نعمل في ما يلي على نشر الترجمة العربية للمقال الهام الذي صدر على صفحة موقع الدفاع عن الماركسية، يوم 10 أكتوبر 2006، والذي رغم مرور أزيد من عشر سنوات ما يزال يحتفظ بكامل راهنيته، خاصة في ظل الأحداث التي نشهدها اليوم. يقدم هذا المقال تحليلا ماركسيا للوضع في كوريا الشمالية، وخلفيته التاريخية، والمسار الذي تتطور فيه، إضافة إلى البديل الذي يقدمه الماركسيون للطبقة العاملة في الكوريتين وأمميا.
إلى أين تسير كوريا الشمالية؟
جون بيترسون وفريد وستون
10 أكتوبر 2006
لقد أجرت كوريا الشمالية مؤخرا تجربة نووية تحت الأرض، جذبت انتباه وسائل الإعلام العالمية وأثارت غضب الإمبرياليين، ولا سيما جورج بوش. السؤال المطروح هو ما هو الدافع وراء هذه الخطوة؟ لكن الأهم هو ما الذي يحدث لنظام كوريا الشمالية واقتصادها؟ تحاول هذه المقالة إعطاء بعض الإجابات.
إن التوترات في شبه الجزيرة الكورية آخذة في الارتفاع بسرعة. كوريا الشمالية التي تبحث عن أوراق للضغط في تعاملها مع الغرب واليابان، قد أعلنت في وقت سابق من هذا العام عن خطط لاختبار أسلحة نووية. وبعد ذلك، يوم 07 أكتوبر، عبرت مجموعة من الجنود الكوريين الشماليين إلى كوريا الجنوبية، مما أدى إلى إطلاق نار تحذيري من قبل الكوريين الجنوبيين. تعتبر المنطقة المنزوعة السلاح التي تقسم الكوريتين واحدة من أكثر الحدود تسليحا على كوكب الأرض. ومن الناحية التقنية ما يزال الجانبان في حالة حرب، لأن الاتفاقية التي تم توقيعها عام 1953 بعد الحرب الكورية، كانت اتفاقية وقف إطلاق النار فقط، وليست معاهدة سلام. وعلى الرغم من عدد سكانها البالغ 23 مليون نسمة فقط، فإن كوريا الشمالية لديها حاليا خامس أكبر جيش في العالم، بحوالي 1,2 مليون جندي. الجيش الكوري الجنوبي ليس بذلك الحجم، لكنه ربما مجهز بشكل أفضل، ويحظى بدعم الآلاف من القوات الأمريكية.
لقد أثارت كوريا الشمالية حاليا المزيد من التوترات من خلال إجراء تجارب نووية في مخبأ تحت الأرض مما تسبب في زلزال بلغت قوته 4,2 درجة على مقياس ريختر. وقد قدر مركز أبحاث الزلازل في أستراليا قوة الانفجار بنحو كيلوطن، أي ما يعادل 1.000 طن من مادة تي إن تي. بينما قال وزير الدفاع الروسي، سيرجى ايفانوف، إن قوة الانفجار تتراوح بين 5 و15 كيلوطن. وكانت القنبلة التي أسقطتها الولايات المتحدة على هيروشيما في عام 1945 تساوي 12,5 كيلوطن.
اهتزت أسواق الأسهم العالمية، وعكس سعر النفط تراجعه التدريجي الأخير. كانت الصين قد تلقت إخطارا مسبقا بالاختبار، وشرعت في إبلاغ الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية. فسارعت الولايات المتحدة فورا إلى التهديد بفرض عقوبات على كوريا الشمالية للزيادة في شل اقتصادها الهش أصلا، على الرغم من أنه من الصعب الحكم على مدى فعالية هذه العقوبات دون تعاون صيني كامل. فكوريا الشمالية تعتمد بشكل رئيسي على الصين للتجارة.
كان الرئيس الأميركي جورج بوش، في خطابه سيء الذكر حول حالة الاتحاد عام 2002، قد وصف العراق وإيران وكوريا الشمالية بأنها تشكل “محور الشر”. ومنذ ذلك الحين تم غزو العراق واحتلاله، وتتعرض إيران للتهديد يوميا تقريبا، على الرغم من أن احتمال حدوث غزو بري أمريكي لإيران أمر مستبعد للغاية في الوقت الراهن، نظرا للفوضى التي أحدثوها في العراق. لكن إدارة بوش تتعامل بحذر أكبر عندما يتعلق الأمر بكوريا الشمالية، ومن السهل معرفة السبب.
كان السبب الرئيسي الذي دفع إلى إلقاء هذه الأنظمة في سلة واحدة هو اتهامها بحيازة الأسلحة النووية. لقد تم غزو العراق بهذه الذريعة الواهية، ولم يعثر على أي من تلك الأسلحة. إيران لا تملك حتى الآن أسلحة نووية، لكنها تلعب لعبة القط والفأر مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فيما يفترض أنه محاولة للحصول عليها. والسبب في ذلك واضح: لقد تعرض العراق للغزو بالتحديد لأن الولايات المتحدة كانت تعلم أنه لا يمتلك هذه الأسلحة، ولذلك كان هدفا سهلا. ويرى النظام الإيراني بطبيعة الحال أن أفضل طريقة لمنع التعرض للغزو هي تطوير الأسلحة النووية كوسيلة للردع.
لكن في حالة كوريا الشمالية، كان الكثيرون في إدارة بوش يرجحون منذ فترة أنها تمتلك بالفعل قدرة نووية، فضلا عن صواريخ بعيدة المدى يمكنها أن تصل إلى اليابان وربما حتى الساحل الغربي للولايات المتحدة. والآن قد تأكدت الشكوك حول القدرة النووية. وهذا ما يفسر الموقف شديد الحذر الذي تتخذه واشنطن عند التعامل مع نظام كيم جونغ إيل.
إن نفاق الإمبريالية الأمريكية لا يعرف حدودا. إنها البلد الوحيد في العالم الذي استخدم الأسلحة النووية خلال الحرب، مما أدى إلى طمس مدينتين يابانيتين وقتل أكثر من 200 ألف مدني. ولديها أسلحة نووية كافية لإبادة الكوكب بأسره عدة مرات. ومع ذلك فإنها ترى في نفسها دركي العالم، الذي يقرر من يمكنه ومن لا يمكنه أن يمتلك هذه الأسلحة الرهيبة.
إن قبول فكرة أن الولايات المتحدة لها الحق في تقرير من يمكنه ومن لا يمكنه أن يمتلك الأسلحة النووية يعني القبول بفكرة أن العالم آمن في أيدي الرأسماليين الأمريكيين، وهو الشيء البعيد جدا عن الحقيقة. إن المعارضة الأمريكية لقيام كوريا الشمالية بتطوير قدرات نووية لا تقوم على أي مخاوف “إنسانية” بشأن مصير العمال والناس العاديين في مختلف أنحاء العالم. لقد طورت إسرائيل قدرات نووية – بل إن بعض جنرالاتها يفكرون في استخدامها!- لكن لم يكن هناك أي تهديد بالعقوبات أو الغزو. الهند وباكستان على حد سواء لديهما صواريخ نووية ولم يتعرضا سوى لعتاب دبلوماسي. بينما العراق لم يكن يمتلك أسلحة نووية، لكنه تعرض للغزو ومقتل ما لا يقل عن 100 ألف شخص في الآونة الأخيرة، وهو متوسط العدد الذي يمكن لصاروخ نووي متوسط الحجم أن يقتله.
من وجهة نظر تاريخية عامة، يعتبر تطوير الأسلحة النووية مضيعة مطلقة للموارد البشرية والمادية. لكن طالما استمر المجتمع تحت سيطرة طبقات حاكمة وطنية تحتكر الامتيازات – وفي حالة كوريا الشمالية سيطرة بيروقراطية ستالينية تحتكر الامتيازات- فإنها ستستمر في التسلح الكثيف للدفاع عن امتيازاتها ضد منافسيها وضد الطبقة العاملة.
ولذلك فإن السبيل الوحيد لضمان عالم خال من الأسلحة النووية هو النضال من أجل الإطاحة بهذه الطبقات الحاكمة. عندما سيصبح العالم تحت رقابة عمال جميع البلدان، آنذاك فقط سيصير من الممكن إعادة توجيه تلك الموارد الضخمة التي تهدر حاليا على الأسلحة وإنفاقها على احتياجاتنا الحقيقية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، وما إلى ذلك.
خلفية تاريخية
على الرغم من التركيز المتجدد على كوريا الشمالية، فإن هناك القليل من المعلومات حول ما يحدث في داخل البلاد وما الذي يحدث مع الاقتصاد؟ وماذا يحدث داخل النظام؟ وفي أي اتجاه تسير؟
بادئ ذي بدء، يجب أن نوضح بشكل تام أن كوريا الشمالية لم تكن أبدا مجتمعا اشتراكيا حقيقيا كما يتصوره الماركسيون. وهو منذ ظهوره في أواخر الأربعينيات نظام ستاليني، أو ما نسميه بأنه دولة عمالية مشوهة، وفي هذه الحالة مشوهة بشكل رهيب جدا. إن وسائل الإنتاج مملوكة للدولة، لكن الرقابة عليها موجودة بحزم في أيدي بيروقراطية تحتكر الامتيازات.
لشبه الجزيرة الكورية تاريخ طويل من التعرض للغزو والمقاومة ضد الاحتلال الأجنبي. وعلى مر القرون تعرضت كوريا للاحتلال من طرف مختلف الغزاة: المغول والصينيون واليابانيون، والأوروبيين في القرن التاسع عشر الذين كانوا يريدون فتح “المملكة المنغلقة”، كما فعلوا مع الصين واليابان. وبعد الحرب الروسية اليابانية عام 1905، احتلت كوريا من طرف اليابان، التي ضمتها رسميا في عام 1910. بدأ اليابانيون في تصنيع البلاد، خاصة مع بناء السكك الحديدية، لكنهم قاموا أيضا بنهب مواردها الطبيعية واستغلوا شعبها بوحشية وحكموها بقبضة من حديد.
ناضلت الحركة الاستقلالية بنشاط ضد الاحتلال الياباني، ووصل كفاحها ذروته في 01 مارس 1919، عندما قتل آلاف المتظاهرين وجرح وسجن عشرات الآلاف. وفي السنوات التي تلت ذلك، انضم عشرات الآلاف من الشيوعيين الكوريين إلى جيش التحرير الشعبي الصيني لمحاربة اليابانيين في الصين وكوريا، مع ظهور كيم إيل سونغ كأحد أبرز القادة. ومع انهيار الإمبراطورية اليابانية، تم طرد اليابانيين أخيرا، ووصلت قوات كيم إلى مدينة وونسان الساحلية الكورية الهامة، بدعم من الجيش السوفياتي.
في أعقاب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، تم تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين، على أساس خط العرض 38 درجة، حيث سيطر الاتحاد السوفياتي على الشمال، والولايات المتحدة على الجنوب. وقد عارض الشعب الكوري هذا التقسيم بالإجماع تقريبا، لكن في حقبة ما بعد الحرب لم تكن الدول العظمى تهتم برغبات البلدان الصغيرة في العالم، وكانت تستخدمها بصورة كلبية كبيادق في لعبة الشطرنج العالمية. وليس من المستغرب أن الطرفين لم يتمكنا من الاتفاق على خطة للوصاية المشتركة وكوريا موحدة، وفي نهاية المطاف تشكلت دولتان منفصلتان عندما بدأت الحرب الباردة بشكل جدي.
في غشت 1945، أنشأ الجيش السوفياتي “السلطة المدنية السوفياتية” لحكم الشمال، في انتظار تثبيت نظام محلي صديق للاتحاد السوفييتي. وفى عام 1946 أصبح كيم إيل سونغ زعيم اللجنة الشعبية المؤقتة لكوريا الشمالية، تمهيدا لإقامة جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، التي تأسست عام 1948.
ركز كيم إيل سونغ جهوده على إعادة توحيد شبه الجزيرة على أساس حركة ثورية في الجنوب. لكن هذه الخطة انتهت مع فشل التمرد في أكتوبر 1948. في أعقاب هذه الانتفاضة المهزومة، تمكنت حكومة سينغمان ري الكورية الجنوبية، المدعومة من الولايات المتحدة، من السيطرة على الوضع، وبحلول عام 1949 سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها. عندما صار الجنوب غير محمي نسبيا، انتقل كيم لإعادة توحيد شبه الجزيرة بالقوة. جيش كيم الذي كان مسلحا بشكل جيد بالأسلحة السوفيتية ويتمتع بدعم سياسي من الاتحاد السوفياتي، والذي كان مشكلا من قدامى المحاربين ضد اليابانيين، قام بغزو الجنوب، في يونيو 1950، وتمكن بسهولة من هزيمة أعدائه عديمي الخبرة والاستيلاء على عاصمة الجنوب سيول. فقامت الولايات المتحدة، تحت غطاء الأمم المتحدة، بإرسال آلاف الجنود وتنظيم الهجوم المضاد، مما دفع قوات كيم إلى التراجع، واستولت الولايات المتحدة على العاصمة الشمالية بيونغ يانغ.
وبسبب عدم تحملهم لوجود القوات الأمريكية على مقربة من حدودهم، وفي سياق مناورتهم من أجل التأثير الإقليمي ضد منافسيهم في موسكو، تدخل الصينيون، في عهد ماو تسي تونغ، على نطاق واسع وأرسلوا مئات الآلاف من القوات عبر الحدود في أكتوبر 1950، فاستعادوا في نهاية المطاف بيونغ يانغ وسيول في يناير 1951. ربما كانت تلك هي الهزيمة الأكبر التي تعرضت لها القوات العسكرية الأمريكية في التاريخ، إذ تم سحق وحدة مكونة من 3000 رجل من فرقة المشاة السابعة الأمريكية بشكل كلي في معركة تشوسين ريزرفوار.
وبعد شهرين استعادت قوات الأمم المتحدة، بقيادة الولايات المتحدة، سيطرتها على سيول، وبعد فترة من الجمود أعلن وقف إطلاق النار، في 27 يوليوز 1953. وتم فصل “خط الهدنة”، القريب من خط التقسيم الأصلي (خط عرض 38 درجة)، بمنطقة منزوعة السلاح، “منطقة غير تابعة لأحد” والتي يتواجد حولها مئات الآلاف من قوات الجانبين، يحدقون في بعضهم البعض منذ عقود، حيث أن البلدين مازالا رسميا في حالة حرب.
بعد الحرب، صارت سلطة كيم إيل سونغ في الشمال مطلقة تقريبا، بدعم من جيش كبير ومؤثر. وقد حكم حتى وفاته في عام 1994، حين خلفه ابنه كيم جونغ إيل في منصب الأمين العام لحزب العمال الكوري ورئيس لجنة الدفاع الوطني، ليصبح بحكم الأمر الواقع رئيس الدولة.
دولة عمالية مشوهة
كان النموذج السياسي لدولة كوريا الشمالية، منذ تأسيسها، هو الاتحاد السوفياتي الستاليني. وكانت السلطة ممركزة في يد ما يسمى بحزب العمال الكوري، وكيم إيل سونغ أمينا عاما. كما تم إنشاء اقتصاد مخطط، على غرار الاتحاد السوفياتي. قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، كان الجزء الأكبر من ثروات البلاد في ملكية اليابانيين أو المتعاونين معهم من الكوريين. وعندما تم تأميمها من طرف نظام كيم في عام 1946، صار 70% من القطاع الصناعي في أيدي الدولة. وبحلول عام 1949، تم تأميم 90% من الصناعة. وتم تحطيم سلطة كبار مالكي الأرض من خلال التوزيع الشامل للأراضي على الفلاحين، في عام 1946، وبحلول أواخر الخمسينيات تم تجميع كل الإنتاج الزراعي تقريبا ودمجه بشكل متزايد في وحدات إنتاجية كبيرة.
وبسبب الاستثمارات الضخمة في الصناعات الثقيلة، بما في ذلك صناعة الآلات الزراعية، توسع الاقتصاد بسرعة في الخمسينيات. وعلى الرغم من الدمار الذي خلفته الحرب الكورية، وعلى الرغم من عدم كفاءة البيروقراطية وتبذيرها، فقد ارتفعت مستويات المعيشة بشكل كبير في كوريا الشمالية خلال الستينيات. لكن السلع الاستهلاكية كانت دائما في حالة نقص، وكان السكان يتعرضون لأقصى تدابير “الانضباط” والضغط من فوق من أجل الزيادة في الإنتاجية. وبحلول السبعينيات، أدت قبضة البيروقراطية الخانقة وغياب المشاركة الديمقراطية في التخطيط للاقتصاد واستحالة بناء “الاشتراكية في بلد واحد”، إلى انحطاط طويل مطرد للنظام، وهو الشيء الذي ما زال مستمرا حتى يومنا هذا. وفي سياق سعيه الحثيث للحفاظ على السلطة، أدت تقلبات وانعطافات النظام بصورة متزايدة إلى عزلة تامة لكوريا الشمالية عن بقية العالم، ومعاناة فظيعة لشعبها. وأدى سوء الإدارة الرهيب وسلسلة من الكوارث الطبيعية إلى حدوث مجاعة في التسعينات، حيث قدر عدد الوفيات بنحو 3,5 مليون شخص.
إن مصادرة الرأسمالية في كوريا الشمالية كانت بلا شك خطوة تقدمية من وجهة النظر التاريخية. لكن ومنذ البداية كان الاقتصاد المؤمم والمخطط، تحت سيطرة بيروقراطية شمولية. على الرغم من أنه كانت هناك بعض المشاركة من جانب الجماهير الكورية في الثورة التي قضت على الملكية الخاصة في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، فإنه لم تكن هناك أي رقابة ولا إدارة ديمقراطية للعمال من خلال المجالس العمالية (السوفييتات)، مثل تلك التي كانت موجودة في الاتحاد السوفياتي في البداية في ظل لينين وتروتسكي .
ومثلما حدث في معظم بلدان أوروبا الشرقية بعد الحرب، فقد جرت عملية نزع الملكية بطريقة بيروقراطية من فوق، على أساس السلطة والمصالح الاقتصادية والعسكرية والسياسية للاتحاد السوفياتي، ولم تكن نتيجة المشاركة النشطة والديمقراطية للجماهير الكورية في ثورة بروليتارية من الأسفل. ونتيجة لذلك، فعلى الرغم من أن سيطرة الاتحاد السوفياتي على كوريا الشمالية لم تكن قوية تماما، مثلما كان الحال في بلدان مثل بلغاريا أو تشيكوسلوفاكيا، فإنها كانت منذ البداية دولة عمالية مشوهة.
جوتشي
هذه البدايات الشمولية والبيروقراطية حددت ملامح كل التطور اللاحق والمتزايد الغرابة للنظام. وعلى النقيض من الطابع البروليتاري الأممي الذي ميز البلاشفة، استند القادة الستالينيون الكوريون الشماليون إلى القومية والانعزالية الأكثر رجعية وضيقا. وأخذوا نظرية “الاشتراكية في بلد واحد” إلى أقصى حدودها، والتي تتلخص في مفهومهم جوتشي (الاعتماد على الذات)، والذي، وفقا لكيم جونغ إيل، يشكل جزءا من “الكيم إيلسونغية”. ووفقا لموقع DPRK الرسمي: «إن الزعيمان كيم إيل سونغ وكيم جونغ إيل هما شمس الأمة والبشرية». كما تمتلك كوريا الشمالية تقويم جوتشي الخاص بها حيث “السنة الأولى” هي السنة التي ولد فيها كيم إيل سونغ، 1912. هذا مثال متطرف عن ما يسمى بـ “عبادة الفرد”، فحتى ستالين نفسه لم يصل إلى هذا الحد.
لكن الطابع القومي للنظام الكوري الشمالي يذهب أبعد من ذلك. فحتى كلمة “الماركسية – اللينينية” (التي كانت معظم الأنظمة الستالينية في الماضي تكيل لها المديح على الأقل بالأقوال) تم استبدالها بجوتشي في جميع منشورات الحزب الشيوعي وحتى دستور كوريا الشمالية خلال السبعينيات. كما أنه يمنع منعا كليا الوصول إلى الكتابات الكلاسيكية لماركس وإنجلز ولينين. ومما سبق يتضح إلى أي مدى هذا النظام بعيد عن “الماركسية اللينينية” الحقيقية التي هي نظرية أممية حتى النخاع.
قارنوا هذا أيضا مع سلوك البلاشفة بعد أن وصلوا إلى السلطة في عام 1917. لقد فعل البلاشفة العكس تماما مما يفعله الستالينيون الكوريون الشماليون: فقد غيروا التقويم الروسي لكي يتوافق مع التقويم الغربي المقبول بشكل أوسع، من أجل التواصل بشكل أفضل مع نضالات البروليتاريا العالمية.
ثورة مضادة زاحفة
تعاني الجماهير الكورية الشمالية من ظروف فظيعة. إنها تعاني في ظل نظام شمولي لا مثيل له وقيادة بيروقراطية مستبدة، بالإضافة إلى جميع المآسي التي تلحق بهم بسبب الإمبرياليين المنافقين. لقد اصطدم الاقتصاد الكوري الشمالي بالجدار منذ فترة طويلة، حيث أن البيروقراطية عاجزة تماما عن تطوير القوى المنتجة داخل حدودها الضيقة وفي ظل النظام الشمولي. لكن بجوارها هناك الصين، حيث أدى انفتاح البلاد على الرأسمالية إلى تحقيق مستويات غير مسبوقة من التطور والنمو الاقتصاديين. إن مصير كوريا الشمالية الصغيرة كان دائما مرتبطا إلى حد كبير بجارها العملاق. وكما قلنا، فإن كوريا الشمالية تعتمد اعتمادا كبيرا على الصين فيما يخص التزود بالتجهيزات والمواد الغذائية وما إلى ذلك. إن الصين لديها القوة لممارسة الضغط على نظام كوريا الشمالية ودفعها في الاتجاه الذي ترغب فيه. وهذه القوة الاقتصادية أقوى بكثير من أي قنبلة نووية.
في ظل هذه الظروف، وعلى الرغم من الخطابات السطحية، فإن الانفتاح على اقتصاد السوق “الحرة” يبدو جذابا للعديد من البيروقراطيين في كوريا الشمالية. لكن هل العودة إلى الرأسمالية هو الحل لمعاناة الشعب الكوري الشمالي؟ بالتأكيد لا! دعونا لا ننسى أنه جنبا إلى جنب مع النمو الاقتصادي الذي تحققه الصين لدينا طبقة عاملة تواجه ظروفا بائسة مماثلة للظروف التي كانت سائدة في بريطانيا خلال القرن 19. هناك استقطاب ضخم يحدث، مع تراكم ثروة هائلة في جانب والفقر الرهيب في الجانب الآخر.
لا يمكن للماركسيين بأي شكل من الأشكال أن يدعموا العودة إلى الرأسمالية. نحن ندافع عن المكاسب الأساسية للثورة الكورية الشمالية، أي الاقتصاد المؤمم المخطط، على الرغم من التشوهات البيروقراطية. إننا نعارض الاعتداءات العسكرية والدبلوماسية التي تقوم بها الإمبريالية. تود الإمبريالية الأمريكية، من خلال دميتها المحلية أي نظام كوريا الجنوبية، أن تضع أيديها على كوريا الشمالية، وبالتالي تكتسب موطئ قدم آخر للضغط على الصين في المنطقة. إلا أنها لن تفعل ذلك لتحسين ظروف حياة الجماهير الكورية الشمالية.
لكن المشكلة التي نواجهها في كوريا الشمالية هي أن بيروقراطية نظام كيم جونغ إيل نفسها هي من يعرِّض ما تبقى من الاقتصاد المخطط للخطر. وسيكون من الغباء أن نعتقد أن مكاسب الثورة آمنة بين أيدي هؤلاء البيروقراطيين. دعونا لا ننسى أن الستالينيين الروس والصينيين (وإن بإتباع مسارات مختلفة) كانوا على استعداد للتخلي عن عقود من الخطاب “الاشتراكي” والاندفاع نحو الرأسمالية. وحالة كوريا الشمالية مشابهة في الجوهر.
والسبب في ذلك، في حالة روسيا، هو أن نظامهم البيروقراطي كان قد وصل إلى طريق مسدود. لم يعد بإمكانهم تطوير القوى المنتجة. ولأنهم رغبوا في الحفاظ على امتيازاتهم المادية، فقد رأوا في الرأسمالية بديلا. وكان هذا هو الحال بشكل خاص في أواخر الثمانينات عندما كانت الرأسمالية في الغرب تمر بفترة ازدهار كبير. أما في الصين فقد كان في مقدور البيروقراطية أن ترى خطر زوالها في المستقبل في الأزمة التي واجهت الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية. وهكذا قررت توجيه السيرورة بنشاط نحو الرأسمالية، بدلا من مواجهة انهيار مفاجئ كما حدث في الاتحاد السوفياتي. ويبدو أن البيروقراطية الكورية الشمالية قد قررت بالفعل أن تتبع الطريق الذي اتبعه نظرائها الصينيون. لا يمكن بأي شكل من الأشكال الاعتماد على هؤلاء البيروقراطيين للدفاع عن مكاسب الاقتصاد المخطط.
“نمر آسيوي” جديد؟
من الواضح أن شريحة واسعة من النظام الكوري الشمالي تأمل في أن تحذو حذو الصين. ويبدو أن هناك تحولا واضحا في موقف البيروقراطية قد حدث في منتصف عام 2002، ومنذ ذلك الحين قدمت العديد من التنازلات للرأسمالية.
فعلى سبيل المثال، في شهر شتنبر من ذلك العام، أعلنت حكومة كوريا الشمالية إنشاء “منطقة مالية دولية” في سينويجو، وهي منطقة تقع على الحدود مع الصين. وكانت منطقة السوق الحرة هذه، المعروفة باسم “هونغ كونغ الكورية”، تعمل بشكل مستقل بنظامها القانوني والاقتصادي الخاص. وكان من المقرر حتى أن تصدر جوازات سفر خاصة بها وأن تعين رئيس الشرطة الخاص بها. وكما قالت صحيفة الإيكونوميست آنذاك (10/12/2002): «يبدو أن فكرة إنشاء منطقة رأسمالية في سينويجو أكثر جرأة من قرار الصين في عام 1980 بإنشاء ما سمي “المناطق الاقتصادية الخاصة”، حيث تم تطبيق السياسات على الطراز الرأسمالي».
لكن ذلك المشروع لم يتحقق حتى الآن بعد أن اعتقلت الحكومة الصينية يانغ بينغ، الذي هو رأسمالي من هونغ كونغ، وكان ثاني أغنى رجل في الصين، والذي كان سيصير أول حاكم لمنطقة السوق الحرة الجديدة. لقد اعتقل بتهمة الفساد والتهرب الضريبي، بينما السبب الحقيقي هو على الأرجح أن الرأسماليين الصينيين قلقون من أن يانغ والكوريين الشماليين سينافسونهم بعمال يشتغلون بأجور أرخص وفي ظل ظروف أشبه بالعبودية. وقد يكون تعطيل هذا المشروع أيضا انعكاسا للتناقضات الحتمية داخل صفوف البيروقراطية الكورية الشمالية، المنقسمة حول فتح البلاد أمام الرأسمالية، أو بالأحرى حول أفضل السبل للقيام بذلك. وعلى الرغم من البطء الذي تسير به في هذا الاتجاه، فإن هناك أدلة كثيرة على أن كوريا الشمالية قد بدأت تسير بالفعل على خطى الصين.
يجري تفكيك البنية الاقتصادية للدولة القديمة شيئا فشيئا، وببطء تقضي البيروقراطية على المكسب الحقيقي الوحيد للثورة، أي الاقتصاد المخطط. وفي يوليوز 2002، تم إيقاف العمل بنظام الحصص والتوزيع الذي يوفر الكهرباء والطعام مجانا للعمال. وفي الوقت نفسه تم تحرير الأسعار التي كانت تتحكم فيها الحكومة، وأعطي المزيد من الاستقلالية للمؤسسات الخاصة، وشجع المزارعين على تحقيق الأرباح. والمبرر الذي قدمه أحد المسؤولين الحكوميين هو أن القصد من ذلك هو جعل العمال “يظهرون الحماس للعمل”.
من الواضح أن هذه محاولة لفك عمال كوريا الشمالية من الدولة وربطهم باقتصاد السوق. لقد سبق لنا أن رأينا هذا من قبل. على العمال الآن أن يزيدوا في إنتاجيتهم إذا كانوا يريدون أجرا كريما. وهذه تدابير اعتادها العمال في الغرب، حيث صفقات الإنتاجية ليست غريبة بالنسبة لهم. لكنها تنطوي أيضا على سحق الطبقة العاملة.
كما ركزت الدولة الكورية الشمالية بعض استثماراتها في شركات رأسمالية خارج حدودها، وشاركت مع شركات في الصين وروسيا وتايلاند واليابان (على الرغم من أن الضغوط الأمريكية قد قلصت بشدة من العلاقات الاقتصادية مع اليابان). فمن سلسلة المطاعم إلى الفنادق الفاخرة وبرامج الكمبيوتر ومزودي الإنترنت إلى الأدوية، أنشأت الدولة الكورية الشمالية متاجر في عدة بلدان، في محاولة لخلق عائدات لاقتصادها المفتقر للسيولة المالية. لكن هذه الأموال التي تأتي من الخارج، رغم أنها تحت سيطرة الدولة، يمكنها أن تلعب دورا قويا في تسريع عملية تطوير الرأسماليين الجدد في كوريا الشمالية.
وداخل كوريا الشمالية نفسها، تنمو عناصر الرأسمالية ببطء لكن بثبات، ليس في مناطق اقتصادية خاصة، بل داخل الاقتصاد الكوري الشمالي نفسه. لقد أدت أزمات المجاعة في التسعينيات إلى ظهور الحدائق الخاصة، كطريقة لمواجهة المجاعة. لكن في السنوات القليلة الماضية، ظهرت الآلاف من المزارع الصغيرة، التي تمثل معاقل صغيرة للرأسمالية، تنتج لأجل السوق الخاصة ولتحقيق مكاسب شخصية وليس جماعية. وفى أواخر عام 2002 تم فتح أول سوق بموافقة الحكومة. الأسعار هناك يحددها قانون السوق وليس الدولة، كما ظهرت سوق سوداء مزدهرة على هذه الأرض الخصبة. ووفقا للباعة فإن المنافسة آخذة في الازدياد، وقد توسعت السوق إلى حد كبير منذ افتتاحها لأول مرة.
ليس من المستغرب أن الآلاف من رجال الأعمال الصينيين اصطفوا للحصول على قطعة من “الأرض البكر الأخيرة للرأسمالية”. ومن سوق سرية واسعة (كانت تقع تحت ساحة كيم إيل سونغ)، إلى 100 متجر ضخم في بيونغ يانغ، الاستثمار يتسارع. بدأت تظهر ورشات البناء في كل مكان، وهناك المزيد من السيارات في الشوارع والجرارات في الحقول، أكثر من أي وقت مضى.
ساقت صحيفة آسيا تايمز (08 غشت 2006) تقارير عن القفزة في الاستثمار الأجنبي من طرف الرأسماليين الصينيين:
«قفزت الاستثمارات المباشرة غير المالية للصين في كوريا الشمالية من 1,1 مليون دولار في عام 2003 إلى حوالي 14,1 مليون دولار في عام 2004 و14,9 مليون دولار في عام 2005، وفقا لإحصاءات وزارة التجارة الصينية. وبلغت التجارة الثنائية ما يقرب من 1,4 مليار دولار في عام 2004، وارتفعت إلى نحو 1,6 مليار دولار في عام 2005، في حين بلغت خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2006، 61 مليون دولار.
وقال شو ون جى، الأستاذ بمعهد شمال شرق آسيا للأبحاث في جامعة جيلين، الذي قام بزيارة لبيونغ يانغ استغرقت 20 يوما في مارس: “اعتقد أن المنتجات من الصين تستحوذ على حوالي 70٪ من سوق بيونغ يانغ، وتأخذ المنتجات المحلية 20٪ أخرى، وان 10٪ الأخرى تتقاسمها دول أخرى مثل اليابان وروسيا”.»
يذكرنا المنطق المخادع للبيروقراطية الكورية الشمالية باللغة التي يستخدمها نظرائهم الصينيون. حسب سو تشول، المتحدث باسم وزارة الخارجية الكورية الشمالية، «ما زلنا نبني نظامنا الاشتراكي، لكننا اتخذنا تدابير لتوسيع السوق المفتوحة. إنها ليست سوى الخطوات الأولى، ولا ينبغي لنا أن نتوقع الكثير في الوقت الحالي، لكنها بدأت تظهر بالفعل نتائج ايجابية».
لكن وكما حدث في الصين، فإن التفكيك التدريجي لاقتصاد الدولة والتحرك نحو الرأسمالية أدى إلى تناقضات اجتماعية هائلة. إن مخاطر الانفجار الاجتماعي واضحة. وكما ورد في صحيفة الجارديان (03 دجنبر 2003)، يشرح هيزل سميث، من جامعة الأمم المتحدة في طوكيو: «تنامي مظاهر الفقر والثروة مع تحكم العلاقات السوقية بشكل متزايد في الاقتصاد، والآن لا يوجد اقتصاد اشتراكي، لكن لا وجود أيضا لسيادة القانون في السوق، وهذا هو أساس الفساد».
وتواصل الجارديان قائلة:
«لكن ما تزال هناك قيود على النشاط الرأسمالي. قال مزارعون إن لديهم المزيد من المال، لكن ليس لديهم حرية لإنفاقه. وقال أكاديميون في جامعة كيمشيك للتكنولوجيا إنه قد قيل لهم أن يعملوا على ربط أبحاثهم في الهواتف النقالة وبرمجيات التشفير والحوسبة مع مؤسسات القطاع الخاص، لكنهم لم يتمكنوا حتى الآن من إيجاد فرص عمل».
إن المدى الذي وصله تفكيك القطاع العام والعلاقات السوقية في كوريا الشمالية ليس واضحا تماما، لكن من الواضح أن الوتيرة تتسارع. لا يمكن للمرء أن يحدد بوضوح المدى الذي وصلت إليه السيرورة. يبدو أنها متخلفة عن نظيرتها في الصين، لكن الاتجاه يبدو واضحا تماما. سيكون الجار العملاق هو من سيحدد اتجاه السيرورة التي تحدث في كوريا الشمالية.
ومع ذلك، فإن البيروقراطية الكورية الشمالية تفهم بالتأكيد المخاطر التي تنطوي عليها هذه المسيرة نحو الرأسمالية، التي وقعت في الصين على مدى عقود لكن ليس من دون تشنجات كبيرة، مثل الاحتجاجات الجماهيرية عام 1989 في ساحة تيانانمين. إلا أن إفلاس نظرتها الشمولية البيروقراطية القومية الضيقة لم يترك لها سوى خيارات قليلة.
سنرى ما إذا كانت ستتمكن من السيطرة على وتيرة تطور الرأسمالية داخل البلاد أم لا. فإذا سارت الأمور بسرعة كبيرة جدا ولمدى بعيد جدا، فقد تكون مصحوبة باضطرابات اجتماعية هائلة وانهيار مفاجئ للاقتصاد والدولة، كما شهدها الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية. وبسبب العزلة الشديدة والضغط الشديد على سكانها، فإن مخاطر انفجار اجتماعي عنيف، مع سقوط قناع “الشيوعية” عن وجه البيروقراطية، ربما تكون أكبر مما حدث في أي دولة ستالينية في التاريخ. كيم جونغ إيل لا يريد أن ينتهي به المطاف مثل نيكولاي تشاوتشيسكو في رومانيا الذي أعدم على يد ضباطه.
إن سلوك الصين بشأن هذه المسألة هام. لقد كانت حليفا رئيسيا لكوريا الشمالية طيلة سنوات عديدة، حيث عملت كوسيط بين الغرب وبين نظام كيم جونغ إيل. لكن التجارب النووية الكورية الشمالية الأخيرة تضعها في موقف محرج، حيث سيضطرها الآن “الرأي العام العالمي” (أي الولايات المتحدة) إلى فرض عقوبات، مما سيضر بمصالحها التجارية والسياسية في المنطقة. إدارة بوش تطالب في الواقع بفرض عقوبات على كوريا الشمالية، لكن هذه العقوبات لن تكون فعالة إلا إذا فرضتها الصين.
والصين لن تتسبب في انهيار النظام الكوري الشمالي. من شأن ذلك أن يكون له أثر مزعزع لاستقرار المنطقة بأسرها، وسيكون لتداعياته انعكاس على الصين نفسها. للقيادة الصينية إستراتيجية أخرى. سوف تستخدم عضلاتها الاقتصادية لدفع النظام الكوري الشمالي ببطء في نفس الطريق الذي اتخذته في الصين. إذ بعد كل شيء، كانت تجربة البيروقراطية الصينية هي التحرك بحذر وتدريجيا نحو الرأسمالية، ودائما محاولة تجنب الاضطرابات الاجتماعية. وستنصح أصدقاءها في كوريا الشمالية بأن يفعلوا الشيء نفسه.
من الواضح أن هؤلاء البيروقراطيين لا يهتمون حقا برفاه الجماهير. إن ما يهمهم هو مصالحهم الخاصة وامتيازاتهم. إن البيروقراطية الكورية الشمالية في مرحلة متقدمة جدا من الانحطاط. فعلى مدى عقود عاشوا منفصلين تماما عن الجماهير العاملة التي زعموا أنهم يمثلونها. لكن كانوا على الأقل يدافعون عن الاقتصاد المخطط، أما الآن فهم يتخلون بوضوح عن ذلك. الرأسمالية مغرية جدا، وهناك ما يكفي من الرأسماليين الصينيين الذين هم على استعداد لمنحهم يد المساعدة. كوريا الشمالية بلد صغير ولا يمكنها أن تسير وحدها لفترة أطول.
وبما أن مصيرها مرتبط ارتباطا وثيقا بمصير الصين، فقد تكون البيروقراطية الكورية الشمالية قد قررت بالفعل أن تسير بالكامل نحو الرأسمالية في محاولة للحفاظ على امتيازاتها الخاصة. ستكون تلك خطوة هائلة إلى الوراء بالنسبة للعمال الكوريين الشماليين. والمشكلة الرئيسية التي تواجهها البيروقراطية الكورية الشمالية هي أنها لا تستطيع أن تأمل في القيام بنفس الدور الذي لعبته الصين. فالصين دولة قوية ذات موارد اقتصادية ضخمة، وقد برزت كقوة عظمى على نطاق عالمي. إن مستقبل كوريا الشمالية الرأسمالية سيتحدد أولا من قبل الصين، لكن أيضا من قبل اليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى هذا الأساس سيكون منطقيا أن ينشب الصراع الداخلي بين صفوف البيروقراطية. في الواقع إن بعض الجوانب الأكثر غرابة في النظام، ورغبته في أن يكون له واحد من أقوى الجيوش في العالم، والآن رغبته في امتلاك القدرة النووية، تشير إلى أن البيروقراطية تهتم أولا وقبل كل شيء ببقائها كفئة متميزة. وبما أنها غير قادرة على أن تضمن ذلك بوسائل اقتصادية بحتة، فإنها مصممة على القيام بذلك بالوسائل العسكرية. لكن ذلك ليس حلا على المدى الطويل، إذ سوف تهيمن العوامل الاقتصادية في نهاية المطاف.
من أجل إيجاد حل حقيقي لمشاكل الجماهير الكورية الشمالية، من الضروري السير في طريق آخر. والطريق الحقيقي الوحيد للدفاع عن مكاسب الاقتصاد المؤمم والمخطط هو تطبيق ديمقراطية عمالية حقيقية تستند إلى رقابة العمال وإدارتهم وتبني سياسة عمالية أممية بشأن جميع المسائل.
على النظام الشيوعي الحقيقي أن يقوم على النقاط الأربع التالية التي حددها لينين كأساس للديمقراطية العمالية: الانتخاب المباشر لجميع المسؤولين والحق في عزلهم في أي وقت؛ ألا يحصل أي موظف على أجر أعلى من أجر عامل مؤهل؛ لا جيش دائم بل الشعب المسلح؛ مهام إدارة الدولة يتم تنفيذها من طرف الجميع بالتناوب. من الواضح أنه لا توجد أي من هذه الشروط في كوريا الشمالية اليوم. وقد كانت هذه شروط لينين، ليس للاشتراكية أو الشيوعية، بل بالنسبة للفترة التي تلي مباشرة الإطاحة بالرأسمالية، فترة “ديكتاتورية البروليتاريا” (أي الديمقراطية العمالية).
التوحيد؟
ستستقبل إعادة توحيد كوريا بترحيب كبير من جانب ملايين الكوريين الذين انفصلوا عن أقاربهم ومنازلهم بسبب التقسيم التعسفي. لكن من المهم جدا، بالنسبة للماركسيين، معرفة الأساس الاقتصادي الذي ستتم عليه إعادة التوحيد.
قد تواجه كوريا الشمالية في مرحلة ما في المستقبل سيناريو مماثل للسيناريو الذي عرفته ألمانيا في عام 1989، عندما قامت ألمانيا الغربية الرأسمالية الأكثر قوة بابتلاع ألمانيا الشرقية. ويمكن أن تلعب كوريا الجنوبية، بدعم من الإمبريالية الأمريكية، مثل ذلك الدور. وإذا ما تم ابتلاع الشمال بهذه الطريقة في كوريا موحدة تهيمن عليها القوى الصديقة للولايات المتحدة، فإن طموحات الصين للسيطرة على كوريا شمالية رأسمالية ستصير أكثر صعوبة. ولذلك تمارس الصين ضغوطها الاقتصادية والدبلوماسية بشدة. يجب أن نكون واضحين: كلا الطريقين سيعني انتصار الثورة المضادة الرأسمالية.
وهكذا، ففي ظل الظروف الراهنة، لا يمكن توحيد شبه الجزيرة الكورية إلا بإحدى هاتين الطريقتين: 1) انتصار الثورة المضادة الرأسمالية وضم الشمال من قبل الجنوب وفق النموذج الألماني. 2) ثورة بروليتارية تتطور بشكل متزامن إلى هذا الحد أو ذاك في كلا البلدين.
ومع ذلك فإنه علينا هنا أن ننبه إلى ما يلي: إن الوضع، وعلى الرغم من أن له بعض أوجه التشابه مع ألمانيا في عام 1989، لديه أيضا بعض الاختلافات الهامة. لقد كانت القوة التي تقف وراء النظام الألماني الشرقي القديم هي الاتحاد السوفياتي. وقد كان الاقتصاد السوفياتي في أزمة حادة ولم يكن في وضع يمكنه من دعم الدول التابعة له في أوروبا الشرقية. كان الاتحاد السوفياتي على وشك الانهيار أيضا، مع التفكك الذي حدث له في عام 1991.
لدى كوريا الشمالية جارة قوية هي الصين، والتي ما يزال اقتصادها يتطور بوتيرة سريعة جدا. والصين لم تضعف، بل هي على العكس صارت قوية. كوريا الجنوبية هي مجال نفوذ الولايات المتحدة والصين لن تقبل بأن يتم ابتلاع كوريا الشمالية من طرف كوريا الجنوبية. ولذلك، فحتى على أساس رأسمالي، ليس هناك أية ضمانة مؤكدة بأن الرأسمالية على جانبي الحدود ستعني بالضرورة التوحيد الفوري.
وعلى أي حال فمن أجل التوحيد على أساس اشتراكي سيتعين على كوريا الشمالية أن تشهد ثورة سياسية، تبقي الاقتصاد المخطط سليما (مع إعادة سيطرة الدولة على عناصر علاقات الملكية الرأسمالية التي سمح النظام الحالي بتطويرها)، لكن مع إزالة البيروقراطية الشمولية والاستعاضة عن حكمها بالرقابة العمالية الديمقراطية، على غرار روسيا السوفياتية في عام 1917.
وفي الجنوب سيتطلب الأمر ثورة اجتماعية، ومصادرة الشركات الكبرى (هيونداي وسامسونج…)، ووضع الاقتصاد تحت رقابة وإدارة العمال الديمقراطية. لقد أظهرت الطبقة العاملة في كوريا الجنوبية مرارا استعدادها للنضال على مر السنين. وفي السنوات العشرين الماضية، رأينا حتى حركات ذات طابع ثوري تقريبا من جانب الطبقة العاملة الكورية الجنوبية. ودائما كان نظام كوريا الجنوبية يرد بوحشية، وهو مثال واضح للعمال في الكوريتين على حد سواء، بأن الرأسمالية لا علاقة لها في الواقع بـ “الحرية والديمقراطية”.
بعد أن تتحرر الموارد التكنولوجية والطبيعية لشبه الجزيرة الكورية من أغلال الاستغلال الرأسمالي في الجنوب، ومن البيروقراطية الشمولية في الشمال، ستزدهر في أيدي الطبقة العاملة الكورية. وعلى أساس اقتصاد موحد مخطط بشكل ديمقراطي، سيتم القضاء سريعا على الحرمان الذي يعاني منه شعب كوريا الشمالية، وسوف يرتفع مستوى معيشة جميع الكوريين.
إن النضال الثوري من أجل بناء نظام اشتراكي حقيقي في الكوريتين سيكون له أيضا تأثير هائل على الصعيد الأممي، ولا سيما على عمال الصين. في الواقع، بدون مساعدة من العمال الصينيين، ستواجه أي ثورة في كوريا صعوبات هائلة. سوف تتعرض لضغوط هائلة من الرأسماليين الصينيين ومن البرجوازية اليابانية، ومن الامبريالية الأمريكية على وجه الخصوص، حيث ستسعى كل منها للحصول على أقصى قدر من المزايا.
مرة أخرى نقول إن ما فشل في كوريا الشمالية هي نظرية “الاشتراكية في بلد واحد” الستالينية الخاطئة تماما، وبصفة خاصة محاولة إنشاء نظام مكتف ذاتيا، معزول عن بقية العالم، وفصل نفسه عن التقسيم العالمي للعمل. إذا لم تتمكن الصين من الحفاظ على مثل ذلك النظام، فكيف يمكن لكوريا الشمالية أن تفعل ذلك؟
يجب علينا، باعتبارنا ماركسيين ثوريين، أن نقدم منظورا آخر. لا ينبغي أن يكون الاختيار بين النظام الستاليني القمعي من جهة، وبين الرأسمالية المتفشية من جهة أخرى. إن الطريق الوحيد إلى الأمام هو الأممية البروليتارية الثورية والديمقراطية العمالية الحقيقية في الشمال والجنوب على حد سواء.