نعمل فيما يلي نشر مقال كتبه الرفاق في منظمة الثورة -الفرع الفرنسي للتيار الماركسي الأممي- السنة الماضية بمناسبة مرور ستين عاما على نهاية الحرب الجزائرية، التي تسببت الامبريالية الفرنسية خلالها في مقتل مئات الآلاف على مذبح الربح والرغبة في بسط النفوذ واستغلال ونهب الثروات، وما تزال تقوم بذلك في منطقة الساحل وغيرها. ويشرح الرفاق أن الطريقة الوحيدة لإنهاء هذه الهمجية هي بإسقاط الرأسمالية وبناء الاشتراكية.
في 18 مارس 1962، أعلن الجنرال ديغول انتهاء العمليات العسكرية في الجزائر وإجراء استفتاء على تقرير مصير البلاد. وهكذا بعد سبع سنوات من الحرب، حصلت الجزائر على استقلالها.
ما تزال ذكرى هذه الحرب تشكل في فرنسا موضوع “معركة” بين مختلف تيارات البرجوازية، التي تتأرجح بين “التوبة” المنافقة (هولاند، ماكرون، إلخ) وبين التصريحات الاستعمارية (ساركوزي، زيمور، إلخ).
الاستعمار
بدأ استعمار فرنسا للجزائر بالغزو الذي قامت به عام 1830. لم تكن تلك مهمة سهلة بالنسبة للجيش الفرنسي. فقد استمرت المقاومة، التي نظمها الأمير عبد القادر، حتى نهاية أربعينيات القرن التاسع عشر، وتواصلت الثورات تندلع بانتظام حتى بداية القرن العشرين. ومثلها مثل كل الغزوات الاستعمارية، ترافقت تلك الحملة مع مذابح شنيعة استفزت الرأي العام حتى في فرنسا.
وبسرعة كبيرة شجعت باريس الهجرة إلى مستعمرتها، من فرنسا ومن بلدان أوروبية أخرى أيضا. في عام 1954، في بداية حرب الاستقلال، كان عدد الأوروبيين الذين يعيشون في الجزائر -“الأقدام السوداء”- يقارب المليون نسمة. والذين كان العديد منهم، على خلاف الاعتقاد السائد، فقراء جدا. كان متوسط مستوى معيشتهم أقل من متوسط مستوى المعيشة في فرنسا. وإلى جانب فئة كبيرة من صغار التجار والموظفين، كانت هناك طبقة عاملة صغيرة من أصل أوروبي.
وفوق هؤلاء المستوطنين الصغار، كان هناك عدد قليل من كبار مالكي الأراضي الذي يحتكرون أجود الأراضي على حساب السواد الأعظم من الفلاحين الجزائريين. كان “الأهالي”، الذين كان يشار إليهم فيما بعد باسم “المسلمين”، يتألفون أساسا من ملايين الفلاحين الفقراء أو الذين لا يملكون أرضا، لكنهم كانوا يتألفون أيضا من بروليتاريا جنينية وبرجوازية صغيرة في صعود. في عام 1954، كان المسلمون يشكلون تسعة أعشار السكان، لكنهم كانوا محرومين من معظم الحقوق المدنية.
الجزائر، بالنسبة للبرجوازية الفرنسية، كانت بالدرجة الأولى مصدرا للمواد الخام والمنتجات الزراعية للتصدير. ونتيجة لذلك فإنها لم تستثمر في تطوير الاقتصاد، الذي استمر متخلفا جدا مقارنة بفرنسا، ويفتقر بشدة إلى البنية التحتية الحديثة.
تطورت الحركة الاستقلالية الجزائرية منذ بداية القرن العشرين. وسعت جاهدة لكسب دعم الحركة العمالية الفرنسية. دافعت قيادة حزب SFIO (الاشتراكي) عن فكرة الاستعمار “الإنساني” و”الحضاري”، لكن الحزب الشيوعي (الذي تأسس عام 1920) تبنى موقفا مؤيدا بشدة لحق الاستقلال. وفي اتفاق كامل مع مواقف الأممية الشيوعية (قبل انحطاطها الستاليني)، قام الحزب الشيوعي الفرنسي بالمساعدة في تنظيم العمال الجزائريين سياسيا في فرنسا، وانفتح فرعه الجزائري على المواطنين الجزائريين. وبتأثير من ليون تروتسكي، الذي كان يتابع تطور الحركة الشيوعية الفرنسية، تم طرد القادة المحليين من الحزب بسبب رفضهم السماح للمسلمين بدخول الحزب.
وهكذا فقد مر العديد من قادة حركات التحرر الجزائرية لأول مرة عبر صفوف الشيوعيين في عشرينيات القرن الماضي. فمصالي الحاج، مؤسس أول حزب استقلالي جزائري، نجم شمال إفريقيا، كان في أيامه الأولى ناشطا شيوعيا.
لكن وبعد انحطاطه الستاليني، ضاعف الحزب الشيوعي الفرنسي الأخطاء والخيانات تجاه النضالات ضد الاستعمار. وفي ظل حكومة الجبهة الشعبية (1936)، وافق الحزب على حظر حزب نجم شمال إفريقيا، من قبل حكومة ليون بلوم، وكذلك اعتقال العديد من قادته. عندها انقطع الارتباط بين تنظيمات الحركة العمالية الفرنسية وبين حركة التحرر الجزائرية.
من سطيف إلى ديان بيان فو
بعد الحرب العالمية الثانية، كان الأمل في “دمقرطة” المستعمرات قويا جدا بين السكان الأصليين، الذين دفعوا ثمنا باهظا في الحرب الإمبريالية ضمن القوات الاستعمارية الفرنسية. وفي ماي 1945، تظاهر آلاف الجزائريين في مدينة سطيف، بدعوة من منظمات استقلالية، للمطالبة بحقوق مدنية متساوية وتحسين ظروفهم المعيشية. تم قمع الحركة بوحشية من قبل الشرطة والجيش وميليشيات المستوطنين الذين صاروا يقتلون ويعذبون السكان الأصليين. في غضون أسابيع قليلة، تسبب القمع في مقتل عدة آلاف، حوالي 30 ألفا، وفقا لتقديرات بعض المؤرخين.
كان موقف القادة الرسميين للحركة العمالية الفرنسية من هذه المجازر موقفا إجراميا. فالممثلون المنتخبون لـ SFIO، في الجزائر، نظموا بأنفسهم ميليشيات المستوطنين لتعقب المتظاهرين. في حين وصفت قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي الاستقلاليين الذين نظموا المظاهرات السلمية في سطيف بـ”عملاء استفزازيين هتلريين”. كانت الأولوية بالنسبة لقيادة الحزب الشيوعي الفرنسي آنذاك هي الحفاظ بأي ثمن على حكومة “الوحدة الوطنية” في باريس، والتي ضمت العديد من الوزراء “الشيوعيين”.
كان على الجزائريين، وكذلك المدغشقريين (الذين تم ذبح عشرات الآلاف منهم في عام 1947) والهند الصينيين أن يدفعوا الثمن. ومن أجل استعادة السيطرة على مستعمراتها بعد فوضى الحرب العالمية، كثفت الإمبريالية الفرنسية القمع وحاولت استعادة السيطرة على فيتنام عسكريا.
في 07 ماي 1954، تم سحق القوات الفرنسية أخيرا على يد قوات فييت مينه في ديين بيان فو. اهتزت أركان الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي شجع الحركة الاستقلالية الجزائرية على الانتقال إلى الهجوم. منذ مذابح عام 1945، أصبحت الحركة أكثر راديكالية تحت وطأة القمع. تمت تنحية معظم القادة القدامى، مثل مصالي الحاج، الذين دافعوا عن خط معتدل، لصالح فئة جديدة من القادة الشباب الذين كانوا يتطلعون إلى مصر عبد الناصر، والتي كانوا يرون فيها نموذجا لـ”الثورة الوطنية”.
في 01 نوفمبر 1954، أعلن تنظيم جديد، هو جبهة التحرير الوطني (FLN)، عن انطلاق حرب التحرير، وقاد موجة من الهجمات ضد البنية التحتية الفرنسية في الجزائر. نشرت الحكومة الجيش وقمعت الحركة الاستقلالية والمنظمات الشيوعية الجزائرية. وفي الوقت نفسه عملت على تنفيذ بعض الإصلاحات الخجولة التي كانت تهدف إلى تحديث الجزائر ومنح بعض الحقوق المدنية للسكان الأصليين. لكنها كانت قليلة جدا ومتأخرة جدا.
في 20 غشت 1955، اندلع تمرد في قسنطينة، بمبادرة من جبهة التحرير الوطني. قتل المتمردون العديد من المستوطنين. فجاء القمع رهيبا. عمل الجيش والشرطة على تدمير قرى بأكملها وجمعوا المدنيين الذين تم إطلاق النار عليهم ودفنهم في مقابر جماعية. دخل الصراع مرحلة جديدة. تمت إعادة استدعاء 60 ألف شاب فرنسي ممن كانوا قد أنهوا خدمتهم العسكرية. أدى ذلك في فرنسا إلى اندلاع إضرابات وعمليات تخريب. وفي عام 1956، أعطت حكومة SFIO، بدعم من نواب الحزب الشيوعي الفرنسي، تفويضا مطلقا للجيش لاستعادة النظام في الجزائر. تم تعليق الحريات الفردية هناك، وتم تهجير مجموعات سكانية بأكملها لأغراض السيطرة، بينما أصبح التعذيب والاغتصاب والإعدام بدون محاكمات ممارسات شائعة. نظمت المخابرات الفرنسية هجمات بالقنابل ضد السكان المدنيين في أحياء المسلمين. وقد تم ارتكاب كل تلك الجرائم في ظل حكومة “اشتراكية” خاضعة كليا للطبقة السائدة الفرنسية.
الحركة العمالية الفرنسية وجبهة التحرير الوطني
دافع حزب SFIO عن فكرة الاستعمار “التقدمي” وعارض بحزم أي احتمال للاستقلال. وعلى مقربة من SFIO، كان فرانسوا ميتران وزيرا للداخلية في عام 1956؛ وكان أحد أشد مؤيدي “الحزم” ضد المطالبين بالاستقلال. أما قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي، من جانبها، فقد دافعت بالأقوال عن الحق في الاستقلال، لكنها في الواقع وضعت نفسها بشكل دائم خلف SFIO. كان القادة “الشيوعيون” يأملون في استعادة مكانتهم في حكومة تحالف مع الاشتراكيين، وبالتالي تجنبوا أي شيء يمكن أن يعرقل ذلك المسار. لم يبدأ الحزب الشيوعي الفرنسي في معارضة هذه الحرب بوضوح إلا عندما وصل ديغول إلى السلطة في عام 1958، لكن دون تقديم أي منظور ثوري.
كان بإمكان الحزب الشيوعي الفرنسي، وكان يجب عليه، أن يدافع عن سياسة أخرى، كما فعل -من بين أمور أخرى- خلال الحروب الاستعمارية في عشرينيات القرن الماضي، في الريف المغربي وسوريا. كان آنذاك قد قدم دعما نقديا للاستقلاليين السوريين والمغاربة، وقاد عدة حملات تعبئة ضد الحرب (بما في ذلك خوض إضراب عام سنة 1926) كما نظم خلايا دعاية خاصة مناهضة للعسكرية داخل الجيش الفرنسي.
كان عليه في عام 1954، عوض أن يدعم حرب البرجوازية الفرنسية ضد الشعب الجزائري، أن يعبئ العمال بكثافة ضد الحرب ويدافع عن منظور جزائر اشتراكية موحدة في تعاون حر مع فرنسا اشتراكية. كان من شأن ذلك أن يساهم في التغلب على الانقسامات القومية الموروثة عن الاضطهاد الاستعماري. لكن المشكلة آنذاك هي أن قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي –التي كانت قد انحطت إلى الستالينية بالكامل- كانت قد تخلت كليا عن أي منظور ثوري.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تسببت مماطلة وانتهازية قادة الحزب الشيوعي الفرنسي في ترك المجال مفتوحا بشكل كامل للقوميين الجزائريين. دافع حزب جبهة التحرير الوطني، بقيادة مثقفين قوميين، عن منظور وحدة الشعب الجزائري فوق كل التمايزات الطبقية. وإذا كان قد بنى استراتيجيته على الإرهاب وحرب العصابات ضد المحتل، فإن الهدف لم يكن هو إلحاق الهزيمة بالجيش الفرنسي بقدر ما كان هو الضغط على الحكومة بهدف التفاوض. وبالمثل فإنه عندما كان حزب جبهة التحرير الوطني يدعو العمال الجزائريين إلى الإضراب في بعض الأحيان، فذلك لم يكن بهدف التعبئة الثورية، بل فقط من أجل أن يثبت -للأمم المتحدة على وجه الخصوص- نفوذه بين الشعب الجزائري. كما لم تقم جبهة التحرير الوطني بأية محاولة جادة لطلب تضامن الطبقة العاملة الفرنسية أو “المستوطنين الصغار” الفقراء. كان من الممكن كسب هؤلاء الأخيرين إلى النضال ضد النظام الاستعماري الذي أبقاهم في البؤس. وعلى العكس من ذلك فإن جبهة التحرير الوطني من خلال مضاعفتها للهجمات ضد المدنيين الفرنسيين، ألقت بهم في أحضان كبار مالكي الأراضي.
معركة الجزائر
في نهاية عام 1956، وصلت أعداد الجيش الفرنسي في الجزائر إلى مستويات الذروة (470.000 رجل) ودفع القمع آلاف الجزائريين إلى اللجوء إلى الغابات. ومع تصاعد هجمات جبهة التحرير الوطني، ارتفعت جرائم الجنود الفرنسيين لدرجة أن قائد شرطة الجزائر العاصمة استقال تعبيرا على الاحتجاج. كانت جثث الجزائريين الذين عُذبوا وألقوا أحياء في البحر تظهر بانتظام على شواطئ الجزائر العاصمة. كان الوضع في المدينة متفجرا، وكان جزء كبير من أحياء المسلمين تحت سيطرة الاستقلاليين. لذلك قررت الحكومة “تهدئة” المدينة، وكانت تلك بداية “معركة الجزائر”، والتي كانت عملية بوليسية واسعة النطاق يقودها الجيش. تم اعتقال 24 ألف جزائري، بمن فيهم عائلات بأكملها. تعرض الآلاف منهم للتعذيب وأعدم المئات. ومع ذلك، فإنه بعد أقل من عام على ذلك “الانتصار” الفرنسي، استعادت جبهة التحرير الوطني السيطرة على الأحياء التي طُردت منها.
في فرنسا، كانت عودة المجندين الأوائل مصحوبة بتكاثر الشهادات حول التعذيب الذي مارسه الجيش الفرنسي. وعلى الرغم من الرقابة، فإن الاعترافات استمرت تتبع بعضها البعض وتؤثر بعمق في وعي الطبقة العاملة الفرنسية. صار الوضع أكثر فأكثر تعقيدا بالنسبة للبرجوازية الفرنسية في الداخل. كان جزء صغير منها يدرك جيدا أنه لوقف الحرب لا بد من تقديم تنازلات كبرى. وأنه من أجل انتزاع السكان المسلمين من نفوذ جبهة التحرير الوطني، كان من الضروري منح المساواة المدنية للمسلمين، وأيضا استقلالا ذاتيا موسعا للجزائر. لكن كل خطوة في ذلك الاتجاه كانت تثير غضب المستوطنين الذين بدأوا في تنظيم أنفسهم سياسيا.
تمرد المستوطنين وميلاد الجمهورية الخامسة
جنرالات الجيش، الذين تصاعد غضبهم بفعل تردد الحكومات المتعاقبة، بدأوا يعدون لانقلاب عسكري. وفي ماي 1958، اندلعت مظاهرات كبيرة لـ”الأقدام السوداء” وأنصار الجزائر الفرنسية في الجزائر وفي بعض مدن فرنسا. وبدعم من الجيش والشرطة، سيطرت البرجوازية الصغيرة الاستعمارية على المدن وأسست “لجان السلامة العامة” التي طالبت بتشكيل حكومة جديدة في باريس.
في فرنسا، ردت الحكومة على الانقلاب بإعلان حالة الطوارئ في الداخل، وذلك بدعم من الحزب الشيوعي الفرنسي. ومرة أخرى وضعت قيادة الحزب الشيوعي نفسها في ركاب الحكومة. لمواجهة الانقلاب كان من الضروري، على العكس من ذلك، إدانة ازدواجية السياسة الحكومية، التي أيدت ودعمت المستوطنين في الجزائر حتى خرجوا عن سيطرتها. وكان من الضروري أيضا حشد الطبقة العاملة وتنظيمها ودعوتها إلى أخذ زمام الأمور بين أيديها، بدلا من إعطاء “سلطات خاصة” إضافية للحكومة. والواقع أن الإجراءات التي اتخذت رسميا لقمع محاولة الانقلاب، كانت نفسها التي ستستعمل لتكميم فم الحركة العمالية بمجرد نجاح الانقلاب.
في مواجهة خطر الانقلاب، تحول بعض الوسطيين والاشتراكيين نحو الجنرال ديغول. كان هذا الأخير، في الواقع، متحالفا مع الجنود الانقلابيين وطالب بتسليم السلطة إليه، وهو ما كان بالتحديد مطلب بعض الانقلابيين. أما القادة الاشتراكيون الخائفون من تعبئة العمال ضد الجنرالات، فقد سارعوا إلى إعلان الاستسلام. وبحلول 29 ماي 1958، كان ديغول في السلطة. فابتهج الجنرالات والمستوطنون، فقد كانوا يتصورون أن النظام الجديد سيخوض الحرب “حتى النهاية”.
السنوات الأخيرة من الحرب
لكن سرعان ما وجد نظام ديغول الاستبدادي نفسه في نفس المأزق الذي كان عليه سلفه. لقد أصبح الشعب الجزائري أكثر تجذرا بسبب القمع، وبدأ يدعم بشكل كبير جبهة التحرير الوطني. وكانت البرجوازية في الداخل الفرنسي تريد أن تضع حدا لمغامرة مكلفة للغاية تهدد استقرارها السياسي واقتصادها. كما أن الطبقة العاملة بعد أن رأت الانتهاكات وعمليات التعذيب، بدأت تعارض بشكل متزايد “الحرب القذرة” التي يفقد فيها الآلاف من المجندين الشباب حياتهم. فسعى ديغول إلى حل تفاوضي مع جبهة التحرير الوطني واعترف، في عام 1959، بحق تقرير المصير للجزائر.
شعرت البرجوازية الصغيرة الاستعمارية بالخيانة وحاولت إعادة تنظيم انقلاب ماي 1958. في أبريل 1961، أثارت محاولة الانقلاب المستوطنين المتطرفين في الجزائر، بدعم من العديد من الجنرالات والمظليين والفيلق الأجنبي. لكن غالبية الجيش لم تستجب واستعاد النظام الديغولي السيطرة على الوضع. فقام الانقلابيون المتشددون بتأسيس منظمة الجيش السري (OAS)، وهي منظمة إرهابية ذات توجه فاشي، ضاعفت الهجمات المميتة على جانبي البحر الأبيض المتوسط. لكن وعلى الرغم من مساعدتهم، فإن الحرب كانت في الواقع قد دخلت مرحلتها النهائية، ولم يكن أمام ديغول من خيار سوى التفاوض مع جبهة التحرير الوطني.
لم تكون السنوات الأخيرة من الصراع أقل دموية. إذ من أجل منع جبهة التحرير الوطني من التفاوض من موقع قوة، بدأ النظام الديغولي يستخدم في داخل فرنسا الأساليب التي كانت تستعمل حتى ذلك الحين في الجزائر فقط. نفذت الشرطة عمليات مداهمة واسعة النطاق في صفوف العمال الجزائريين في فرنسا. انتشر التعذيب في مراكز الشرطة الباريسية. وفي 17 أكتوبر 1961، تم قمع مظاهرة من أجل السلام -نظمت بدعوة من جبهة التحرير الوطني- بشكل دموي في قلب باريس. أطلقت الشرطة الذخيرة الحية وألقت المتظاهرين الجرحى في نهر السين. تسبب القمع الذي مارسته الشرطة الباريسية، في خريف عام 1961، في مقتل المئات.
في 18 مارس 1962، وضعت اتفاقيات إيفيان التي وقعتها جبهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية حدا للحرب. أصبحت الجزائر جمهورية مستقلة بقيادة جبهة التحرير الوطني. تم تنفيذ سياسة إصلاح زراعي وتأميم جزئي في محاولة لتطوير البلاد، لكن دون الإطاحة بالرأسمالية أو الانفصال عن أهم الشركات الفرنسية.
وإذا كانت سياسة الاقتصاد المختلط تلك قد أدت إلى تحسين مستوى معيشة الجماهير، فإنها أدت كذلك إلى أثراء بيروقراطية فاسدة مستولية على السلطة. بعد الاستقلال، دخل قادة جبهة التحرير الوطني في صراعات بيروقراطية بينهم على السلطة. وفي عام 1965، أسس العقيد بومدين دكتاتورية عسكرية ما يزال ورثتها على رأس الدولة حتى الوقت الحالي. وما تزال الشركات الأجنبية، وخاصة الفرنسية منها، تهيمن على الاقتصاد الجزائري حتى اليوم. كانت هذه الوضعية هي التي أدت إلى انتفاضة الجماهير الجزائرية في السنوات الأخيرة.
الطبقة العاملة الجزائرية هي اليوم أقوى من أي وقت مضى. وحدها الثورة الاشتراكية التي ستجعل من الممكن تطوير البلد وتخليصه من سيطرة الجنرالات والقوى الإمبريالية. وفي فرنسا، يجب على الحركة العمالية أن ترى ما وراء التصريحات المنافقة عن “التوبة والندم” من جانب جزء من البرجوازية. ماكرون يذرف دموع التماسيح على جرائم الحرب الجزائرية، لكنه يدافع عن الشركات الفرنسية التي أثراها الاستعمار ويرسل قوات للدفاع عن مصالحها في منطقة الساحل.
يجب على الحركة العمالية أن تضع حدا لهذا النفاق. يجب علينا أن ندين الجرائم السابقة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، لكن يجب علينا أيضا أن نهاجم ورثته، أولئك الذين استفادوا من معاناة الجزائريين والمجندين الفرنسيين الشباب، أولئك الذين ما زالوا حتى اليوم يرسلون حملات عسكرية للدفاع عن مصالحهم وسيطرتهم الطبقية.
لإنهاء إرث الهمجية الاستعمارية لا بد من مصادرة أملاك كبار الرأسماليين الفرنسيين، الذين قامت ثروتهم على قرون من استغلال العمال (المستعمَرين والفرنسيين).
توماس دي
18 مارس/آذار 2022
ترجم عن النص الفرنسي: