بعد مرور عام على الهجوم الذي شنته حماس على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر، أنتجت الحرب التي تلت ذلك كارثة إنسانية غير مسبوقة للفلسطينيين الذين يعيشون في قطاع غزة. والآن ها هو لبنان يواجه بدوره سيناريو مماثلا. فقد حذر نتنياهو حزب الله من أن إسرائيل يمكنها أن “تحول بيروت وجنوب لبنان… إلى غزة”.
ما الذي يعنيه تحويل جنوب لبنان إلى غزة؟ بعد عام من القصف المتواصل، أدت حرب الإبادة الجماعية التي يشنها نتنياهو على غزة إلى مستويات غير مسبوقة من الموت والدمار للشعب الفلسطيني. فقد قُتل، منذ أكتوبر من العام الماضي، ما يقرب من 42 ألف شخص في ضربات مباشرة، بينما جرح 100 ألف شخص آخرين، والذين من المتوقع أن يظل ربعهم معاقين بشكل دائم.
لكن هذه الأرقام لا تروي القصة الكاملة لما حدث. إذ أن القصف لم يؤد إلى قتل الناس في الضربات المباشرة فحسب، بل إن الدمار الهائل الذي لحق بالبنية الأساسية في غزة قد أدى إلى المزيد من الوفيات التي لم يتم احتسابها في الأرقام الرسمية. لقد تم تدمير إمدادات المياه والكهرباء، فضلا عن الكثير من خدمات الرعاية الصحية والمستوصفات والمستشفيات، إلى جانب المساكن والمدارس. ووفقا للأونروا، فإن ثلث المستشفيات في غزة هي فقط التي ما تزال تعمل إلى هذا الحد أو ذاك.
تدمير كبير لمخزون المساكن
تم حساب قيمة البنية التحتية المدمرة في غزة، خلال الأشهر الأربعة الأولى من القصف، بمبلغ 18.5 مليار دولار، أو 97% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لغزة والضفة الغربية مجتمعين. أنتج القصف أكثر من 30 مليون طن من الحطام، ويُتوقع أن هذا سيستغرق سنوات لتنظيفه. في يونيو من هذه السنة، تم إسقاط 75.000 طن من القنابل على غزة. وهذا أكثر بكثير مما تم إسقاطه على مدن دريسدن وهامبورغ ولندن مجتمعة خلال الحرب العالمية الثانية.
قالت الأمم المتحدة، في مقال نشرته وكالة أسوشيتد برس، إن الدمار غير المسبوق للمساكن في غزة لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية (2 مايو 2024) في إشارة إلى مستوى الدمار الذي لحق بمخزون المساكن في غزة خلال الأشهر السبعة الأولى من الحرب. وأشارت إلى أن: “ما لا يقل عن 370 ألف وحدة سكنية في غزة قد تضررت، بما في ذلك 79 ألف وحدة دمرت بالكامل”.
وتشير آخر التقارير إلى أن أكثر من 80% من مباني غزة قد دمرت. كان هذا ما أوضحه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، الدكتور عبد الله الدردري، في مقابلة أجراها مع قناة القاهرة نيوز.
ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي: “… تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 50 مليار دولار من الاستثمارات في غزة قد تم القضاء عليها بسبب الصراع، وسقط 1.8 مليون فلسطيني في براثن الفقر”. كان إجمالي عدد السكان قبل الحرب 2.3 مليون نسمة.
وقد تم حساب أن الأمر سيستغرق حتى عام 2040 لإعادة بناء الممتلكات المدمرة، وستصل التكلفة الإجمالية إلى ما يقارب 40 إلى 50 مليار دولار.
تدمير النظام التعليمي
لقد تضررت المباني المدرسية بشدة. ففي هذا الصيف، “قُتل، بين فاتح يونيو وفاتح شتنبر، ما لا يقل عن 354 شخصا في غارات جوية إسرائيلية على المباني المدرسية التي تأوي النازحين”. وقد خرج من غزة خلال العام الماضي سيل من مقاطع الفيديو والصور لأطفال ملطخين بالدماء وهم يفرون من المدارس التي تعرضت للقصف، تاركين وراءهم جثث القتلى.
لقد انقطعت المسيرة التعليمية لأكثر من 600 ألف طالب في غزة بسبب الحرب. وتشير إحدى مقالات شبكة ABC إلى أن “ما لا يقل عن 70% من جميع المدارس في غزة -399 مبنى مدرسي- قد تضررت أو دمرت منذ السابع من أكتوبر”.
يبلغ إجمالي عدد المباني المدرسية في غزة 567 مبنى. وقد جمعت شبكة ABC الإخبارية صورا للأقمار الصناعية، ومقاطع فيديو وصورا التقطتها القوات الإسرائيلية وحماس، وتوصلت إلى استنتاج مفاده أن: “212 مدرسة إما دمرت جزئيا أو كليا، وأن 187 مدرسة أخرى تظهر عليها علامات الضرر”. إلا أن الأمم المتحدة تقدر أن: “ما يصل إلى 84% من المدارس -477 مبنى- سوف تحتاج إلى إصلاح أو إعادة بناء”.
وعلقت مديرة منظمة إنقاذ الطفولة في غزة، راشيل كومينز، قائلة: “لم يتمكن الأطفال من الاستفادة من التعليم الرسمي، وبالتالي فقدوا عاما كاملا من التعلم. لكن، وكما تعلمون، فإنه، بالإضافة إلى ذلك، ما يرونه وما يعيشونه والعواقب المترتبة عن ذلك على صحتهم العقلية، أشياء لا يمكن الاستهانة بها حقا. في الواقع، إن الآثار التي يعانيها جيل بأسره، وسكان بأسرهم، من الأطفال وآبائهم ومقدمي الرعاية لهم، من حيث تأثير الحرب على صحتهم العقلية رهيبة بشكل استثنائي”.
في ظل هذه الظروف، تأثر النمو النفسي للأطفال بشدة. يعاني الكثير منهم من نوبات القلق، ولا يستطيعون التركيز. وبالإضافة إلى الموت والدمار من حولهم، يعاني هؤلاء الأطفال أيضا من الأمراض، نتيجة لانهيار نظام الرعاية الصحية، وسوء التغذية.
لم تقتصر الأضرار على المدارس فقط، بل طال تأثيرها الجامعات أيضا. إذ تعطلت الدراسة في الجامعات التي يبلغ تعداد طلابها نحو 90 ألف طالب. فقد تدمرت الجامعة الإسلامية بالكامل بسبب غارة جوية شنتها إسرائيل على غزة في أكتوبر من العام الماضي. وتمت تسوية جامعة الأزهر بالأرض بشكل كامل. ولحقت أضرار بالغة بجامعة الإسراء، وجامعة فلسطين، وجامعة غزة، وجامعة القدس المفتوحة، وجامعة الأقصى، والعديد من الجامعات الأخرى.
ووفقا لتقرير نشرته اللجنة البريطانية لجامعات فلسطين، فإن “كل جامعات غزة التسع عشرة لحقت بها أضرار بالغة أو تحولت إلى أنقاض، حيث دمر أكثر من 80% من مباني الجامعات”.
ووفقا للأرقام التي قدمتها وزارة التعليم الفلسطينية، فقد قُتل أكثر من مائة أكاديمي فلسطيني وأكثر من 600 طالب/ة جامعي/ة في غزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية عليها. كما قُتل ما يقرب من تسعة آلاف تلميذ/ة، فضلا عن أربعمائة مدرس/ة.
إن آثار كل هذا سوف تكون طويلة الأمد، وسوف يستغرق الأمر سنوات عديدة لإعادة بناء ما تم تدميره.
العدد الحقيقي للوفيات بسبب الحرب
يشير تقرير صادر عن منظمة أطباء بلا حدود، في 29 ماي 2024، إلى أن:
“نظام الرعاية الصحية في غزة تم تفكيكه بشكل منهجي خلال الأشهر السبعة الماضية. ووفقا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، فإن 24 مستشفى في غزة أصبحت الآن خارج الخدمة، بينما قُتل 493 عاملا في القطاع الصحي. وتم تدمير كل المراكز الطبية وأنظمة تقديم المساعدات الإنسانية أو يجري تدميرها، لتحل محلها خيارات مرتجلة وأقل فعالية. لا أحد يستطيع أن يجزم بالتكلفة البشرية غير المباشرة للوفيات والإصابات طويلة الأمد نتيجة لمنع تقديم المساعدة والعلاج”.
إن خدمات الرعاية الصحية في حالة انهيار وذلك على وجه التحديد عندما تكون هناك حاجة ماسة إليها. وتكفي بعض الأمثلة فقط لتسليط الضوء على هذا الواقع: فقد ارتفع عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين لجأوا للعلاج بسبب الإسهال بمقدار 25 ضعفا منذ عام 2022. وفي يونيو من هذا العام، لجأ إلى العلاج من سوء التغذية 8000 طفل دون سن الخامسة. وهناك حوالي 50 ألف امرأة حامل، واللائي هن أكثر عرضة للمضاعفات بسبب انعدام الخدمات في المستشفيات. هذا ويواجه مرضى الفشل الكلوي خطر الموت. مستشفى الشفاء، على سبيل المثال، يعالج حاليا حوالي 40 من مرضى الفشل الكلوي، بينما كان يعالج فيه قبل الحرب 450 مريضا.
وكما يظهر التقرير المذكور أعلاه، فقد قُتل حوالي 500 من عمال الرعاية الصحية. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن هذا العدد هو من إجمالي حوالي 20 ألفا. كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز إن:
“هذا يعادل في المتوسط مقتل عاملين في مجال الرعاية الصحية كل يوم، مع مقتل عامل واحد من بين كل 40 عاملا في مجال الرعاية الصحية، أو 2.5% من قوة العمل في مجال الرعاية الصحية في غزة”.
قالت دراسة نشرت في يوليوز في المجلة الطبية البريطانية المرموقة، The Lancet، إن هذا الوضع يعني أن عدد الوفيات الناجمة عن الحرب الحالية أكبر بكثير من عدد القتلى الذين قتلوا بسبب ضربات القصف المباشر. وقد أشار البعض إلى هذه العمليات باعتبارها “قتلا صامتا”.
يستند تقرير The Lancet إلى سيناريوهات الحروب السابقة التي تظهر أن عدد مثل هذه الوفيات قد يكون أكبر بما بين ثلاثة أضعاف إلى خمسة عشر ضعفا لعدد الأشخاص الذين قتلوا في الوفيات المباشرة. لذلك ينص التقرير على أنه “ليس من غير المعقول أن نقدر أن عدد الوفيات قد يصل إلى 186.000، أو حتى أكثر”، بسبب الحرب الجارية.
ويُصنف حوالي 10000 آخرين في عداد المفقودين، وما يزالون مدفونين تحت الأنقاض. ويشير مقال صدر مؤخرا في صحيفة The Guardian بعنوان “العلماء يقتربون من الحجم الحقيقي المروع للوفيات والأمراض في غزة”، إلى أن عدد تلك الوفيات قد يكون أعلى بكثير من تقديراتThe Lancet.
ويقول: “إن اكتشاف شلل الأطفال في غزة يذكرنا بأن تقييم التكلفة الحقيقية للحرب أصبح صعبا على نحو متزايد. ليس لدينا إحساس بمدى انتشار الأمراض والمجاعة -ما يسمى بـ”الوفيات غير المباشرة”- ونحن في الظلام فيما يتعلق بالعدد الإجمالي للوفيات”.
وتوضح تلك الدراسة أنه إذا استمرت الوفيات بالمعدل الذي حسبته مجلة The Lancet والذي يبلغ نحو 23 ألف حالة وفاة شهريا، “فسوف تكون هناك 149.500 حالة وفاة إضافية بحلول نهاية العام، أي بعد ستة أشهر ونصف الشهر تقريبا من التقدير الأولي في منتصف يونيو. وباستخدام هذه الطريقة، فإن إجمالي الوفيات منذ بدء الصراع سوف يقدر بنحو 335.500 حالة وفاة”.
إذا تأكدت هذه الأرقام، فإن هذا يمثل أكثر من 10% من سكان غزة. وإذا أردنا أن نقرب هذه الأرقام من بلداننا، فسوف يكون هذا معادلا لقتل نحو 6 أو7 ملايين شخص في بريطانيا، أو أكثر من 30 مليون شخص في الولايات المتحدة. هذا هو أعلى عدد من القتلى في القائمة الطويلة من الصراعات بين إسرائيل والشعب الفلسطيني.
في العهد القديم، سفر التثنية 19:21، نقرأ أن إله اليهود القدماء أمر بأن تكون العقوبة على الجرائم “نفسا بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن…”. وكان معنى ذلك أن العقوبة يجب أن تكون متناسبة مع الجريمة.
لكن الصهاينة اليوم يتجاوزون بكثير حتى ما أمرهم به ربهم. فإذا أخذنا أعداد القتلى خلال هجوم السابع من أكتوبر في جنوب إسرائيل، وقارناها بالنسبة بأعداد الذين قتلوا في غزة وفقا لتقديرات صحيفة The Guardian’s ، فإننا سنحصل على رقم 250 إلى واحد. لكن هذا لا ينبغي أن يفاجئ من لديه ولو أدنى حد من المعرفة بتاريخ الصراع. ففي الفترة بين عامي 2008 و2020 نرى أرقاما مماثلة، حيث قُتل 5590 فلسطينيا مقابل 251 إسرائيليا، أي بنسبة 22 إلى واحد. وكان هذا قبل وقت طويل من هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حماس في العام الماضي. يبرر الصهاينة مذبحة العام الماضي بالإشارة باستمرار إلى ذلك الهجوم. والسؤال الذي يجب طرحه هنا هو: ما الذي كان يبرر كل حملات القصف والقتل السابقة التي نفذها الجيش الإسرائيلي؟
صب الزيت على النار: توسيع المستوطنات
إن ما يجب أن نتذكره هنا هو أن الطرف المتضرر تاريخيا هو الفلسطينيون. لقد كانوا هم الذين عانوا من الجريمة التاريخية المتمثلة في النكبة، والتي طُرد فيها أكثر من 700 ألف فلسطيني بعنف من وطنهم في عام 1948، مع مقتل أعداد كبيرة منهم في تلك العملية. لقد شهدت تلك الجريمة سرقة وطن شعب بأكمله.
إن الصهاينة يرون في الحرب دوما فرصة لطرد المزيد من الفلسطينيين من وطنهم، وتوطين المستوطنين. شهدنا هذا على نطاق واسع في الضفة الغربية عندما تم طرد 400 ألف فلسطيني آخرين بعد حرب الأيام الستة في عام 1967.
ووفقا لمؤسسة السلام في الشرق الأوسط، كان هناك في عام 1972، 10.608 مستوطن يهودي في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان). وبحلول عام 2005، ارتفع ذلك الرقم إلى ما يقرب من نصف مليون؛ واليوم أصبح عددهم أكثر من 700 ألف، ويتطلع الصهاينة اليمينيون المتطرفون إلى رفع ذلك الرقم إلى مليون، بل وحتى مليونين.
هذه سياسة استبدال إثني على نطاق واسع. تحاول وسائل الإعلام الرسمية السائدة، مثل BBC في المملكة المتحدة، التقليل من أهمية النكبة، وحتى عندما تعترف بها، فإنها تصر على أنها قد حدثت منذ زمن بعيد وأنه يجب علينا الآن أن نركز على الحاضر والمستقبل. هذه طريقة ملائمة لتجاهل حقيقة أن سرقة الأراضي الفلسطينية هي جريمة ما تزال مستمرة إلى حد كتابة هذه السطور.
منذ 7 أكتوبر 2023، تسارعت وتيرة توسيع المستوطنات، حيث وافقت الحكومة الاسرائيلية في يوليوز على بناء 5295 وحدة سكنية جديدة في المستوطنات القائمة، فضلا عن الموافقة على خمس مستوطنات جديدة. كما منح وزير المالية اليميني المتطرف، سموتريتش، تمويلا عموميا لـ 70 بؤرة استيطانية -والتي هي غير قانونية حتى وفقا للقانون الإسرائيلي- ووفر لها المياه والكهرباء والطرق. كما تستفيد البؤر الاستيطانية من الدفاع عنها من قبل الجيش الإسرائيلي، لتصبح في النهاية مستوطنات.
وبينما كان كل هذا مستمرا، تم إبعاد حوالي 1000 فلسطيني من أراضيهم في 18 منطقة في جميع أنحاء الضفة الغربية. والطريقة التي يتم بها تحقيق ذلك تستحق أن نخصص لها بعض الحيز لتوضيحها: يتم إنشاء بؤرة استيطانية ثم يقوم أعضاؤها بشكل منهجي بمضايقة السكان الفلسطينيين. إذ يقومون بتهديدهم جسديا، ويمنعونهم من العمل في أراضيهم، ويقطعون عنهم المياه والكهرباء، مما يجعل من المستحيل عليهم البقاء.
وبمجرد ما يتم تحقيق كل ذلك، تصبح الأرض غير مزروعة ويمكن تصنيفها على أنها مهجورة. والخطوة التالية هي تصنيفها كأراضي للدولة، أي تحت السيطرة المباشرة لإسرائيل. وبعد ذلك يصير من الممكن تسليمها للمستوطنين. إنها سرقة وقحة للأراضي، بالكاد يتم سترها بورقة تين من الشرعية الإسرائيلية.
لقد تصاعدت كل هذه الممارسات على مدار العام الماضي، ومع ذلك فإنها لا تتصدر عناوين الأخبار في وسائل الإعلام الرئيسية. والسبب في ذلك هو أن جميع الحكومات الغربية تدعم إسرائيل حتى مع استمرارها في مصادرة الأراضي الفلسطينية بشكل غير قانوني. إنهم يدعون حزب الله إلى الالتزام بقرارات الأمم المتحدة، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن إسرائيل قد تجاهلت بشكل منهجي كل قرارات الأمم المتحدة التي صدرت في حقها.
قبل عام 2005، كان قطاع غزة يضم 21 مستوطنة إسرائيلية تضم حوالي 9000 مستوطن يهودي. وكجزء من اتفاقيات أوسلو، التي شهدت تأسيس السلطة الفلسطينية، كان قد تم التوصل إلى اتفاق يقضي بإزالة جميع المستوطنات اليهودية من غزة في عام 2005. معظم المستوطنين غادروا عندما تلقوا الأمر بذلك، بينما قاوم بعضهم واضطر الجيش الإسرائيلي إلى التدخل لنقلهم بالقوة.
والآن بدأ الصهاينة يتحدثون عن العودة إلى خطتهم القديمة لاستعمار قطاع غزة. ومرة أخرى تمثل الحرب الوسيلة التي يمكنهم من خلالها تحقيق ذلك. ويستعرض مقال نشرته صحيفة The Guardian بعنوان: “بنيامين نتنياهو يفكر في التطهير الشامل لشمال غزة” (23 شتنبر 2024)، الخطط التي وضعتها حكومة نتنياهو لإزالة السكان المدنيين من شمال غزة. تنص الفكرة على إجبار جميع المدنيين على مغادرة المنطقة ثم إعلان أن أي شخص بقي فيها هو من نشطاء حماس، وبالتالي يمكن إطلاق النار عليه بمجرد رؤيته.
نقل عن النائب عن حزب الليكود، أفيخاي بورون، قوله إن الخطة “قيد التقييم حاليا من قبل الحكومة”. ويبدو أن نتنياهو يعتقد أن الخطة “منطقية”. والسبب وراء ذلك هو أن الجيش الإسرائيلي قد فشل في القضاء على حماس على الرغم من كل القصف، وعلى الرغم من كل الموت والدمار. ولذلك فإنهم الآن يتطلعون إلى تنفيذ تلك الخطة اليائسة. وتتضمن تلك الخطة إعلان المنطقة “منطقة عسكرية”، مما يعني عدم السماح بدخول أي إمدادات، وبالتالي استعمال القوة لإبعاد ما بين 300 ألف إلى 500 ألف فلسطيني ما زالوا في الشمال.
في دجنبر الماضي، بدأت القصص تظهر عن أن المستوطنين الذين كان قد تم إجلاؤهم من غزة في عام 2005 قد بدأوا يعودون إلى القطاع. ومن الأمثلة على ذلك مقال نُشر في صحيفة Al Monitor، بعنوان “المستوطنون الإسرائيليون السابقون يتوقون للعودة إلى غزة بعد الحرب“، والذي اقتبس عن هانا بيكارد، وهي فرنسية إسرائيلية عاشت لمدة 16 عاما في قطاع غزة، قولها “من الواضح أننا سنعود”. ومن شأن الخطة الرامية إلى إخلاء الجزء الشمالي من غزة من المدنيين أن يؤدي إلى تسهيل تلك العودة.
والواقع أن هناك الكثير من الحديث بين الصهاينة حول الحاجة إلى استئناف برنامج الاستيطان في غزة. في يونيو من هذا العام، أعلن اثنان من أعضاء الكنيست من اليمين المتطرف عن تشكيل “كتلة كنيستية لتجديد الاستيطان في قطاع غزة”. ونُقل عنهما قولهما: “وحده التواجد الكثيف للمستوطنات اليهودية في مختلف أنحاء غزة الذي سيمكن من منع استمرار التهديدات الإرهابية وردع العدو”.
لكن ولكي تنجح تلك الخطة، لابد وأن تكون المستوطنات الجديدة مسلحة بشكل كبير ومدعومة من قبل الجيش الإسرائيلي. وسوف يتحول هؤلاء المستوطنون عمليا إلى حراس سجن في ما يشار إليه عادة بـ”أكبر سجن مفتوح في العالم”. من السهل قول ذلك لكن من الصعب تطبيقه. فقد يمضون قدما في تنفيذ تلك الخطة، لكنها سوف تصبح مصدرا لاستياء هائل بين جيل جديد من الفلسطينيين الذين اضطروا إلى تحمل الكوابيس التي وصفها هذا المقال، والذين سوف يبحثون عن وسيلة لاستعادة أراضيهم المسروقة.
ناضلوا ضد كل دعاة الحرب
إن وسائل الإعلام السائدة -أي وسائل الإعلام التابعة للرأسماليين الأثرياء والتي تتمثل مهمتها في الدفاع عن مصالح الطبقة السائدة- تتجاهل التاريخ، وتستمر في تسويق الشعار الذي مفاده أن “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها”. كيف يمكن لأي شخص في كامل قواه العقلية أن يزعم أن ما تم وصفه أعلاه هو “دفاع عن النفس”؟ كلا! إن ذلك جزء من خطة صهيونية استمرت لعقود من الزمن للاستيلاء على كل المنطقة التي كانت في السابق فلسطين. ومن الواضح أن الصهاينة اعتبروا الهجوم الذي شنته حماس، يوم 7 أكتوبر من العام الماضي، ذريعة ملائمة لزيادة الضغوط على الشعب الفلسطيني.
عندما يلقي الزعماء السياسيون، مثل بايدن وستارمر وماكرون وشولتز، إلى جانب جميع المحرضين على الحروب المجرمين الآخرين- وهم في المقرات المريحة لحكوماتهم، ويعيشون في مساكنهم الفاخرة، ويكسبون الكثير من المال مقابل خدمتهم لمصالح الطبقة الرأسمالية الغنية والقوية- خطبا حول “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، تذكروا ما تم توضيحه أعلاه.
إن ما يقولونه حقا هو أن الطبقة السائدة الصهيونية في إسرائيل لها الحق في قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وقتل نسائهم وأطفالهم، وتدمير منازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم، وتهديد المنطقة بأكملها بالحرب. هذا ما لدينا منذ عام واحد منذ 7 أكتوبر. وهذا ما يدعمه جميع القادة الغربيون.
والمفارقة في كل هذا هي أنه بعد مرور عام كامل، عوض أن يتمكن الصهاينة من ضمان سلامة الناس الذين يعيشون في إسرائيل -التي كان من المفترض أن تصبح ملاذا آمنا لليهود- فقد حولوا إسرائيل إلى مكان أكثر خطورة للعيش فيه، بل والمكان الأكثر خطورة على كوكب الأرض بالنسبة لليهود. لقد دفعوا الآن المنطقة بأكملها إلى شفا حرب إقليمية، مما أدى إلى خلق وضع حيث يمكن أن تهدر المزيد من الأرواح من الجانبين.
لماذا يحدث كل هذا؟ ذلك لأن الصهاينة عرقلوا بشكل منهجي كل المحاولات للتحرك في اتجاه منح الفلسطينيين دولة خاصة بهم، وسوف يستمرون في القيام بذلك. وكل ما فعله نتنياهو كان في هذا الاتجاه. إنهم لا يرفضون فقط منح الفلسطينيين دولة خاصة بهم، بل يعملون بلا هوادة على حشرهم في مناطق أصغر فأصغر، لأجل الاستيلاء على المزيد من أراضيهم وزيادة عدد المستوطنين.
لا يمكن أن يكون هناك سلام على هذا المسار. وطالما بقيت الطبقة السائدة الإسرائيلية الصهيونية في السلطة، بدولتها المدججة بالسلاح، والمدعومة من أقوى دولة إمبريالية في العالم، أي الولايات المتحدة، فلن يكون هناك أي تحرك نحو منح الحقوق الكاملة للفلسطينيين.
يجب الإطاحة بالطبقة السائدة الصهيونية، وكذلك كل الأنظمة البرجوازية الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة، من المملكة العربية السعودية إلى الأردن ومصر، وكل الأنظمة الأخرى. وفي البلدان الرأسمالية المتقدمة، يجب علينا أن ننظم صفوفنا ونناضل ضد حكوماتنا الإمبريالية، أي ضد نفس تلك الحكومات التي دعمت الكابوس الذي يجثم على الشعب الفلسطيني.
فريد ويستون
7 أكتوبر/تشرين الأول 2024
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: