الرئيسية / قضايا نظرية / الإمبريالية / سورية: معركة حلب نقطة تحول في العلاقات الدولية

سورية: معركة حلب نقطة تحول في العلاقات الدولية

حميد علي زادة
الخميس: 12 يناير 2017

استرداد حلب من طرف القوات الموالية للحكومة، في دجنبر الماضي، يمثل علامة فارقة في الحرب الأهلية السورية كما في الأزمة في كامل المنطقة، لكن لديه أيضا عواقب واسعة النطاق على العلاقات الدولية في الفترة القادمة.

كانت مفاوضات الأستانة، التي قادت لاتفاق وقف إطلاق النار في نهاية دجنبر، أول مؤتمر هام في تاريخ الشرق الأوسط الحديث يتم تنظيمه مع استبعاد الولايات المتحدة بشكل صريح. البلد الوحيد من المعسكر المعادي للأسد المشارك في المؤتمر هو تركيا، والتي بدأت في تغيير سياستها في الصيف الماضي حين كانت المعارضة السورية في طريقها نحو الغرق.

القوى الأخرى الحاضرة كانت هي إيران وروسيا وسوريا، والتي تعتبر القوى الأكثر تعرضا للشيطنة في وسائل الإعلام الغربية. ومع ذلك فعندما تم إعلان الصفقة، بعد المؤتمر، قام جون كيري بدعمها. مجلس الأمن، الأداة التقليدية لدى الولايات المتحدة للهيمنة على النظام العالمي، والذي من منصته هاجمت سامانثا باور، قبل أسابيع فقط، روسيا ، قبل الصفقة بالإجماع.

حلب

باسترداده لحلب، أحكم نظام الأسد قبضته على كل المفاتيح الإستراتيجية والنقاط الاقتصادية المهمة في سوريا. الساحل المتوسطي والحدود اللبنانية ومدينة درعا الجنوبية، فضلا عن المدن الرئيسة الأربع دمشق وحلب وحمص وحماة. ما يسمى بـ “سوريا النافعة” موطن الكيانات الاقتصادية الرئيسية و70% من السكان، هي الآن بعيدة تماما عن متناول المتمردين المحبطين والمنهكين. وفكرة الإطاحة بنظام الأسد لم تعد أكثر من وهم. بالنسبة للمتمردين الإسلاميين تنذر الهزيمة في حلب بكارثة. بعد أن طردت من آخر معاقلها الحضرية ولم تحقق أي مكاسب كبيرة خلال العام الماضي، صارت معظم المجموعات المتمردة تعاني انهيارا في الروح المعنوية. لقد شهدت السنة ونصف السنة الماضية حوالي 1100 اتفاقية مصالحة وتهدئة. قام عشرات الآلاف من المتمردين وعائلاتهم بتسليم مواقعهم للقوات الموالية للأسد، مما يزيد في تعزيز قبضة النظام على المناطق الرئيسية.

في مواجهة 25.000 من القوات الإضافية الموالية للحكومة، التي يمكن تحريرها من حلب، صار من غير المرجح أن يحصل المتمردون على فرصة تحقيق مكاسب عسكرية مهمة ضد النظام في الفترة المقبلة. وبعد أن تقهقروا إلى حركة هامشية في المناطق الريفية المتخلفة، صاروا أقل فائدة لداعميهم في الغرب وتركيا ودول الخليج، الذين دأبوا على تمويل وتسليح المعارضة، التي يهمين عليها الإسلاميون ضد الأسد.

أدى هذا بالفعل إلى عدة أزمات، أبرزها في حركة أحرار الشام، والتي تشكل، إلى جانب حليفتها الوثيقة جبهة فتح الشام، التابعة للقاعدة، واحدة من الجماعتين الأكبر بين مجموعات المتمردين. كادت المجموعة أن تتمزق تقريبا في دجنبر الماضي، عندما تراجعت تركيا عن دعمها السابق للتحالف الوثيق مع جبهة فتح الشام وعوض ذلك قامت بالضغط عليها للانضمام لعملية درع الفرات التي تقودها في الشمال السوري. في الواقع، كان تحرك تركي مماثل قد أضعف المتمردين داخل مدينة حلب قبل أن يتعرضوا للحصار والهزيمة من قبل القوات الموالية للحكومة في الخريف الماضي. باستشعارها لهزيمة وشيكة تلوح في الأفق، تقوم تركيا – التي تعتبر القاعدة اللوجيستية والاقتصادية الرئيسية للمتمردين – الآن بإدارة ظهرها للتمرد. وهو ما يترك المتمردين وداعميهم – الولايات المتحدة والمملكة السعودية ودول الخليج – في وضعية حرجة.

الإمبريالية الأمريكية

يمثل استرداد حلب، أكثر من أي شيء، إذلالا كاملا لتلك الدول ومشروعها الإمبريالي في سوريا. فبعد ست سنوات وعشرات الملايير من الدولارات، لم يتمكن التمرد، المدعوم من طرف الولايات المتحدة، القوة العسكرية الأقوى في العالم، والقوتين الأغنى والأكثر تأثيرا في المنطقة، من تحقيق ولو هدف واحد من أهدافه.

حصل تقدم القوات الموالية للحكومة في حلب في وقت كانت فيه القوات الأمريكية منتشرة، حرفيا، على بعد أميال، وكانت طائراتها تقوم بطلعات استطلاعية في المنطقة المجاورة. ومع ذلك ففي مواجهة القوة الجوية الروسية وقدراتها الصاروخية، كانت هاته القوة العظمى عاجزة عن فعل أي شيء.

فجأة بعد نهاية الحملة، تحول كل ذاك التذمر والانزعاج من روسيا إلى صمت وهنالك الآن طابور طويل من أمراء الخليج والدبلوماسيين الغربيين الذين يصطفون للحصول على مقابلة مع فلاديمير بوتين.

مثل هذا الإذلال العلني هو أمر نادر بالنسبة للولايات المتحدة، ويمثل نقطة تحول في العلاقات الدولية. كان بوتين قد عرض على الأمريكيين القيام بعملية مشتركة وسلاما متفاوضا عليه، وعرض كذلك صفقة لتقاسم السلطة في سوريا ثلاث مرات منذ تدخلت روسيا في الحرب الأهلية السورية. كانت المرة الأولى في بداية تدخلها في سورية، ثم مرة أخرى في مارس 2016، ومرة ثالثة في شتنبر، حين كان حصار حلب قد اكتمل. لكن الولايات المتحدة، مدفوعة بالثقة الإمبريالية بالنفس وبتحريض من حلفائها الخليجيين، قامت بتخريب كل اتفاق.

وحتى بعد سقوط حلب، قال مسؤول أمريكي لرويترز بغطرسة: “إذا روسيا، ذلك البلد الذي يمتلك اقتصادا بحجم إسبانيا، تتبختر في الأنحاء وتتصرف وكأنها تعرف ما تقوم به. لا أعتقد بأن الأتراك والروس يستطيعان القيام بذلك (المفاوضات السياسية) بدوننا.”

لكنهما فعلا ذلك وسيواصلان فعل ذلك، الولايات المتحدة الآن تحت رحمة روسيا في سوريا. أي خيارات أخرى تمتلكها الطبقة الحاكمة الأمريكية؟ حتى قبل تدخل روسيا، لم تستطع إدارة أوباما تمرير التصويت على قصف سوريا. اليوم أي نوع من التصعيد قد يضع الولايات المتحدة في مواجهة روسيا، التي هي ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم. المعارضة التي ستلقاها الولايات المتحدة من قبل روسيا، إلى جانب سوريا والقوات المدعومة إيرانيا، ستجعل كل ما اضطرت الولايات المتحدة لمواجهته في العراق وأفغانستان يبدو وكأنه لاشيء.

والأكثر أهمية هو أن الشعب الأمريكي قد تعب من الحروب والمغامرات الدولية المكلفة. إن الأزمة الاقتصادية وانهيار مستويات المعيشة والاستياء واسع النطاق من المؤسسات من شأنه أن يحول أي حرب كبرى إلى نقطة محورية لانفجار الصراع الطبقي. هذا الانقسام الاجتماعي العميق قاد بالفعل إلى انقسامات عميقة داخل الطبقة الحاكمة وإلى أزمة سياسية واقتصادية أعمق.

في سورية انكشفت بكل وضوح أوجه قصور الولايات المتحدة الكامنة. كان الهدف الأصلي لتدخلها في سورية جزئيا هو تهدئة حلفائها في المنطقة ومخاوفهم من النفوذ الإيراني المتزايد. لكن العملية خرجت بسرعة عن السيطرة، مؤدية إلى قيام الدولة الإسلامية. وبسبب كونها غير قادرة على التدخل مباشرة، تحتم على الولايات المتحدة الاعتماد على قوى كحزب الله وإيران لمحاربة داعش.

الاتفاق النووي الأمريكي مع إيران وعدم وجود أي رغبة عندهم لإنهاء ما بدأوه في سوريا والعراق، أدى بدوره إلى سخط الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، الذين استثمروا كثيرا في الحملة ضد الأسد، والذين، وهو الأكثر أهمية، يخوضون منافسة شرسة مع إيران. أدى هذا إلى خلق تصدعات كبيرة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، بل وحتى داخل المؤسسة الأمريكية نفسها. فبينما بدأ البنتاغون ووكالة استخبارات الدفاع (DIA) حملة ضد داعش، واصلت تركيا والمملكة السعودية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) دعم الجماعات الجهادية المختلفة.

جزئيا لتجنب استعداء المملكة العربية السعودية، التي لم تكن لتستحسن أي دعم من طرف الولايات المتحدة للقوات المدعومة إيرانيا، رمى البنتاغون بكل ثقله خلف وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، التي برزت كأكثر القوى المقاتلة فعالية في سورية. لكن هذا أدى إلى استعداء النظام التركي، الذي ينظر إلى الأكراد بكونهم تهديدا وجوديا ويشعر بالخطر من وجود دولة كردية على حدوده الجنوبية.

والنتيجة النهائية كانت هي عمل الولايات المتحدة مع ثلاث كتل متعارضة في الصراع الإقليمي، فضلا عن استعداء جدي لاثنين من أهم حلفائها. الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها عالقة في الرمال المتحركة لتناقضاتها الخاصة، وقفت مشلولة وعاجزة عن التصرف. فدخلت روسيا بعدها لسد الفراغ الذي انفتح، وهو ما مثل تغييرا حاسما في موازين القوى على الأرض.

المملكة العربية السعودية

تلقت الولايات المتحدة ضربة قوية في سوريا، لكن من الناحية النسبية كانت المملكة العربية السعودية هي أكبر الخاسرين في ذلك. فمع سحب تركيا لأنصارها بعيدا عن حلب وإدلب، بقيت المجموعات المرتبطة بالسعودية وقطر تحت وطأة هجمات القوات الموالية للحكومة. إنهم الآن أضعف القوى المشاركة في سوريا.

هذا انعكاس للتراجع العام لنفوذ السعودية في الشؤون الدولية. عملاؤها في العراق وسوريا يتراجعون، ونفوذها على النظام المصري في حالة سقوط حر، وقد أدار الأردن ظهره منذ فترة طويلة للخطط السعودية في سوريا، وفي اليمن هنالك نزيف للأموال في حرب خسرتها بالفعل. حتى أقرب حلفاءها ينظرون إليها باعتبارها عبئا في المنطقة. ومن المعبر أنه لم تتم ولو الإشارة إلى السعودية كطرف في استعادة الموصل في العراق، بينما كانت تركيا وإيران مشتركان بقوة في المفاوضات والاستعدادات للعملية.

لقد أثبتت الحرب الأهلية السورية وسقوط حلب ما كانت القوى الغربية تعرفه منذ بعض الوقت، وهو أن السعودية لا يمكن استعمالها كحليف موثوق فيه بالمنطقة. إنها أبعد عن أن تكون قوة استقرار في المنطقة، لقد لعبت دورا رئيسيا في قيام داعش وتعزيز نفوذ القاعدة في سوريا واليمن. وما زاد الطين بلة هو أنها لم تحقق أيا من أهدافها.

ومن كونها قوة محلية رئيسية، صارت المملكة الآن تدفع إلى الهامش مع تراجع نفوذها. هذا انعكاس للأزمة العميقة التي يعيشها النظام السعودي. يتمزق بيت آل سعود بسبب قوى متصارعة دينية وقبلية وطبقية، كل واحدة منها تسحب في اتجاه مختلف. تمكنت السعودية من الحفاظ على استقرارها، لعقود من الزمن، بفضل ارتفاع أسعار النفط وعلاقاتها المتميزة مع الولايات المتحدة، التي أعطت النفط السعودي أهمية إستراتيجية رئيسية. لكن أزمة الرأسمالية عنت انهيار أسعار النفط والولايات المتحدة الآن هي ثاني أكبر منتج للنفط في العالم.

أدت الأزمة إلى تفاقم التناقضات الداخلية التي بدورها جعلت بقاء الدولة نفسها أمرا غير مؤكد في المرحلة القادمة. وبينما المملكة تغرق تحاول تركيا التدخل لملء الفراغ الذي تم خلقه وتهدف، إلى جانب إيران، إلى أن تصبح أحد القوى الرئيسية في المنطقة. سيشكل ذلك التناقض المحدد للعلاقات في المنطقة خلال المرحلة القادمة.

تركيا

لقد خطط نظام أردوغان منذ مدة للهيمنة على الشرق الأوسط، مع فكرة إعادة بعث الإمبراطورية العثمانية بنسخة رأسمالية. إنه يمثل البرجوازية الأناضولية، التي كانت دائما معارضة للسياسة الكمالية [نسبة لمصطفى كمال أتاتورك] ذات النزعة الغربية وسياسته الخارجية الانعزالية، والتي استفادت منها فقط البرجوازية الكمالية الكبيرة ذات النزعة الغربية. تاريخيا وجدت النزعة العثمانية آخر مؤيديها في الأناضول، ولاسيما في الحركات الإسلامية التي ما تزال مستمرة هناك.

كان تدخل أردوغان في تركيا والعراق – والذي عارضه الجيش ذو النزعة الكمالية – خطوة في طريق هاته السياسة الخارجية العثمانية الجديدة وأيضا محاولة لمنافسة المملكة السعودية على قيادة “العالم السني”. واجه التدخل في سوريا معارضة قوية من داخل الجيش، الذي شكل أهم عائق أمام إرسال قوات تركية إلى داخل سوريا.

إلا أن المغامرة السورية، إلى جانب ضعف نظام الأسد، أدت أيضا إلى قيام الحركة الوطنية الكوردية في كردستان السورية، التي ساعدت بدورها على تحويل الحركة الكردية إلى نقطة محورية في الصراع الطبقي المتصاعد في تركيا. لقد أدى دخول حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، المدعوم كرديا، إلى البرلمان التركي، إلى تغيير موازين القوى وقلص أغلبية أردوغان.

وبعد أن تمكن أردوغان من إخضاع معارضة المعسكر الكمالي، أصبحت المسألة الكردية الآن مسألة حياة أو موت بالنسبة له. حزب الشعوب الديمقراطي(HDP) لديه القدرة على أن يصبح نقطة محورية للصراع الطبقي. ليس هذا فحسب، فقيام كيان كردي مستقل داخل سوريا يفتح الطريق نحو استقلال كردي في المستقبل. وبالتالي أصبحت المسألة الكردية في سوريا مشكلة وجودية بالنسبة للرأسمالية التركية نفسها. ولم يؤد رمي الولايات المتحدة بثقلها خلف وحدات حماية الشعب (YPG) الكردية، إلا إلى جعل الأمور أسوأ.

وفي الوقت نفسه كان التدخل الروسي في سوريا انتكاسة كبيرة للمعارضة الإسلامية وبالتالي لأردوغان. وفي محاولة منها لتعزيز موقعها، أسقطت تركيا طائرة روسية في شهر أكتوبر الماضي. لكن ذلك زاد فقط الطين بلة، إذ رد بوتين باقتلاع المجموعات المهمة استراتيجيا بالنسبة لتركيا، وقام بفرض عقوبات قاسية على البلاد.

أردوغان الذي لم يعجبه غياب الدعم الغربي، قام بانعطافة وعقد صفقة مع روسيا. وقد تفاقم الخلاف مع الولايات المتحدة بسبب المحاولة الانقلابية في تركيا في يوليوز الماضي. من المعروف أن روسيا وإيران وقفا إلى جانب أردوغان أثناء الانقلاب، بينما قابلته القوى الغربية بصمت مطبق إلى أن أصبح من الواضح أنه فشل. وقد زادت عملية التطهير التي حدثت للجيش، عقب الانقلاب، من التوترات بسبب قرب تلك الفئة من الضباط من الولايات المتحدة والناتو.

في ظل هذا الوضع، كان بوتين أكثر من سعيد باستضافة تركيا في سوريا. بالنسبة لروسيا كان استقطاب تركيا، التي تعتبر أحد أهم أعضاء الناتو، نصرا بحد ذاته. ليس لدى بوتين والأسد والإيرانيين أيضا أي مشكلة في عقد صفقة لضرب الأكراد.

وبعد أن كانت تركيا قد عزلت كليا تقريبا، تم السماح لها من قبل روسيا – التي تتحكم بالفعل في الأجواء السورية – بالدخول مجددا إلى سوريا وأخذ مساحة واسعة في ريف حلب الشمالي ضمن عملية درع الفرات. كما تم السماح كذلك لعملاء تركيا بمغادرة مدينة حلب قبل محاصرتها، في شتنبر، والالتحاق بالعملية. كانت إعادة الاصطفاف هذه هي الأساس السياسي لهزيمة المجموعات الإسلامية، في حلب، في دجنبر الماضي. سمح هذا لتركيا بمواصلة السعي وراء هدفها الرئيسي الجديد في سوريا، وهو هزيمة كردستان السورية، وكذلك إبقاء أحلامها العثمانية الجديدة على قيد الحياة.

لا يعني هذا بالطبع أن تركيا صارت الآن حليفا لروسيا، لكنها تحاول، عبر استنادها على روسيا، الحصول على المزيد من التنازلات من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. والأهم هو أن أردوغان يريد من الولايات المتحدة التخلي عن الكرد.

روج آفا [كردستان السورية]

خلال الأيام الأولى للثورة السورية، قبل أن يختطف الإسلاميون الحراك، أُجبر نظام الأسد على الانسحاب من مناطق واسعة في الشمال الشرقي. وبفعل ذلك الفراغ تمكن حزب الإتحاد الديمقراطي – المنظمة الشقيقة لحزب العمال الكردستاني – إلى جانب جناحه العسكري وحدات حماية الشعب، من أن يصعد ليصبح القوة المهيمنة في المنطقة. ومع انحطاط وتفكك الثورة إلى حرب أهلية طائفية، تطورت وحدات حماية الشعب إلى ميليشيا هائلة تضم 50.000 مقاتل على الأقل.

طورت الحركة الكردية أجهزتها الديمقراطية الشعبية الخاصة، مع سلطة كان من الواضح أنها غير طائفية. أصبحت روج آفا، كما تعرف المنطقة، كيانا مستقلا، بحكم الأمر الواقع، وأصبحت قواتها، التي تحارب من أجل موطنها وعلى أساس برنامج ديمقراطي، فعالة للغاية. وقد رأى الجيش الأمريكي، غير القادر على إرسال قواته البرية الخاصة، في الحركة بديلا مناهضا للأسد ومناهضا لداعش، وفي نفس الوقت قوات غير إيرانية.

عندما رأت الولايات المتحدة أن تركيا ترفض إغلاق حدودها أمام داعش، قامت بدعم القوات الكردية لتتقدم بمحاذاة الحدود التركية. كان دخول الجيش التركي إلى سوريا محاولة لتوجيه ضربة عكسية لهاته المكاسب وإعداد الأرضية لتدمير الكيان الكردي. ومع سقوط كل عملائها، لم تعد الولايات المتحدة، على أي حال، تمتلك، أي بديل آخر غير الاستمرار في الاعتماد على الأكراد.

هذا لا يعني، على أي حال، أنها ستستمر في دعم الحركة الكردية. من الأهم بالنسبة للولايات المتحدة، الحفاظ على تركيا كحليف، ولو كحليف ضعيف، أكثر من دعم النضال الكردي. في الواقع ما زال حزب العمال الكردستاني مصنفا كتنظيم إرهابي من طرف الولايات المتحدة. وقد لعبت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية دورا رئيسيا في تسليم عبد الله أوجلان، قائد الحركة، لتركيا، سنة 1998. كردستان السورية في نظر الولايات المتحدة أرض قاحلة بدون فوائد اقتصادية مهمة ما عدا القتال المباشر مع داعش، في حين أن تركيا، من جهة أخرى، عضو في الناتو مع العديد من القواعد العسكرية الإستراتيجية، كما أنها مستضيف للصواريخ النووية الأمريكية.

لا يمكن للحركة الكردية الوثوق بالإمبريالية الأمريكية لخدمة مصالحها. ومع تواصل المفاوضات، لا تعمل الولايات المتحدة ببساطة سوى على الاستعداد لبيع الحركة. وبالمثل لا يمكنها الوثوق في النظامين الإيراني أو العراقي اللذان يحاولان ضمها للحشد الشعبي في العراق. يستند الإيرانيون، في الوقت الحالي، على حزب العمال الكردستاني في مواجهة تركيا وعميلها الكردي مسعود برزاني، لكن وبمجرد التوصل إلى اتفاق لن يتورع الإيرانيون عن التخلي عن الأكراد، الذين يعتبرونهم تهديدا لإيران نفسها.

كما سبق لنا نحن الماركسيون أن قلنا دائما، لا تنظر القوى الكبرى إلى الأكراد إلا كعملة صغيرة في العلاقات بينها. ليست لديهم أي مصلحة في استقلال الأكراد أو الحكم الذاتي الذي يمثل تهديدا لحدودهم الخاصة. وبمجرد أن تتوصل الأطراف المتحاربة إلى اتفاق لتقسيم الشرق الأوسط، ستنقلب كل قوى المنطقة ضدهم لسحق حركتهم.

لا يمكن للأكراد الوثوق في الحكام الرجعيين بالولايات المتحدة أو إيران أو أي دولة أخرى. لا يمكنهم الوثوق إلا في قواهم الخاصة وقوى جماهير العمال في المنطقة. الطريق الوحيد أمام الحركة الكردية للمضي قدما هو توسيع نضالها من خلال شن حرب ثورية طبقية، بهدف أول هو توحيد كل المناطق الكردية في سوريا وتركيا والعراق وإيران. ويجب أن يكون هذا مصحوبا بتوجيه نداء للجماهير العاملة في هاته البلدان للقيام ضد طبقاتها الحاكمة الخاصة التي تعيث خرابا في المنطقة.

صعود روسيا

بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، حاولت الإمبريالية الأمريكية خنق روسيا، ببناء المزيد والمزيد من قواعد الناتو في أوروبا الشرقية وتقويض نفوذ روسيا في مجال نفوذها التاريخي. لكن روسيا وضعت حدا لذلك في جورجيا وأوكرانيا ورسمت خطا أحمر هنالك، موضحة بأنها لن تسمح بأي تجاوز إضافي من جانب الناتو لما تعتبره حديقتها الخلفية. لكن الضربة الأقوى التي وجهتها روسيا للولايات المتحدة كانت في سوريا.

صار التدخل الروسي في سوريا ممكنا بسبب الضعف النسبي للولايات المتحدة. لكن من الواضح أيضا، على أي حال، أن روسيا، التي تواجه الآن أزمتها الاقتصادية الخاصة، ليست قوية بما فيه الكفاية لخوض عملية طويلة المدى في سوريا. حتى الآن بقيت تكلفة العملية السورية أعلى قليلا من التكلفة المعتادة للتدريبات العسكرية العادية، لكن عملية أوسع من شأنها أن تخلق ثغرات كبرى في الموازنة العامة للدولة.

وإضافة إلى ذلك، فإن أهداف روسيا في سوريا – الدفاع عن النظام وقاعدتها البحرية هناك – قد تحققت بالفعل. ليست لسوريا، كبلد، سوى أهمية إستراتيجية صغيرة بالنسبة لبوتين، المهتم أكثر بأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وحتى الشرق الأقصى. لقد شكلت سوريا، بالنسبة لبوتين، مكانا لكسب النفوذ في مسائل أخرى. ولذلك هو مهتم أكثر بخلق نزاع مجمد، يحتوي كل القوى حيث يمكن لروسيا تقوية موقفها عبر دفع تلك القوى بعضها ضد بعض.

هنا يكمن الوجه الإمبريالي الحقيقي لروسيا. وضد رغبات الأسد وإيران، وعلى الأرجح رغبات العديد من السوريين كذلك، لا يريد بوتين طرد قوى المعارضة. وكانت إعادة جلبه لتركيا إلى سوريا وسيلة لإعادة خلق توازن مع إيران التي يمكنها، في حالة عدم وجود معارضة، أن تصبح قوة أكبر من روسيا في المنطقة.

إذا كان نظام الأسد وإيران يرغبان في مواصلة الأعمال القتالية اليوم، فهما لا يستطيعان القيام بذلك دون دعم من روسيا. لكن إذا تم استرجاع كل مناطق سوريا، ستضطر روسيا إلى الاعتماد على إيران للحفاظ على استقرار الوضع. وهو الشيء الذي لا يمكن لروسيا، التي تتنافس أيضا مع إيران (وتركيا) على النفوذ في القوقاز، أن تسمح به. يفضل بوتين أكثر خلق وضع في سوريا توازن فيه القوى المحلية بعضها البعض مع بقائه هو في موقع المتحكم، عوض وضع تكون فيه إيران هي القوة المهيمنة. في ظل صفقة تدعمها روسيا، سيمكن حتى للإسلاميين في إدلب – بالطبع مع لحى أقصر وتسمية جديدة – إيجاد دور محدود لهم في تسوية مستقبلية. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من الخلافات بين روسيا وإيران مستقبلا.

والأهم من ذلك، هو أن بوتين حريص على إشراك الغرب أيضا ضمن صفقة لتقاسم النفوذ في سوريا. فقد كان خلق عملية أمريكية – روسية مشتركة هي هدفه المعلن طوال الحملة الروسية. يمكن أن يكون هذا قد تغير إلى حد ما الآن، لكن بوتين ما يزال يتطلع إلى الولايات المتحدة. عندما سيتسلم دونالد ترمب السلطة، الأسبوع المقبل، سيواجه أمرا واقعا سيجعل الخيار سهلا للغاية بالنسبة له. وفي المقابل من المرجح أن يطلب من بوتين التحرك ضد إيران، وهي الرغبة التي يمكن لبوتين أن يوافق عليها بسهولة.

نقطة تحول

لكن الحرب الأهلية السورية ما تزال أبعد ما تكون عن الانتهاء. سيستمر الصراع لوقت طويل، على الرغم من أنه سيكون على مستوى مختلف من الحدة. سيستمر نظام الأسد في إزالة جيوب المتمردين حول المدن الرئيسية، إلى جانب التحرك ضد داعش وربما أيضا ضد حركة أحرار الشام وجبهة فتح الشام في إدلب. في حين ستحول تركيا أنظارها في اتجاه الرقة وكردستان السورية. وسيكون ذلك هو الاتجاه الأولي على الأقل.

إذا لم يكن الرابح الأكبر بعد معركة حلب قد اتضح بالكامل، فإن الخاسرين واضحون تماما. كانت الطبقة الحاكمة الأمريكية تنظر إلى الشرق الأوسط دائما باعتباره مجالها الخاص. في الماضي تدخلت في العراق مرتين دون أن يطرف لها جفن وتدخلت في الشؤون الداخلية لدول أخرى في المنطقة، بالمؤامرات والمناورات. لكنها في حلب وقفت عاجزة عن فعل أي شيء.

بالطبع ما تزال الإمبريالية الأمريكية القوة الأكبر على وجه الأرض، وهذا ليس على وشك أن يتغير قريبا. لكنها، وبسبب انحطاطها طويل المدى، لم تعد قادرة على التدخل في كل مكان على وجه الأرض. في الشرق الأوسط انفضحت حدودها على الملأ. الولايات المتحدة، مثلها مثل أي إمبراطورية، بلغت ذروتها ودخلت في مرحلة الانحطاط. كانت الولايات المتحدة هي من بنت النظام العالمي الرأسمالي بعد الحرب، لذلك ليس من المفاجئ أن أزمة الرأسمالية هي أيضا أزمة الإمبريالية الأمريكية ونظامها العالمي. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد الأمريكي أكثر من 50% من الناتج العالمي الإجمالي. وقد انخفض هذا الرقم اليوم إلى حوالي 20%. كانت الولايات المتحدة أكبر دائن في العالم، واليوم هي المدين الأكبر. والأزمة الاقتصادية تؤدي بدورها إلى تصاعد الصراع الطبقي وإلى أزمة سياسية ومؤسساتية. والجيش الأمريكي يعاني من تبعات هذا الانحطاط.

حدث انحطاط الإمبريالية الأمريكية عبر فترة طويلة من الزمن، لكننا نرى الآن تسارعا في السيرورة التي تركت هذه القوة العظمى عاجزة بعد الآن عن تأمين النظام العالمي الذي شيدته في الماضي. التاريخ لا يسير في خط مستقيم، وهزيمة الولايات المتحدة في حلب كانت نتيجة لكل هذه التناقضات المتراكمة. وفي هذا الصدد لم يكن انتخاب دونالد ترمب أيضا من قبيل الصدفة. فسياسة ترمب الخارجية الانعزالية هي انعكاس لمكانة الولايات المتحدة الحقيقية في العلاقات الدولية.

لم تعد للشرق الأوسط نفس الأهمية الإستراتيجية للولايات المتحدة كما كان عليه الحال في السابق. وعلاوة على ذلك، فهي لا تمتلك الموارد اللازمة لتحقيق الاستقرار في المنطقة. لذلك، ستكون صفقة مع روسيا ممكنة تماما، خصوصا إن سمحت للولايات المتحدة بالتركيز على الصين التي تشكل أكبر تهديد للولايات المتحدة على الصعيد العالمي. إلا أن الإخفاق السوري سيؤدي أيضا إلى زيادة الضغط على الولايات المتحدة مع سعي المزيد من الحلفاء والخصوم الإقليميين كالصين واليابان – لتأكيد مكانتهم كلما زاد ضعف الولايات المتحدة.

الحرب العالمية مستبعدة في المرحلة القادمة، لكن هذا لا يعني أن العلاقات الدولة لن تتأثر. لقد دخلنا مرحلة من الاضطرابات المتزايدة. وكلما غرقت الرأسمالية العالمية كنظام أعمق في الأزمة، سنرى حروبا وصراعات محلية بلا نهاية، حيث تتصارع القوى المختلفة لحماية مناطق نفوذها وانتهاك مناطق الآخرين. سيرى ملايين الأشخاص عبر العالم أن الطبقات الحاكمة على استعداد لسحب البشرية جمعاء إلى أعماق الهمجية في سبيل الدفاع عن سلطتها الخاصة وامتيازاتها وأرباحها. هذه الوضعية تعبد الطريق أيضا لتصاعد الصراع الطبقي والحركات الثورية في كل مكان. قبل مائة سنة من الآن، أنهى البلاشفة الحرب العالمية الأولى عبر إسقاط الرأسمالية في روسيا. واليوم ما تزال المهمة هي نفسها. الرأسمالية تنتج الحرب، والطريق الوحيد الحقيقي للنضال من أجل السلام هو شن كفاح ثوري من أجل الاشتراكية.

عنوان النص بالإنجليزية: 

Syria: The battle of Aleppo a turning point in world relations

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *