اندلع أمس [16 أبريل] أخطر صراع منذ ثورة ديسمبر وإسقاط الديكتاتور عمر البشير، صراع عسكري مباشر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (الجنجويد)، خلال ساعات حُبست أنفاس الجميع خارج السودان أثناء مراقبتهم للأحداث، وشاع الخوف في الداخل من احتمالية أن تكون تلك هي بداية حرب أهلية ستكون مدمرة وشاملة نظرًا للقوى العسكرية للطرفين، تلك الحرب التي ستدفع الجماهير ثمنها أكثر من غيرها.
تزايدت التوترات بالفعل منذ عدة أيام عن طريق زيادة الحضور المسلح للجنجويد في الخرطوم وداخل عدد من المدن بدون موافقة المؤسسة العسكرية، وكان بالفعل الوضع يقف على طلقة، التي بمجرد أن انطلقت تسارعت الأحداث بسرعة. الوضع ضبابي ويمكن أن يتغير بسرعة، وكل الاحتمالات مفتوحة، كما قال نابليون: إن الحرب هي أعقد المعادلات على الإطلاق، وهناك بالفعل كثير من العوامل الرئيسية والعرضية، لكن الأكيد أن هذه الاشتباكات العاصفة هي اشتباكات بين جناحين من الثورة المضادة حول من يجب أن يكون له اليد العليا. وفي ظل غياب الجماهير والقيادة الثورية عن المشهد فأيًا كان الفائز، فالجماهير هي من سوف تدفع الثمن الأكبر والأفدح. إن الأحداث الحالية تدق ناقوس الخطر، وتبين إلى أي حد يمكن أن تنزلق الأمور إن استمر غياب البديل الثوري والقيادة الثورية.
تضارب مصالح اللصوص والقتلة
لفهم ما يحدث الآن من الضروري النظر إلى تاريخ السودان في حقبة البشير ونظام الإنقاذ. لقد دفع الديكتاتور عمر البشير إلى إنشاء مليشيا الجنجويد من القبائل التي تعمل في التهريب والمخدرات لمساعدته في حربه الإجرامية ضد دارفور، ولتكون أداته في إنجاز كل أعماله القذرة بشكل عام، ومع تزايد اعتماد عمر البشير عليها اكتسبت صفة قانونية وشرعية وتحول اسمها لقوات الدعم السريع، ولكنها احتفظت بنفس الطابع القبلي والوحشي. مع الوقت تراكمت لتلك المليشيا وقائدها قوة عسكرية ومالية ضخمة، وتعتمد بشكل أساسي على حثالة المجتمع السوداني.
وهو ما جعلها عامل مهم في المعادلة بعد إسقاط عمر البشير أثر الثورة السودانية. من وقتها بدأت تتراكم بالتدريج التناقضات بين الأجنحة المسلحة للثورة المضادة، التي كانت تكبحها وجود المد الثوري وخطر إسقاط النظام بأكمله. بشكل عام، نشأ مع الوقت تناقض في المصالح بين البيروقراطية العسكرية وقائدها عبد الفتاح البرهان ورجال المليشيات وقائدهم حميدتي، تناقض نشأ من تنامي القوة العسكرية والمالية للمليشيات التي أصبحت هي ثاني قوة عسكرية في السودان بعد الجيش، وفي الأغلب أكثر كفاءة منه في حرب الشوارع، وقوة مالية ناتجة عن استيلائها على مناجم الذهب وخطوط التجارة والتهريب.
بعد الثورة، ومع خفوت الزخم الثوري قليلاً، أدرك عبد الفتاح البرهان أن منافسه الحقيقي على السلطة ليس المدنيون في قوى الحرية والتغيير، هؤلاء الليبراليين والإسلاميين الخونة، ولا اليساريين الإصلاحين فاقدي البوصلة، وإنما حميدتي بكل سلطته وقوته، ومن الجهة المقابلة أدرك حميدتي نفس الشيء. وهو ما ظهر بالتدريج في الخلاف حول إدماج الجنجويد في الجيش أم لا، الجنرالات أرادوا أن تندمج الجنجويد في المؤسسة العسكرية تحت إدارتهم، تندمج بكل قوتها العسكرية والمالية، وهذا ناتج عن أن الجنرالات أرادوا تجنب الصدام مع الجنجويد لأطول فترة ممكنة، وحميدتي ورجاله يرون في أنفسهم أنهم هم القوة العسكرية الداخلية الأهم في السودان. باختصار الطبقة السائدة السودانية، وفي مقدمتها الجنرالات، باستدعائهم شبح المليشيات في مواجهة المتمردين في دارفور وغيرها، خلقوا قوى لا يستطيعون السيطرة عليها الآن.
وبتهور، يليق بداعميه في الإمارات، بدأ حميدتي الصراع يوم أمس بحصار مطار مروي، وهو من أهم المطارات العسكرية في السودان. وبدأ قتال مستمر حتى الآن، مع عشرات القتلى من المدنيين ومئات المصابين. ومن غير الواضح إلى ماذا ستفضي هذه الحرب، لأنه إن كان من السهل إشعال حرب فمن الصعب بمكان إخمادها.
كل طرف من الطرفين يستند على قوة عسكرية قوية وفعالة، وحلفاء داخليين وإقليميين. عبد الفتاح البرهان يقف ومن ورائه المؤسسة العسكرية والإسلاميون وجهاز الدولة، وإقليميًا تدعمه مصر والسعودية، وهو حتى إن كان ملوث الصورة والسمعة لدى الجماهير السودانية، لكن في النهاية المؤسسة العسكرية ليست الجنجويد في نظر الجماهير. وحميدتي يستند لحثالة المجتمع السوداني، هؤلاء القتلة والمغتصبون والمهربون وتجار المخدرات، مليشيا مكونة من حوالي مئة ألف شخص، بعتاد عسكري فعال في حرب الشوارع، وخبرة قتالية نابعة من جرائم دارفور، واستند داخليًا على جزء من الخونة في قوى الحرية والتغيير وصراعهم مع المؤسسة العسكرية، وتدعمه خارجيًا الإمارات وإثيوبيا وإسرائيل بشكل أساسي.
ومن الأكيد أن المقابلة بين السيسي وبن زايد قبل اندلاع الاشتباكات تناولت هذه المسألة، وهناك مؤشرات على أنه لم يحدث اتفاق بينهما حولها. حميدتي أخذ موافقة الإمارات لبدء الهجوم، وهناك أنباء، غير أكيدة حتى الآن، عن تنفيذ ضربات جوية مصرية داخل الأراضي السودانية لضرب قوات الدعم السريع.
في خضم الاشتباكات المسلحة، يطلق كل طرف دعاية يظنها سوف تنطلي على الجماهير، لأنه في النهاية لا بد من تقديم تبرير لهذه الحرب. عبد الفتاح البرهان، وكعادة كل رجال الدولة في منطقتنا، يستند على دعاية منع الفوضى والحرب الأهلية وانتشار المليشيات ومخاوف انهيار الدولة، خصوصًا مع تجربة السودان المريرة في الحروب الأهلية. وحميدتي على الجانب الآخر يستند على تلويث سمعة المؤسسة العسكرية سياسيًا في أعين الجماهير السودانية، ويعتمد في ذلك على خطاب وأساليب أحقر من أن توصف بالشعبوية، وأسر الضباط والجنود المصريين في مطار مروي جزءا من ذلك، حيث ينظر جزء من الجماهير السودانية للنظام المصري أنه يتدخل في السودان، وهذه حقيقية بالطبع، لطالما تدخل النظام المصري في الساحة السودانية بما يخدم مصالحه، والتي هي بالطبع على الضد من مصالح الجماهير السودانية والمصرية على حد سواء، لكن بالطبع حميدتي لا يهتم بمصالح الجماهير السودانية، وإنما يستغل هذا المزاج المعادي للنظام المصري لزيادة الهستيريا الخطابية لضرب خصمه المتحالف مع النظام المصري ليس أكثر.
لقد أوصل حميدتي الأمور للحافة، وأدخل نفسه وخصومه في معادلة شبه صفرية، حتى لو تم وقف إطلاق النار فمسألة اندلاعه مجددًا هي مسألة وقت فقط، حميدتي يتحدث الآن عن أن أمام البرهان إما الاعتقال أو القتل، والحقيقة أن هذه طريقة تليق برجل عصابات وقاطع طريق مثل حميدتي، هناك كثير من الأمور الضبابية، لكن من الأكيد أنه أيًا كان المنتصر فسوف يواجه وضعًا ذاتيًا ومجتمعيًا صعبًا، بشكل خاص حميدتي، لأنه في النهاية عبد الفتاح البرهان هو جزء من مؤسسة عسكرية، يمكن أن تحظى ببعض الرصيد لدى الجماهير، خصوصًا في مواجهة الجنجويد، ويمكن أن يضحى به مع استمرار بقاء المؤسسة، لكن حميدتي في وضع مختلف تمامًا، حيث بقائه من بقاء مليشياته، والعكس صحيح.
قوى الثورة
ردود أفعال قادة الثورة، لا سواء في الحزب الشيوعي السوداني أو تجمع المهنيين السودانيين وغيرهم، على الاشتباكات الحالية، هي استمرار لخطهم ونهجهم الانبطاحي والإصلاحي منذ بداية الثورة، ومجددًا نرى عظيم مصابنا ليس في أعدائنا ولكن في قادتنا. فيض من البيانات عديمة القيمة، بيانات الشجب والإدانة والمطالبة بوقف إطلاق النار، تلك التي تدعو النمور ليصبحوا نباتيين، هذه البيانات التي لا يمكن تمييزها عن بيانات الجمعيات الحقوقية التي تطالب بحقن الدماء دائمًا وأبدًا، بيانات وإن كانت تحمّل الجنرالات مسؤولية ما يحدث وتأخذ موقفًا صحيحًا بعدم مساندة أي من الطرفين، لكنها لا تقدم أي حلول للخروج من الأزمة الحالية، لا تقدم للجماهير أي طريق للمضي قدمًا للأمام. إن الوقت عامل مهم للغاية في أوقات الثورة والاضطرابات.
لو كنا نتوفر على قيادة ثورية حقًا لكنا نستطيع أن نستغل ذلك التناقض بين أجنحة الثورة المضادة لضربهم جميعًا، لو كنا نتوفر على قيادة ثورية لكنا راكمنا قوة واستعدادا سياسيا وتنظيميًا ونفوذًا داخل القوات المسلحة، ولما كنا في الحالة الحالية من التمنيات والدعاء بأن لا تسوء الأمور ونحن لا يد لنا فيها.
للأسف الشديد، تخاذل قادة الثورة أوصل الجماهير لوضع لم تصبح فاعلة في المعادلة، وأصبحت المعادلة الآن على الأرض مقتصرة على صراع الذئاب، وما يزيد الوضع سوءًا هو استمرار ذلك بمطالبة الجماهير بأن يبقوا في منازلهم إلى حين انتهاء الصراع، أي أن قادة الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين السودانيين وقادة كل الأحزاب والمجموعات العمالية والجماهيرية يطالبون الجماهير بالسلبية، والحقيقية أنهم بهذا يكتبون بداية النهاية، نهاية الثورة. إن التبشير بالانتظارية اليوم هي جريمة لا تغتفر، هي إخلاء للساحة للمجرمين لكي يقتلوا ويحرقوا. بمجرد أن تبدأ السلبية في الشيوع بين الجماهير ستصبح مسألة وقت لتسيطر عليهم، خصوصًا مع الإنهاك من الحركة والحرب الحالية.
يجب أن ندرك شيئًا مهمًا، أنه لا صوت ولا رأي لمن ليس على الأرض، والآن قوى الثورة المضادة الرجعية هي فقط التي على الأرض، وقادة الأحزاب والمنظمات والمجموعات الجماهيرية بنهجهم الحالي يخرجون الجماهير من معادلة الفعل، سواء أرادوا ذلك أم لم يريدوا وسواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا. إن تلك الدعاية السلبية والسلمية في اللحظات الفارقة، مثل اللحظة، ليست فقط دعاية خاطئة وإنما تصبح دعاية مجرمة ورجعية، لأنها تقدم الجماهير لقمة سائغة إلى الطبقة السائدة أو المنتصر منها.هؤلاء الإصلاحيون البائسون لا يدركون أن الحرب حقيقة واقعة الآن، السلاح مرفوع بالفعل من طرف كل الأطراف إلا الجماهير.
إن الجنجويد لن يرحموا أحدا أن انتصروا في تلك الحرب، ويجب العمل على هزيمتهم بأي ثمن، ليس بالتحالف مع حلفائهم السابقين في قتل الجماهير ونهبهم ووأد ثورتهم والذين أصبحوا خصومهم الحاليين، عبد الفتاح البرهان ومجموعته، بل بالاعتماد على قوة الجماهير المنظمة في النقابات ولجان المقاومة، وإنشاء لجان للدفاع الذاتي تكون خاضعة لها، كما قال الرفيق آلان وودز في نصيحته للثوار السودانيين: “شعار المرحلة هو التسلح”، التسلح والعمل على هزيمة الجنجويد ليس من أجل عبد الفتاح البرهان ولكن من أجل الجماهير، وهذا لن يحدث إلا بدعاية ثورية واضحة وجريئة وعملية للجنود وصغار الضباط للانفصال عن قادتهم والانضمام للثورة، لتسليح الجماهير، لسحق الجنجويد، وفي أثناء ذلك على الجماهير أن تتسلح لتدافع عن أنفسها ومنازلها وأحيائها وأماكن عملها، والبنية المطلوبة لذلك موجودة بالفعل في لجان المقاومة، التي يجب أن نستخدمها ليس في المظاهرات والمواكب فقط، وإنما أيضًا في التسلح والدفاع عن أنفسنا وثورتنا، مع التنسيق بينها وبين النقابات العمالية والمهنية، ومجددًا كسب الجنود وصغار الضباط الذين تأثروا بالثورة بالفعل والآن يدفعون ثمن جرائم قادتهم، مع بقية الجماهير.
لا يجب الاكتفاء بالمناشادات لوقف إطلاق النار، بل بتنفيذ وقف إطلاق النار بقوة الجماهير ولجانها، والربط بين إنهاء الحرب الحالية وبين المطالب الديمقراطية والاقتصادية للجماهير، باختصار توضيح الطبيعة الرجعية للحرب الحالية وربطها بمهمة التغيير الثوري للمجتمع. والسلاح الأهم الذي يجب استخدامه الآن هو سلاح الإضراب العام المفتوح الذي يطرح مسألة السلطة بشكل مباشر، الإضراب العام ليس للضغط على الطبقة السائدة ولكن من أجل إسقاطها هذه المرة. على أعضاء الحزب الشيوعي والنقابات ولجان المقاومة تجاوز تلك القيادة المتذبذبة التي تشيع السلبية في المرحلة الحالية الفاصلة، وأن لا تترك الساحة للقتلة، بل أن تتبنى سياسة ثورية ضد كل من البرهان وحميدتي، لشق الجيش على أسس طبقية.
كما رأينا، التزام الجماهير بالمنازل لم يحمهم، بدليل موت العشرات وإصابة المئات، حيث القتال الآن في الشوارع، الطائرات فوق الرؤوس والدبابات والمدرعات والعربات العسكرية بين البيوت والقذائف تترامى من كل جانب، ولن تحميهم السلبية من المنتصر، المطلوب هو العكس، المطلوب هو رجوع لجان المقاومة للشوارع، ومد الاتصال بالحركة العمالية، ومد الاتصال أيضًا بالجنود وصغار الضباط الموجودين في المعركة وفي الثكنات حاليًا، من أجل إنشاء تحالف العمال والفلاحين والجنود، ليس من أجل الوقوف في صف عبد الفتاح البرهان وزمرته من الجنرالات وكبار الضباط بالطبع، الذين هم السبب في الكارثة الحالية، وإنما لأجل إسقاطهم وتصفية الجنجويد وإسقاط النظام الرأسمالي كله في السودان.
- لا للمليشيات ولا للجنرالات!
- لا للحرب الرجعية بين القتلة!
- تسقط قوات قمع وقتل الجماهير!
- تسقط الأنظمة العسكرية!
- تسقط حكومات رأس المال!
- من أجل تحالف العمال والفلاحين والجنود!
- عاشت الثورة السودانية!
- لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية!
محمد حسام
16/4/2023