«سأفرم لحم اليسار، وأحجب ضوء النهار
عن الزمرة الناقمة.
وفى السجن متسع للجميع
من الشيخ حتى الرضيع،
ومن رجل الدين حتى النقابي والخادمة.
فليس السلام مع الآخرين هـناك
سلاما` مع الرافضين هنا ..
هنا طاعة وانسجام
ليحيا السلام !»
محمود درويش
مساء يوم الأحد 29/07/2018 أطل “صاحب الجلالة” “أمير المؤمنين” “حامي الملة والدين” و”ضامن استمرار المؤسسات” و”ظل الله في الأرض” “المقدس الذي لا تمس حرمته”، على “رعاياه” ليلقي الخطاب الذي طال انتظاره. وقبل هذا “الحدث السعيد” بمدة طويلة حرصت أبواق النظام على إقناع كل من يريد أن يستمع بأهمية الخطاب المنتظر وتاريخيته الأكيدة والجواهر الثمينة التي سيوزعها يمينا وشمالا…
لكن ويا للعجب يبدو أن أغلب الشباب في أغلب المقاهي لم يقتنعوا بآراء هؤلاء “الخبراء” وفضلوا متابعة مباريات كرة القدم على التملي بطلعته والإنصات له وهو يتهجى بصعوبة وبأخطاء فادحة خطابه المحنط.
الخطاب كما تمناه اللبراليون والخطاب كما جاء فعلا
كان السادة الإصلاحيون وبعض منظري النظام الأذكياء، من صحفيين “مستنيرين” وسياسيين “لبراليين” و”أساتذة” و”خبراء” ومن لف لفهم، يتمنون أن يستعمل الخطاب لهجة تصالحية ويدلي ببعض الوعود بإصلاحات هنا وهناك على المستويين السياسي والاقتصادي. كانوا يتمنون أن “يعلن عفوه السامي” عن معتقلي حراك الريف وجرادة، ويقدم “بحكمته المولوية” حلولا للمشاكل التي يعيشها المغرب، ولم لا المنطقة المغاربية والشرق الأوسط والعالم بأسره…
إن هؤلاء أخطر على وعي الشعب من الدكتاتورية الوقحة، لأنهم يريدون الحفاظ على نفس النظام الدكتاتوري لكن بعد إخفاء وجهه القبيح بقناع مبتسم، وتمويه قبضته الحديدية بقفاز حريري. ليس هدفهم خدمة الشعب، بل كل ما يهمهم هو استمرارية النظام وإعطاؤه جرعة شرعية جديدة تمكنه من البقاء أطول مدة ممكنة.
لكن، ولسوء حظهم، جاء الخطاب معاكسا تماما لأحلامهم ومتمنياتهم؛ جاء خطابا متغطرسا مهددا، أكد على الطبيعة الدكتاتورية للنظام وأعطى الأوامر بالمزيد من الهجومات على الجماهير والمزيد من التنازلات للرأسماليين. أما قضية المعتقلين السياسيين وغلاء الأسعار، وغيرها من القضايا، فلم يولي لها طبعا أي اعتبار. فلأنه نظام دكتاتوري يحترم نفسه، لديه قناعة راسخة بأنه الوحيد الذي يمتلك الحق في أن يحدد ما هي “المشاكل” وما هي “الحلول”، ولا أحد آخر له الحق في أن يخرج عما يقرره.
تضمن الخطاب نبرة تهديدية واضحة ضد من أسماهم بـ “دعاة السلبية والعدمية وبائعي الأوهام”، بل ولوح صراحة بإشاعة الفوضى والفتنة، اللتان سيكون “الوطن والمواطن، على حد سواء” الخاسر الأكبر في حالة حدوثها.
قال حرفيا:
«[…] والمغاربة الأحرار لا تؤثر فيهم تقلبات الظروف، رغم قساوتها أحيانا. بل تزيدهم إيمانا على إيمانهم، وتقوي عزمهم على مواجهة الصعاب، ورفع التحديات. وإني واثق أنهم لن يسمحوا لدعاة السلبية والعدمية، وبائعي الأوهام، باستغلال بعض الاختلالات، للتطاول على أمن المغرب واستقراره، أو لتبخيس مكاسبه ومنجزاته. لأنهم يدركون أن الخاسر الأكبر، من إشاعة الفوضى والفتنة، هو الوطن والمواطن، على حد سواء».
إن المغاربة بالنسبة “لملك الفقراء” منقسمون إلى “مغاربة أحرار”، وهم هؤلاء المحيطون بالقصر والمستفيدون من بقاء النظام القائم وكل المتملقين إضافة إلى الخانعين المتقبلين لأوضاعهم باستكانة وخضوع الذين لا تؤثر فيهم الظروف رغم قساوتها، من جهة، و”دعاة السلبية والعدمية، وبائعي الأوهام”، من جهة أخرى، أي كل من سولت له نفسه أن ينتقد أو يعارض أو يطالب بحق من الحقوق، لأن المعارضة التي تعتبر حتى في جمهوريات الموز حقا من أبسط حقوق المواطنة، تعتبر في ظل النظام القائم “تطاولا” على أمن المغرب واستقراره و”تبخيس” مكاسبه و”إشاعة للفوضى والفتنة”. يبدو أنه قرر اختيار أفراد شعبه واحدا واحدا، فلا يبقي فيه إلا من هو جدير به وبحبه…
ولدعاة “العفو الملكي عن المعتقلين” نقول تذكروا فقط أن “التطاول على أمن المغرب والفوضى”، الخ، هي بالضبط نفس التهم التي تم توجيهها لمعتقلي حراك الريف وحكم عليهم بسببها بأزيد من ثلاثمائة سنة سجنا نافذا!
وبينما صور هؤلاء السادة نية محمد السادس إلقاء خطابه من مدينة الحسيمة وكأنها تعبير منه على رغبته في جبر خواطر ضحايا القمع والتقتيل والمعتقلين السياسيين، فإن الواقع هو أنه قرر دخول المدينة دخول الغزاة المنتصرين وألقى خطابه منها لكي يعلن أنه أخضعها وأنه قضى فيها على كل مقاومة. كانت تلك تاريخيا هي السياسة التي نهجها الملوك العلويون كلما انتصروا على منطقة مما كان يسمى بـ “مغرب السيبة” وأخضعوها. لكنه سيعيش لكي يرى ما رآه أجداده من تلك المنطقة وغيرها.
إن المنطق الداخلي لهذا الخطاب هو ما يلي: نعم هناك ظروف صعبة بل قاسية، وهناك “اختلالات” (الحديث عنها عدمية، والبحث عن المسؤول عنها تطاول، والمطالبة بتغييرها فوضى)، لكن يجب الصبر والقبول بها، وإلا فالويل للوطن والمواطنين من الفتنة والفوضى. قد يتساءل “ساذج” ما: من سيتسبب في تلك الفوضى؟ لماذا، مثلا، لا تؤدي المطالبة بتغيير هذه الأوضاع إلى القطع مع تلك الظروف الصعبة وبناء مغرب آخر حر متقدم ومزدهر، يعيش فيه المغاربة بكرامة متمتعين بثروات بلدهم بشكل عادل؟ الجواب هو أن الملك، وبقية الطبقة الرأسمالية السائدة التي يمثلها، واضحون في أنهم لن يقدموا أي تنازل ولن يتساهلوا مع أي معارضة وأي حركة جماهيرية تحتج على الظروف الصعبة والقاسية، بل إنهم مستعدون، باعتبارهم يمتلكون وسائل القمع ويحتكرون الثروات، لإشاعة الفوضى والفتنة التي سيذهب الوطن والمواطن ضحية لهما، لكي يبقى الوضع الحالي كما هو عليه الآن، وأنهم لن يترددوا ولو لوهلة في تخريب الوطن على رأس المواطنين في حالة ما تم تهديد سيادتهم وامتيازاتهم ومصالحهم.
كما أن كل من يستمع إلى الخطاب لا بد أن يكتشف أن المغرب بلد “محاصر بالأعداء المتربصين له”، “أعداء داخليون”، هم “دعاة السلبية والعدمية، وبائعي الأوهام” و”أعداء خارجيون” أيضا، ومعرض دائما لما أسماه “مناورات الأعداء، و… مختلف التهديدات”.
يمكن لأي ساذج أن يتساءل: أليس من الأجدى أن يتم الكشف عن هؤلاء الأعداء، سواء منهم الداخليين أو الخارجيين، وذكرهم بالاسم والصفة، عوض هذه العبارات الفضفاضة؟ الجواب هو: كلا طبعا! فلكي تفعل الدعاية فعلها المنشود، لا بد أن تبقى فضفاضة ولا بد أن يبقى “العدو” مجهولا متربصا من كل النواحي ومستعدا للانقضاض في أي لحظة. فعقلية القلعة المحاصرة والخوف من المجهول هو أفضل وصفة لخلق عقلية القطيع وفرض الخنوع، أي تطبيق حكمة الحمار الشهيرة: “التبن والراحة أفضل من الشعير والفضيحة”.
والآن ما هو المطلوب من المغاربة “الأحرار” لكي يتلافوا هذا المصير البشع، الفوضى والفتنة والأعداء المتربصين من كل جانب. طبعا لم يبخل “العاهل الكريم” بالإجابة عن هذا السؤال الوجيه، بحيث أمر “رعاياه” بالحفاظ على “الوحدة والتلاحم، في كل الظروف والأحوال” و”الوفاء الدائم لثوابت المغرب ومقدساته” و”التشبث بقيمنا الدينية والوطنية الراسخة”، وما إلى ذلك. وفي هذا السياق ليس صدفة أن تم تكرار كلمة “الوحدة” في الخطاب ثماني مرات، وتكرار كلمة “استقرار” ست مرات، بالتمام والكمال!!!
الهجوم على الكادحين… التنازلات للرأسماليين
أكد الخطاب على أن: «المغرب هو وطننا، وهو بيتنا المشترك. ويجب علينا جميعا، أن نحافظ عليه، ونساهم في تنميته وتقدمه». يا للروعة! وطننا وبيتنا المشترك وعلينا جميعا أن نحافظ عليه، الخ الخ. لا يمكن للمرء أن يستمع لهذه الكلمات دون أن تدمع عيناه. لكن دعونا نتجرأ قليلا ونفكر في مضمونها.
إن “بيتنا المشترك” و”وطننا” هذا الذي “علينا جميعا” الحفاظ عليه هو البلد الذي يعرف تراكم ثروة فاحشة في قطب، مقابل تراكم أبشع صور الفقر والهشاشة والبؤس في القطب النقيض. إنه بالضبط “البيت” الذي سحقت فيه 15 امرأة مغربية تحت الأقدام بسبب تدافع آلاف الجائعات لأخذ حفنة من دقيق ممرغة في الذل، وفي نفس الآن هو البلد الذي يضم أزيد من خمسة من بين 500 أكبر أصحاب الملايير في العالم، راكموا ثرواتهم بنهب مختلف الثروات. “بيتنا” هذا الذي كشفت منظمة الفاو (FAO) أن 15% من أطفاله دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية والتقزم، هو نفس البلد الذي ينتمي إليه أغنى طفل في العالم، ابن الملك محمد السادس شخصيا، بثروة تتجاوز 2,5 مليار دولار، وكان آخر إنجازاته المعلنة شراء طائرة بأزيد من 67 مليون أورو، أي بمبلغ أكبر بنصف مرة من المبلغ الذي باعوا به ثروات المحيط الأطلسي للإمبريالية الأوربية وفق الاتفاق الأخير، وهو المبلغ الذي لم يتعد 40 مليون أورو!!!
وكان تقرير صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، قد كشف أن «44,3% من المغاربة لازالوا محرومين من حقوقهم الأساسية من سكن وصحة وتعليم». وأن «60% من المغاربة يعيشون الفقر والحرمان على مستوى فئتين، الأولى تعانيه بشكل حاد والثانية بشكل متوسط، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية» وأكد أن «12,6% من المغاربة قريبون من عتبة الفقر متعدد الجوانب، فيما يعيش 4,9% من المغاربة في فقر حاد متعدد الأبعاد يعني غياب أدنى شروط العيش الكريم»، الخ.
بل لقد أكد آخر تقرير للأمم المتحدة أن المغرب يوجد في أسفل ترتيب التنمية البشرية تتقدم عليه دول مثل ليبيا والعراق التي تعيش الحروب. وعلى مستوى البحر الأبيض المتوسط يعتبر الدولة الأكثر تخلفاً في التنمية البشرية، حيث يحتل المركز 123، وراء الجزائر التي احتلت المركز 83 وتونس التي احتلت الصف 97 وليبيا 102 ومصر التي تحتل المرتبة 111.
كل هذا في بلد كان “تقرير الثروة الإجمالية للمغرب“، الذي صدر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وبنك المغرب، قد قدر القيمة الإجمالية لثروة المغرب، بأنها «بلغت أكثر من 12 تريليونًا و833 مليار درهم خلال عام 2013، وهو ما يفوق تريليون دولار»، وهو المبلغ الذي إذا ما تم توزيعه على المغاربة، سيحصل كل مغربي على حوالي 320 ألف درهم، وأكد أن «الثروة الإجمالية للمغرب ارتفعت بما يفوق الضعف خلال الفترة ما بين 1999 و2013، بعدما كانت في 1999 في حدود 5 تريليونات و904 مليارات درهم».
هذا هو “الاستقرار” وهذا هو “بيتنا المشترك” حسب الأرقام الرسمية، فهل جاء الخطاب بحلول لهذا الوضع؟ يقول الخطاب:
«إن الشأن الاجتماعي يحظى عندي باهتمام وانشغال بالغين، كملك وكإنسان. فمنذ أن توليت العرش، وأنا دائم الإصغاء لنبض المجتمع، وللانتظارات المشروعة للمواطنين، ودائم العمل والأمل، من أجل تحسين ظروفهم. وإذا كان ما أنجزه المغرب وما تحقق للمغاربة، على مدى عقدين من الزمن يبعث على الارتياح والاعتزاز، فإنني في نفس الوقت، أحس أن شيئا ما ينقصنا، في المجال الاجتماعي».
الأرقام تقول إن المغرب يصنف عالميا «في خانة البلدان التي ترتفع فيها معدلات الفقر إلى جانب كل من الصومال والغابون ومالي وزمبابوي»، وهو يتحدث عن “المنجزات” و”الارتياح” و”الاعتزاز”!!!
لكنه بعد أن تنازل واعترف بوجود بعض “الاختلالات”، جاءت الحلول المقترحة كما يلي:
في مجال التعليم تحدث عن «إعطاء دفعة قوية لبرامج دعم التمدرس، ومحاربة الهدر المدرسي، ابتداء من الدخول الدراسي المقبل، بما في ذلك برنامج “تيسير” للدعم المالي للتمدرس، والتعليم الأولي، والنقل المدرسي، والمطاعم المدرسية والداخليات. وكل ذلك من أجل التخفيف، من التكاليف التي تتحملها الأسر، ودعمها في سبيل مواصلة أبنائها للدراسة والتكوين». أي مواصلة نفس السياسات القائمة وتكرار نفس الشعارات المحنطة، التصدق بمليون محفظة و60 درهما في الشهر “لدعم التمدرس” وما إلى ذلك من الحلول المخادعة.
أما في مجال الصحة فلا حديث عن مجانية الصحة وجودتها، بل تكريس نفس السياسة القائمة على توزيع بطائق الإذلال على المرضى الفقراء، المسماة راميد، وهو ما أكده بقوله: «تصحيح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية “RAMED”، بموازاة مع إعادة النظر، بشكل جذري، في المنظومة الوطنية للصحة، التي تعرف تفاوتات صارخة، وضعفا في التدبير».
ولأن المغاربة شعب لا أمل له في الخلاص من الفقر ولا حق لهم في الاستفادة من ثروات بلدهم، فكل ما يمكنهم انتظاره هو تكريس فقرهم وتحويله إلى هوية لهم مثل الاسم والنسب، وفي هذا الصدد تفتقت “حكمته المولوية” عن فكرة «إحداث السجل الاجتماعي الموحد […] الذي هو نظام وطني لتسجيل الأسر، قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، على أن يتم تحديد تلك التي تستحق ذلك فعلا، عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة»!!!
ولمن يتساءل عن طبيعة ذلك “السجل الاجتماعي” فليعلم أنه لن يكون إلا صيغة عصرية لبطاقة “البون” الذي كانت سلطات الحماية، بتعاون مع القصر، توزعه على المغاربة المفقرين إبان الحرب العالمية الثانية. في أي مكان آخر كان سيعتبر هذا الإجراء جريمة وتمييزا وإذلالا، وتكريسا لوضع غير مقبول، هو وضع الفقر والهشاشة والحاجة، لكنه بمنطق “جلالته”: “مشروع اجتماعي استراتيجي وطموح…”!!! عاشت نعمة الاستقرار.
أما في الجهة المقابلة، جهة الرأسماليين، فالخير عميم والتنازلات بدون حساب. حيث أكد على ضرورة “إحداث نقلة نوعية في مجالات الاستثمار، ودعم القطاع الإنتاجي الوطني”. وتقديم كل التسهيلات للمستثمرين و”وضع حد للعراقيل والتبريرات التي تدفع بها بعض القطاعات الوزارية” أمام المستثمرين. الخ. وأضاف “إننا نتوخى أن تشكل هذه الإجراءات الحاسمة حافزا قويا وغير مسبوق للاستثمار”.
وأكد «على ضرورة تحيين برامج المواكبة الموجهة للمقاولات، بما في ذلك تسهيل ولوجها للتمويل، والرفع من إنتاجيتها، وتكوين وتأهيل مواردها البشرية»، كل هذا من أجل ما أسماه: «الارتقاء بتنافسية المقاولة المغربية، وبقدرتها على التصدير، وخلق فرص الشغل […] ذلك أن المقاولة المنتجة تحتاج اليوم، إلى مزيد من ثقة الدولة والمجتمع، لكي يستعيد الاستثمار مستواه المطلوب، ويتم الانتقال من حالة الانتظارية السلبية، إلى المبادرة الجادة والمشبعة بروح الابتكار».
وطبعا لكي تتمكن المقاولات من الاستفادة الكاملة من اعتصار دماء العمال وعرقهم، لا بد من تكميم أفواه هؤلاء الأخيرين لكي يكونوا مجرد لحم للاستغلال عاجزين عن المقاومة. وفي هذا السياق أكد الخطاب على “الإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي” وقال: «ندعو مختلف الفرقاء الاجتماعيين، إلى استحضار المصلحة العليا، والتحلي بروح المسؤولية والتوافق، قصد بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام، بما يضمن تنافسية المقاولة، ويدعم القدرة الشرائية للطبقة الشغيلة، بالقطاعين العام والخاص».
وبعد أن أكد على أن “الحوار الاجتماعي واجب ولابد منه” وضرورة “اعتماده بشكل غير منقطع”. أمر الحكومة بأن “عليها أن تجتمع بالنقابات، وتتواصل معها بانتظام، بغض النظر عن ما يمكن أن يفرزه هذا الحوار من نتائج”، أي أن تقوم بحوارات ماراطونية مخادعة لا تؤدي إلى أي نتائج، فالمهم هو “الحوارات” في حد ذاتها.
حكم مطلق وحكومة شكلية
الملاحظ في هذا الخطاب كذلك هو أنه خال بشكل كامل من أية إشارة إلى البرلمان، كما لم يستعمل نهائيا مصطلح الديمقراطية، تحت أي شكل من الأشكال. رغم أنه تحدث عن كل شيء بما في ذلك “توفير مياه سقي المواشي”. هذا ليس مصادفة بل هو أمر مقصود من طرف من كتبوا الخطاب ومن قرأه: النظام الدكتاتوري تخلى عن قناعه المبتسم وقرر أن يحكم بوجهه السافر، وجه الحكم الفردي الاستبدادي الذي لا يخضع لأي سلطة أو قانون إلا ما يقرره هو ويقرره له أسياده الإمبرياليون.
فالأحزاب، حسب نص الخطاب، “يتعين عليها استقطاب نخب جديدة، وتعبئة الشباب للانخراط في العمل السياسي” في تدخل سافر ومعلن في شؤونها الداخلية وأمر مباشر لها لكي تعمل على استقطاب التكنوقراط الذين يتم إسقاطهم في الأجهزة القيادية من فوق.
أما الحكومة فوضعها أكثر مدعاة للسخرية. حيث تعامل معها الخطاب وكأنها مجرد شرذمة من الموظفين الملحقين بالقصر لا مهمة لهم سوى تلقي الأوامر وتنفيذها بدون أي نقاش. فقد خاطبها قائلا:
«أدعو الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين، للقيام بإعادة هيكلة شاملة … وكذا رفع اقتراحات بشأن تقييمها». كما قال أيضا: «وإني أدعو الحكومة إلى الانكباب على إعدادها، في أقرب الآجال، وإطلاعي على تقدمها بشكل دوري». الخ الخ.
إنهم مجرد أقنان في ضيعته، ينفذون أوامره ويطلعونه على ما حققوه، فلا وجود لبرنامج حكومي ولا سياسة مستقلة ولا مؤسسات ولا رقابة برلمانية. هو وحده فقط “مْضَوِّي البلاد”.
“الملك مخير أم مسير؟”
إن الذين كانوا ينتظرون شيئا آخر من الخطاب، هم إما مغفلون مخدوعون لا رجاء في شفائهم، أو مجموعة من المخادعين. فعلى المستوى السياسي منطق الأنظمة الدكتاتورية يقتضي بالضرورة عدم تقديم التنازلات خاصة تحت الضغط. كان أي تنازل سيفضح ضعف جهاز القمع وتعبه، وبالتالي سيؤدي إلى اندلاع حركات احتجاجية جديدة ليس في الريف وحدها، بل في كل مكان. وهكذا ستصير أبشع كوابيس النظام واقعا معاشا.
يعلم النظام القائم أن “إطلاق سراح المعتقلين السياسيين”، كان سيؤدي إلى تحويلهم إلى رموز للكفاح الجماهيري، بينما هو يبذل كل ما في وسعه لكي يبقي الحراك الجماهيري بدون رموز ولا قيادات، سواء بالقمع أو الاحتواء. ويعلم كذلك أنه كان سيؤدي إلى تعزيز ثقة الحركة الجماهيرية في نفسها، ليس في الريف فقط، فيرتفع سقف المطالب إلى محاسبة المسؤولين عن القمع والنهب وسيؤدي إلى خلق حركة من الصعب جدا التحكم فيها.
يعلمنا التاريخ أن الأنظمة الدكتاتورية عندما تجد نفسها على حافة الهاوية تقرر دائما أن تراهن بكل شيء، فإما الربح الكامل أو الخسارة الكاملة. أو كما عبر محمد السادس في خطابه “إما أنا أو الفتنة والفوضى”. وبما أن هذا التكتيك ينجح في أغلب الأحيان، لأن الحركة الجماهيرية غالبا ما تكون عفوية ومشتتة وبدون قيادة ثورية، فإنه يتحول إلى سياسة ثابتة لا بديل لتلك الأنظمة عنه.
وعلى المستوى الاقتصادي كذلك، ليس في مقدور النظام أن يقدم أي سياسة أخرى ما عدا التقشف. إن النظام الرأسمالي يعيش أزمة عميقة، عالميا وداخليا، وعندما تكون الأزمة وتشتد المنافسة، لا يكون أمام الطبقة السائدة من بديل سوى تكثيف الهجمات على مستويات عيش الكادحين وظروف عملهم ومكتسباتهم. ومن يريد في عصرنا الحالي، عصر الأزمة الدائمة، رأسمالية بدون سياسة تقشف ولا تدمير للمكتسبات، إنما يطلب المستحيل.
وفي سياق الحديث عن الأزمة لقد أشار في خطابه بوضوح إلى الحاجة إلى: “استعادة الحيوية الاقتصادية”، في اعتراف منه بفقدان الاقتصاد للحيوية، كما تحدث عن: “رهانات التنافسية الدولية، بل والحروب الاقتصادية أحيانا”.
الخلاصة هي أن النظام القائم لا يمتلك بديلا ما عدا شن المزيد من الهجمات على المستويين السياسي والاقتصادي، ولا اختيارات لديه سوى السياسة الحالية التي يمارسها فعلا. فلكي يتم القضاء على هذه السياسات لا بد من القضاء على النظام نفسه، أما هؤلاء السادة الإصلاحيون الذين نصبوا أنفسهم مستشارين للنظام ينصحونه بأفضل الطرق لكي يضمن بقاءه، دون أن يطلبها منهم، فلا عزاء لهم.
“دليل قوة أم دليل ضعف؟”
كان الهدف من قوة التعابير التي استعملها الملك في خطابه ونبرة الحزم والتهديدات والأوامر، أن تعطي الانطباع بتحكمه في زمام الأمور. كما أن إلقاء ذلك الخطاب من الحسيمة بالذات يذكرنا بتلك الخطب التي كان القادة الغزاة المنتصرون يلقونها من فوق ركام المدن التي غزوها، كما يذكرنا بخطاب جورج بوش الابن عند زيارته لبغداد المنهزمة المحترقة، ليعلن من فوق خرائبها بغطرسة أن “المهمة انتهت”.
ليس هناك ما هو أخطر على الأنظمة الدكتاتورية الممقوتة من أن تظهر عليها معالم الضعف أو الرعب أو التعب. لذلك فهي تبذل بشكل مستمر كل الجهود لكي تبدو في قمة القوة والثقة والفعالية، وليست لكل الطقوس العجائبية المكلفة والألقاب الفرعونية التي يحيط بها الملك نفسه ومراسيم البيعة والركوع وتقبيل الأيدي من هدف إلا تكريس هذه الصورة.
لكن الواقع شيء آخر. النظام ضعيف ومرعوب إلى أقصى الحدود. وهو ما يمكن استخلاصه حتى من الخطاب نفسه. لا يمكن لمن يستمع للخطاب إلا أن يلاحظ ذلك الكم الهائل من العبارات الدالة على الأزمة والخوف والمشاكل، إضافة إلى الحديث عن “الاختلالات” و”ما ينقصنا، في المجال الاجتماعي”. و”حجم الخصاص الاجتماعي” و”الحروب الاقتصادية أحيانا”…
بل حتى الآية التي ختم بها خطابه تدل على المأزق وانسداد الآفاق، حيث قرأ الآية: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب».
هل هذا خطاب نظام قوي متفائل واثق من نفسه! كلا على الإطلاق. إنه خطاب يعبر عن القنوط والخوف من الحاضر والمستقبل، يستجدي “السلم الاجتماعي” والهدنة من طرف الجماهير بالوعيد حينا وبالوعد حينا آخر. حيث خاطب “رعاياه” قائلا:
«لن نتمكن من رفع التحديات وتحقيق التطلعات إلا في إطار الوحدة والتضامن والاستقرار، والإيمان بوحدة المصير، في السراء والضراء، والتحلي بروح الوطنية الصادقة والمواطنة المسؤولة».
وبلهجة استجداء قال:
«ما أحوجنا اليوم، في ظل ما تعرفه بلادنا من تطورات، إلى التشبث بقيمنا الدينية والوطنية الراسخة، واستحضار التضحيات التي قدمها أجدادنا من أجل أن يظل المغرب بلدا موحدا، كامل السيادة وموفور الكرامة».
وليس أمره لأقنانه في الحكومة لكي يفتحوا باب “الحوار” مع أقنانه قادة النقابات، “بغض النظر عن نتائجه”، إلا دليل عن رعبه الشديد من النهوض العمالي الحتمي، وبالتالي محاولة شراء بعض الهدنة لبعض الوقت.
منظورات
النظام يعيش أزمة عميقة، كل المؤشرات في الأحمر، وهامش المناورة متقلص للغاية. والجماهير، وخاصة الشباب، ملوا من الخطابات والوعود الزائفة التي سمعوها طيلة 19 سنة. إنهم يريدون حلولا جدية حقيقية لأوضاعهم الصعبة وهم يناضلون فعلا من أجلها. يرتفع سقف المطالب باستمرار، وينتقل من المطالب السياسية إلى الاقتصادية والعكس.
في الصراع الطبقي، مثلما في لعبة الشطرنج، تأتي لحظة تكون فيها كل القرارات خاطئة، والهزيمة محتومة سواء بالهجوم أو بالتراجع. هذا هو الوضع الذي يعيشه النظام القائم: إذا قرر التنازل، كما ينصحه السادة الإصلاحيون، سيشعل حركة أقوى بسقف مطالب أعلى فأعلى، ونفس الشيء سيحدث إن هو قرر الاستمرار في الهجوم والمزيد من القمع، مثلما هو الحال الآن، لأن العصى لا تصلح للجلوس عليها كما يفعل الحاكمون اليوم.
لقد عمل القصر كذلك على نزع الشرعية عن كل المؤسسات الأخرى، من برلمان وحكومة وأحزاب ونقابات، لم يكتفي بالتعامل معهم وكأنهم مجرد عبيد ملحقين بالقصر، وهو واقع الحال، بل يصر على أن يظهرهم أمام الجميع باعتبارهم كذلك.
لكنه بذلك يقطع الجذع الذي يجلس عليه. حيث يقضي تباعا على كل صمامات الأمان وواقيات الصدمات التي تقف بينه وبين الجماهير الغاضبة. من الآن فصاعدا سيصير هو نفسه هدفا لسهام النقد ومشاعر الغضب. وهذا ما كان عباس الجراري، مستشار محمد السادس والحسن الثاني من قبله، قد نبه إليه في خرجة إعلامية سابقة، حيث حذر من “الزج بالملك في قضايا مثل هاته”، وقال: «ليس سهلا أن يغامر جلالته في ملف شائك مثل هذا [حراك الريف] لا يمكن توقع ردود الأفعال فيه»، لأن ذلك: «يضعه في موقف حرج».
كانت بعض الفئات المخدوعة من بين الجماهير تأمل فعلا في أن يعلن الخطاب عن إجراءات ملموسة تهم المعتقلين السياسيين والغلاء والفساد المستشري، لكنه لم يقدم لهم أي حل، لذا فقد صار واضحا حتى لتلك الفئات أن إطلاق سراح المعتقلين وتحقيق المطالب لن يأتي بالاستجداء على أعتاب القصر وانتظار “التدخل الملكي”، بل فقط بالنضال الجماهيري الكفاحي في الشوارع والمعامل والجامعات وفي كل مكان. هذا هو المنظور الذي علينا أن نبني على أساسه ونعمل على بناء القيادة الثورية من بين أفضل العناصر في ساحات النضال.
أنس رحيمي