يوم الأحد 30 أكتوبر، تمكن زعيم حزب العمال البرازيلي، لولا داسيلفا، من هزم مرشح اليمين المتطرف جاير بولسونارو، وذلك بفارق ضئيل (50,9% للولا، مقابل 49,10% لبولسونارو) في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وبينما يحتفل العمال والشباب بهذه النتيجة، عن حق، فإنه يجب علينا أن نلاحظ أيضا أن بولسونارو قد تجاوز التوقعات، وتمكن من زيادة عدد أصواته بأكثر من 6 ملايين بين الجولتين، مقارنة بزيادة قدرها 2,6 مليون للولا.
قبل بضعة أشهر فقط، كان لولا يتقدم بأغلبية كبيرة في استطلاعات الرأي، مستفيدا من السياسة الإجرامية التي أدار بها بولسونارو جائحة كوفيد 19، التي أودت بحياة 700.000 برازيلي. لكن في النهاية، تقلص ذلك التقدم إلى لا شيء تقريبا. كيف يمكن تفسير هذا؟
قمع الناخبين والتعاون الطبقي
ناشد بولسونارو الفئات الأكثر تخلفا في البلاد. وهو يحظى بالدعم الحماسي من جانب رأسماليي الصناعة الغذائية (التي هي قطاع يساوي 22% من الناتج المحلي الإجمالي للبرازيل، ويشكل 40% من صادرات البلاد) واستخدم جهاز الدولة لصالحه.
تميز السباق الرئاسي بفيض غير مسبوق من الأخبار الكاذبة والاستفزازات القادمة من معسكر بولسونارو، بما في ذلك هجوم ببندقية وقنابل يدوية على الشرطة من قبل سياسي بارز في معسكر بولسونارو. وفي يوم الاقتراع كانت هناك محاولات وقحة لقمع الناخبين من قبل شرطة المرور الفيدرالية الموالية لبولسونارو (PFR)، والتي أوقفت ناخبي حزب العمال وهم في طريقهم إلى مراكز الاقتراع. كما نشر قائد PFR تغريدة حث فيها الناخبين على دعم بولسونارو.
يعرف المجتمع البرازيلي تقاطبا حادا. صوتت المناطق الأفقر في الشمال والشمال الشرقي بأغلبية كبيرة لصالح لولا. في حين صوتت منطقتا الوسط والجنوب، الأكثر ثراء، لبولسونارو. أما الولايات العشر الأكثر اكتظاظا بالسكان، فقد اقتسم لولا وبولسونارو الفوز بها، بخمس ولايات لكل منهما. فاز اليسار في ساو باولو، المدينة الأكثر اكتظاظا بالسكان والمركز الصناعي الأكبر في البلاد، لكن مرشح بولسونارو تولى منصب حاكم الولاية. يمتلك حزبه الكتلة الأكبر في كل من الكونغرس ومجلس الشيوخ ويسيطر على الولايات الثلاث الأكثر اكتظاظا بالسكان: ساو باولو وريو دي جانيرو وميناس جيرايس.
لقد افتقرت حملة لولا بشدة إلى المحتوى اليساري الذي يمكنه أن يستقطب العمال والفقراء على أساس طبقي. سمح هذا لبولسونارو بجر النقاش إلى الساحة الثقافية. دارت الحملة الانتخابية، إلى حد كبير، حول قضايا مثل الدين والإجهاض والقيم الأسرية والجريمة والفساد. وهو ما استفاد منه بولسونارو، الذي لعب على وتر النزعة الاجتماعية المحافظة لمناشدة أكثر الفئات تخلفا في المجتمع.
كما أن لولا أدار حملته، منذ البداية، على أساس تحالفات غير مبدئية مع المؤسسة الرأسمالية، بدءا من اختياره لجيراردو ألكمين لمنصب نائب الرئيس. ألكمين هذا، الذي هو سياسي رأسمالي بارز، كان منافسا للولا في عام 2006 وزعيم الحزب الرئيسي للبرجوازية البرازيلية: الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وقد كان، بصفته حاكمًا لساو باولو، مسؤولا عن القمع الوحشي ضد حركة الاحتجاج على ارتفاع أسعار المواصلات العامة، في عام 2013، ودعم صراحة محاكمة ديلما روسيف، عضوة حزب لولا، حزب العمال، عام 2016. وقد تم تشكيل هذه التحالفات على جميع المستويات. فعلى سبيل المثال، قدم حزب العمال الدعم لسياسي الأوليغارشية المحلي، باولو دانتاس، لكي يتولى حكم ألاغواس. وهو سليل اسرة سياسية محلية، شن حملة مبهرجة خالية تماما من أي محتوى سياسي.
وبدلا من أن يقوم لولا بتحويل التركيز نحو القضايا الطبقية، حاول أن يتفوق على منافسه بولسونارو، بالميل نحو اليمين وحتى لعب ورقة الإيمان المسيحي. وفي غضون ذلك حاول أن يقدم نفسه للطبقة السائدة باعتباره مرشحا مأمونا وجديرا بالثقة، ووعد جهاز الدولة بأنه في حالة انتخابه سيدافع عن “المؤسسات”، هذا على الرغم من حقيقة أن تلك المؤسسات نفسها هي التي ألقت به في السجن لمدة 18 شهرا في عام 2018. في الواقع، أصبح القاضي الذي قاد محاكمته، سيرجيو مورو، وزيرا للعدل في حكومة بولسونارو، بعد ذلك بوقت قصير!
وعلاوة على ذلك فقد استفاد بولسونارو بالكامل من ميزانية الدولة لتمويل حملته الرئاسية، على سبيل المثال من خلال زيادة مبلغ المستفيدين من الإعانة الاجتماعية (Auxilio Brasil) بمقدار نصف مليون، بين جولتي الانتخابات الرئاسية.
القنبلة الموقوتة الموجودة في أسس الوضع هي، بطبيعة الحال، الأزمة الاجتماعية الحادة التي تعيشها البرازيل والارتفاع الحاد للّامساواة: يعاني 33 مليون برازيلي من سوء التغذية، بينما زاد عدد أصحاب الملايين بشكل مستمر خلال السنوات الأخيرة. كان من شأن حملة جريئة بمطالب اجتماعية ملموسة، وبخطاب طبقي كفاحي، أن تتجاوز الانقسامات الدينية والثقافية وتنسف ديماغوجية بولسونارو.
حتى وقت كتابة هذا التقرير، لم يعلن بولسونارو اعترافه بالهزيمة بعد. إنه، في الواقع، لم يقل شيئا على الإطلاق. لكن أنصاره (خاصة بين سائقي الشاحنات) يغلقون الطرق الرئيسية في 16 ولاية مختلفة في جميع أنحاء البلاد. أمر رئيس المحكمة العليا، مورايس، هيئة شرطة المرور الفيدرالية (PFR) بإزالة الحصار، وهي نفس قوة الشرطة الموالية لبولسونارو التي اعتدت على ناخبي لولا يوم الانتخابات! وفي حين قبلت الهيئة الأمر، فإنها بالتأكيد متعاطفة مع المحاصِرين الموالين لبولسونارو، ولا يمكن الاعتماد عليها لتفريقهم. في المقابل دعت حركة العمال المشردين (MTST) أنصارها إلى تنظيم مظاهرات لإزالة الحواجز والدفاع عن نتيجة الانتخابات.
هدد بولسونارو، خلال الحملة الانتخابية، بالاعتماد على الجيش وتعبئة قاعدة دعمه الصدامية ضد لولا. وبالنظر للنتيجة المتقاربة للغاية، فإن هناك تكهنات بأنه قد يقوم بمناورة مماثلة لما قام به أنصار ترامب في احتلال الكابيتول عام 2021. قد يؤدي ذلك إلى العنف. ومن المحتمل أن يكون بولسونارو ينتظر وقته ليرى كيف تتطور الأحداث، وكذلك الحفاظ على قدر من الإنكار إذا ما تحرك أنصاره بشكل عفوي. إن لم يدع إلى الاحتجاج، لكنه لم يقف ضدها أيضا، ويبدو أنه يداري رهاناته.
لقد اعترف نائب الرئيس في حكومة بولسونارو، موراو، بالهزيمة في رسالة بعثها إلى ألكمين، وكان فريق لولا على اتصال بوزير بولسونارو للرئاسة نوغيرا، لمناقشة نقل السلطات. هناك ضغط هائل من جانب مختلف أجهزة الدولة ومكونات الطبقة السائدة والإمبريالية لضمان انتقال سلس. فأيا كان رأي الرأسماليين في بولسونارو (وهم منقسمون حول هذا الموضوع)، فإن آخر ما يريدونه هو الفوضى وعدم الاستقرار.
لقد انهزم بولسونارو، لكن “البولسونارية” باقية
على أي حال، كان من الممكن إلحاق الهزيمة ببولسونارو قبل اليوم بكثير. لقد تميزت كل فترة رئاسته بالمظاهرات الجماهيرية، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع، منذ اليوم الأول عمليا، وهم يهتفون “Fora Bolsonaro!” (“بولسونارو ارحل!”) لكن قيادات حزب العمال والنقابات العمالية كبحت الجماهير، وحثتهم على “احترام التفويض الديموقراطي لبولسونارو” وانتظار الانتخابات لطرده. وفي الوقت نفسه برروا تخاذلهم وميلهم نحو اليمين بإثارة المخاوف من كون بولسونارو “فاشيا”!
قبل أيام قليلة من الجولة الثانية، نشر لولا “رسالة لبرازيل الغد”، مليئة بالكلمات الجميلة حول “الديمقراطية”، و “الحرية”، و “التنمية المستدامة”، و “الأمل”، وما إلى ذلك، لكن مع التزام جوهري بالمصالح الأساسية لرأس المال، حيث قال مثلا إنه: «من الممكن الجمع بين المسؤولية المالية وخفض الدين العام، وبين المسؤولية الاجتماعية والتنمية المستدامة». لكن الواقع هو أن “المسؤولية المالية”، في سياق الأزمة العميقة للرأسمالية العالمية، تعني بالضرورة التخفيضات والهجمات على الطبقة العاملة.
وقد بدأت الصحف البرجوازية الرئيسية فعلا بمطالبة لولا بالتخلي عن أي فكرة بالقيام ولو بسياسات اجتماعية معتدلة، والحكم بحزم لصالح الطبقة الحاكمة، كل ذلك تحت شعار “استعادة الوحدة الوطنية”، و”شفاء المجتمع البرازيلي”، إلخ. أصر مقال صدر في O Globo، على سبيل المثال، على الدور الرئيسي الذي يجب أن يلعبه نائب الرئيس ألكمين، حيث قال:
«مع المكانة التي اكتسبها، أدرك كل من أعضاء حزب العمال وحلفاء العضو السابق في الحزب الاجتماعي الديمقراطي البرازيلي، أنه سيكون له تأثير في توزيع الحقائب الحكومية الرئيسية، ولا سيما في المجال الاقتصادي، حيث يتحلى العضو السابق في الحزب بالمصداقية لالتزامه بالمسؤولية المالية. كما أنه سينفذ جولة سفر في جميع أنحاء البلاد وسيكون له دور ملطف المناقشات الداخلية. وباعتباره كاثوليكيا، فقد كان دائما يتنقل بسهولة بين قادة الكنائس الخمسينية والكنيسة الخمسينية الجديدة، على سبيل المثال». (خط التركيز من عندنا)
صوّت العديد من الناس لصالح لولا بناء على ذكريات رئاسته بين عامي 2003 و2011. في ذلك الوقت، وأثناء تنفيذه لسياسات مؤيدة للرأسمالية (بما في ذلك إصلاح نظام المعاشات التقاعدية، والاستقرار المالي، إلخ)، استفاد من فترة ارتفاع أسعار المواد الخام، مما كان يعني النمو الاقتصادي للبرازيل. كان العمال يحصلون على زيادات في الأجور أعلى من معدلات التضخم، وتمكن لولا من تقديم بعض المنح الاجتماعية (المستوحاة من توجيهات البنك العالمي)، مثل Bolsa Familia. وعندما انتهت فترة ارتفاع أسعار المواد الخام تلك في عام 2014، كان لولا قد غادر الحكومة بالفعل، وكانت خليفته، ديلما، هي التي توجب عليها مواجهة الركود الاقتصادي، وفقدت شعبيتها بشكل كبير.
لكن الوضع مختلف تماما الآن. فلولا يصل إلى السلطة في خضم أزمة خانقة للرأسمالية العالمية، والتي ستوجه ضربات عنيفة للاقتصاد البرازيلي. وليست الصين في وضع يمكنها من تخفيف وطأة الأزمة في أمريكا اللاتينية، كما فعلت بين عامي 2010 و2014، بل على العكس تماما. في ظل هذه الظروف، ومع الالتزام الراسخ بـ”المسؤولية المالية”، سيكون هامش المناورة بالنسبة للولا محدودا للغاية وستصبح حكومته حكومة شن الهجمات على الطبقة العاملة.
لن يؤدي التعاون الطبقي الإصلاحي وتطبيق السياسات المؤيدة للرأسمالية، إلا إلى تعزيز بولسونارو فقط. يجب أن نتذكر كيف نشأت الظروف لانتصاره في عام 2018. كانت روسيف قد فازت في انتخابات 2014 على أساس شعارات يسارية، لكنها وفي سياق الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انهيار أسعار المواد الخام ، اتجهت إلى تنفيذ برنامج التقشف الخاص بالمعارضة. أدى ذلك إلى إضعاف معنويات قاعدة دعمها، بينما كان يؤجج الهستيريا اليمينية. وتعرضت للخيانة من قبل زميلها، ميشال تامر، وتم عزلها بتواطؤ من القضاء وجهاز الدولة، الذي ألقى أيضا بلولا في السجن بتهم ملفقة.
تمكن بولسونارو من الفوز في الانتخابات الموالية، ولعب ورقة “فساد” حزب العمال. كانت فترة ولاية بولسونارو الكارثية والرجعية تسير بشكل سلمي إلى حد كبير، لأن الأحزاب والنقابات اليسارية الرسمية راهنت بكل شيء على هذه الانتخابات، التي فازوا بها بفارق ضئيل فقط.
انتصار لولا هو الخطوة الأولى، لكن يتوجب الآن الاستعداد للنضال من أجل التغيير الحقيقي: التغيير الذي تتوقعه جماهير العمال والشباب الذين صوتوا لصالح لولا. لقد تم هزم بولسونارو في صناديق الاقتراع، لكن “البولسونارية” ما تزال حية وقوية، وسيتعين هزيمتها في المصانع وأماكن العمل، وفي أحياء الطبقة العاملة، باستخدام أساليب الإضرابات الجماهيرية والمظاهرات.
من الضروري تقوية التنظيم المستقل لجماهير الطبقة العاملة للاستعداد لذلك النضال. إن دخول الجماهير المضطهَدة إلى الساحة هو الطريقة الوحيدة لضمان إلقاء اليمين المتطرف والبولسونارية في مزبلة التاريخ إلى الأبد.
ملحوظة: يستند هذا المقال جزئيا إلى المقالة التي أنتجها رفاقنا البرازيليون في منظمة Esquerda Marxista.
موقع الدفاع عن الماركسية
01 نونبر/تشرين الثاني 2022
ترجم عن النص الانجليزي:
Brazil: Lula narrowly wins presidency – the fight against Bolsonarismo continues!
تعليق واحد
تعقيبات: الانقلابات والنضال الجماهيري في أمريكا اللاتينية – ماركسي