت لصالح ساندرز، فسنصوت لصالح ترامب”.

تميزت حملة ترامب بحشد وتعبئة قسم من الناخبين كان خاملا في السابق، وتمكن من الحصول على عدد أصوات أكثر من أي مرشح جمهوري في التاريخ، رغم أنه فاز بنسبة أقل من تلك التي حققها المرشح الجمهوري، ميت رومني، في عام 2012. ومع ذلك فإن انتصاره قد فضح أيضا غياب الشفافية والطبيعة غير الديمقراطية للنظام الانتخابي الأمريكي، والذي خدم مصالحه على الرغم من أنه فاز بثلاثة ملايين صوت أقل من هيلاري كلينتون.

لم تكن الغالبية العظمى من البرجوازية راضية عن هذا التحول غير المتوقع في الأحداث. لكن قلقهم لم يكن بدون مبرر. لديهم ألف وسيلة للتحكم في أصعب السياسيين. وقد حاولوا في البداية أن يطمئنوا أنفسهم بفكرة أن ما قاله ترامب خلال الحملة الانتخابية هو مجرد دعاية، وأنه سيتصرف بعقلانية بمجرد دخوله البيت الأبيض (أي ما يعني أنه سيتلقى أوامره من الطبقة الحاكمة). لكنهم كانوا مخطئين، فقد أثبت الساكن الجديد في البيت الأبيض أنه صعب المراس.

لدى الديمقراطيين تفسير مبتذل جدا لسبب انتصار ترامب، إذ ألقوا باللوم على الروس، في حين أن هيلاري كلينتون ألقت باللوم على ساندرز أيضا. كل هذا يثبت أن الحزب الديمقراطي لم يفهم لحد يومنا هذا سبب فوز ترامب في الانتخابات. لقد شنوا حملة زعموا خلالها أن الروس مسؤولون عن عملية قرصنة كانت هي ما حدد نتيجة الانتخابات.

قد تكون مزاعم تورط روسيا في قرصنة المستندات صحيحة أو قد لا تكون. لكن العديد من الدول، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم باستمرار بالقرصنة والتنصت على الهاتف والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى -بما في ذلك “حلفاؤها”- كما اكتشفت ذلك أنجيلا ميركل. لكن القول بأن الكرملين قد حدد مصير أصوات ملايين المواطنين الأمريكيين هو ادعاء طفولي لأقصى الحدود.

إن الشيء الذي لم يسبق له مثيل هو أن يجد رئيس أمريكي نفسه في مواجهة علنية مفتوحة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) ووكالات الاستخبارات الأمريكية. من المفترض على الأجهزة السرية أن تبقى سرية، وهي في قلب الدولة البرجوازية. لكن أن تتصادم هذه الوكالات بشكل علني مع الرئيس، وأن تحاول بشكل صريح إضعافه وإسقاطه، فهذا شيء لم يسمع به من قبل. ووسط كل الضجة الناتجة عن الصراع نسي الجميع الآن ما كان متضمنا في الرسائل الإلكترونية المخترقة، ولم يهتم أحد بالسؤال عما إذا كانت محتوياتها صحيحة.

في الواقع كانت الاتهامات الواردة في المادة التي نشرها موقع ويكيليكس صحيحة تماما. ومن بين الأشياء الأخرى التي فضحتها أن جهاز الحزب الديمقراطي استعمل الحيل القذرة لعرقلة بيرني ساندرز وتأمين انتصار هيلاري كلينتون. لقد كان هذا بالتأكيد أكثر التدخلات في الانتخابات الأمريكية وقاحة. لكن في خضم كل الصراخ حول “التدخل الروسي”، تم نسيان ذلك بسهولة.

الثورات لا تبدأ من تحت؛ إنها تبدأ بالانشقاق داخل الطبقة الحاكمة. لدينا هنا انشقاق مفتوح في الدولة. ما نشهده ليس أزمة سياسية عادية، إنها أزمة النظام. إن أجهزة الاستخبارات لا تحب أن ينفضح تدخلها في السياسة، رغم أنها تقوم بذلك طوال الوقت. إنها حالة لا تصدق حيث يتم استعراض مكائد ومؤامرات مكتب التحقيقات الفيدرالي أمام المواطنين الأميركيين العاديين.

ليست للوضع السياسي الحالي في أمريكا سابقة في التاريخ. فالرئيس المنتخب هو في مواجهة مباشرة مع أغلبية أجهزة الدولة ووسائل الإعلام ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية وجميع الأجهزة السرية الأخرى، التي تستخدمها الطبقة الحاكمة للتخلص من ترامب أو إجباره على إطاعتها.

تطور الوعي

لقد ابتلع الكثير من اليساريين في أوروبا فكرة أن الشعب الأمريكي شعب رجعي ويميني ولن يدعم أبدا الاشتراكية. هذا غير صحيح على الاطلاق. كان هناك استطلاع للرأي تم إجراؤه حتى قبل انطلاق حملة ساندرز، طرح على شباب دون الثلاثين من العمر سؤال: “هل تصوتون لرئيس اشتراكي؟” فأجاب 69% منهم: “أجل” (انظر استطلاع (Gallup Poll

نفس الاستطلاع طرح نفس السؤال على أمريكيين يبلغون من العمر أكثر من 65 سنة فأجاب 34% منهم ‘فقط’: “أجل”. لكن هذه النتيجة أكثر تعبيرا، فبعد 100 عام من الدعاية الخبيثة ضد الاشتراكية والشيوعية، تبين هذه النتيجة تغييرا مذهلا في الوعي.

لا يقتصر هذا التغيير الذي حصل في الوعي على قاع المجتمع فقط، إذ أن دونالد ترامب يعكس بطريقة خاصة ورجعية ومشوهة غضب الملايين من أبناء الطبقة العاملة وغيرهم ضد الظروف القائمة والنظام الحالي، وضد ما يسميه المؤسسة. بالطبع لا يمكن للجماهير أن تتعلم إلا من خلال التجربة، وسوف تظهر التجربة -وقد بدأت تظهر- أن ذلك هراء، وبالتالي سيتم تحضير الساحة لاندلاع تحركات كبيرة خلال الفترة القادمة.

في الواقع لقد بدأ ذلك يحدث بالفعل، فمباشرة بعد انتخاب ترامب اندلعت مظاهرات حاشدة في كل المدن. وقد كانت مسيرة النساء أكبر احتجاج في يوم واحد شهدته الولايات المتحدة في تاريخها. كان في نهاية الأسبوع الذي نصب فيه، وكان ذلك فقط بداية ما سيأتي لاحقا.

السبب في كراهية الطبقة السائدة لترامب هو كونه وجه ضربة مدمرة للتوازن البائس الذي كان قائماً بين الديموقراطيين والجمهوريين. إن تقويض ذلك التوازن يمكنه أن يؤدي إلى عواقب خطيرة للغاية، كما رأينا خلال الإغلاق الحكومي الأخير. ويعكس انهيار ما يسمى بالوسط السياسي اتساع الهوة والاستقطاب الحاد بين الطبقات في المجتمع الأميركي، وهو ما ستترتب عنه أخطر الآثار في المستقبل.

يتحمل أوباما والديموقراطيون المسؤولية عن فوز دونالد ترامب. لكن ترامب نفسه يعمل على تعميق سيرورة التجذر الاجتماعي والسياسي، ويعبد الطريق لحدوث تحول أكبر في اتجاه اليسار. وفي إدانة خطيرة لنظام الحزبين، تظهر أحدث استطلاعات الرأي أن 61% من الأمريكيين يعارضون كلا من الديموقراطيين والجمهوريين ويعتقدون أن هناك حاجة إلى حزب كبير جديد. يصل الرقم بين الشباب إلى 71%. وقد أدى هذا الاستقطاب في الولايات المتحدة -في اتجاه اليمين واليسار- إلى النمو المفاجئ لحركة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، التي هي مجموعة يسارية كانت تاريخيا على هامش الحزب الديمقراطي.

قبل حملة ساندرز، كانت هذه المجموعة تضم حوالي 6000 عضو، معظمهم من كبار السن المتشبعين بتصوراتهم الإصلاحية. لكن منذ انتخاب ترامب تضاعف أعضاء الحركة إلى أكثر من 30.000 عضو، معظمهم من الشباب الباحثين عن منظمة اشتراكية. لقد تمكنوا من الوصول إلى كثير من المناطق التي لم يكن لهم فيها أي وجود في السابق، وصاروا يطورون قاعدة دعم لهم في العديد من الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة. هناك الآن جدل داخلي بينهم حول ما إذا كانوا سيقطعون تماما مع الحزب الديمقراطي. تتبنى بعض الفئات بينهم أفكارا راديكالية جدا وهي منفتحة بشكل كبير على الأفكار الماركسية الثورية. إن مستقبل هذه المنظمة لم يتحدد بعد، لكنهم إذا قطعوا مع الحزب الديمقراطي وتبنوا موقفا طبقيا مستقلا، سيكون في مقدورهم لعب دور مهم في خلق حزب اشتراكي جماهيري في الولايات المتحدة.

كندا وكيبيك

لم تتأثر كندا بشدة بأزمة عام 2008، لأن فقاعة العقار فيها كانت أقل وكان اقتصادها مدعوما بالصادرات إلى الصين المزدهرة. نتيجة لذلك لم تواجه كندا نفس درجة التقشف التي واجهتها بقية بلدان “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”. ومع ذلك، فإن العوامل التي أدت إلى الاستقرار بالأمس صارت تتحول إلى عوامل للاضطراب. فانخفاض معدلات الفائدة أدى إلى ارتفاع الديون وارتفاع هائل في تكلفة السكن. مديونية الأسر وصلت مستوى غير مسبوق، بما يساوي 171% من الدخل السنوي وما زالت في تصاعد. لم يعد الطلب الصيني يدفع أسعار النفط والمعادن إلى الارتفاع كما في السابق، في حين أن وعود ترامب الحمائية بوقف العمل باتفاقية التبادل الحر لأمريكا الشمالية (NAFTA) تهدد الصادرات الكندية. ومن شأن أي تراجع اقتصادي عالمي جديد أن يعجل بانفجار كل هذه التناقضات.

لكن كيبيك شهدت فترة من الصراع الطبقي المكثف، بدء بإضراب طلاب كيبيك سنة 2012. للأسف تراجعت الحركة، بسبب خليط من التطرف اليسراوي لقسم من القيادة الطلابية، والاستسلام الانتهازي من جانب البيروقراطية النقابية، لكن الفئات الكفاحية ما زالت موجودة وتبحث عن إجابات.

الحركة القومية الكيبيكية في أزمة، فقد انتقل الحزب الكيبيكي إلى اليمين وصار يتبنى مواقف قومية عنصرية. شارك الحزب الكيبيكي في الحكومة لسنوات عديدة، خلال السنوات الأربعين الماضية، وهو ما يفسر لماذا يعتبره الشباب جزء من النظام. يمكن لحزب سوليدير (Solidaire) القومي اليساري الكيبيكي أن يلعب دور مجمع لمشاعر الاستياء، لكن قيادته البرجوازية الصغيرة مرتبكة وترتكب أخطاء كثيرة. عادة عندما يركزون على القضايا الطبقية يحصلون على الدعم، لكنهم عندما يركزون على الاستقلال يصبحون متماهين مع الحزب الكيبيكي.

لا يوجد حماس لإجراء استفتاءات جديدة لأجل الاستقلال بين العمال والشباب الواعين طبقيا. وفي حين أنه لا ينبغي لنا أن نستبعد احتمال أن يعبر الغضب الطبقي للجماهير عن نفسه من خلال حراك لأجل الاستقلال القومي، فإن ذلك يبدو احتمالا غير متوقع على المدى القريب بالنسبة لكيبيك.

الصين

شهد الاقتصاد الصيني خلال الأربعين سنة الماضية تطورا هائلا لقوى الإنتاج. كان ذلك أحد الأشياء الرئيسية التي أنقذت الاقتصاد العالمي من حالة ركود عميق، وحافظت عليه طافيا طيلة ما بين 20 و30 سنة. لكن ذلك وصل الآن إلى حدوده. لقد انخفض معدل النمو في الصين وهو الآن أقل من 7%، وهو المعدل الذي يعتبر منخفضا جدا بالمعايير الصينية.

هناك العديد من التناقضات التي لم تحل في الاقتصاد الصيني. التصنيع الصيني يعتمد بشكل كبير على الصادرات، ومن أجل أن تحافظ الصين على معدل النمو يجب عليها أن تصدر إلى الخارج. فإذا لم تعد أوروبا وأمريكا تستهلكان، كما في السابق، فإن الصين لا يمكنها الإنتاج. وإذا لم تنتج الصين، فإن بلدانا أخرى، مثل البرازيل والأرجنتين وأستراليا، لا يمكنها أن تصدر موادها الخام. هكذا تعبر العولمة عن نفسها بكونها أزمة عالمية للنظام الرأسمالي.

عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية أحس حكام الصين بالقلق. ولكي يتمكنوا من تفادي تراكم الاضطرابات التي قد تهدد حكمهم، هم في حاجة إلى الحفاظ على معدل نمو سنوي يبلغ 8%، لذلك فإنهم لجأوا إلى تطبيق سياسات كينزية وأطلقوا خطة جديدة غير مسبوقة للاستثمارات العمومية في البنية التحتية. استخدموا النظام المصرفي العمومي لإطلاق أضخم سياسة للتيسير المالي في التاريخ، وقدموا قروضا منخفضة الفائدة. لكن ذلك يخلق تناقضات جديدة تهدد الاستقرار المستقبلي للصين والعالم بأسره.

نتيجة لذلك ارتفع الدين العمومي الصيني، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، منذ عام 2008، إلى 46,2%، على الرغم من أنه ما يزال منخفضا نسبيا مقارنة بما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك فإن الدين الإجمالي (ديون الدولة والأبناك وقطاع الأعمال والأسر) قد تضاعف بشكل كبير جدا وصار يهدد بأن يخرج عن نطاق السيطرة. ارتفع إجمالي الديون الصينية، من حيث القيمة المطلقة، من 06 تريليون دولار، عند انطلاق الأزمة المالية لعام 2008، إلى حوالي 28 تريليون دولار مع نهاية عام 2016. كما ارتفع إجمالي الدين، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، من 140% إلى ما يقرب من 260% في نفس الفترة. ولا شك أن الأرقام الرسمية تقلل من الوضع الحقيقي.

من المحتمل أن يكون إجمالي الدين الصيني أقرب إلى 300% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا التقدير لا يشمل القطاع غير المهيكل لقطاع الظل المصرفي (الذي يقدر بأنه يتراوح ما بين 30% و 80% من الناتج المحلي الإجمالي)، وهو ما اعتبره البنك الدولي، في تقريره، الصادر في أكتوبر عام 2017، عن اقتصاديات آسيا والمحيط الهادئ، أحد أكبر المخاطر على الازدهار الإقليمي.

لا شك أن قرار الحكومة بفتح أبواب الاقتراض على مصراعيها قد أنقذ الاقتصاد الصيني على المدى القريب، لكن ذلك أدى إلى تطور اقتصاد يعتمد على الاقتراض وأصيب بفقاعات الأصول المتضخمة. سيأتي الاختبار الحقيقي لذك عندما ستحاول بكين خفض هذا الاعتماد على الديون. يمكن لذلك أن يؤدي إلى انهيار مالي يخشى الاقتصاديون البرجوازيون الجادون أن يكون له تأثير مدمر على الاقتصاد العالمي. وفي العام الماضي حذر صندوق النقد الدولي من تردد بكين في كبح جماح هذه المستويات الخطيرة من الديون.

في هذا الوقت لا يبدو أن انهيار النظام المالي الصيني وشيك، لكن حتى انهيار عام 2008 بدوره لم يكن يبدو وشيكا… قبل وقوعه. صحيح أنه بفعل الوزن الذي يحتله القطاع العام، سيكون في مستطاع الحكومة الصينية أن تمارس رقابة أكبر على كل من المقرضين والمقترضين مما هو ممكن في اقتصاد السوق العادي. يمكنها أن تأمر البنوك العمومية بمواصلة إقراض الشركات التي تسجل خسائر أو توفير السيولة لصغار المقرضين الذين يعتمدون على القروض قصيرة الأجل. ابتداء من نهاية دجنبر 2017، سجلت الصين احتياطيات من العملات الأجنبية قدرها 3,14 تريليون دولار، والتي يمكن استخدامها “للطوارئ”، لكن حتى هذا لن ينقذهم إلى الأبد.

لقد سمح ذلك لبكين بتأخير المشكلات لفترة أطول. لكن تأخير المشكلة لا يعني أنه تم حلها، بل على العكس، كلما سمح للوضع الهش الحالي بأن يستمر مدة أطول، كلما كان انفجار الأزمة أكثر عنفا، عندما سيحدث، بالتأكيد، عاجلا أم آجلا. أدى تباطؤ الاقتصاد إلى زيادة كبيرة في معدلات البطالة التي تعمل الأرقام الرسمية على إخفائها، والتي لا تشمل ملايين المهاجرين الذين يأتون من الأرياف لأنهم لا يستطيعون العثور على عمل. سوف يؤثر ذلك على الوضع السياسي والاجتماعي.

من الصعب أن نعرف بدقة ما الذي يحدث في الصين، فالأخبار في دولة شمولية متحكم فيها بشكل صارم، لكنه كانت هناك اضرابات ومظاهرات واسعة النطاق: تضاعف عدد هذه “الحوادث” كل عام منذ 2011 إلى 2015، ولم يكن ذلك سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. لقد تمكن النظام من وقف موجة الإضرابات بممارسة الضغوط على الشركات التي لا تؤدي الأجور في وقتها، ومن خلال إطلاقه لمتابعات قضائية في الكثير من حالات الفساد لكي يظهر بمظهر من يقف “إلى جانب العمال”.

وراء الهدوء الظاهري هناك غضب هائل يتراكم. وسخط الجماهير تذكيه المظالم الكثيرة من قبيل الإجراءات التعسفية التي تنهجها البيروقراطية مع الفلاحين لسلب أراضيهم على يد الموظفين الفاسدين، وتدمير البيئة حيث تختنق بكين وغيرها من المدن في الغيوم السامة، وقبل كل شيء بسبب اللامساواة الرهيبة التي تفضح كذب الادعاءات القائلة بأن الصين بلد اشتراكي.

كان العمال الصينيون يتحملون هذا الوضع طالما كانوا يشعرون أن بعض الأشياء تتقدم وأن الوضع يتحسن. لكنهم بدأوا يرون أن الأمر لم يعد كذلك. يعتمد مصير الصين على مستقبل السوق العالمية. لقد استفادت الصين من مشاركتها في السوق العالمية، لكن التناقضات بدأت الآن تعود لتضربها. هناك وضع متفجر يتراكم ويمكن أن ينفجر على السطح دون أي تحذير.

العلاقات العالمية

الصراع مع كوريا الشمالية كشف بوضوح حدود قوة الإمبريالية الأمريكية. كان ترامب قد هدد بتدمير البلد كليا، لكن جميع تهديداته لم يكن لها تأثير في بيونغ يانغ، ما عدا ازدياد الخطابات العدوانية إضافة إلى القيام بعدد أكبر من التجارب النووية والصاروخية التي تحلق فوق اليابان، والتي يزعم كيم جونغ أون أنه يمكنها أن تصل الآن إلى أي منطقة في الولايات المتحدة.

كانت الولايات المتحدة تنوي إقامة قاعدة صواريخ في كوريا الجنوبية، وهو ما عارضته الصين بشدة، فاضطر ترامب إلى ابتلاع كلماته واستجداء دعم بكين للضغط على بيونغ يانغ. في الواقع، تمارس الصين بعض الضغط على نظام كوريا الشمالية بما يخدم مصلحتها، وكبحه لتجنب اندلاع مواجهة مفتوحة وخطيرة مع الولايات المتحدة. ليس هذا ما يريده ترامب، لكن هدف الصين الأساسي في كوريا الشمالية هو ألا تسمح بأي انهيار فوضوي للنظام.

لقد فضح كل هذا عجز الولايات المتحدة عن فعل أي شيء لحماية حلفائها. قال دوتير، رجل الفلبين “القوي” إن الولايات المتحدة تتحدث كثيرا لكنها لن تفعل أي شيء. كما أنه استخلص الدرس الضروري وربط الفلبين بركب الصين. كوريا الجنوبية بدورها أصبحت الآن أقرب إلى الصين دبلوماسيا، وذلك خاصة بسبب التوترات التاريخية التي لها مع اليابان.

كانت تايلاند عادة واحدة من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، لكن يقال إنها ستشتري غواصات من الصين، وأيضا تطوير التعاون مع الصين. لقد تم تعليق الصفقة بسبب الضغط الأمريكي، لكن يبدو أنها ستمضي قدما. كانت الولايات المتحدة قد أدانت انقلاب 2014 في تايلاند، بينما أشادت الصين به. كما أقامت فيتنام وماليزيا علاقات اقتصادية وثيقة مع الصين، رغم أن العلاقات بين الصين وفيتنام معقدة بسبب الصراعات الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بمزاعم الصين في بحر الصين الجنوبي.

الصين وأمريكا منخرطتان في صراع من أجل الأسواق والنفوذ. تعتبر العديد من البلدان الصين شريكها التجاري الأول، وتمتلك الصين اثنين من أهم الموانئ في العالم، كما يعد مشروع “حزام واحد طريق واحد” أكبر مشروع دبلوماسي ومالي منذ خطة مارشال.

وصلت التوترات بين القوتين أقصى درجاتها في منطقة بحر الصين الجنوبي ، حيث طورت الصين نسختها الخاصة لعقيدة مونرو، التي تعني ضرورة السيطرة على فنائها الخلفي. واشنطن تعارض مشروع “بناء الجزر” الصيني الاستفزازي، فقامت بأرسال سفنها الحربية لحماية ما تسميه “حرية البحار”.

قبل الحرب العالمية الثانية ، أدت التوترات بين الولايات المتحدة والصين بالفعل إلى نشوب حرب. لكن الصين التي تمتلك السلاح النووي اليوم لم تعد ذلك البلد الضعيف شبه المستعمر كما كانت في الماضي، وبالتالي لا يوجد أي احتمال لأن تقوم أمريكا اليوم بغزو الصين واستعبادها.

الشرق الأوسط

في الشرق الأوسط تظهر تناقضات الرأسمالية العالمية بشكل مركّز. إن أزمة الرأسمالية العالمية هي أيضا أزمة الإمبريالية الأمريكية. وعندما اقتحم الإمبرياليون الأمريكيون الجهلة العراق ودمروا البلد بأكمله، لم يدمروا حياة الملايين فحسب، بل إنهم بتدميرهم للجيش العراقي خربوا أيضا التوازن الهش الذي كان موجودا بين القوى في الشرق الأوسط. وكل الجرائم والفظائع التي حدثت لاحقا ليست، في نهاية المطاف، إلا نتيجة جريمة الإمبريالية الرهيبة تلك.

بعد القضاء على الجيش العراقي نما نفوذ إيران بسرعة على حساب الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، وخاصة المملكة العربية السعودية. وقد كان الصراع الدموي في سوريا، الذي هو في الواقع حرب بالوكالة بين عدة قوى أجنبية، محاولة لاستعادة الأرض المفقودة. كان الهدف منه عزل لبنان وإخراج سوريا من دائرة النفوذ الإيراني، لكن نفوذ إيران اليوم في سوريا ولبنان صار أقوى من أي وقت مضى.

في سوريا ظهرت حدود قوة الإمبريالية الأمريكية بشكل واضح جدا، فأقوى بلد على وجه الأرض غير قادر على التدخل عسكريا بطريقة حاسمة، وهو ما ترك فراغا استفادت منه إيران وروسيا. أدى التدخل الروسي إلى خلخلة موازين القوى بشكل حاسم لصالح الأسد. وكان سقوط حلب بمثابة نقطة تحول حاسمة وهزيمة مدمرة ومهينة، ليس فقط للولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا بالنسبة لحلفائها وخاصة المملكة العربية السعودية.

لقد تم إلحاق الهزيمة بداعش الآن في كل من سوريا والعراق. لكن المشكلة الجذرية لم يتم حلها. ماذا سيحدث الان؟ إن الأتراك يراقبون الرقة والموصل وحتى كركوك مثل الصقور، في انتظار الاستيلاء على ما يستطيعون. وزاد الإيرانيون من نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة، أمام قلق أمريكا والسعودية وإسرائيل. في غضون ذلك تشرذم العراق وسوريا وسيستمر الاضطراب فيهما خلال الفترة المقبلة.

يريد قسم من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة مواصلة الحرب، لكن هذه المحاولة محكوم عليها بالفشل. لقد تغلب عليهم بوتين في كل خطوة. وعندما دعا الروس إلى مؤتمر سلام في أستانا، بكازاخستان (التي هي دولة عميلة لروسيا)، لم يقوموا حتى بدعوة الأمريكيين والأوروبيين. وفي النهاية فعلى الرغم من كل الخطب التي ألقاها الأميركيون اضطروا لأن يقبلوا، على مضض، بالأمر الواقع الذي فرضته موسكو.

الحقيقة الواضحة هي أن الولايات المتحدة قد هُزمت في سوريا، الشيء الذي يعكس تحولا في ميزان القوى في المنطقة. ستكون لذلك عواقب بعيدة المدى، خاصة بين حلفاء واشنطن الذين فقدوا الثقة في الولايات المتحدة وصاروا يتبعون بشكل متزايد مساراتهم الخاصة ويبحثون عن مصالحهم. من المفترض أن تركيا حليفة للولايات المتحدة، وهي عضو أساسي في حلف الناتو، لكن الأتراك والولايات المتحدة صاروا، على نحو متزايد، يدعمون قوى متصارعة فيما بينها في سوريا.

في البداية راهنت الولايات المتحدة على المتمردين الجهاديين المدعومين من تركيا والسعودية، لكن ثبت لها أن ذلك بدون جدوى، واتضح لها مع صعود داعش، أنه لا يمكن الثقة فيهم للدفاع عن المصالح الأمريكية. لذلك اضطر البنتاغون للرهان بكل ثقله على قوات حماية الشعب الكوردية للقتال ضد داعش في شمال سوريا.

لكن ذلك طرح مشكلة. أردوغان لديه طموحات كبيرة في المنطقة. إنه يريد تشييد إمبراطورية على الطراز العثماني، لكن الكورد يمثلون عقبة مادية وسياسية بالنسبة له. إن اهتمامه الرئيسي الآن هو سحق الكورد في كل من تركيا وسوريا. وبعد هزيمته في سوريا، قرر أردوغان تغيير مساره، حيث تحالف مع إيران وروسيا من أجل كسب أوراق للمناورة مع الغرب.

في الواقع، من خلال تطهير روسيا وإيران لحلب وأماكن أخرى من المتمردين، الذين كانت تدعمهم الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، سمحا لتركيا بالاستيلاء على قسم من شمال سوريا لمنع القوات الكوردية من توسيع أراضيها هناك. لقد وجه هذا التعاون بين تركيا وروسيا وإيران ضربة قاصمة للأمريكيين والسعوديين، الذين تعرض عملاؤهم الجهاديون للسحق أو أجبروا على الالتزام باتفاق أستانة.

إن خطة ترامب لتقويض الاتفاق النووي الإيراني محاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لكن في الوقت الذي تتعرض فيه الولايات المتحدة لضغوط مستمرة من أجل سحب قواتها من الشرق الأوسط، فإن إيران تسيطر على مئات الآلاف من رجال الميليشيات الذين صقلتهم الحروب في العراق وسوريا ولبنان. وهو ما سيشكل العامل الحاسم في آخر المطاف. لقد نأى الأوروبيون بأنفسهم عن سياسة ترامب بشأن إيران، والتي تبين أنها أكثر ضررا على واشنطن مما هي على طهران التي تستمتع بمشهد الخلافات في الغرب.

المملكة العربية السعودية

لقد ضخت السعودية مليارات الدولارات في صناديق أكثر الجماعات رجعية في سوريا. لكنها انهزمت. الحرب السعودية على اليمن فشلت أيضا. فبعد قرابة ثلاث سنوات من القتال الوحشي الذي دمر البلاد كلها وترك الملايين يواجهون المجاعة، ما زال الحوثيون المدعومون من إيران يتمتعون بموقف قوي في مناطقهم، بينما تفكك التحالف السعودي. فالقوات الجهادية والقوات القومية الجنوبية اليمنية والقوات الإماراتية والقوات المدعومة من السعودية، جميعها تتبع أجندتها الخاصة. وهذه هزيمة أخرى ستزيد من تقويض أسس النظام السعودي الفاسد.

حاول السعوديون تأكيد هيمنتهم على قطر، من خلال مطالبتهم لها بقطع علاقاتها مع إيران وتركيا والتوافق مع السياسة الخارجية السعودية. لكن قطر عززت علاقاتها التجارية والعسكرية مع إيران وتركيا. لقد وسعت تركيا قاعدتها العسكرية في شبه الجزيرة – وهو تحذير جدي لآل سعود بألا يتقدموا أكثر. في البداية ألقى ترامب بكل ثقله وراء السعوديين إلى أن أخبره مستشاروه بأن الولايات المتحدة لديها قاعدة عسكرية مهمة جدا في قطر.

كان الملك السابق عبد الله رجعيا متطرفا، لكنه كان ماكرا وحذرا. أما النظام الجديد، بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، أبعد ما يكون عن الحذر. ومثله مثل مقامر خاسر، ها هو ينغمس بشكل محموم في رهانات محفوفة بالمخاطر لمواجهة قوة ونفوذ إيران المتزايد. لكن عوض أن تؤدي هذه الجهود إلى وقف سيرورة الانحطاط السعودي، فإنها تسرعها وتعطيها طابعا أكثر تشنجا.

لقد مددت الإمبريالية لعقود من الزمان حياة هذا النظام الرجعي بشكل مصطنع، وذلك بسبب الدور الخاص الذي لعبه باعتباره المورد الرئيسي للنفط للولايات المتحدة وكقاعدة رئيسية للثورة المضادة في العالم الإسلامي. ومع ارتفاع أسعار النفط كان في مقدور النظام الحفاظ على نفسه من خلال شراء القيادات القبلية والدينية الرجعية التي تشكل قاعدته.

لكن تلك العوامل بدأت تختفي اليوم. لقد أصبحت الولايات المتحدة قريبة من تحقيق الاكتفاء الذاتي في النفط وأدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى انخفاض أسعاره. لقد تراجع دور المملكة في العلاقات العالمية، وبالتالي بدأت مصالح المملكة العربية السعودية ومصالح الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة تتباعد. كما تعمل الأزمة على تقويض احتياطيات السعودية، مما يجبرها على تنفيذ سياسة التقشف للمرة الأولى في تاريخها. لم يعد بإمكانهم اليوم شراء الاستقرار الاجتماعي عن طريق رشوة السكان المحليين بإعانات سخية ووظائف مضمونة في القطاع العام.

سوف تتحد كل هذه العوامل، على المدى المتوسط، لتقويض استقرار النظام الذي يمكن أن يسقط في أية لحظة مثل تفاحة متعفنة. وأي نظام سيحل محله لن يكون موافقا لرغبات واشنطن. لقد صار النظام القديم، الذي أقامته الإمبريالية البريطانية والأمريكية في المنطقة، يتفكك تحت تأثير أزمة الإمبريالية الأمريكية.

وكما لو أن كل ذلك لم يكن أكثر من كاف، جاء قرار ترامب الغبي والوقح بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والموافقة على نقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب ليضيف عنصرا جديدا للوضع المضطرب والمتفجر في الشرق الأوسط، كما تسبب في خلق مزيد من الانقسامات بين الإمبرياليين الأوروبيين والأمريكيين. يخشى الأوربيون من عواقب ذلك على ما يسمى بمحادثات السلام، التي لا يأخذها أحد على محمل الجد على أي حال، بينما الأمريكيون، كالعادة، لا يفهمون أي شيء ولا يتوقعون أي شيء.

ومع ذلك يبدو من غير المعقول أن يكون ترامب قد اتخذ هذا القرار دون علم القادة السعوديين وموافقة ضمنية من جانبهم. إن السعوديين الآن متوافقون بشدة مع ترامب والإسرائيليين ومهتمون بشكل رئيسي بمواجهة إيران. لقد وافقوا على طعن الفلسطينيين في الظهر في حين استمروا في إصدار بعض الضجيج الضروري لخداع الجماهير العربية. وهذا سيثبت في النهاية أنه مسمار آخر في نعش النظام السعودي الفاسد الخبيث.

الثورة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

إن الثورة التي اجتاحت المنطقة، ما بين 2011 و2013، فشلت لأنها كانت تفتقر إلى قيادة ثورية. واليوم، تراجعت الحركة العامة، المتعبة والمرهقة، وتركت المجال مفتوحا أمام الردة الرجعية. إن صعود الرد الرجعية الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة مرتبط بانحسار مد الحركة الثورية.

ومع ذلك، تظهر أحداث عام 2017 في المغرب أن الثورة لم تمت. كانت الانتفاضة التي شهدتها منطقة الريف أكبر حركة يشهدها البلد منذ ثورة 2011 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كان السبب المباشر الذي أشعل الانتفاضة هو قتل الشرطة لبائع أسماك شاب بسحقه في شاحنة قمامة. وبمجرد أن انطلقت هذه الحركة الرائعة، تطورت بسرعة وكثافة لا تصدقان. ونشأت حركة تضامن وطنية من جانب الطبقة العاملة، ومختلف الفئات المضطهدة الأخرى، التي خرجت بمطالبها الخاصة، والتي لم تكن مطالب قومية ولا طائفية.

لقد كانت هذه الحركة بشيرا بالتطورات التي ستشهدها بقية المنطقة، حيث لا يوجد ولو نظام واحد مستقر. جميع الأنظمة في المنطقة ضعيفة وتكافح من أجل بقائها، ولا تستطيع حل أي من المشاكل التي تعيشها الجماهير والتي تتعرض بدورها لضغوط هائلة. سوف تعود الحركة، سواء عاجلا أم آجلا، إلى النهوض من نقطة أعلى.

حرب عالمية؟

تسببت الأزمة المتعلقة بالبرنامج النووي لكوريا الشمالية في الكثير من الكلام عن احتمال اندلاع حرب عالمية. لكن ذلك سابق لأوانه، على أقل تقدير. ففي ظل الظروف المعاصرة صار احتمال اندلاع حرب عالمية جد مستبعد بفعل ميزان القوى الطبقي على الصعيد العالمي. لا يقوم الإمبرياليون بالحرب لأسباب عشوائية. إن البرجوازية تلجأ إلى الحرب لغزو الأسواق ومناطق النفوذ، لكن الحرب عمل مكلف للغاية ومحفوف بالمخاطر، ومع الأسلحة النووية، تتضاعف المخاطر ألف مرة. هذا هو السبب في أن الولايات المتحدة، وهي القوة العسكرية الأبرز على الإطلاق، لم تتمكن من إعلان الحرب على كوريا الشمالية الصغيرة.

لا تملك روسيا القوة العسكرية التي تملكها أمريكا، إلا أنها رغم ذلك دولة قوية جدا من الناحية العسكرية. وهي أقوى عسكريا من الإمبريالية البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية، سواء من حيث الأسلحة التقليدية أو النووية. لم يستطع الغرب فعل أي شيء لمنعها من السيطرة على شبه جزيرة القرم (حيث غالبية السكان من الروس على كل حال)، كما لم يستطع فعل أي شيء لمنعها من التدخل لإنقاذ نظام الأسد في سوريا. تكشف هاتان الحالتان حدود قوة الإمبريالية الأمريكية.

في العام الماضي أرسل الناتو بضعة آلاف من الجنود إلى بولندا كتحذير لروسيا. كان ذلك مجرد مسرحية. فرد الروس بإجراء أكبر مناورات عسكرية مع روسيا البيضاء على حدود بولندا بالضبط. كان ذلك بمثابة تحذير بسيط لحلف الناتو. من الناحية العسكرية، ليست بريطانيا في أيامنا هذه شيئا يذكر، بالمقارنة مع روسيا، ومثلها في ذلك فرنسا، أما ألمانيا فهي لا شيء على الإطلاق.

يشكل ميزان القوى الطبقية العالمي حاجزا جديا أمام شن حرب كبرى. يجب أن نتذكر أنه قبل أن تندلع الحرب العالمية الثانية، كانت الطبقة العاملة قد تعرضت لسلسلة كاملة من الهزائم الساحقة في المجر وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا… أما الآن فإن قوات الطبقة العاملة سليمة. لم تتعرض الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة لأي هزائم خطيرة.

لقد تعب الشعب الأمريكي من المغامرات العسكرية. أحرقت الإمبريالية الأمريكية أصابعها بشكل خطير في العراق وأفغانستان، حيث خسروا كمية هائلة من الدماء والثروات دون تحقيق أي شيء. ونتيجة لذلك، لم يكن أوباما قادرا حتى على إصدار أمر بتدخل عسكري في سوريا. لقد حاول لكنه رأى أن ذلك من شأنه أن يثير انتفاضة شعبية واسعة، فاضطر إلى التراجع. نفس الشيء ينطبق على حكومة المحافظين برئاسة كاميرون في بريطانيا.

لا يمكن أن تكون هناك حرب عالمية، على الأقل في المستقبل المنظور، إلا إذا وصل إلى السلطة في الولايات المتحدة نظام شمولي على أساس هزيمة ساحقة للطبقة العاملة الأمريكية. سيكون ذلك تغيرا نوعيا في ميزان القوى. لكن هذا ليس الوضع في المستقبل القريب، بل على العكس من ذلك، سوف يستمر البندول لفترة طويلة في التأرجح إلى اليسار.

إن ترامب سياسي برجوازي رجعي، لكنه خلافا للمزاعم الديماغوجية لبعض اليساريين، ليس فاشيا ولا يقف على رأس دولة استبدادية مثل دولة هتلر. بل إنه، على العكس، لا يسيطر على الدولة إطلاقا: إنه في حالة حرب معها. إنه لا يملك حتى السيطرة الكاملة على الكونغرس، على الرغم من أن الكونغرس تحت هيمنة الحزب الجمهوري. إن سيطرته على السلطة، في الواقع، ضعيفة للغاية. إن الرجل القوي في البيت الأبيض يقف على أقدام من طين.

على الرغم من أن الحرب على شاكلة ما حدث في 1914- 1918 و1939- 1945، صارت مستبعدة في ظل الظروف الحالية، فإنه ستكون هناك طوال الوقت حروب صغيرة متواصلة، والتي ستكون، في ظل الظروف الحديثة، مخيفة بما فيه الكفاية. كانت الحرب في العراق حربا صغيرة، وكانت الحرب في سوريا حربا صغيرة. وقد أودت الحرب الأهلية في الكونغو بحياة ما لا يقل عن خمسة ملايين شخص، لكنها لم تظهر حتى على الصفحات الأولى للصحف. سوف نشهد مثل تلك الأحداث مرارا وتكرارا. وفي الوقت نفسه فإن انتشار الإرهاب يعني أن هذه الهمجية بدأت تصل إلى أوروبا “المتحضرة”. هذا ما كان يعنيه لينين عندما قال إن الرأسمالية هي الرعب بدون نهاية.

أمريكا وأوروبا

إن الذين يسيطرون حقا على الاتحاد الأوروبي هم أصحاب الأبناك والبيروقراطيون والرأسماليون، ولا سيما الطبقة الرأسمالية الألمانية. في البداية كان الاتحاد الأوروبي تحت سيطرة فرنسا وألمانيا، وكانت لدى البورجوازية الفرنسية طموحات كبيرة بأنها ستسيطر عليه سياسيا وعسكريا، بينما يمكن لألمانيا أن تهيمن عليه اقتصاديا. لم يستمر ذلك الطموح طويلا، إذ لا أحد يشك الآن في أن الطبقة السائدة في ألمانيا هي التي تسيطر على الاتحاد الأوروبي بشكل كامل.

نتيجة لذلك دخلت ألمانيا على الفور في صراع مع الساكن الجديد للبيت الأبيض. دونالد ترامب وأنجيلا ميركل ليسا على علاقة جيدة. والسبب في ذلك ليس راجعا لصفاتهما الشخصية، على الرغم من اختلافهما الشديد. إن السبب يوجد بالأحرى في الشعار الانتخابي للسيد ترامب: “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا”.

يحقق الرأسماليون الألمان، في الوقت الحالي، نجاحات كبيرة، بفائض تجاري ضخم، وصل في عام 2016 حوالي 270 مليار دولار: وهو رقم قياسي غير مسبوق على الإطلاق. ليس من الضروري أن يكون المرء حائزا على جائزة نوبل في الاقتصاد لكي يعرف أن فائض بلد ما هو عجز بلد آخر. حتى ترامب يمكنه أن يفهم ذلك، وهو غير سعيد على الإطلاق بهذا الرقم. وبما أن الدبلوماسية ليست نقطة قوته، فقد قال ذلك صراحة لميركل.

قال ترامب: «إذا لم يفعل الألمان شيئا حيال ذلك، فسوف أوقف استيراد السيارات الألمانية إلى الولايات المتحدة». هذا كلام خطير للغاية. وإذا استمر في هذا الطريق فإن هذه وصفة لإشعال حرب تجارية. سوف يرد الألمان على الفور، وسيحظرون بضائع أمريكية معينة. إن الحمائية هي تصدير البطالة. يقول ترامب إنه يريد المزيد من الوظائف في أمريكا للأمريكيين، وهو ما يعني وظائف أقل للألمان والصينيين وغيرهم. هذا هو السبب الجذري للعداء بين واشنطن وبرلين.

ذهب ترامب إلى بولندا، حيث استقبل بشكل حماسي. اختيار هذه الزيارة لم يكن أمرا عرضيا على الإطلاق. لقد توترت العلاقات بين بولندا وألمانيا لعدد من الأسباب، خاصة فيما يتعلق بمسألة فرض حصص استقبال اللاجئين. في الواقع إن خطوط الصدع في أوروبا تتسع طوال الوقت. والمشكلة مع أوروبا هي أن البلدان الأوروبية لم تعد تتوافق فيما بينها على أي شيء يذكر هذه الأيام. ولهذا السبب ذهب السيد ترامب إلى بولندا: لتعميق الشرخ بين ألمانيا وجارتها الشرقية.

كانت محطته التالية هي باريس، وهذا بدوره ليس صدفة. يريد ترامب دق إسفين بين فرنسا وألمانيا. وقد كان ماكرون، من جانبه، سعيدا لاستقباله من أجل تشجيع الأمريكيين على ممارسة الضغط على الألمان، الذين لديهم بالفعل ما يكفيهم من المشاكل بسبب مفاوضات بريكسيت (Brexit). وهذا ما يفسر حرص ترامب على التعبير عن تضامنه مع لندن، والإشارة إلى احتمال عقد صفقة تجارية مغرية معها، في وقت ما في المستقبل، وهو ما قد يتحقق، أو قد لا يتحقق حسب أكبر الاحتمالات.

أوروبا

إن الاقتصاديين البرجوازيين تجريبيون وانطباعيون. فهم يكتشفون نموا طفيفا في أوروبا: أكثر بقليل من واحد بالمائة (وأكثر من ذلك بقليل في ألمانيا)، فيعلنون بفرح أن أزمة اليورو قد تم حلها. لكن أزمة اليورو لم يتم حلها. في الواقع إن أزمة الرأسمالية الأوروبية ما زالت تتعمق. وعلى الرغم من التحسن الطفيف، فإن المشاكل الأساسية ما تزال موجودة.

ينشر الخبراء الاقتصاديون في صندوق النقد الدولي تقارير مفزعة حول حالة البنوك في أوروبا. لقد ضخ البنك المركزي الأوروبي المليارات، لكن نتيجة لذلك هو أنه عندما ستأتي الأزمة التالية، الأكيدة، قد يؤدي ذلك إلى انهيار اليورو وربما حتى تهديد وحدة الاتحاد الأوروبي نفسه. في 03 يونيو 2017 ذكرت مجلة الإيكونوميست أن: «العملة تغيرت من أداة للتقارب بين البلدان إلى إسفين يفصلها عن بعضها البعض». تظهر هذه الكلمات القليلة كيف صار الخبراء البرجوازيين الأذكياء يستوعبون ما قاله الماركسيون منذ فترة طويلة.

جاءت أزمة اللاجئين لتنضاف إلى الوضع المضطرب أصلا داخل الاتحاد الأوروبي. لقد تسببت الغزوات الإمبريالية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في دفع طوفان من البشر الذين يصارعون للهروب من الجحيم الذي تم إغراقهم فيه. وهو ما يضع ضغوطا هائلة على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخاصة تلك الأكثر تعرضا للموجات اليومية للاجئين والمهاجرين الجدد.

أوروبا منقسمة على نفسها بشكل كامل حول هذه القضية. إذ ترفض بولندا والمجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك استقبال أي لاجئين. وتتفاقم المشكلة أكثر بسبب الهجرة الداخلية من البلدان الأوروبية الأكثر فقرا إلى البلدان الأكثر ثراء، وهو ما يتسبب بدوره في خلق التوتر حتى في بلدان مثل ألمانيا، حيث يستغل اليمين مسألة اللاجئين لكسب قسم من الناخبين.

يتناقض هذا تماما مع ما حدث بعد عام 1945، عندما استوعبت ألمانيا تدفق عدد أكبر من اللاجئين من أوروبا الشرقية. كان ذلك في فترة نهوض رأسمالي عالمي، لكن في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة وركود القوى المنتجة، يؤدي تدفق اللاجئين إلى خلق تناقضات جديدة لا يمكن حلها على أساس الرأسمالية. هذا سبب آخر للاضطرابات وزيادة تيارات التنابذ داخل الاتحاد الأوروبي.

بريكسيت

ميول الاتحاد الأوروبي نحو التفكك عبرت عن نفسها بشكل كبير في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كان التصويت في الاستفتاء دليلا آخر على مزاج الغضب والمرارة الموجود في كل مكان تحت السطح. وكانت النتيجة زلزالا سياسيا.

تفاجأ المعلقون البرجوازيون عندما فاز قرار “الخروج”. وكان الذين صدموا أكثر هم المدافعون عن بريكسيت أنفسهم. لم يتصوروا أبدا أنهم قادرون على الفوز، وبالتالي لم تكن لديهم خطة ولا إستراتيجية. وحتى الآن لا يبدو أنهم يملكون أدنى فكرة عما يفعلونه. لم تكن القطاعات الرئيسية للبرجوازية البريطانية ترغب في مغادرة الاتحاد الأوروبي، لكنها اضطرت إلى قبول نتيجة الاستفتاء التي ستكون لها نتائج كارثية على الرأسمالية البريطانية، كما أنها ستسبب مشاكل خطيرة للاتحاد الأوروبي نفسه.

خلقت بريكسيت مشاكل خطيرة للغاية في أيرلندا. كانت الحدود بين الجنوب المستقل وبين الشمال، الذي هو جزء من المملكة المتحدة، قد أصبحت غير ذات أهمية في السنوات الأخيرة. فإذا أعيدت الحدود، عندما ستغادر بريطانيا الإتحاد الأوروبي، سيكون لها تأثير اقتصادي مدمر على كل من الجنوب والشمال. ونتيجة لذلك يمكن إعادة إحياء المسألة القومية الأيرلندية برمتها، مع أخطر الآثار المترتبة عليها. يسعى الساسة جاهدين للتوصل إلى نوع من الاتفاق حول هذه المسألة المعقدة، لكن النتيجة النهائية ما زالت غير معروفة.

توهم البريطانيون أنهم سيحصلون على خروج سهل، لكن هذا لن يحدث أبدا. حتى لو أرادت ميركل أن تكون لطيفة مع البريطانيين (وهذا غير وارد على الإطلاق)، فإنها لا تستطيع ذلك لأن من شأنه أن يشجع الآخرين على أن يحذوا حذوها ويغادروا. ولتعقيد الأمور أكثر، عانت ميركل من الهزيمة في الانتخابات وصارت تشعر بقبضة حزب البديل من أجل ألمانيا (Alternative für Deutschland) القومي والمناهض للاتحاد الأوروبي تضيق على رقبتها. كل الكلام اللطيف عن “التضامن الأوروبي” تعرض للنسيان مع ظهور الخصومات القومية على السطح. سوف يؤدي ما حصل إلى مشاكل كبيرة لكل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي.

اليونان

في كتابه “رأس المال” يشرح ماركس أنه خلال فترة الازدهار يكون الاقتراض سهلا، لكن عندما تحدث أزمة يتغير كل ذلك إلى عكسه. شيلوكات[2] العصر الحديث يطالبون برطلهم من لحم اليونانيين. لكن لا يمكن لليونانيين على الإطلاق أن يدفعوا ما تطالبهم به برلين وبروكسل. كل هذا له عواقب، فهم ينشرون قدرا هائلا من الحقد الطبقي ويخلقون استقطابا كبيرا في اليونان وفي جميع بلدان جنوب أوروبا.

ما الذي تم حله في اليونان بعد عقد من المعاناة الرهيبة والتقشف والفقر والبؤس؟ لقد أغرقت الأمة في أزمة عميقة. الشباب ليس لديهم عمل ومجبرون على الهجرة، في حين يتم حرمان المسنين من معاشاتهم ويدفعون إلى الانتحار.

الثورة ليست خطا مستقيما، ستكون هناك حتما فترات صعود وهبوط ويجب علينا أن نكون مستعدين لذلك. بعد سنوات عديدة من الإضرابات والاحتجاجات والمظاهرات، صار العمال اليونانيون متعبين ومحبطين. سيقولون: “الجميع يخوننا. لقد وثقنا في حزب Pasok (حزب الحركة الاشتراكية اليونانية)، لكنه خاننا. لقد وثقنا في تسيبراس، فخاننا هو أيضا، ما الذي يمكننا أن نفعله أكثر؟”. خلال الانتخابات العامة القادمة سيحصل سيريزا على نتائج سيئة، وفقا لاستطلاعات الرأي، حيث سيهبط إلى حوالي 20% من الأصوات أو حتى أقل. قد يحقق الحزب الشيوعي بعض المكاسب الصغيرة، لكنه بسبب مواقفه العصبوية لن يتمكن من ملء الفراغ الذي تركه حزب سيريزا. من الناحية النظرية، يمكن لحزب الديمقراطية الجديدة أن يفوز، لكن ليس بفعل توجه كبير نحوه، بل فقط من حيث النسبة المائوية. وهذا يعني إمكانية وصول ائتلاف يميني، بقيادة الحزب الديمقراطي، إلى السلطة. ستكون تلك حكومة ضعيفة غير مستقرة، لكنها ستكون مضطرة إلى مواصلة وتعميق الهجمات على الطبقة العاملة دون أن يكون لها أي نفوذ بين الطبقة العاملة. في ظل هذه الظروف سيكون هناك تجذر جديد نحو اليسار.

لن يدوم المزاج الحالي إلى الأبد، فهو ذو طبيعة مؤقتة. إن الأزمة عميقة بحيث أن العمال والشباب ليس لديهم بديل سوى العودة إلى النضال. وستندلع انفجارات جديدة، بل أكثر عنفا في المستقبل.

فرنسا، إفلاس “وسط” ماكرون

كانت الرأسمالية الفرنسية في أزمة قبل فترة طويلة من عام 2008. لكن انتخابات العام الماضي في فرنسا زودت البرجوازية الأوروبية بفترة راحة ظاهرية. كانوا مرعوبين من وصول مارين لوبان إلى السلطة، مثلما فعل ترامب في الولايات المتحدة. فلوبان مثلها مثل ترامب، سياسية شوفينية رجعية، كما أنها معادية للاتحاد الأوروبي، مما أثار قلقا جديا في بروكسل وبرلين، خاصة بعد حادثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إن ما أرعب البورجوازية الفرنسية فعلا هو الطفرة المفاجئة التي حققها ميلينشون في استطلاعات الرأي، في نهاية الحملة، لأنه كان سينتصر بالتأكيد على لوبان أو حتى فيون في الجولة الثانية، وكانت لديه بعض الفرص للفوز ضد ماكرون.

يظهر صعود ميلينشون أن هناك استقطابا متزايدا بين اليسار واليمين. اقترب جان لوك ميلينشون من هزيمة لوبان، وكان بإمكانه تحقيق ذلك لولا الغباء الإجرامي لمن يسمون أنفسهم تروتسكيين في فرنسا، لأن أصوات هذين الحزبين الصغيرين، كانت ستصنع الفرق بين ميلينشون ولوبان.

كانت المواجهة المباشرة بين ميلينشون وماكرون، في الجولة الثانية، ستغير كل شيء. لكن أخطاء العصبويين حالت دون ذلك. كان في إمكانهم تماما أن يبدؤوا حملة انتخابية على أساس برنامج ثوري، ثم ينسحبوا لأجل التصويت لميلينشون. لم يفعلوا ذلك لأنهم عصبويون نموذجيون يضعون مصالح عصبهم الصغيرة فوق المصالح العامة للطبقة العاملة الفرنسية.

في النهاية فاز ماكرون، وتنفست البرجوازية الصعداء. لقد هُزم المتطرفون وانتصر الاعتدال أخيرا! انتقل الخبر السار من باريس إلى برلين إلى روما، وحتى في لندن كانوا يفتحون زجاجات الشمبانيا للاحتفال. لقد فاز الوسط، لكن ماذا يعني هؤلاء بـ “الوسط”؟ إنهم يقصدون بذلك اليمين الذي يخفي طبيعته الحقيقية من خلال التظاهر بأنه ليس كذلك.

وصل ماكرون إلى السلطة على أساس تفكك الحزبين اللذين كانا يفوزان عادة بأصوات غالبية الناخبين (الحزب الاشتراكي والحزب الجمهوري). ، لقد تم سحق الاشتراكيين في هذه الانتخابات، كما تعرض الجمهوريون لهزيمة فادحة ولم يصلوا إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. قد ينتهي الأمر بالحزب الاشتراكي مثل حزب Pasok في اليونان. والجمهوريون اليمينيون بدورهم في حالة سيئة للغاية: فالقادة البارزون تركوا الحزب للانضمام إلى حكومة ماكرون (أو حزبه)، بينما ينشق الآخرون إلى شظايا.

لقد تأثر الحزب الشيوعي بسبب صلاته بالاشتراكيين وأصبح الآن عنصرا هامشيا في السياسة الفرنسية. ومن ناحية أخرى فازت الجبهة الوطنية، على الرغم من هزيمتها الانتخابية، بـ 1,3 مليون صوت أكثر مما كانت قد حققته عام 2012. لكن حزب ميلينشون، فرنسا الأبية (La France Insoumise)، حصل على ثلاثة ملايين صوت ويمثل الآن، إلى جانب النقابات، المعارضة الرئيسية لسياسات ماكرون. في استطلاع للرأي أجري أكتوبر الماضي، قال 35% من المستجوبين إن حزب فرنسا الأبية هو حزب المعارضة الرئيسي، وأشار 13% إلى الجبهة الوطنية، وفقط 2% إلى الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي! إن حزب ميلينشون الآن هو المعارضة الرئيسية سواء في البرلمان أو في الشوارع.

ليس صحيحا ما يقال عن أن ماكرون فاز بأغلبية مطلقة. إن الأغلبية المطلقة -بمن في ذلك أولئك الذين أدلوا بأصوات فارغة أو امتنعوا- لم تصوت لصالح ماكرون! وهذه “الأغلبية الصامتة” لن تبقى صامتة لفترة طويلة. في الواقع لم يستغرق ماكرون وقتا طويلا لفضح نفسه، حيث أكد على الفور نيته تغيير قانون العمل لتسهيل تسريح العمال.

سبق لماركس أن قال إن فرنسا هي البلد الذي يصل فيه الصراع الطبقي دوما إلى نهايته الكلاسيكية. وقريبا ما ستصير حقيقة ذلك واضحة للجميع. سوف نرى مظاهرات كبيرة وإضرابات وإضرابات عامة. وليس من المستبعد على الإطلاق تكرار ما حدث عام 1968، بل إن الواقع يحبل بذلك.

إيطاليا

كانت اليونان الحلقة الأضعف للرأسمالية الأوروبية. ولا تبتعد اسبانيا سوى بخطوة واحدة عن اليونان، كما أن ايطاليا ليست بعيدة سوى بخطوة واحدة عن اسبانيا، وفرنسا تقف على بعد خطوة واحدة وراء ايطاليا. ظل الاقتصاد الإيطالي يعاني من الركود الاقتصادي منذ الضربة الاقتصادية القوية التي شهدها عام 2008. ونتيجة لذلك، فإن عددا كبيرا من الشركات الصغيرة والمتوسطة صارت عاجزة عن سداد ديونها.

يوجد النظام المصرفي الأوروبي في حالة كارثية. إنه غارق في الديون، ولا يستمر في الحياة إلا بفضل دعم البنك المركزي الأوروبي (ECB). لا يمكن لهذا أن يستمر إلى الأبد، حيث أن البنك المركزي الأوروبي يخضع لرقابة الألمان. والألمان غير مستعدين لتمويل عجز بلدان جنوب أوروبا من خلال مساهماتهم في البنك المركزي الأوروبي.

في إيطاليا كانت هناك أزمة مصرفية كبيرة. والحقيقة هي أن البنوك الإيطالية مفلسة. وفقا لقواعد الاتحاد الأوروبي لا يُسمح للحكومات بإنقاذ البنوك، لكن إيطاليا كانت استثناءً. إذا انهار النظام المصرفي الإيطالي قد يؤدي ذلك إلى انهيار النظام المالي الأوروبي بكامله. لكن عمليات الإنقاذ غير القانونية لم تحل شيئا جوهريا. ايطاليا غارقة في أزمة عميقة، ليس اقتصاديا وماليا فقط، بل وسياسيا أيضا.

هناك انهيار للثقة في الأحزاب السياسية. ظهر هذا بوضوح خلال استفتاء دجنبر 2016 بشأن الإصلاح الدستوري، حين تعرض رينزي لهزيمة ساحقة. مشكلة البورجوازية الإيطالية هي أنها لا تملك حكومة قوية. لكن كيف يمكن أن تكون لهم حكومة قوية بينما هم لا يملكون أي حزب قوي؟ لقد كان لديهم الحزب الديمقراطي المسيحي، لكن ذلك انتهى. حزب برلوسكوني “Forza Italia” بدوره صار ضعيفا. كما أن الحزب الديمقراطي، وهو حزب بورجوازي تكون من اندماج قسم من الحزب الشيوعي القديم مع ما تبقى من الحزب الديمقراطي المسيحي وغيره من المنظمات البرجوازية الصغيرة، يعرف بدوره انحطاطا.

هناك سيرورة انشقاق شاملة لما يسمى بـ “اليسار”، حيث لم تحقق منظماته كلها حتى سبعة بالمائة في استطلاعات الرأي. في الماضي كان بإمكان الطبقة الحاكمة الإيطالية الاعتماد على قادة الحزب الشيوعي الإيطالي لكبح الطبقة العاملة. لكن ونتيجة لعقود من الانحطاط الستاليني والخيانات العديدة لمصالح الطبقة العاملة، تمت تصفية الحزب الشيوعي الذي كان قوة كبيرة في الماضي.

بسبب هذا الفراغ شهدنا صعود بيبي غريللو وحركته النجوم الخمسة. إنها حركة احتجاجية، برجوازية صغيرة في غالب تكوينها، مع خليط مشوش من السياسات، بعضها رجعي في طبيعته. في الواقع إنه ليس حزبا على الإطلاق، وليست له هياكل، برنامجه الرئيسي هو رفض اليورو. لكن ونظرا لغياب أي بديل يساري، صار يجذب أصوات الطبقة العاملة بمواقفه المناهضة للنظام القائم، والتي يمكن تلخيصها في شعار: “اطردوهم جميعا!”.

حركة غريللو هي ظاهرة غير مستقرة ومتناقضة، ومن غير المرجح أن تستمر. قريبا سوف تظهر تناقضاتها الداخلية على السطح، وسوف تدخل بسرعة في أزمة. من المستحيل أن نقول في الوقت الحالي كيف سيتطور على وجه الدقة، لكنه لن يكون وضعا مواتيا للبرجوازية الإيطالية.

في المقابل تتمتع الطبقة العاملة الإيطالية بتقاليد ثورية عظيمة. وستؤدي أزمة الرأسمالية الإيطالية حتما إلى انفجارات جديدة للصراع الطبقي لم يسبق لها مثيل، على غرار ماي 1968 في فرنسا، أو الخريف الحار في إيطاليا عام 1969. وبمجرد ما ستبدأ كتائب الطبقة العاملة في التحرك، سيتحول الوضع برمته بسرعة، مع ظهور تشكيلات سياسية جديدة ذات طابع يساري وراديكالي للغاية، كما حدث في السنوات قبل وبعد 1969.

إسبانيا

على الرغم من بعض الانتعاش الاقتصادي الجزئي، فإن أزمة النظام التي بدأت في عام 2008 لم يتم حلها بأي حال من الأحوال. إن سنوات الأزمة الاقتصادية والبطالة الجماعية والهجمات على مستويات المعيشة، بالإضافة إلى فضائح الفساد، كلها عوامل خلقت أزمة شرعية عميقة لكل نظام الديمقراطية البورجوازية الإسباني. وفي نهاية المطاف وجدت الدورة الطويلة من التعبئة الجماهيرية، التي شهدتها الفترة ما بين 2011-2015، تعبيرا سياسيا عنها مع ظهور وصعود حركة بوديموس، التي فازت في الانتخابات العامة لعام 2016 بـ 21% من الأصوات.

إن حكومة الحزب الشعبي اليمينية هشة للغاية وعليها أن تعتمد على دعم القوميين الباسكيين للحصول على الأغلبية في البرلمان. لقد أضعفتها فضائح الفساد. لو أن اليسار توحد للإطاحة بها، لكانت قد انتهت. لكن قادة كل من بوديموس واليسار المتحد (Izquierda Unida) كشفوا عن عدم القدرة نهائيا على تقديم بديل جدي، في حين أن بيدرو سانشيز، الزعيم “اليساري” للحزب الاشتراكي الاسباني، قد انتقل صراحة إلى صف القومية الإسبانية الرجعية. والآن، بعد نتيجة انتخابات 21 دجنبر في كاتالونيا، حيث برز حزب سيودادانوس باعتباره الحزب الأول، تعمل الطبقة السائدة في إسبانيا بشكل متزايد على دعم وتعزيز موقف هذا الحزب اليميني الجديد، الذي هو حزب رجعي مثله مثل الحزب الشعبي، لكن مع قادة جدد ودون تهم الفساد وسياسات الإصلاحات المضادة التي راكمها الحزب الشعبي.

لقد لعبت المسألة الكاتالونية دور المحفز الذي كشف خطوط الصدع العميقة في الحياة السياسية الإسبانية. جميع أحزاب اليسار منقسمة الآن وتعيش أزمة. يعمل اليمين على إذكاء نيران المشاعر الرجعية المضادة للكتالان والقومية الإسبانية لتعبئة الفئات الأكثر تخلفا من السكان، بينما اليسار ليست لديه أية إجابة. نتيجة لذلك، وعلى الرغم من كل شيء، لا يمكن استبعاد أن يفوز حزب سيودادانوس والحزب الشعبي في الانتخابات القادمة.

هذا هو الثمن الذي يتعين على اليسار الإسباني دفعه مقابل خيانة قادة الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي، قبل أربعة عقود عندما وافقا على دستور 1978 الرجعي الذي كان يعني الإبقاء على دولة فرانكو القديمة، إلى جانب النظام الملكي وهيمنة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والحفاظ على جهاز الدولة القمعي القديم، الذي تم تلميعه بطبقة رقيقة من “الديمقراطية”.

لقد انفضحت الطبيعة الوحشية للدولة الإسبانية من خلال قمعها الهمجي للجماهير في كاتالونيا الذين كانت “جريمتهم” الوحيدة هي رغبتهم في التصويت لتقرير مستقبلهم. والآن عادت كل شياطين الماضي للظهور مجددا. إن المجتمع الإسباني اليوم منقسم بعمق كما كان قبل 40 عاما. إن الشباب والفئات الأكثر تقدما بين الطبقة العاملة يفهمون الطبيعة الرجعية لدستور 1978 وهم على استعداد للنضال ضده.

لقد أظهرت الجماهير اليوم روحها القتالية في شوارع برشلونة. وغدا سيكون دور العمال والشباب في أوسكادي (Euskadi) وأستورياس وإشبيلية ومدريد. ستكون هناك حتما هزائم وانتكاسات نتيجة لقصر نظر وغباء وجبن القيادة، لكن العمال والشباب في إسبانيا، الذين أظهروا مرارا وتكرارا استعدادهم للكفاح في السنوات الأخيرة، سيتعلمون دروسا جديدة.

كانت هناك العديد من الهزائم في الماضي أيضا، مثل هزيمة “السنتين القاتمتين” التي تلت هزيمة كومونة أستورياس عام 1934. لكنه لا يمكن مقارنة الهزائم التي نتحدث عنها اليوم مع تلك الهزيمة. إن قوى الطبقة العاملة اليوم متماسكة، في حين أن القاعدة الجماهيرية للردة الرجعية صارت أضعف بشكل كبير مما كانت عليه آنذاك: لا يوجد اليوم فيلق مغاربي، ولا فلاحون كارليون[3] رجعيون، والطلاب الذين انضموا بأعداد كبيرة إلى صفوف الفالانج[4]، أصبحوا يقفون الآن وراء الطبقة العاملة واليسار.

وأخيرا، فخلال المرحلة الثورية، لا يمكن لمثل هذه الهزائم أن تكون إلا تمهيدا لنهوض جديد. في خضم النضال في الشوارع وفي المصانع وفي الحرم الجامعية، سوف يعيدون اكتشاف التقاليد الثورية لسنوات 1931 – 1937 والنضالات الرائعة ضد ديكتاتورية فرانكو. خلال الفترة القادمة سوف تجد إسبانيا نفسها مرة أخرى في طليعة النضالات الثورية في أوروبا.

كاتالونيا

كانت محاولة كاتالونيا ممارسة حقها في تقرير المصير أخطر تحد يواجه نظام 1978. هناك عناصر مختلفة في المعادلة، هناك أولا الطبقة الإسبانية الرجعية المتخلفة ودولتها الموروثة بشكل كامل من عصر فرانكو. إنهم يعتبرون أي محاولة لمسائلة وحدة إسبانيا بمثابة تحدٍّ لنظامهم بأكمله والذي من شأنه أن يطرح أسئلة أخرى (النظام الملكي، التقشف، إلخ). لذلك كانوا مستعدين لاستخدام جميع الوسائل المتاحة لهم لتحطيم محاولة إجراء الاستفتاء: القمع البوليسي والاستيلاء على صناديق الاقتراع وإغلاق مراكز الاقتراع وإقالة الحكومة الكاتالونية واعتقال أعضائها، إلخ.

ومن ناحية أخرى، فقدت الحكومة الكاتالونية، التي شكلها القوميون البرجوازيون والبرجوازيون الصغار، دعم البرجوازية الكاتالونية (أصحاب الأبناك والرأسماليون)، التي تعارض الاستقلال. لقد اعتبر هؤلاء السياسيون القوميون أن استفتاء الاستقلال سيشكل، في أسوأ الأحوال، وسيلة لممارسة الضغط على حكومة مدريد وانتزاع تنازلات منها، أو أنه سيشكل، في أفضل الأحوال، وسيلة لممارسة الضغط على الاتحاد الأوروبي وإجباره على التدخل ودفع الحكومة الإسبانية إلى تنظيم استفتاء متوافق عليه. أما الحزب الديمقراطي الأوربي الكاتالوني (PDeCAT)[5]، القومي البرجوازي، الذي انفضح بالكامل بسبب سياساته التقشفية اليمينية وفضائح القمع والفساد، فقد استخدم بشكل كلبي ورقة الاستقلال وسيلة لإعادة إنعاش نفسه والبقاء في السلطة. لم تكن تلك الأحزاب مستعدة لاستخدام الوسائل الثورية المطلوبة في إسبانيا لممارسة حق تقرير المصير.

لقد أجبروا على الذهاب أبعد مما كانوا يريدون بسبب دخول الجماهير إلى الساحة، والتي هي العامل الثالث الذي لم يأخذوه في الحسبان. يوم 20 شتنبر (عندما احتشد 40.000 متظاهر ضد تفتيش الحرس المدني للمباني الحكومية الكاتالونية)، وفي 01 أكتوبر (عندما نظم مئات الآلاف أنفسهم لضمان إجراء الاستفتاء وصوت مليوني شخص)، و03 أكتوبر (عندما شارك الملايين في إضراب عام ضد وحشية القمع البوليسي) دخلت الجماهير المشهد بطريقة قوية وبدأت تدرك قوتها. وضع هذا الحكومة الكاتالونية في وضع مستحيل: لقد أجبروا على إعلان الجمهورية، لكنهم لم يكونوا مستعدين لاستخدام الأساليب الضرورية للدفاع عنها، أي التعبئة الجماهيرية في الشوارع واحتلال المباني الحكومية والإضراب العام ومقاومة الشرطة الاسبانية. أي، بعبارة أخرى، كانت هناك حاجة إلى انتفاضة ثورية. وهذا ما يفسر تذبذباتهم وترددهم وتوترهم بعد الاستفتاء، والإعلان “المعلق” عن الجمهورية، في 10 أكتوبر، والنداءات المستمرة للتفاوض، وخيانة الحركة في 25 أكتوبر، والإعلان الوديع عن الجمهورية الكاتالونية، يوم 27 أكتوبر، الذي فروا بعده من مكان الحادث.

في هذه الأثناء أصبحت الجماهير التي شاركت في الحركة (قسم من الطبقة العاملة، والشباب فوق كل شيء، والطبقات الوسطى والطبقة البرجوازية الصغيرة التي تشكل العمود الفقري لهذه الحركة الديمقراطية) أكثر انتقادا لزعمائها. لقد أظهر تأسيس لجان الدفاع عن الجمهورية والدور الذي لعبته في الإضراب العام يوم 08 نوفمبر، الطريق إلى الأمام. إن تأسيس الجمهورية الكاتالونية مطلب ديمقراطي جوهري يتحدى أسس النظام الإسباني بأسره.

يدعم الماركسيون النضال من أجل بناء جمهورية كاتالونية، لكن علينا واجب توضيح أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالوسائل الثورية. وهذا يتطلب استبدال القيادة الحالية بقيادة تستند بحزم إلى الطبقة العاملة. إضافة إلى ذلك يجب كسب العمال الناطقين بالإسبانية في كاتالونيا، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان النضال من أجل الجمهورية مرتبطا بالنضال من أجل مناصب الشغل والسكن وضد التقشف، واعتبر أيضا جزء من نضال أوسع يشمل كل إسبانيا ضد نظام 1978. إن الشعار الذي يجمع هذه الأفكار هو: “من أجل جمهورية كاتالونية اشتراكية، شرارة للثورة الإيبيرية”.

لم تحل انتخابات 21 دجنبر الكاتالونية أي شيء. إنها تمثل، في الواقع، هزيمة للنظام الملكي الإسباني، حيث تمكن مؤيدو الاستقلال من تجديد أغلبيتهم في البرلمان الإقليمي ومن المرجح أن يتمكنوا من السيطرة على الحكومة الكاتالونية. نحن نعود، من وجهة النظر البرلمانية، إلى وضع مماثل لذلك الذي كان قائما عشية استفتاء 01 أكتوبر. سوف تستمر الحركة القومية الديمقراطية عبر موجات صعود وهبوط. إن مهمة الماركسيين هي التدخل بحيوية والوصول إلى الفئات الأكثر تقدما بين الشباب، الذين بدأوا يستخلصون بالفعل خلاصات ثورية.

بريطانيا: ظاهرة كوربين

كانت بريطانيا، منذ وقت ليس ببعيد، واحدة من أكثر الدول استقرارا في أوروبا، أما الآن فقد صارت واحدة من أكثر البلدان اضطرابا وتعاني الصدمة تلو الأخرى. في اسكتلندا تراجعت المسألة القومية إلى حد ما نتيجة لصعود كوربين، لكن لم يتم حلها ويمكن لها أن تظهر مجددا بقوة في حالة حدوث أزمة اقتصادية جديدة. وتحت سطح الهدوء الظاهري، كان هناك غضب وسخط عارمين، وقبل كل شيء إحباط، ورغبة ملحة في تغيير الأوضاع كانت تفتقر إلى نقطة مرجعية واضحة.

في نهاية المطاف وجد التغيير الحاصل في الوعي التعبير عنه في الصعود المدهش لجيريمي كوربين. تم انتخاب جيريمي كوربين، في عام 2015، زعيما لحزب العمال عن طريق مصادفة، لكنه واجه على الفور معارضة شديدة من طرف جناح بلير داخل الحزب.

رأت تريزا ماي هذا واستخلصت الاستنتاج المنطقي، حيث دعت إلى انتخابات مبكرة في يونيو 2017، وهي على قناعة راسخة بأنها ستحصل على أغلبية كبيرة وستسحق حزب العمال. كان الجناح البليري اليميني داخل حزب العمال، يأمل أن يتعرض حزب العمال لهزيمة مذلة، إذ رأوا أنها الطريقة الوحيدة للتخلص من جيريمي كوربين، وحاولوا تخريب الحملة.

كان الجميع يتنبأ بفوز كاسح للمحافظين. لكن بدلا من ذلك كانت هزيمة ساحقة للمحافظين والإعلام والجناح اليميني المخادع داخل حزب العمال.

بمجرد بدء الحملة عقد جيريمي كوربين اجتماعات جماهيرية حماسية، معظمها مشكلة من الشباب. طرح كوربين أكثر البرامج يسارية التي سبق لحزب العمال أن طرحها منذ عقود والتقى على الفور مع مزاج الاستياء السائد في المجتمع. لا أحد توقع هذا الزلزال السياسي.

مئات الآلاف من الناس، ومعظمهم من الشباب، انضموا إلى حزب العمال. كان عدد الأعضاء 180.000 قبل أن يصبح كوربين زعيما، أما الآن فقد صار الرقم هو 570.000، مما يجعل حزب العمال أكبر حزب في أوروبا. يمكن للجميع أن يروا أن المنتصر الحقيقي في تلك الانتخابات هو جيريمي كوربين. إنه يتمتع بدعم عظيم على مستوى القاعدة الشعبية.

لقد تمت هزيمة الجناح اليميني بشكل حاسم في مؤتمر حزب العمال، شتنبر 2017، الذي أظهر فوز اليسار بأغلبية فروع الحزب. لكن وعلى الرغم من هذا بقي أعضاء البرلمان وأعضاء المجالس، ولا سيما بيروقراطية الحزب من المتفرغين، تحت سيطرة الجناح اليميني. الطبقة الحاكمة وعملاؤها لن يتخلوا بسهولة عن سيطرتهم على حزب العمال، لكنهم مضطرون في الوقت الحالي للتخلي عن محاولة التخلص من كوربين وتبني تكتيك الانتظار.

يبحث هذا المزاج للثوري الذي يعتمل تحت السطح عن تعبير عنه. لقد وجد في بريطانيا تعبيرا عنه في كوربين، ومن الضروري على الماركسيين البريطانيين توجيه قواهم إلى تلك الحركة. لكن وفي الوقت الذي نؤيد فيه كوربين ضد الجناح اليميني، من الضروري علينا أن نوضح، بطريقة إيجابية وودية وبصبر، حدود برنامج كوربين والحاجة إلى برنامج ثوري شامل للتحويل الاشتراكي للمجتمع.

من المرجح أن يفوز حزب العمال في الانتخابات القادمة ويشكل كوربين الحكومة. عندها ستواجه أي محاولة لتنفيذ الإصلاحات الواردة في برنامجه مقاومة شرسة من جانب الطبقة الحاكمة والتخريب النشط من طرف الطابور الخامس، المتمثل في جناح بلير، بالإضافة إلى محاولات تمييع الأجزاء الأكثر تجذرا في برنامجه. يراهن قسم من الطبقة الحاكمة على فكرة إعادة تنظيم الحياة السياسية البريطانية، حيث يتم إنشاء كيان أو ائتلاف وسطي جديد بين “يسار” حزب المحافظين والجناح اليميني لحزب العمال. هذا ليس منظورا فوريا، لكن من الممكن تنفيذه لإسقاط حكومة حزب العمال بقيادة كوربين. لكن في فترة الاستقطاب السياسي والأزمة الاقتصادية، لن يكون لحزب أو ائتلاف وسطي سوى قاعدة دعم ضئيلة للغاية. من شأن مرور الحزب بتجربة الحكومة والانشقاق المحتمل داخل صفوفه أن يهيئ الأرضية لمزيد من التجذر في صفوف قواعد الحزب.

روسيا

كان للاضطرابات في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، تأثير كبير على كامل الحياة السياسية في روسيا. لكن النشوة القومية التي رأيناها في عام 2014، عندما تجاوز مؤشر شعبية بوتين 84%، قد تلاشت تدريجيا. لقد أدى انخفاض أسعار النفط و(بدرجة أقل) العقوبات الغربية، إلى انخفاض سعر صرف الروبل وارتفاع معدل التضخم بـ 13% في عام 2015.

كان لمعدل إعادة التمويل المرتفع للبنك المركزي (أي سعر الفائدة المدفوع من قبل البنوك عند اقتراضها الأموال من البنك المركزي)، إلى جانب العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب، أثر كبير على القطاع المالي، مما أدى إلى إفلاس عشرات البنوك. وفي مواجهة هذا الوضع، استخدمت الحكومة الاحتياطيات المالية العمومية لدعم أكبر المجموعات المالية والصناعية ذات الروابط الوثيقة بالدولة، مما أدى إلى زيادة تركيز رأس المال.

ومن ناحية أخرى استخدمت الحكومة تدابير إدارية لمكافحة البطالة، حيث قامت بمنع التسريح الجماعي للعمال. وللحد من عجز الميزانية تم تطبيق عدد من التدابير التي تهدف إلى الحد من الفساد والتهرب الضريبي. كانت هذه الضربة موجهة في المقام الأول إلى البرجوازية المتوسطة والصغرى، ولا سيما الشركات العائلية الصغيرة مثل مالكي سيارات النقل وشاحنات تسليم البضائع.

بالإضافة إلى الأسباب الاقتصادية البحتة، كان السبب وراء اتخاذ بوتين لهذه الخطوة هو الرد على المزاج الاحتجاجي بين الطبقات الوسطى في المدن الكبيرة حيث شعبيته أقل. يعمل بوتين هنا بمبدأ: “السماح لأصدقائي بكل شيء، أما أعدائي فسأسلط عليهم قوة القانون”.

وفي الوقت نفسه تم تنفيذ إصلاح لنظام التعليم العالي، مما أدى إلى تدهور أوضاع غالبية الأساتذة والمحاضرين، الذين اعتبرهم بوتين غير أوفياء له. وبهذه الطريقة تمكن بوتين من الحفاظ على مستوى عال من الدعم سواء بين صفوف فئته أو بين صفوف المتقاعدين والعمال ذوي الأجور المنخفضة، على حساب الطبقات الوسطى في المدن الكبرى. وقد جد استياء هؤلاء الأخيرين تعبيره السياسي في الديماغوجي البرجوازي، ألكسي نافالني.

بعد عام 2014، تبنت جميع الأحزاب البرلمانية، بما في ذلك الحزب الشيوعي الروسي، موقف الدعم الكامل لبوتين وحكومته، وصوتت في مجلس الدوما لصالح كل مشروع اقترحته الحكومة. بالطبع لم يؤد ذلك نهائيا إلى زيادة شعبيتها. فالحزب الشيوعي يعيش، منذ ما يقرب من عشر سنوات، في أزمة مستمرة. شنت قيادة الحزب حملة دائمة تم خلالها طرد الناس من الحزب بتهمة “التروتسكية”، على الرغم من أن جميعهم كانوا من المؤيدين المخلصين لزيوغانوف.

تراجعت عضوية الحزب الشيوعي في موسكو وسان بيترسبورغ وغيرها من المدن الكبرى بنسبة الثلثين، وهو ما ترك فراغا في المعارضة لبوتين ملأه نافالني بنجاح. إنه ديماغوجي نموذجي، يقدم نفسه على أنه “رجل الشعب”، ويستنسخ التقاليد الأمريكية بفظاظة، لكنه يقف بحدة على طرف النقيض مع المعارضين الآخرين. يتمثل أساس حملته في استخدام الشبكات الاجتماعية وخاصة موقع YouTube، حيث يعرض مقاطع فيديو عن الفساد المستشري في المستويات العليا من الدولة.

لقد حُرم نافالني نفسه من حق المشاركة في الانتخابات الرئاسية بسبب إدانته هو أيضا في قضيتي فساد. يدعو نافالني مؤيديه بشكل دوري للخروج إلى الشوارع. ويبلغ حجم هذه التحركات ما يقرب من 100.000 شخص موزعين في المدن الكبرى في مختلف أنحاء البلاد. معظمهم من الشباب، الذين يجذبهم مظهر نافالني الحازم واستخدامه الماهر لوسائل الإعلام الاجتماعية.

لقد تمكن بوتين، خلال العام الماضي، من كبح جماح التضخم وتجاوز الأزمة بشكل عام، على الأقل مؤقتا. لكن مع المستوى الحالي لأسعار النفط يبقى عجز الميزانية في روسيا مرتفعا، وفي غضون عامين إلى خمسة أعوام، سوف تنفد الأموال الاحتياطية حتما، في حين أن فرص روسيا في الحصول على القروض الخارجية ضئيلة الآن. إذا بقيت أسعار النفط منخفضة لمدة ثلاث أو أربع سنوات أخرى، فإن الوضع بأكمله سيتغير إلى نقيضه.

عندما سيحين الوقت، سيواجه بوتين (الذي من الواضح أنه سينتخب رئيسا) مشكلة جدية. لن تكون الحكومة قادرة على حل عجز الموازنة من دون القيام بتخفيضات كبيرة في الإنفاق العام، عند هذه النقطة سوف تتبخر شعبيته بالكامل. لهذا السبب يستغل بوتين كل فرصة لتشديد سيطرته على الإنترنت، وفرض القيود على حرية التعبير وغيرها من الحقوق الديمقراطية.

لكن في الوقت الحالي ما يزال بوتين يمتلك هامشا للمناورة. يمكنه تجنب خفض الإنفاق العام أو شن هجمات عنيفة على مستويات المعيشة. وهذا هو السبب الرئيسي وراء عدم حصول المعارضة على أي نجاح كبير في تعبئة الفئات البروليتارية.

أغلب من يشاركون في مظاهرات الشوارع، في هذه الفترة، هم من الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة. وعلى الرغم من أن نافالني قد دعا إلى الزيادة في الحد الأدنى للأجور، فإنه لم يحقق أي نجاح في إقامة صلة بالمشاكل الاجتماعية. هناك حدود لمدى نجاح معارضة بوتين على أساس المطالب الديمقراطية وإدانة الفساد.

ومع ذلك، فقد انضم العديد من الشباب إلى المعارضة، وخاصة طلاب المدارس والجامعات. لقد خرجوا إلى الشوارع بأعداد كبيرة، وهذا مؤشر هام. يظهر تاريخ روسيا أن صحوة الشبيبة الطلابية بشير مؤكد لنهوض حركة مستقبلية كبيرة للطبقة العاملة. “إن الرياح تحرك دائما قمم الأشجار أولا”.

أوروبا الشرقية والبلقان

صعود الحركات القومية اليمينية والخطاب المناهض للهجرة في أوروبا الشرقية هو محاولة من جانب حكومات المنطقة لتحويل سهام الغضب المتزايد الناجم عن انخفاض مستويات المعيشة والكوارث التي فرضتها الأزمة الرأسمالية على الجماهير، في وقت لم يعرف بعد دخول الطبقة العاملة بشكل حاسم إلى المشهد.

إن ارتفاع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي (بالنسبة إلى أرقام النمو في بلدان أوروبا الغربية) يخفي حقيقة الاستغلال الرأسمالي الوحشي للعمال المؤهلين في ظل نظام الأجور المنخفضة المفروض من أجل تحقيق أقصى قدر من الأرباح للرأسماليين واستقطاب الاستثمار الأجنبي. أظهرت دراسة حديثة لمعهد الاتحاد الأوروبي للتجارة، تحت عنوان: (“لماذا تحتاج أوروبا الوسطى والشرقية إلى زيادة الأجور”) أن الفوارق في الأجور بين أوروبا الغربية والشرقية، والتي كانت تتراجع ببطء حتى عام 2008، قد ازدادت خلال العقد الماضي.

ونتيجة لذلك كانت هناك مؤشرات مهمة عن التجذر بين الشباب، التي كانت أول مظاهرها تلك التحركات ضد الفساد التي شهدتها العديد من البلدان، والتي تعكس رفضا متزايدا للنظام بأكمله. كما بدأت الأقسام الرئيسية للطبقة العاملة في شن الهجوم على الصعيد الصناعي، وهو ما شكل في كثير من الحالات المرة الأولى منذ انهيار الأنظمة الستالينية، حيث تم تنظيم إضرابات مهمة هدفها تحقيق زيادة جدية في الأجور وتحسين ظروف العمل.

في سلوفاكيا، تظاهر آلاف الطلاب، في أبريل 2017، مطالبين باستقالة رئيس الوزراء روبرت فيكو بتهمة الفساد. تلى ذلك في يونيو إضراب ضخم لـ 12.000 عامل في مصانع Volkswagen الثلاثة في براتيسلافا، والذي حقق رفعا في الأجور بنسبة 14%. كما تم منح زيادة في الأجور بنسبة 7% من قبل شركتي KIA و Peugeot لتجنب الإضرابات، مما يثير المخاوف من انتشار الحركة.

كما اندلعت حركات هامة لمعارضة التدابير الرجعية. ففي بولندا أدت هجمات الحكومة اليمينية ضد ما تبقى من حقوق الإجهاض إلى اندلاع حركة الاحتجاج لعشرات الآلاف من النساء، في أكتوبر 2016، مما اضطر الحكومة إلى التراجع.

وتشهد يوغوسلافيا السابقة سيرورة تجذر أكثر تقدما. هناك تطور واضح لمزاج الرفض للأنظمة البورجوازية الرجعية الفاسدة، بين صفوف جزء من الشباب والطبقة العاملة تم التعبير عنه من خلال حركة فبراير 2014 في البوسنة. وقد شهد العام الماضي إضرابات ضخمة. والإضراب الشامل الذي نفذه 2.400 عامل في مصنع FIAT في كراكوجيفاك، في يوليوز 2017، هو الأكثر أهمية من بين عدد من الإضرابات الكفاحية التي شهدتها المصانع وأماكن العمل الأصغر. كما قام عمال السكك الحديدية في البوسنة بإضرابات واحتجاجات متكررة.

لقد كشفت الاحتجاجات الشبابية ضد فوز فوتشيتش في الانتخابات الرئاسية الصربية، خلال أبريل 2017، ورغم هيمنة الأوهام البرجوازية الصغيرة بشكل واسع عليها، عن وجود فئات متزايدة من الشباب منفتحين على الأفكار الثورية. وقد ظهرت الإمكانيات العظيمة أمام الماركسيين اليوغوسلافيين في حقيقة أنه كان لديهم دور رائد في الاحتجاجات التي شهدتها نوفي ساد.

أمريكا اللاتينية

لقد أدى الانهيار الانتخابي لكيرشنر في الأرجنتين، وهزيمة الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد في انتخابات الجمعية الوطنية في فنزويلا، وهزيمة إيفو موراليس خلال الاستفتاء في بوليفيا، وإقالة ديلما في البرازيل، إلى غرق الإصلاحيين والمثقفين “التقدميين” بالقارة الأمريكية في اليأس. صاروا يتحدثون عن “موجة محافظة” وعن تقدم الثورة المضادة، دون أي فهم للسيرورات الحقيقية التي تحدث.

كانت معظم أمريكا الجنوبية قد شهدت طيلة فترة امتدت ما بين 10 إلى 15 سنة، تصاعد موجة ثورية أثرت على بلدان مختلفة بدرجات مختلفة من الشدة. شهدنا انتخاب تشافيز في فنزويلا، عام 1998، والأحداث الثورية إثر هزيمة انقلاب أبريل 2002 والنضالات ضد إغلاقات أرباب العمل، في دجنبر 2002 ويناير 2003؛ والحراك الأرجنتيني عام 2001؛ والانتفاضة في الإكوادور عام 2000 التي أطاحت بجميل معوض، ثم لوسيو غوتيريز في عام 2005، مما أدى إلى انتخاب كورييا عام 2006؛ أما في بوليفيا فقد شهدنا “حرب المياه” في كوتشابامبا في 1999-2000، ثم انتفاضات حرب الغاز، في أكتوبر 2003 ويونيو 2005، التي أدت إلى انتخاب إيفو موراليس؛ وفي بيرو كانت هناك انتفاضة أريكويبازو في الجنوب عام 2002.

يمكن للمرء أن يضيف إلى ذلك تلك الحركة الهائلة التي اندلعت ضد التزوير الانتخابي في المكسيك عام 2006، وفي أواكساكا في نفس العام، إضافة إلى الحركة الضخمة والمستدامة للطلاب الشيليين، والتعبئة الجماهيرية في هندوراسضد انقلاب عام 2009، بل وحتى انتخاب لولا في البرازيل عام 2002، الذي على الرغم من أنه ليس حدثا ثوريا في حد ذاته، فإنه يعكس رغبة الجماهير في إحداث تغيير جوهري.

وكنتيجة ثانوية لهذه الحركات الضخمة للعمال (والفلاحين في بعض البلدان) وصلت إلى السلطة عدد من الحكومات التي وصفت عموما بأنها “تقدمية” أو “ثورية”. كانت حكومات مختلفة عن بعضها البعض بشكل واضح، فبينما كان تشافيز، على سبيل المثال، يتلمس طريقه، وإن بشكل مشوش، في اتجاه التغيير الثوري، كان إيفو موراليس وكوريا وكيرشنر يسعون إلى إعادة النظام بعد دخول الجماهير إلى المشهد، بينما كان لولا وديلما إصلاحيين في السلطة ينفذان برنامجا للإصلاحات المضادة. ولم يكن لدى اليسار في السلفادور أي مجال للمناورة تقريبا، وقد بدأ يتراجع عن بعض إصلاحاته المتواضعة، مما أثار خيبة الأمل في أوساط الجماهير في جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، وهو المزاج الذي استغله، في المقام الأول، رئيس بلدية سان سلفادور، نايب بوكيلي، الذي كان قد طرد من الحزب ولديه تعاطف واسع بين الشباب.

ومع ذلك فقد تمتعت جميع تلك الحكومات بدرجة معينة من الاستقرار لفترة طويلة من الزمن. كان ذلك جزئيا نتيجة لقوة الحركة الجماهيرية، التي لم تستطع الطبقة الحاكمة هزيمتها في مواجهة مباشرة (حيث تعرضت الانقلابات التي نظمت في فنزويلا 2002 وبوليفيا 2008 والإكوادور 2010 للهزيمة). كما استفادت، قبل كل شيء، من فترة ارتفاع أسعار المواد الخام والنفط سمحت لهم بتنفيذ بعض البرامج الاجتماعية مع تجنب الصدام المباشر مع الجماهير.

بفعل النمو الاقتصادي في الصين ارتفعت أسعار المواد الخام بشكل مطرد ما بين عامي 2003 و2010. فقد ارتفعت أسعار النفط من 40 دولار للبرميل إلى أكثر من 100 دولار. وكان سعر الغاز الطبيعي حوالي 3 دولارات لكل مليون وحدة حرارية ($3/MMBtu)، فارتفع إلى ما بين 8 و18 دولار. كما قفزت أسعار فول الصوجا من 4 دولارات للبوشل[6] إلى 17 دولار. وارتفع سعر الزنك من أقل من 750 دولار للطن إلى مستوى قياسي قدره 4600 دولار للطن، والنحاس من أقل من 0,60 دولار للرطل إلى 4,50 دولار، والقصدير من 3700 دولار للطن إلى 33000 دولار للطن.

لكن هذا الارتفاع في أسعار السلع ومصادر الطاقة، الذي أعطى لتلك الحكومات مجالا معينا للمناورة، وصل إلى نهايته وأدخل المنطقة بأكملها في حالة ركود في 2014-2015. هذا هو السبب الاقتصادي الأساسي للهزائم الانتخابية وغيرها من الأزمات التي تعرضت لها تلك الحكومات التي بقيت دائما في حدود الرأسمالية.

مع صعود الثورة الفنزويلية تمكنت كوبا من فترة رخاء اقتصادية نسبية. لكن ذلك وصل الآن إلى نهايته. ما يزال الاقتصاد الكوبي قائما على التخطيط، لكن الإصلاحات التي تم إدخالها فتحت مجالا أكبر للاقتصاد الرأسمالي، سمح بخلق الشركات الصغيرة فضلا عن محاولة واسعة النطاق لجذب الاستثمارات الخاصة. والهدف هو زيادة الإنتاجية باستخدام الأساليب الرأسمالية دون إدخال أي تدابير للرقابة العمالية. ما تزال العديد من المكتسبات الاجتماعية قائمة حتى اليوم، لكن نطاقها محدود بشكل متزايد، وتتقلص جودتها باستمرار. وهناك تمايز اجتماعي متنامي. إن هذا وضع خطير جدا. في هذا العام ستكون هناك انتخابات ستشهد لأول مرة صعود رئيس لا ينتمي إلى آل كاسترو ولا لأحد من القيادة التاريخية للثورة. سوف نرى هجمات وضغوطات من جانب اليمين الرأسمالي، الداخلي والخارجي، لكن سنرى أيضا رد فعل في الاتجاه المعاكس من جانب أولئك الذين لم يستفيدوا من تلك الإصلاحات ومن يريدون الدفاع عن الثورة الاشتراكية.

على الرغم من العويل البائس لـ “اليسار” الأمريكي اللاتيني، فإن سقوط كيرشنر في الأرجنتين وديلما في البرازيل لا يمكن أن يعزى إلى “تحول نحو اليمين”. لقد شهد وصول كل من تامر وماكري إلى السلطة اندلاع حركات احتجاجية ضخمة للطبقة العاملة ضد سياسات الهجوم المباشر التي يطبقها اليمين. إن ما ينفتح أمامنا في أمريكا اللاتينية ليس فترة سلام اجتماعي واستقرار رأسمالي، بل انفجار تناقضات متصاعدة وصراع طبقي متزايد. لقد اتضح ذلك مع حركة التمرد في هندوراس، بعد انتخابات عام 2017. وقبل ذلك، في غواتيمالا، عام 2015، حيث فتح الصراع بين البرجوازيين الطريق أمام تحركات جماهيرية للشباب والمنظمات الفلاحية والطبقة العاملة. لم تنته هذه السيرورة بعد. وفي عام 2017 شهدنا إضرابا عاما يطالب باستقالة الرئيس خيمي موراليس و107 من أعضاء البرلمان. ستسير على نفس الطريق بلدان أخرى مثل المكسيك التي ستشهد انتخابات رئاسية هذا العام، وهو الحدث الذي ستستخدمه الجماهير للتعبير عن سخطها وتعبها من همجية الرأسمالية.

فنزويلا

يبدو أن محاولة الأوليغارشية الفنزويلية، المدعومة من طرف الإمبريالية، للإطاحة بحكومة مادورو قد هُزمت في الوقت الراهن. إن أخطاء وتذبذبات قيادة المعارضة، فضلاً عن رد فعل الجماهير، التي خرجت بقوة خلال انتخابات الجمعية التأسيسية، في يوليوز 2017، قد وضعت نهاية مؤقتة لهجوم المعارضة خلال النصف الأول من العام الحالي. لكن هذا لم يغير أي شيء أساسي بخصوص الأزمة الاقتصادية أو سياسات الحكومة.

مازالت فنزويلا غارقة في ركود عميق، مع تضخم مفرط وتراجع سريع في احتياطيات العملات الأجنبية، وهو ما له تأثير سلبي للغاية على مستويات معيشة الجماهير، بينما تواصل الإمبريالية تشديد الخناق بفرض عقوبات مالية. أما الحكومة فتواصل سياسة تقديم التنازلات للرأسماليين والتفاوض مع ممثلي المعارضة. هدفها الوحيد هو البقاء في السلطة. لقد فتحت الهزيمة المؤقتة التي تعرضت لها المعارضة الباب أمام تصاعد التقاطب الداخلي بين صفوف الحركة البوليفارية. وقد شهدنا مظاهرات للعمال وبروز مرشحين يساريين لمنافسة المرشحين الرسميين في الانتخابات البلدية.

موقفنا واضح: إننا نعارض محاولات المعارضة الإطاحة بحكومة مادورو، لأن ذلك سيكون بمثابة كارثة على الجماهير. لكننا، في الوقت نفسه، لا ندعم سياسات الحكومة، التي تقود مباشرة إلى الكارثة وإلى هزيمة الثورة البوليفارية.

هناك مزاج متزايد من النقد تجاه القيادة البوليفارية، التي لا تتمتع بنفس النفوذ الذي كان يتمتع به هوغو تشافيز. وقد كان قرار إدواردو سامان، الوزير السابق الذي برز باعتباره رائدا لمحاولات فرض الرقابة العمالية ومعارضة الشركات الكبرى والشركات الرأسمالية متعددة الجنسيات، أن يترشح في الانتخابات البلدية، في دجنبر 2017، مؤشرا واضحا على هذا المزاج المتغير.

وعلى الرغم من أنه كان من الواضح دائماً أن البيروقراطية مصممة على تخريب حملة سامان، فإنها كانت نقطة تحول تفتح إمكانيات جديدة للتيار الماركسي في فنزويلا.

الهند وباكستان

جاء ناريندرا مودي إلى السلطة، في عام 2014، على خلفية خيبة أمل واسعة النطاق في حزب المؤتمر، سواء من جانب الجماهير أو فئة من البرجوازية نفسها. لكنه لم يتمكن من إرضاء أي من القوى التي جلبته إلى السلطة. كان الهدف من سياسة إلغاء تداول بعض العملات الورقية والإصلاح الضريبي فيما يخص السلع والخدمات، تنشيط قطاع الأعمال، لكن ما حدث بدلاً من ذلك هو المزيد من إضعاف الاقتصاد، الذي انخفض من معدلات نمو أعلى من 9% إلى أقل من 7% في عام 2017.

لقد أفسحت تلك الفترة الوجيزة من النمو المرتفع، خلال 2014 و2016، المجال الآن إلى تباطؤ اقتصادي حاد. بل حتى خلال فترة النمو السريع تلك كانت البطالة تعرف ارتفاعا وأطلق مودي سلسلة كاملة من الهجمات على الحركة العمالية. كانت النتيجة زيادة في حدة الصراع الطبقي. لقد خرج كل من الطلاب والفلاحين والعمال إلى الشوارع. وفي شتنبر 2016، شارك أكثر من 180 مليون عامل في إضراب عام، أي أكثر بحوالي 50% من الإضراب العام المماثل الذي تم تنظيمه قبل عام.

وفي كشمير أيضا خرجت الجماهير إلى الشوارع في حركة هزت الحكومة، التي لم تنجح في إخضاعها مؤقتا إلا باستخدام القمع الشديد. ومع ذلك فقد كان للحركة تأثير معين في بقية البلاد، ولا سيما بين الطلاب.

حاول مودي صرف الانتباه عن هذه التطورات عن طريق استغلال النزعة الطائفية الهندوسية، لكن هذه المناورة لا يمكنها أن تنجح إلا لفترة محدودة، إذ ستقضي عليها، عند نقطة معينة، الحركة العمالية الصاعدة.

ترتبط الأحداث في باكستان والهند ارتباطا وثيقا. وتوجد للطبقة الحاكمة الهندية والباكستانية مصلحة مشتركة في الحفاظ على حالة الصراع بين البلدين من أجل تحويل انتباه الجماهير عن مشاكلها. لكن موقف الطبقة الحاكمة الباكستانية ضعيف بشكل متزايد.

وفي الوقت الذي بدأت الولايات المتحدة تسحب فيه مساعدتها للنظام، بدأت الصين في التدخل. توجد لدى الصينيين مصلحة خاصة في باكستان باعتبارها حليفا وحاجزا ضد الهند، فضلا عن كونها قاعدة لعملياتهم البحرية التجارية والعسكرية في المحيط الهندي. لكن الاستثمارات الصينية لا تخلق الوظائف أو تحل التناقضات الموجودة في المجتمع.

لقد أصبحت المسألة القومية أكثر تفاقما، والوجود الصيني، في أماكن مثل بلوشستان، لا يعمل سوى على زيادة تفاقم الطائفية التي هي مجرد غطاء لحروب الوكالة الدامية بين قوى خارجية متصارعة (أمريكا، الصين، السعودية، إيران…). لا يمر يوم إلا ويزداد انفضاح السياسات الرجعية للطبقة الحاكمة في نظر الجماهير التي تشعر بالازدراء تجاه النخبة المتعفنة التي تحكم وتنهب البلد.

لعب قادة حزب الشعب الباكستاني، في الماضي، دورا مهما في توجيه غضب الجماهير، مستندين على تقاليد النضال لأواخر الستينيات تحت حكم علي بوتو. لكن وبعد فترات طويلة في الحكومة وتنفيذ سياسات التقشف، صار حزب الشعب الباكستاني غارقا في الفساد وفقد مصداقيته إلى حد كبير. وهذا ما سمح لرابطة شريف الإسلامية بالعودة. شريف بدوره ينفضح الآن أمام أعين الجماهير بكونه سياسي برجوازي فاسد ليس لديه ما يقدمه لها.

هناك مزاج متنام من الرفض تجاه جميع السياسيين، الذين ينظر إليهم على أنهم مجرد عصابات من المنتفعين وأعداء الطبقة العاملة والفقراء. لو حدث هذا في الماضي لكان الجيش سيتحرك لأخذ السلطة، لكنه في الوقت الحالي منقسم ومحبط. والجنرالات مترددون في قبول مسؤولية معالجة الفوضى. هذا هو السياق الذي نشهد فيه بداية نضالات العمال والشباب.

إفريقيا

في جنوب أفريقيا تسببت العديد من سنوات الصراع الطبقي المتصاعد في تحطيم التحالف الثلاثي (المؤتمر الوطني الإفريقي، والحزب الشيوعي، و مؤتمر نقابات عمال جنوب إفريقيا) وقد أدت الإضرابات العمالية وحركات الشباب في الجامعات إلى ظهور “مقاتلي الحرية الاقتصادية” وحركة نقابية عمالية جديدة بقيادة الاتحاد الوطني لعمال المعادن. وعلى الرغم من أن الحركة قد تراجعت مؤقتا، فإنها تسببت للنظام في آثار جدية.

إن الأزمة الاقتصادية والسخط الجماهيري والنهب الوقح لموارد الدولة من قبل النخبة السوداء المتحلقة حول زوما وعائلة غوبتا، كلها عوامل تزعزع استقرار الوضع وتقوض نفوذ حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. والبورجوازية الكبيرة، التي تعاونت مع مانديلا لتحقيق الاستقرار بعد الأحداث الثورية خلال الثمانينيات والتسعينيات، قد دخلت في صراع مع طبقة الأثرياء الجدد والزمرة الحاكمة المتحلقة حول زوما.

لكن الطبقة السائدة، من ناحية أخرى، لا تستطيع التخلي عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لأنها لا تمتلك حزبا بديلا لضمان استقرار الوضع. ولأن جناح زوما كان على علم بذلك، فقد استمر يرفع التحدي بشكل متهور في لعبة خطرة. يمكن لهذا الانقسام المفتوح بين المعسكرين والانقسام المحتمل داخل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي أن تكون له عواقب ثورية بالنسبة للبلد الذي يملك أكبر اقتصاد في إفريقيا.

أما في نيجيريا، فبعد التصاعد الهائل الذي عرفه الصراع الطبقي في يناير 2012، تعرض حزب الشعب الديمقراطي، الذي كان يعتبر الدعامة الرئيسية للسيطرة البرجوازية، لفقدان مصداقيته في نظر الجماهير. هذا هو السبب الذي دفع البرجوازيين إلى أن يصنعوا بسرعة حزبا جديدا، حزب المؤتمر، الذي هو في الواقع انصهار لأحزاب صغيرة، ووضعوا على رأسه بوخاري، الذي اعتبروه مرشحا جيدا لحشد الدعم بين جموع السكان وإيقاف التجذر المتصاعد.

كانت هذه المناورة ممكنة لأن قادة النقابة الرئيسية، المؤتمر النيجيري للشغل، وبدلاً من البناء على أساس حركة 2012، نزلوا بكل ثقلهم لكبح تلك الحركة، بينما رفضوا في الوقت نفسه بناء حزب مستقل للطبقة العاملة. ذلك الفراغ الذي تركه القادة العماليون هو الذي مكن بوخاري من التقدم. لكن وعلى الرغم من كل هذا لم يتم حل أي من المشاكل الحارقة التي تواجه الجماهير النيجيرية. وقد ظهر ذلك مؤخرا في تصاعد المطالب بجمهورية بيافران في الجنوب الشرقي، والتي على الرغم من سحقها على يد الجيش، فإنها تكشف عن التوترات الكامنة داخل المجتمع النيجيري. وبمجرد ما ستتبدد آخر بقايا الأوهام في بوخاري، سنشهد عودة الصراع الطبقي على نطاق أوسع مما حدث في عام 2012.

في غرب ووسط أفريقيا شهدنا خلال الفترة الأخيرة تصاعدا حادا في الحركات الجماهيرية ضد البورجوازية المحلية الفاسدة والاستغلالية. كانت تلك حركات هائلة امتدت على فترات طويلة وحشدت ملايين الناس، مثل الانتفاضة البطولية في بوركينا فاسو، هذا في الوقت الذي تعاني فيه الاقتصادات الهشة لتلك البلدان بشدة من الأزمة الاقتصادية العالمية. كانت الهجمات التي شنتها الأنظمة الضعيفة مؤخرا على الحقوق الديمقراطية، في توغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. ويربط الشباب على وجه الخصوص بين الاضطهاد الذي يعيشونه وبين تلك الحكومات المنحطة. إن البؤس المنتشر في المنطقة، وكذلك الدور المخادع الذي يلعبه زعماء المعارضة البورجوازيين، الذين همهم الوحيد هو أن يحلوا محل رؤساء النظام، يؤكدان صحة نظرية الثورة الدائمة والحاجة إلى بناء منظمة ثورية أممية. لكن وبسبب انعدام قيادة كفاحية، تراجعت الحركة بعد تلك الموجة الهائلة من النهوض الجماهيري. والاستنتاج الوحيد الذي يمكن للجماهير استخلاصه من كل هذا هو أنه لا يمكنها أن تثق في القيادة القديمة. فقط النظرية الماركسية والتنظيم الثوري من يمكنهما أن يحطما هذا المأزق.

تشاؤم البرجوازية

لقد أتاحت الذكرى المائوية لثورة أكتوبر الفرصة أمام الخبراء الرأسماليين للتأمل في التاريخ والقلق بشأن المستقبل. كتب مارتن ساندبو، في صحيفة فايننشال تايمز، 15 غشت 2017:

«نحتفل هذا العام بذكرتين سنويتين لديهما من النقاط المشتركة أكثر مما يبدو للوهلة الأولى، هما الذكرى المائوية للثورة الروسية وذكرى مرور عقد منذ بداية الأزمة المالية العالمية.

لقد هزت الأزمة المالية العالمية […] أسس النموذج الذي خرج منتصرا من الحرب الباردة.

كانت الشيوعية المتعفنة التي سادت في الكتلة السوفياتية قد انهارت خلال الثمانينيات تحت وطأة تناقضاتها الاقتصادية والسياسية. ويظهر الاضطراب السياسي خلال العام الماضي أننا نشهد الآن ما إذا كانت أنظمة اقتصاد السوق المفتوحة ستعاني من نفس المصير». (التأكيد من عندنا)

وأضاف:

«يعتبر فريدريك فون هايك بأن أسعار السوق المرنة توفر معلومات أكثر مما يمكن لأي آلية تخطيط أن تأمل في تجميعها بشكل مركزي؛ وبالتالي فإن اتخاذ القرار المتشتت يعمل بشكل أكثر كفاءة من سلطات الدولة. […]

إلا أن صفعة الأزمة المالية العالمية قوضت أي ادعاء بأن الرأسمالية المالية الغربية هي أفضل وسيلة لتنظيم الاقتصاد».

ويختم قائلا:

«ما حدث قبل 10 سنوات من الآن كان هو الإدراك المروع بأن المطالب المالية التي تراكمت خلال سنوات الازدهار السابقة لم تقدم أية إضافة، وأن الإنتاج الاقتصادي المستقبلي الذي كانوا يزعمونه ليس كافيا ليتم تكريمهم.

[…] كما خانت ليبرالية السوق، بدورها، الحلم الذي وعدت به. إن الاقتصادات الغربية هي اليوم أكثر فقرا بكثير مما تم التنبؤ به قبل الأزمة. كما أن الأزمة وانعكاساتها تركت الشباب، على وجه الخصوص، مع أمل ضئيل في تحقيق نفس فرص الازدهار التي كانت لدى آبائهم وأجدادهم.

[…] يمكن للنظام الاجتماعي أن ينجو من خيبة الأمل لفترة طويلة. […] لكن عندما يعجز الناس عن ضمان مصادر رزقهم، ينتهي الصمت».

بدأ بعض الخبراء الرأسماليين الأكثر جدية في فهم أن وصفاتهم التي تبنوها خلال الثلاثين سنة الماضية لم تعد تعمل. نجد في مقالة ظهرت في الصحيفة الألمانية Die Zeit تحت عنوان “لقد ماتت النيوليبرالية”، أنه حتى صندوق النقد الدولي اعترف بأن سياساته لم تكن لها النتائج المطلوبة. لكنهم بالطبع لا يستخلصون كل الاستنتاجات الضرورية. (المصدر: لقد ماتت النيوليبرالية، بقلم مارك شيريتز ، Die Zeit ، يونيو 2016)

قام فولفجانج ستريك، من معهد ماكس بلانك، بسرد جميع مشاكل الرأسمالية في مقالة مطولة له نُشرت في New Left Review تحت عنوان: “كيف ستنتهي الرأسمالية؟” (ماي / يونيو 2014)، والتي عمل عام 2016 على تحويلها إلى كتاب. وفيها يقول إن هناك أزمة في شرعية النظام الرأسمالي لأنه لم يعد يوفر ما كان يوفره في الماضي، لذلك بدأ الناس في التشكيك فيه. هذا ما يفسر التقلبات الانتخابية التي يمكن ملاحظتها في العديد من البلدان. كما يطرح السؤال حول ما إذا كان “النظام الديمقراطي” يستطيع تطبيق السياسات التي تحتاجها الرأسمالية. وما يعنيه بذلك هو ما إذا كان بإمكانها أن تفرض على الطبقة العاملة ما يحتاجه البرجوازيون.

يؤكد ستريك في مقالته أن الرأسمالية «ستظل في المستقبل المنظور في حالة من عدم اليقين أو الموت أو الاحتضار بسبب جرعة زائدة من نفسها، لكنها ستبقى، لأنه لا يوجد أحد لديه القدرة على تحريك جسدها المتهالك بعيدا عن الطريق». ليس هذا وصفا سيئا لحالة الرأسمالية في وقتنا الحالي.

من المعبر أن كبير المعلقين الاقتصاديين في Financial Times، مارتن وولف، شعر بضرورة الرد على ستيرك في مقال يحمل عنوانا مثيرا للاهتمام: “مرافعة ضد انهيار الرأسمالية”. (Financial Times، 02 نوفمبر 2016). كم يفهم منظرو الرأسمال مرض نظامهم!

سبق للينين أن أوضح أن النظام الرأسمالي إذا لم يتم إسقاطه، سيتمكن دائما من أن يتعافى حتى من أشد الأزمات. فحتى في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت هناك فترات من الانتعاش. تتحدث الصحافة البرجوازية عن الانتعاش طيلة السنوات السبع الماضية، لكنه في الواقع أضعف انتعاش في التاريخ وهو ما تترتب عنه أشياء معينة.

ما يزال النظام الرأسمالي يتمتع، بطبيعة الحال، باحتياطيات مهمة، وإذا شعر الرأسماليون وأصحاب الأبناك بأنهم مهددون بفقدان كل شيء سيعملون على تطبيق إجراءات كينزية. لكن هذه الاحتياطيات ليست بدون حدود وقد تم استخدامها بمعدل ينذر بالخطر خلال السنوات العشر الأخيرة. ونتيجة لذلك، عندما ستأتي الأزمة القادمة، التي ستأتي حتما، سيكونون أكثر عجزا عن تخفيف عواقبها عما كانوا عليه في السابق.

إنهم يكررون باستمرار أنهم تعلموا الدروس مما حدث عام 2008. لكنهم كانوا قد قالوا نفس الشيء عن دروس عام 1929. وكما أشار هيجل فإن أي شخص يدرس التاريخ سيستنتج أنه لم يسبق لأحد أن تعلم منه أي شيء.

في آخر المطاف، وبغض النظر عما سيفعله البرجوازيون، سواء تبنوا الكينزية أو النظرية النقدية أو الحمائية أو أي شيء آخر، فإنهم سيكونون مخطئين. في القرون الوسطى اعتاد الكهنة على القول: كل الطرق تؤدي إلى روما، أما الآن فيمكننا استخدام صيغة مختلفة قليلا، فنقول: في ظل الرأسمالية ، كل الطرق تؤدي إلى الخراب.

خلاصة

منذ وقت ليس ببعيد كان يبدو كما لو أن لا شيء يحدث في العالم. كان على نقاش المنظورات العالمية أن يركز على بلد واحد أو بلدين. لكن ما نشهده الآن هو أن نفس السيرورة الثورية تحدث بهذا القدر أو ذاك من الشدة في جميع بلدان العالم دون استثناء. وبالتالي فإن ما نناقشه الآن هو سيرورة عامة للثورة العالمية.

ليست مناقشة المنظورات الاقتصادية بالنسبة للماركسيين مناقشة مجردة أو ممارسة فكرية أكاديمية. أن الشيء الأكثر أهمية هو تأثيرها على الصراع الطبقي والوعي. لكن بما أن الوعي يتخلف دائما عن الأحداث، فقد كان هناك تأخر حتمي بين بداية الأزمة وبين احتداد الصراع الطبقي.

كانت البرجوازية، التي هي دائما تجريبية وعمياء، عاجزة عن رؤية السخط الشديد الذي كان يتراكم تحت السطح بصمت. كانوا يهنئون بعضهم بأنه لم تحدث أي ثورة. وبمجرد ما تعافوا من الصدمة الأولى، عاد أصحاب الأبناك والرأسماليون إلى “الأعمال”، ومثلهم مثل مخمور يرقص على حافة الهاوية، استمروا في كرنفال مراكمة الأرباح الذي اكتسب وتيرة محمومة في حين أن ظروف الجماهير صارت من سيء إلى أسوء.

شرح تروتسكي ما أسماه بالعملية الجزيئية للثورة، حيث أشار في كتابه: “تاريخ الثورة الروسية” إلى أن ما يحدد وعي الجماهير ليس فقط الأزمة الاقتصادية، وإنما تراكم الاستياء الذي تجمع خلال المرحلة السابقة بأكملها. يتراكم استياء الجماهير بشكل غير ملحوظ حتى يصل أخيرا إلى تلك النقطة الحرجة التي يتحول عندها الكم إلى كيف.

والآن تغير شعور الطبقة السائدة فجأة من الارتياح إلى التشاؤم. هناك غليان اجتماعي وسياسي في كل مكان، مصحوب باضطراب شديد على مستوى عالمي وتغيرات عنيفة في العلاقات العالمية.

حتى لو تحسن الاقتصاد، فإن ذلك لا ينعكس تلقائيا في وعي الجماهير، الذي تشكل من خلال ذكريات عقود من الركود أو انخفاض مستويات المعيشة. لا يعني الانتعاش الاقتصادي الضعيف للغاية الذي شهدته الولايات المتحدة الأمريكية إلا تحسنا نسبيا يقتصر على قطاعات معينة، حيث لا ينعكس ايجابيا على العمال العاطلين في حزام الصدأ. ولا يبدو بمثابة انتعاش حقيقي في أي مكان آخر، كما لم يعد هناك أي شعور بالثقة في النظام أو التفاؤل في المستقبل، بل العكس تماما.

شهدنا نفس الشيء خلال الاستفتاء البريطاني على عضوية الاتحاد الأوروبي. كانت هناك العديد من الأسباب التي جعلت التصويت يسير لصالح الانسحاب. لكن تم الكشف عن سبب مهم للغاية في الاختلافات الإقليمية الحادة بين الشمال والجنوب. لقد حقق أصحاب الأبناك والمضاربون في لندن نجاحا كبيرا بفعل عضوية الاتحاد الأوروبي التي منحتهم إمكانية الوصول إلى الأسواق المالية المربحة في أوروبا. لكن العضوية لم تحقق شيئا على الإطلاق بالنسبة للمناطق الفقيرة في الشمال الشرقي أو ويلز، التي عانت عقودا من التراجع الصناعي وإغلاق مناجم الفحم ومصانع الصلب وأحواض السفن.

تزايد اللامساواة

هناك في كل مكان غضب شديد ضد الارتفاع البشع لمعدلات اللامساواة، حيث يقف تراكم الثراء الفاحش في يد أقلية طفيلية صغيرة في تناقض حاد مع ارتفاع الفقر المتزايد واليأس في القاع. يشعر المنظرون البرجوازيون الجديون بقلق متزايد من هذا الاتجاه لأنه يهدد استقرار النظام بأكمله. في كل مكان هناك كراهية شديدة ضد الأغنياء، وكثير من الناس يسألون: إذا كان الاقتصاد يعمل بشكل جيد، فلماذا لا تتحسن مستويات معيشتنا؟ لماذا يستمرون في الاقتطاع من ميزانية الخدمات والصحة والتعليم؟ لماذا لا يدفع الأثرياء الضرائب؟ وهي الأسئلة التي لا يجدون أجوبة عنها.

يزداد قلق البورجوازية من العواقب السياسية للأزمة. ومعظم أبناء الطبقة العاملة لا يشعرون بفوائد ما يسمى بالانتعاش الاقتصادي، بل إن أوضاعهم صارت أسوأ حالا مما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة. وجد معهد ماكينزي العالمي أن ما بين 65 و70% من الأجراء، في الاقتصادات المتقدمة، شهدوا إما ركودا أو انخفاضا في دخلهم بين عامي 2005 و2014. بينما شهدت بلدان مثل إيطاليا تأثر جميع الأجراء بذلك. (تقرير معهد ماكينزي العالمي: “أفقر من آباءهم”).

وفي الولايات المتحدة، البلد الرأسمالي الأكثر ثراء والأكثر قوة على الإطلاق، لم تكن هناك زيادة حقيقية في مستويات المعيشة لما يقرب من أربعين عاما. بل لقد بدأت مستويات المعيشة بالنسبة لمعظم الأمريكيين في الواقع في الانخفاض. وهذا ليس استثناء. ففي جميع البلدان يعتبر جيل الشباب الحالي أول جيل، منذ عام 1945، لا يمكنه أن يتوقع مستوى معيشة أفضل من آبائه.

ما يزال استقطاب الثروات في الولايات المتحدة مستمرا بلا هوادة. فما بين 2000 و2010 ارتفعت الأرباح بنسبة 80% أما الأجور فقد ارتفعت بنسبة 8% فقط، في حين أن متوسط دخل الأسر انخفض بالفعل بنسبة 5%. تظهر هذه الأرقام أن الزيادة الهائلة في الأرباح قد تحققت على حساب الطبقة العاملة. (The Economist: ماذا عن العمال؟ 25 ماي 2011)

إن الأرقام الخاصة بالمداخيل قبل الضريبة والدخل الخام تقلل من شأن هذه الحالة. إنها لا تأخذ في الاعتبار عوامل أخرى مثل زيادة ساعات العمل وهشاشة مناصب الشغل، سواء تعلق الأمر بعقود صفر ساعة عمل[7] أو العمل المؤقت، وتخفيض ميزانيات خدمات الرعاية الاجتماعية. وكل هذا يزيد من الضغط الكلي على عائلات الطبقة العاملة.

آثار الأزمة تصيب الشباب بشكل مباشر وبشكل أكثر إيلاما. ولأول مرة منذ عدة عقود لن يكون للجيل الجديد نفس مستويات المعيشية التي تمتع بها آباؤهم. ولهذا عواقب سياسية جدية. ففي جميع البلدان يجد الضغط الكبير على الشباب تعبيره في الارتفاع الحاد في التجذر السياسي، حيث يتبنى الشباب في جميع القضايا مواقف أكثر يسارية من بقية المجتمع. إنهم أكثر انفتاحا على الأفكار الثورية من بقية الفئات الأخرى، وبالتالي فإنهم جمهورنا الطبيعي.

دروس انهيار الستالينية

أدى انهيار الاتحاد السوفياتي، في عام 1991، إلى تغيير مسار التاريخ. في ذلك الوقت غمرت البرجوازية وعملاءها داخل الحركة العمالية، أي الإصلاحيين، مشاعر الابتهاج. صاروا يتحدثون عن نهاية الاشتراكية ونهاية الشيوعية وحتى نهاية التاريخ.

ما قصده فرانسيس فوكوياما بحكمه الفاسد ذاك لم يكن أن التاريخ في حد ذاته قد انتهى، بل أن انهيار الاتحاد السوفييتي يعني أن الاشتراكية قد انتهت. ومن ثم فمن المنطقي أن النظام الوحيد الممكن هو الرأسمالية (اقتصاد السوق الحرة) وبهذا المعنى فقد انتهى التاريخ.

ما كان مدهشا بشأن سقوط الستالينية هو السرعة التي انهارت بها تلك الأنظمة، التي كانت تبدو قوية ومنسجمة، بمجرد ما اصطدمت بالحركات الجماهيرية. كان ذلك انعكاسا للتعفن الداخلي لتلك الأنظمة وانحلالها. أما الآن فقد صار تعفن وانحلال الرأسمالية يتضح بشكل متزايد لملايين الناس.

عندما سقط جدار برلين تنبأ تيد غرانت بأن سقوط الستالينية لن يكون سوى الفصل الأول من الدراما العالمية التي سيتبعها فصل ثان أكثر دراماتيكية، هو الأزمة العالمية للرأسمالية. وها نحن الآن نرى حقيقة هذا التوقع. فعوض الازدهار العالمي نرى الفقر والبطالة والجوع والبؤس، وبدلا من السلام الشامل نرى الحروب تلو الحروب تلو الحروب.

يمكن لنفس السيرورات التي تسببت فجأة في سقوط الستالينية أن تحدث مع الرأسمالية. نحن نشهد في جميع البلدان، الواحد منها تلو الأخرى، صدمات مفاجئة تختبر مرونة النظام وتفضح نقاط ضعفه.

مؤسسات الديمقراطية البرجوازية، التي كانت موثوقة بشكل أعمى في الماضي، بدأت تفقد مصداقيتها في كل مكان. فالناس لا يثقون بالسياسيين ولا بالحكومات ولا القضاة ولا الشرطة ولا الأجهزة الأمنية ولا حتى الكنيسة: فالنظام بأكمله يخضع للتشكيك والنقد الشديدين.

سئل ممثل عن موقع ويكيليكس على التلفزيون البريطاني: “هل تقول بجدية إن أجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة تكذب؟”، فأجاب: “لم لا؟ إنهم دائما يقولون الأكاذيب!”، هذا ما بدأ الكثير من الناس في فهمه الآن.

المنظمات الجماهيرية: أزمة الإصلاحية

أزمة الرأسمالية هي أيضا أزمة الإصلاحية. في كل مكان تعيش الأحزاب التقليدية، سواء اليمينية أو اليسارية، في أزمة. فالمنظمات التي كانت تبدو قائمة على أساس صلب وثابتة صارت الآن تغرق في الأزمات أو تتراجع أو حتى تنهار كليا. كما أن الأحزاب الإصلاحية التي شاركت في الحكومات التي طبقت سياسات التقشف القاسية صارت منبوذة من طرف ناخبيها التقليديين.

يمكن رؤية نفس السيرورات تحدث، إلى هذا الحد أو ذاك، وبهذه السرعة أو تلك، في كل بلدان أوربا تقريبا. في هولندا كذلك، وكما كان الحال في فرنسا، انهزم حزب خيرت فيلدرز اليميني في الانتخابات، فتنفست البرجوازية الصعداء. لكن الشيء الأكثر أهمية من هزيمة فيلدرز هو الكارثة الساحقة التي تعرض لها حزب العمال الهولندي، الذي انتهى عمليا، حيث خسر 75% من الأصوات.

صعود حزب العمال في بلجيكا هو أيضا تطور هام. فتلك المنظمة التي كانت مجرد عصبة ماوية صغيرة صارت الآن حزبا يساريا إصلاحيا، رغم أنها تزعم أنها ماركسية وشيوعية. في والونيا، المنطقة الناطقة بالفرنسية، تمكنوا من احتلال المرتبة الثانية خلف الاشتراكيين. وينطبق نفس الشيء على بروكسل. يمكنهم كذلك الحصول على حوالي 25% من الأصوات في الأحزمة الحمراء، وبدأوا في النمو في فلاندرز أيضا.

تبحث الجماهير عن التغيير وتطالب بالتغيير. إنها بحاجة إلى إيجاد تعبير سياسي منظم لهذا الغضب. خلال الفترة الماضية قامت الجماهير اليونانية بكل ما في وسعها للنضال من أجل تغيير المجتمع. كانت هناك العديد من الإضرابات الجماهيرية والإضرابات العامة والمظاهرات الحاشدة، لكننا نصل هنا إلى المسألة الأهم، أي العامل الذاتي.

في محاولتها لإيجاد مخرج من الأزمة، تتجه الجماهير في البداية إلى خيار سياسي معين، ثم تضعه على المحك، ثم تتخلص منه وتبحث عن بديل آخر. هذا ما يفسر التقلبات العنيفة للرأي العام نحو اليسار ونحو اليمين. لكنهم لا يجدون ما يبحثون عنه. إن الأشخاص الذين يجب أن يقودوا -أي السياسيين العماليين والاشتراكيين الديمقراطيين، ومن يسمون بالشيوعيين السابقين، وقبل كل شيء القادة النقابيون- لا يريدون أن يناضلوا ضد التقشف ومن أجل التغيير الجذري للمجتمع.

سبق لتروتسكي أن شرح أن الخيانة طبيعة متضمنة في الإصلاحية. لم يكن يعني بقوله هذا أن جميع الإصلاحيين يخونون الطبقة العاملة بشكل متعمد، إذ يمكن أن يكون هناك إصلاحيون نزيهون، وكذلك الوصوليون الفاسدون والبيروقراطيون الذين هم عملاء البرجوازية داخل المنظمات العمالية. ومع ذلك، فحتى الإصلاحيين اليساريين الصادقين ليس لديهم أي منظور للتحويل الاشتراكي للمجتمع. إنهم يعتقدون أن تنفيذ الإصلاحات التي يطلبها العمال ممكن في ظل الرأسمالية. إنهم يعتبرون أنفسهم واقعيين من الطراز العالي، لكن في ظل ظروف الأزمة الرأسمالية، تقف هذه “الواقعية” مكشوفة باعتبارها أسوء أنواع الطوباوية.

لقد انهار حزب “باسوك”، الذي كان طوال عقود الحزب الجماهيري للطبقة العاملة اليونانية، بسبب خيانة الحزب ومشاركته في حكومات التقشف. فتحول العمال إلى حزب سيريزا، الذي كان في السابق حزبا صغيرا جدا، وأصبح أليكسيس تسيبراس القائد السياسي الأكثر شعبية في اليونان. أجرى تسيبراس استفتاء سأل فيه المواطنين: “هل يجب أن نقبل الاقتطاعات التي توصي بها السيدة ميركل؟” فكان الجواب بأغلبية كبيرة.

صوت شعب اليونان بأغلبية ساحقة لصالح رفض التقشف. ليس فقط العمال، بل أيضا الطبقات الوسطى وسائقي سيارات الأجرة وصغار المقاولين. في تلك اللحظة كان بإمكان تسيبراس أن يقول: “لن ندفع ولو يورو واحد إلى تلك العصابات! كفى! سنأخذ السلطة في أيدينا ونناشد عمال إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا أن يحذوا حذونا. علينا أن نناضل ضد دكتاتورية أصحاب الأبناك والرأسماليين، من أجل أوروبا اشتراكية ديمقراطية حقيقية”.

لو أنه فعل ذلك لكان قد حصل على دعم جماهيري هائل. كان الشعب اليوناني سيخرج فرحا إلى الشوارع، وكان مستعدا لتقديم التضحيات، والتضحيات الكبيرة إذا لزم الأمر، لدعم قادته، بشرط واحد هو أن يقتنع بأنه يناضل من أجل قضية عادلة وأن التضحيات ستكون هي نفسها بالنسبة للجميع. كان بإمكان تسيبراس أن يعطي الإشارة فتكون نهاية الرأسمالية في اليونان. كان بإمكانه مصادرة الأبناك والرأسماليين الكبار.

لكن تسيبراس ليس ماركسيا. إنه إصلاحي وبالتالي فإنه لا يفهم الاعتماد على قوة الجماهير. فاستسلم لابتزاز برلين وبروكسل ووقع صفقة أسوء بكثير من تلك التي كانت في البداية، مما أدى إلى انهيار رهيب في معنويات الجماهير وانخفاض كبير في قاعدة دعم حزب سيريزا، على الرغم من أنه ما يزال موجودا بسبب غياب البديل.

وقد أثرت السيرورة أيضا على إسبانيا التي تمر بأزمة سياسية عميقة. فمثلما حدث مع صعود سيريزا في اليونان، كان الصعود السريع لحزب بوديموس (PODEMOS) انعكاسا واضحا للسخط الشديد على الأحزاب القديمة والرغبة الملحة في التغيير. لكن السياسات المرتبكة والمتذبذبة لقيادة بوديموس تسببت في خيبة أمل أنصارهم حتى قبل وصولهم إلى السلطة. وأدى تورط بابلو إغليسياس مع الاشتراكيين الديمقراطيين إلى تراجع كبير في أصوات بوديموس وانقسام حاد بين قادته.

والآن يتطلع قادة بوديموس إلى اليمين، تجاه الحزب الاشتراكي الديمقراطي، على أمل التوصل إلى نوع من الاتفاق من أجل الإطاحة بحكومة راخوي المكروهة. قادهم ذلك إلى تلطيف لهجتهم، وصاروا يتعرضون لضغوط هائلة لكي يظهروا بمظهر “رجال دولة” أكثر احتراما، وهذا ما سوف يزيد في إرباك مؤيديهم.

ليس الزعيم الجديد للاشتراكيين الإسبان، بيدرو سانشيز، سوى انعكاس باهت لجيريمي كوربين وميلينشون. لكنه، ورغم ذلك، عندما تجرأ على طرح مسألة تشكيل حكومة ائتلافية مع بوديموس والقوميين الكاتالونيين حاولت الطبقة الحاكمة الإسبانية إزاحته. لكن تلك المحاولة تم التصدي لها من طرف قواعد الحزب في الانتخابات الداخلية التي أعادت بيدرو سانشيز أمينا عاما.

إن الحالات المذكورة أعلاه هي مظاهر مختلفة لنفس السيرورة. في كل مكان تواجه الأحزاب الإصلاحية والستالينية السابقة الأزمة. بعضها تعرض للانشقاقات، بينما اختفى البعض الآخر كليا (تمثل إيطاليا مثالا متطرفا على هذا، حيث اختفت كل من الأحزاب الاشتراكية والشيوعية القديمة). كما شهدنا أيضا ظهور تشكيلات سياسية جديدة ، مثل سيريزا وبوديموس.

هذه التشكيلات الجديدة، مثلها مثل الزبد الذي يظهر على موج البحر، هي انعكاس للتيارات العميقة والقوية التي تعتمل تحت السطح. ومع ذلك، فإن هذه التشكيلات الجديدة تفتقر إلى قاعدة مستقرة بين صفوف الطبقة العاملة وداخل النقابات العمالية. ونتيجة لهذا، وأيضا بسبب تكوينها البرجوازي الصغير في الغالب، فإنها غير مستقرة بطبيعتها وقد تنهار بنفس السرعة التي ظهرت بها.

نموذج كوربين في بريطانيا يعتبر حتى الآن استثناء من القاعدة. إن هذا التطور، كما أوضحنا سابقا، كان نتيجة لصدفة، لكنها، كما شرح هيجل، صدفة تعبر عن الضرورة. الجانب القوي لحركة كوربين هو أنها وفرت النقطة المحورية اللازمة لتجميع السخط المتراكم بين صفوف الجماهير، وخاصة الشباب. لكن جانبها الضعيف سينكشف عندما سيتم إخضاع محدودية برنامجها الإصلاحي اليساري للمحك بعد صعود حزب العمال إلى السلطة.

هذا يعني أن تكتيكاتنا يجب أن تكون مرنة في جميع الأوقات، ومتوافقة مع الظروف الملموسة ومستوى وعي الطبقة العاملة، وقبل كل شيء مع فئاتها الأكثر نشاطا وتقدما. وفي جميع تلك الحالات، يجب أن يكون نهجنا دائما هو نفسه: الدعم النقدي.

سندعم الإصلاحيين اليساريين في النضال ضد الجناح اليميني، وسنعمل دائما على دفعهم للذهاب أبعد. لكننا وفي الوقت نفسه يجب أن نوضح بصبر للعمال والشباب المتقدمين محدودية برنامج لا يهدف إلى إسقاط الرأسمالية، بل يسعى فقط إلى إصلاحها من الداخل، باعتباره سياسة طوباوية، وأنه في ظل ظروف الأزمة الرأسمالية لا يمكنه، بغض النظر عن النوايا الحسنة لأصحابه، أن يؤدي إلا إلى الهزيمة ويعبد الطريق لصعود اليمين.

تجذر الشباب

تكتسح الاضطرابات السياسية والاجتماعية البلدان الأوروبية الواحد منها تلو الآخر مثل رياح ساخنة. وقد ظهر التغير الحاصل في الوعي في استطلاع للرأي عن الشباب نشر في Quartz، في 28 أبريل 2017، كان جزءا من استطلاع نظمه الاتحاد الأوروبي بعنوان “أي جيل؟”، حيث طرح على حوالي 580 ألف شخص في 35 بلدا السؤال التالي: “هل ستشارك بفعالية في انتفاضة واسعة النطاق ضد الجيل الموجود في السلطة إذا حدث ذلك في الأيام أو الأشهر القادمة؟”. قال أكثر من نصف الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاما: أجل. ويخلص المقال إلى أن: “الشباب الأوروبيين سئموا من الوضع الراهن في أوروبا. وهم مستعدون للنزول إلى الشوارع لإحداث التغيير”.

ركز التقرير على مستجوبين من 13 بلدا ليفهم بشكل أفضل ما يشعر به الشباب من التفاؤل والإحباط في أوروبا. ومن بين تلك البلدان كان الشباب في اليونان “مهتمين بشكل خاص بالمشاركة في انتفاضة واسعة النطاق ضد حكومتهم، حيث أجاب 67% على السؤال بقولهم: نعم”. كان المستجوبون اليونانيون أكثر ميلا للاعتقاد بأن السياسيين فاسدون، وتبنوا موقفا سلبيا تجاه القطاع المالي للبلد.

وجاء الشباب في إيطاليا وإسبانيا في المرتبة التالية، حيث أبدى 65% و63%، على التوالي، استعدادهم للانضمام إلى انتفاضة واسعة النطاق. في فرنسا ، البلد الذي توجد الثورة في حمضه النووي، أجاب 61% من الشباب بنعم. لكن حتى في هولندا، التي ما تزال حتى الآن بمنأى عن الأزمة الحادة، أجاب ثلث الشباب بنعم، وارتفع الرقم إلى 37% في ألمانيا وحوالي 40% في النمسا.

خلال الحملة الانتخابية نظم الشباب الفرنسيون مسيرات في رين ومدن أخرى للاحتجاج ضد مرشحي الرئاسة. احتل بعض المحتجين المدارس، بينما سار آخرون إلى وسط المدينة حاملين لافتات كتب عليها “اطردوا مارين لوبان، وليس المهاجرين” و”لا نريد ماكرون ولا لوبان”. ويشير التقرير المذكور إلى أن المشاركين من فرنسا اشتكوا من وجود عدد من التطورات السلبية: الكثير من الفساد، الكثير من الضرائب، الكثير من الأغنياء – مقارنة ببقية بلدان الاتحاد الأوروبي.

تشير هذه الأرقام إلى أن هناك تغييرا عميقا يحدث. ويخلص التقرير إلى أن: «عدم اكتراث الشباب بالانتخابات وضع مثير للقلق. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، انخفضت معدلات المشاركة في الانتخابات العامة بنسبة 28 نقطة مائوية، من 66% عام 1992 إلى 38% عام 2005. لكن هذا التدني في المشاركة الانتخابية ليس بالضرورة دليلا على عدم المبالاة بالسياسية».

مشكلة القيادة

يسأل بعض الناس السطحيين: “إذا كانت الأمور سيئة للغاية، فلماذا لم تحدث أي ثورة؟” كما أن الطبقة الحاكمة تهنئ نفسها بأن ذلك لم يحدث، لأنها في البداية كانت تخشى من الأسوأ. وحيث أن الأسوأ لم يتجسد على الفور، فقد تنفس البرجوازيون الصعداء وعادوا إلى كرنفال صنع الأرباح، في حين يشهد الجميع تراجع مستويات معيشتهم وتحطم آفاقهم المستقبلية. أي أنهم، بعبارة أخرى، يتصرفون كرجل يقطع الغصن الذي يجلس عليه.

في الواقع لا يوجد أي شيء مثير للاستغراب في تأخر سيرورة الثورة. فعلى مر عقود عديدة بنى أصحاب الأبناك والرأسماليون دفاعات قوية لنظامهم. إنهم يسيطرون على الصحافة والإذاعة والتلفزيون. ويتمتعون بموارد مالية لا حدود لها تقريبا، يستخدمونها لشراء خدمات الأحزاب السياسية، ليس اليمينية فقط بل “اليسارية” أيضا، وكذلك العديد من قادة النقابات “المسؤولين”. كما يمكنهم الاعتماد على دعم الأساتذة الجامعيين والمحامين والخبراء الاقتصاديين ورجال الدين والفئات العليا الأكثر تميزا من بين المثقفين. وإذا ما فشل كل ذلك، يمكنهم دائما اللجوء إلى هراوة رجال الشرطة والقضاة ونظام السجون.

لكن هناك حاجز آخر أقوى بكثير أمام الثورة. إن الوعي الإنساني، وعلى عكس ما يعتقده المثاليون، ليس تقدميا وهو بالتأكيد ليس ثوريا. إنه محافظ بالفطرة وبشكل عميق. معظم الناس يخافون التغيير. وفي ظل الظروف العادية، سيتشبثون بالأمور المألوفة لديهم، بما يعرفونه: سيتشبثون بالأفكار والأحزاب والقادة والأديان المألوفة لديهم. هذا شعور طبيعي تماما ويعكس غريزة الحفاظ على الذات. ويعود ذلك إلى الأيام التي كنا نعيش فيها في الكهوف ونخاف من الخبايا المظلمة حيث توجد الحيوانات الخطرة.

هناك شيء مريح في الروتين والعادات والتقاليد، وفي إتباع المسالك القديمة المعروفة. وكقاعدة لن يقبل الناس فكرة التغيير إلا على أساس الأحداث العظيمة التي تهز المجتمع من أساساته فتغير الوعي وتجبر الناس على رؤية الأشياء كما هي حقا. هذا لا يحدث تدريجيا بل بطريقة متفجرة. وهذا بالضبط ما نراه يحدث الآن في كل مكان. لقد بدأ الوعي يلحق بالواقع عبر طفرات.

إن المسألة الأهم هي مسألة القيادة. في عام 1914، وصف ضباط الجيش الألماني الجيش البريطاني في فرنسا بالعبارة التالية: “أسود يقودهم الحمير”. وهذا وصف مناسب جدا للطبقة العاملة في كل مكان. يلعب القادة الإصلاحيون دورا خبيثا، يتشبثون “بالسوق الحرة” حتى وهي تنهار في كل مكان حولهم.

الزعماء الإصلاحيون اليمينيون فاسدون تماما. لقد تخلوا منذ عقود حتى عن التظاهر بتبني الاشتراكية، وأصبحوا الخدم الأكثر ولاء لأصحاب الأبناك والرأسماليين. إنهم يحملون على عاتقهم مسؤولية تخفيض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية وشن الهجمات على مستويات المعيشة من أجل الدفاع عن الرأسمالية. لكنهم بذلك يفضحون أنفسهم في نظر الجماهير التي دعمتهم في السابق.

كان هناك منطق واضح في هذا. ففي فترة الازدهار الرأسمالي، كان من الممكن تقديم تنازلات للطبقة العاملة، خاصة في البلدان الرأسمالية المتقدمة في أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان. لكن في فترة الأزمة العميقة، يقول البرجوازيون إنهم لم يعودوا قادرين على تحمل تكاليف الإصلاحات. بل إنهم، على العكس من ذلك، يطالبون بتصفية تلك الإصلاحات التي تم تحقيقها منذ عام 1945. تعتبر الإصلاحية مع وجود إصلاحات مسألة منطقية بالنسبة للجماهير، لكن الإصلاحية بدون إصلاحات، أو بالأحرى الإصلاحية مع الإصلاحات المضادة، ليس لها أي معنى على الإطلاق.

لقد حكمت مرحلة الازدهار الرأسمالي الطويلة، التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، على الاشتراكية الديمقراطية بالانحطاط الكامل، وقد تغلغل هذا الانحطاط عميقا في صفوفها. معظم النشطاء القدامى في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والنقابات العمالية صاروا محبطين بسبب المرحلة السابقة. إنهم يشعرون بخيبة الأمل والارتباك والارتياب العميق. لقد صاروا بعيدين كل البعد عن المزاج الحقيقي للطبقة العاملة وعن التعبير عنه.

هذه الفئة من النشطاء لم تفهم شيئا على الإطلاق. إنهم لا يمثلون الحاضر أو المستقبل، بل هم مجرد انعكاس لإحباطات الهزائم السابقة. والوضع أسوأ من ذلك بكثير مع الستالينيين السابقين، الذين تخلوا تماما عن أي منظور اشتراكي أو غريزة طبقية ثورية ربما كانت لهم ذات مرة. قد يعود البعض منهم إلى النشاط عندما يرتفع الصراع الطبقي، لكن معظم هؤلاء الإصلاحيين اليساريين والستالينيين السابقين مشبعون بشدة بروح الارتياب حتى صاروا يشكلون عقبة في طريق العمال المناضلين والشباب الذين يبحثون عن طريق الثورة الاشتراكية.

موقفنا باعتبارنا منظمة ثورية لا يمكن أن تحدده أو تؤثر عليه بأي شكل من الأشكال الأحكام المسبقة لهذه الفئة. ترتكز تكتيكاتنا على الوضع الحقيقي، أي الأزمة العضوية للرأسمالية، التي تنتج بدورها جيلا جديدا من المناضلين الطبقيين، والذي سيكون أكثر ثورية بكثير من الجيل القديم. يجب أن نبني أنفسنا على الشباب: الطلاب وطلاب المدارس، وفوق كل ذلك شباب الطبقة العاملة الذين يتعرضون للاستغلال الوحشي وهم منفتحون على الأفكار الثورية.

هذه فترة من الصدمات والتغيرات المفاجئة في الوضع، والتي تؤثر على جميع البلدان دون استثناء. الوسط السياسي ينهار في كل مكان، وذلك انعكاس للاستقطاب الطبقي المتصاعد. الاضطراب السياسي المتزايد يجتاح الأماكن التي كانت تتميز بالاستقرار في السابق. وتؤدي الانتخابات إلى الصدمة تلو الأخرى: حيث التقلبات الحادة إلى اليمين وإلى اليسار. الأشياء التي لم يكن من المفترض أن تحدث صارت تحدث الآن. لذلك علينا أن نكون مستعدين للتغيرات الكبيرة، والتي يمكن أن تحدث بأسرع مما نعتقد. فإذا ما خيب اليسار تطلعات الجماهير، يمكن أن تحدث حركة نحو اليمين، وهو ما سيحضر بدوره انعطافات أكبر نحو اليسار.

يجب علينا أن نتبع السيرورة كما تحدث في الواقع. يجب أن نسلح أنفسنا بالصبر الثوري، لأنه من المستحيل أن نفرض جدولنا الزمني على الأحداث التي يجب أن تتبع مسارها وفقا لسرعتها الخاصة. لكن يجب علينا أيضا أن نكون مستعدين للتغييرات الحادة والمفاجئة، والتي هي متضمنة في الوضع برمته. يمكن أن تأتي الأحداث الهائلة في وقت أبكر مما نعتقد. ليس هناك مجال للرضا عن النفس. يجب أن نبني قوى التيار الماركسي الأممي بأسرع وقت ممكن. يجب أن تكون لدينا حالة استنفار. نحن على الطريق الصحيح، ويجب أن نثبت في العمل والممارسة على أننا الورثة الحقيقيون عن جدارة لتقاليد عام 1917، للينين وتروتسكي، وللثورة البلشفية.

يجب أن تكون لدينا ثقة مطلقة في طبقتنا: الطبقة العاملة، الطبقة الوحيدة المبدعة، الطبقة التي تخلق كل الثروة في المجتمع، والطبقة الثورية الحقيقية الوحيدة التي تحمل مصير الإنسانية بين أيديها. يجب أن تكون لدينا ثقة تامة في الأفكار الماركسية، وأخيرا، لكن ليس آخرا، يجب أن نثق في أنفسنا: أن تكون لنا الثقة التامة في أننا، مسلحين بالأفكار الماركسية، سنبني القوى الضرورية لقيادة الكفاح من أجل تغيير المجتمع، للقضاء على نظام القسوة والظلم والاستغلال والعبودية هذا، وتحقيق انتصار الاشتراكية في جميع أنحاء العالم.

هوامش:

[1]حزام الصدأ (Rust Belt): مصطلح يطلق على المنطقة الممتدة من نيويورك حتى الغرب عبر بنسلفانيا وولاية فرجينيا الغربية وأوهايو وإنديانا… كانت هذه المنطقة معقل الصناعة الأمريكية، لكنها تعرضت، منذ منتصف القرن 20، لتدهور اقتصادي كبير ونقل الصناعات خارجها وإغلاقات المصانع مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر والهجرة. والصدأ كناية عن الآلات المتآكلة والمصانع المغلقة. [المعرب] [2]: شيلوك: (Shylocks) إحدى شخصيات مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، مرابي غني، شرير وقاسي القلب.

[3]: الكارلية هي حركة سياسية إسبانية تنحدر من إنفانتي كارلوس (1788-1855)، وتأسست على اثر الخلاف حول الخلافة على العرش الإسباني بين الخط الكارلي والخط الألفونسي من عائلة بوربون. كانت الحركة في أوجها في ثلاثينيات ونهاية القرن التاسع عشر، ولكنها انتعشت أثناء الحرب الأهلية الاسبانية وشاركت إلى جانب القوات الملكية.

[4]: الفالانج: حزب الكتائب الاسباني أسسه فرانكو خلال الحرب الأهلية الاسبانية

[5]: حزب التقارب الديمقراطي في كاتالونيا، سابقا.

[6] البوشل: ( Bushel) هو إداة قياس المنتجات الزراعية الجافة،1 بوشل = 27.22 كيلوغرام من فول الصوجا. –المترجم-

[7]: عقد صفر ساعة عمل (Zero-hour contract)، عقد عمل معمول به في العديد من البلدان لا تتم الإشارة فيه إلى أي التزام زمني، بحيث يكون العمل بالقطعة أو إنهاء المهمة، ولا يحصل الأجير بموجبه إلا على أجر الساعات التي اشتغلتا فعلا. -المترجم-

عنوان النص بالإنجليزية:

World perspectives: 2018 – a year of capitalist crisis