ضجت وسائل الإعلام العالمية، على مدى الأشهر القليلة الماضية، بالحديث عن حرب جديدة في أوروبا. ووفقا لأجهزة المخابرات الأمريكية، فقد نقلت روسيا أكثر من 100.000 جندي إلى حدودها مع أوكرانيا. كما أنها تجري تدريبات عسكرية مشتركة مع بيلاروسيا. وقد نظمت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي سلسلة من المحادثات مع روسيا، على الرغم من أن أيا منها لم يؤد إلى حل الموقف بعد.
ماذا سيفعل بوتين؟
هناك قدر كبير من التكهنات حول ما ينوي بوتين فعله. أولا يجب أن نشير إلى أن التقارير التي تبثها وسائل الإعلام الغربية بصوت عال، والتي تتحدث عن “غزو روسي وشيك”، يجب أن تؤخذ بالكثير من الحذر. إنها قصص من تأليف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لغرض تشكيل الرأي العام. نفس الشيء يقال عن المزاعم الصادرة عن حكومة زيلينسكي في كييف، بما في ذلك الفكرة القائلة بأن الروس يستعدون لافتعال حادثة كاذبة لتبرير العمل العسكري. هذه حرب دعائية ويجب النظر إليها وفقا لذلك، وينطبق ذلك بالطبع أيضا على تصريحات بوتين ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.
أشار النقاد الغربيون إلى مقال طويل كتبه بوتين في يوليوز من العام الماضي، وصف فيه روسيا وأوكرانيا بأنهما “شعب واحد”. ويشير آخرون إلى تصريحات لافروف الذي اتهم الناتو بأنه “مشروع يهدف إلى الاستيلاء على الأراضي التي تيتمت بسبب انهيار منظمة حلف وارسو والاتحاد السوفياتي”. كل هذا، كما يجادل البعض، دليل مفترض على أن “بوتين يريد عودة الإمبراطورية”.
من الواضح أن الجيش الروسي أقوى بكثير من جيش أوكرانيا ويمكنه غزو البلاد، بسهولة نسبية، إذا قرر ذلك. نقل عن رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية قوله إنه “لا توجد موارد عسكرية كافية لصد هجوم واسع النطاق من جانب روسيا، إذا بدأ [الهجوم] دون دعم من القوات الغربية”. وقد استشهد المقال نفسه بتصريح لروب لي، أحد جنود المارينز الأمريكيين السابقين، قال فيه إن الصواريخ الروسية يمكن أن “تقضي على جزء كبير من الجيش الأوكراني في أقل من ساعة”.
ومع ذلك فإنه كما رأينا مع الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، بينما يمكن تحقيق الغزو الأولي بسرعة نسبية، فإن الاستيلاء أو السيطرة على البلد هو أمر آخر تماما. سيتعين على بوتين أن يأخذ في الاعتبار حقيقة أنه سيتوجب عليه على الأرجح مواجهة تمرد محلي، حتى ولو كان الغزو ناجحا. أظهرت استطلاعات الرأي المختلفة أن 58٪ من جميع الرجال، أو ثلث جميع المواطنين، سيكونون مستعدين للقتال ضد روسيا إذا حدث غزو. كما نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن قائد أوكراني، أولكسندر بافليوك، قوله إن البلاد “ستبدأ حرب الأنصار” إذا لزم الأمر.
من الواضح أن قسما كبيرا من السكان الأوكرانيين سيرفضون الغزو الروسي إذا حدث. منذ احتجاجات ميدان 2014، التي أدت إلى الإطاحة بحكومة يانوكوفيتش، رأينا الدولة تروج للقومية الأوكرانية الرجعية المعادية لروسيا وأيديولوجية اليمين المتطرف. وازداد دعم الناتو في أوكرانيا بشكل كبير خلال السنوات التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا. وفقا لاستطلاع حديث للرأي، سيصوت ما يقرب من 60 ٪ من الأوكرانيين لصالح عضوية أوكرانيا في الناتو إذا كان هناك استفتاء، على الرغم من أن البلاد منقسمة على أسس جغرافية، حيث الغرب والوسط يدعم بقوة الانضمام، بينما الشرق والجنوب يقف بشكل محتشم ضده (يشمل الاستطلاع فقط تلك الأجزاء من دونباس التي تخضع لسيطرة كييف). لذلك من غير المرجح أن تكون روسيا قادرة على السيطرة على أوكرانيا بقوة السلاح.
يقدر الدكتور فريد كاغان، وهو أستاذ سابق للتاريخ العسكري في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت، أن احتلال أوكرانيا سيتطلب مقاومة تمرد واحدة لكل 20 نسمة. وهذا يعني أنه من الضروري توفير قوة قوامها 325.000 جندي، وذلك فقط للاحتفاظ بكييف والمدن الأوكرانية الرئيسية في الجنوب والشرق. ليس من المرجح أن يكون بوتين على استعداد لدفع هذه التكلفة.
ماذا يريد بوتين؟
قدمت روسيا مطالب للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، تتضمن، من بين أمور أخرى، الامتناع عن النشاط العسكري في الكتلة الشرقية السابقة؛ والامتناع عن نشر صواريخ قريبة بما يكفي لضرب روسيا. وإنهاء امتداد الناتو باتجاه الشرق.
لقد صور الإعلام الغربي هذه المطالب على أنها غير معقولة على الإطلاق، لكن هذا نفاق محض. في عام 1989 كان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جيمس بيكر، قد وعد بأنه “لن يكون هناك أي امتداد لنفوذ الناتو… ولو بوصة واحدة إلى الشرق”. ومنذ ذلك الحين توسع الناتو لمسافة 1000 كيلومتر إلى الشرق، ووعد كذلك بأن كلا من أوكرانيا وجورجيا سيصبحان عضوين في يوم من الأيام.
هذا تحالف عسكري تعتبره روسيا تهديدا. أوكرانيا هي أيضا واحدة من أكبر المتلقين للمساعدات العسكرية من الولايات المتحدة، حيث تلقت 2.5 مليار دولار منذ عام 2014. لا يسع المرء إلا أن يتخيل كيف سيكون رد فعل الحكومة الأمريكية لو أن كندا أو المكسيك انضمتا إلى تحالف عسكري مع روسيا أو الصين. وعلاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة انسحبت من جانب واحد، عام 2019، من معاهدة حظر انتشار الصواريخ متوسطة المدى التي كانت قد وقعت عليها عام 1988.
تتباكى الولايات المتحدة حول مبدأ “السيادة الوطنية المقدس” و”حرمة الحدود”… لكنها لا تفعل ذلك إلا عندما يناسب أهدافها الإمبريالية. الولايات المتحدة هي أقوى دولة إمبريالية على وجه الأرض، ولم تتردد أبدا في إسقاط الحكومات وغزو البلدان من أجل الدفاع عن مصالح طبقتها الرأسمالية.
لقد دخلت في حروب في العراق وأفغانستان، واستمرت في التحرش بروسيا. حاصرتها بمواقع عسكرية تابعة للناتو، ونظمت “ثورات ملونة” في بلدان مثل جورجيا وأوكرانيا، وأقامت أنظمة صديقة للغرب فيها. حركة ميدان كانت بتحريض من قبل الإمبرياليتين الألمانية والأمريكية. لقد زعزعت التوازن بين روسيا والغرب في أوكرانيا من خلال التهديد بقطع روسيا عن الاقتصاد الأوكراني، الذي يرتبط لأسباب تاريخية بصلات قوية مع روسيا.
بوتين، الذي يدافع عن مصالح الطبقة الرأسمالية الروسية، يريد بالتأكيد دفع الناتو بعيدا. كانت الحرب في جورجيا عام 2008 نقطة تحول في هذا الصدد. إذ بعد عدة سنوات من الإذلال على أيدي الإمبرياليين الغربيين، قالت روسيا “كفى، يعني كفى”، وهو الرد الذي لم تجد الولايات المتحدة الكثير لتفعله تجاهه.
كان الأمر نفسه عام 2013 مع ما أسماها أوباما “بالخطوط الحمراء” في سوريا. في ذلك الوقت كان الغرب في خضم حملة لتأجيج تمرد إسلامي من أجل الإطاحة بالأسد، الذي كان حليفا قديما لروسيا. لكن سرعان ما أتضح أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لإرسال قوات برية لإنهاء المهمة. لذلك أدرك الروس أنه يمكنهم التدخل لدعم نظام الأسد والحفاظ على القاعدة العسكرية الوحيدة لروسيا على البحر الأبيض المتوسط. لم يكن في مقدور الولايات المتحدة أن تفعل أي شيء سوى مشاهدة روسيا وإيران تسحقان عملائها الجهاديين في سوريا.
تلا ذلك بوقت قصير ضم شبه جزيرة القرم، في عام 2014، والتي لها أيضا قيمة استراتيجية وتاريخية مهمة للطبقة السائدة الروسية. احتجت واشنطن وهددت بوتين بالعواقب. فرضت عليه عقوبات، لكن حقيقة الأمر هي أنه بعد مرور ثماني سنوات، ما تزال شبه جزيرة القرم جزءا من الاتحاد الروسي، وليس هناك الكثير مما يمكن للولايات المتحدة فعله حيال ذلك.
كل هذا عزز ثقة بوتين، وغذى طموحاته لإعادة تأكيد مكانة روسيا باعتبارها قوة إقليمية رئيسية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. تم تعزيز هذا بعد تدخله لدعم الأنظمة في بيلاروسيا وكازاخستان، مما زاد من اعتماد كلا البلدين على روسيا.
في أعقاب هزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان، رأى بوتين أن الوقت قد حان مرة أخرى لإعادة تأكيد مصالح الرأسمالية الروسية ومواجهة الغرب. وباستعمال أسلوب رجال العصابات المعتاد، استخدم التهديدات على المسرح العالمي من أجل كسب النفوذ. يزعم موقع Politico أن بوتين قد أبلغ دبلوماسييه، في نوفمبر، أن قدرا معينا من التوتر سيجبر الغرب على أخذ روسيا على محمل الجد. ونقل أعداد كبيرة من القوات إلى الحدود الأوكرانية عمل مصمم لتحقيق ذلك بالضبط.
هناك بالفعل تكهنات بأن هجوما إلكترونيا استهدف 70 موقعا حكوميا أوكرانيا قد وقع بناء على تعليمات بوتين. كما أن روسيا قد نظمت تدريبات بالذخيرة الحية مع القوات والدبابات أثناء إجراء المحادثات، وهناك الآن تقارير عن مزيد من التدريبات في بيلاروسيا. ينوي بوتين تهديد أوكرانيا من أجل إجبار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من أجل مناقشة انسحاب الناتو من أوروبا الشرقية، وتنفيذ اتفاقيات مينسك (اتفاقية السلام الموقعة مع أوكرانيا بشأن وضع مناطقها الشرقية، الأمر الذي من شأنه أن يعزز نفوذ روسيا داخل البلاد).
وفي حين أن الاحتلال الشامل أمر غير وارد، فإن تهديدات بوتين ليست فارغة تماما. من الممكن أن تشن روسيا “حربا صغيرة”، أو ضربة جراحية ضد المنشآت العسكرية الأوكرانية. ويقول المعلقون الغربيون إن هذا قد يشمل ضم منطقة دونباس بالكامل، والتي هي منطقة تخضع بالفعل لسيطرة القوات الموالية لروسيا؛ وإنشاء ممر بري إلى شبه جزيرة القرم التي تم ضمها سابقا؛ أو إحياء ما يسمى بمشروع “روسيا الجديدة”، الذي سيتضمن محاولة “عزل أوكرانيا عن البحر الأسود”.
ومع ذلك فإنه يبدو من غير المرجح أن يرغب بوتين في ضم دونباس. إذ أن ترك هذه المناطق في وضعها الحالي -حيث أنها تحت سيطرة روسيا فعليا، لكنها ما تزال جزءا من أوكرانيا- يمنح بوتين قدرا كبيرا من النفوذ في البلاد. وبالمثل فإن مشروع “روسيا الجديدة” سيشمل الاستيلاء على مدينة أوديسا، والتي هي مدينة يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة، 68٪ منهم من أصل أوكراني، الأمر الذي قد ينطوي على تكلفة كبيرة، واحتمال فتح جبهة تمرد ضد الاحتلال. . لذلك يبدو أنه إذا -ونسطر على كلمة إذا- كان على بوتين التحرك نحو العمل العسكري، فسيكون الطريق الأكثر ترجيحا هو إنشاء ممر بري يوحد دونباس مع شبه جزيرة القرم.
ومن الواضح أن الدافع الآخر لبوتين هو تأجيج نيران النزعة القومية الروسية في محاولة لإلهاء الشعب عن المشاكل في الداخل. لقد تمكن بوتين لسنوات عديدة من ركوب موجة الطفرة النفطية، وبلغت نسبة التأييد له حوالي 70٪. وقد ارتفعت هذه النسبة إلى حوالي 85٪ على خلفية المزاج الشوفيني بعد ضم شبه جزيرة القرم. ومع ذلك فقد بدأت تلك الشعبية في الانخفاض مرة أخرى، حيث تراجعت إلى النصف في عام 2020، وحتى أقل وفقا لبعض الاستطلاعات.
يرجع ذلك إلى عدد من العوامل. لقد قتلت جائحة كورونا حوالي 320 ألف روسي، وفقا للأرقام الرسمية. ومع انخفاض أسعار النفط، في أعقاب أزمة عام 2008، واجه الاقتصاد الروسي بدوره صعوبات. وهذا يعني أنه خلال الفترة من 2013 إلى 2020، انخفض الدخل الحقيقي بنسبة 11٪. علاوة على ذلك فإن معدل التضخم يبلغ حاليا أكثر من 8٪، مما يؤدي إلى المزيد من انخفاض مستويات معيشة الطبقة العاملة. كان هذا هو السبب الحقيقي وراء الاحتجاجات التي اندلعت بعد اعتقال نافالني العام الماضي، وكذلك نتائج الانتخابات المخيبة للآمال لحزب روسيا الموحدة بقيادة بوتين.
وبالتالي فإن أحد العوامل وراء التوتر الحالي هو محاولة إعادة إحياء الروح القومية الرجعية مرة أخرى، من أجل الحد من الغضب الطبقي النامي في المجتمع الروسي. لكن تأجيج القومية من خلال التهديد بالحرب هو أمر مختلف تماما عن الانخراط في حرب طويلة ومكلفة، والتي سيكون لها تأثير معاكس. هذا سبب آخر يجعل من غير المرجح حدوث غزو عسكري واسع النطاق، لأنه لن يكون في مصلحة بوتين.
ضعف الولايات المتحدة
لم يقدم ممثلو الإمبريالية الأمريكية في ردهم على روسيا شيئا أكثر من مجرد كلمات. عبرت جين بساكي، السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، عن رفض الولايات المتحدة مطالب روسيا، موضحة أنها: “لن تتنازل عن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الأمن الأوروبي”. وأعلن أنتوني بلينكين، وزير خارجية الولايات المتحدة، أن الولايات المتحدة “مستعدة للرد بقوة على مزيد من العدوان الروسي”.
لكن وبعد إجراء مزيد من التحقيق فإن هذا الرد القوي لم يسفر إلا على “تدابير اقتصادية قوية” و”أسلحة دفاعية إضافية للأوكرانيين” ووعد “بتحصين حلفائنا في الناتو على الجانب الشرقي”. وبينما أعلن الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، أنه “لدينا جنود، لدينا قوات”، فإنه لم يقدم أي تفاصيل حول ما يمكن القيام به على وجه التحديد. كما أشار جو بايدن إلى أن التزام القوات الأمريكية بالدفاع عن أوكرانيا نفسها “ليس مطروحا على الطاولة”!
الضعف النسبي للإمبريالية الأمريكية، الذي ظهر في هذه الحالة من خلال عدم رغبتها في إرسال قوات برية، يقودها نحو التراجع، الأمر الذي يفاقم ضعفها مرة أخرى. أشار بايدن، في مؤتمر صحفي يوم 19 يناير، إلى أن “تخمينه” هو أن بوتين “سيتحرك”. لكنه أضاف إن رد الغرب سيعتمد على “ما تفعله [روسيا]. يمكن أن يحدث توغل بسيط ثم ينتهي بنا الأمر نحن [الناتو] في نزاع حول ما يجب وما لا يجب القيام به”.
من وجهة نظر الإمبريالية الأمريكية لا ينبغي للانقسامات الموجودة بينها وبين حلفائها الأوروبيين أن تظهر علنا. لكن وبسبب ضعف الولايات المتحدة، فإنها غير قادرة على فرض موقف موحد من الناتو في مواجهة روسيا. وقد ظهر ذلك أيضا من طرف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي دعا مؤخرا إلى محادثات أوروبية منفصلة مع روسيا.
من الواضح أن الولايات المتحدة قلقة من أن تظهر باعتبارها ضعيفة أمام العالم، وهذا هو السبب في أن بعض شرائح الطبقة السائدة في الولايات المتحدة قد تميل نحو موقف أكثر تشددا. لكن هناك حدود لما يمكنها أن تفعله في الواقع. فبعد حربين مكلفتين في العراق وأفغانستان، هناك معارضة جماهيرية للحرب داخل الولايات المتحدة. إن ما يعكسه كل هذا هو التراجع النسبي للإمبريالية الأمريكية، التي لم تعد قادرة على التصرف بكونها شرطي العالم بنفس الطريقة التي كانت تتصرف بها في الماضي. إنها أقل قدرة على إجبار حلفائها على التصرف ككتلة واحدة، وانفتح المجال لقوى أصغر لكي تناور وتستعرض عضلاتها على نطاق إقليمي.
العقوبات
لا يبقى أمام الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي سوى الاعتماد على مزيد من العقوبات. تراوحت الاقتراحات بين استبعاد روسيا من جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)، الأمر الذي من شأنه أن يعيق قدرة البلد على التحرك في السوق العالمية؛ أو منع استيرادها للبضائع مثل الهواتف الذكية وقطع غيار السيارات؛ أو إلغاء خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي سينقل الغاز الروسي مباشرة من روسيا إلى ألمانيا، متجاوزا أوكرانيا.
تكمن مشكلة هذا النهج في أنه إذا كانت روسيا عازمة حقا على غزو أوكرانيا، فلن تكون العقوبات كافية لوقف ذلك. إذ بادئ ذي بدء بينما تشير التقديرات إلى أن العقوبات ستضرب الاقتصاد الروسي بما يتراوح بين 2.5٪ و 3٪ سنويا، فإنها لم تحقق ما كانت تهدف إلى تحقيقه. تم فرض العديد من هذه العقوبات في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم، لكنها لم تفعل شيئا لإجبار بوتين على التراجع عن ضمه لها.
وعلاوة على ذلك، كما توضح صحيفة Financial Times، فقد بذلت الدولة الروسية جهودا لتقليل اعتمادها على النظام المالي العالمي. وما يعنيه هذا هو أن العقوبات يمكن أن تضرب الاتحاد الأوروبي أكثر من روسيا. يستورد الاتحاد الأوروبي أكثر من 40٪ من غازه وربع نفطه من روسيا، لذلك فإنه من المرجح أن يؤدي منع البلاد من استخدام نظام مدفوعات SWIFT أو وضع حد لخط Nord Stream 2، خاصة في سياق ارتفاع أسعار الغاز، سيكون غير مستساغ بالنسبة لقادة الاتحاد الأوروبي.
وينطبق هذا بشكل خاص على ألمانيا، البلد الرأسمالي الرئيسي في أوروبا، والأكثر اعتمادا اقتصاديا على روسيا. ولهذا السبب فإن الرأسماليين الألمان غير متحمسين لفرض العقوبات، وقد اتخذت برلين موقفا أقل عدوانية بشكل ملحوظ من موقف واشنطن. اضطر قائد البحرية الألمانية إلى الاستقالة بسبب تعبيره عن ذلك علنا، عندما قال إن وضع شبه جزيرة القرم لن يتم عكسه وأن ما يريده بوتين “وربما يستحقه” هو ”معاملته باحترام”. وفي مقابلة مع صحيفة Sueddeutsche Zeitung، قال المستشار الألماني، أولاف شولتز، إن أي عقوبات تُفرض على روسيا، في حال ما إذا غزت أوكرانيا، يجب أن تكون “حكيمة” لأنه “لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن هناك أي خطوة بدون عواقب علينا”. يأتي ذلك في وقت تريد فيه واشنطن من حلفائها الأوروبيين التعامل مع روسيا حتى تتمكن من التركيز على الصين.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه فيما يتعلق بمسألة منع واردات روسيا من التكنولوجيا، لن يتطلب الأمر سوى أن تكون هناك بعض البلدان المستعدة لخرق مثل ذلك الحصار حتى تصبح العملية بأكملها غير فعالة تماما. قد تحاول الولايات المتحدة منع دخول الهواتف الذكية أو أي شيء تريده إلى السوق الروسية، لكنه يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة أن الصين ستكون على استعداد تام للتدخل وسد الفجوة.
هل يمكن التوصل إلى اتفاق؟
السؤال المطروح الآن هو: إلى أين يتجه هذا الوضع؟ إن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة، وفقا لمستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، هو “ردع غزو عسكري روسي لمزيد من أراضي أوكرانيا”. ترغب الإمبريالية الأمريكية في الحفاظ على سيطرتها على أوروبا الشرقية، لكنها ومن أجل تركيز انتباهها على الصين تنحرف بعيدا عن أوروبا والشرق الأوسط. وهذا يفتح المجال لروسيا للرد على ما تعتبره تقدما مهددا لمصالحها من جانب الغرب.
الولايات المتحدة غير مستعدة لاستخدام قواتها للدفاع عن أوكرانيا عسكريا، ولن تكون العقوبات كافية لإجبار بوتين على التراجع، مما يعني أنها ستضطر إلى تقديم المزيد من التنازلات. هناك بالفعل همسات حول هذا الأمر. وكما تشير الإيكونوميست، فإن الاقتباس أعلاه من سوليفان يترك الباب مفتوحا أمام إمكانية السماح لروسيا بضم المناطق الانفصالية في أوكرانيا. كما كان هناك حديث عن أن الولايات المتحدة تدرس خفض قواتها في أوروبا الشرقية. لقد أنكر بايدن ذلك، لكن أنتوني بلينكين كان غامضا عندما سئل، على شبكة سي إن إن، عن وضع الأسلحة الثقيلة في بولندا. وقد اقترح آخرون، مثل مدير كبير سابق لروسيا في مجلس الأمن القومي، أن يلتزم الناتو رسميا بمنع أوكرانيا من الانضمام إليه لعدد محدد من السنوات.
إلى جانب فرض العقوبات، كان الناتو على استعداد لتقديم بعض التنازلات بشأن “الحد من التسلح” وبذل جهود من أجل “شفافية أكبر في النشاط العسكري”. وبالمثل فقد كشف مسؤول كبير في البيت الأبيض أن الولايات المتحدة مستعدة “لاستكشاف… قيود متبادلة على حجم ونطاق التدريبات [العسكرية]”. وهو ما رفضه المفاوض الروسي، سيرجي ريابكوف، وقال إن المحادثات وصلت إلى “طريق مسدود” لأن هذه التنازلات لم تلب مطالب الكرملين الرئيسية. وبعبارة أخرى يشعر الروس أن هناك تنازلات أكبر يمكنهم كسبها.
في المؤتمر الصحفي الأخير الذي أعقب فشل المحادثات مع ريابكوف، طرح بايدن أحدث الأفكار حول التنازلات التي يمكن تقديمها. فأهم مطلبين لروسيا، وفقا للرئيس، هما أن “لا تكون أوكرانيا أبدا جزءا من الناتو” وألا تكون هناك “أسلحة استراتيجية متمركزة في أوكرانيا”. وقال إنه فيما يتعلق بالمطلب الثاني “يمكننا عمل شيء ما”. أما فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان بإمكان أوكرانيا الانضمام إلى الناتو، فقد أشار إلى أنه “على المدى القريب” ليس هذا “محتملا جدا”، وهذا يعني أن “هناك مجال للعمل إذا كان يريد ذلك”. كما أشار إلى أن عقد قمة مع بوتين أمر “محتمل”.
إن عدم تأثر روسيا بالعقوبات وعدم استعداد الولايات المتحدة للالتزام بالدفاع عن أوكرانيا عسكريا هو بالفعل انتصار لروسيا وبوتين. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال الاجتماع بين بلينكين ولافروف في 21 يناير. يوصف بايدن الآن بأنه “على استعداد تام” للالتزام بالمحادثات مع بوتين. بينما يبدو أن بوتين، من جهته، على استعداد لترك بايدن ينتظر، حيث قال لافروف إن المحادثات المستقبلية ستكون رهينة بـ “الإعداد الجاد”. إن تنظيم قمة مع الرئيس الامريكي هو في حد ذاته انتصار لبوتين.
وبالتالي فإن المسار الأكثر احتمالية للأحداث هو انتهاء المحادثات الجارية بين الولايات المتحدة وروسيا بإجبار الولايات المتحدة على تقديم نوع من التنازلات. لا يمكن استبعاد قيام روسيا بتوغلات صغيرة، لكن من المستبعد جدا قيامها بغزو واسع النطاق لأوكرانيا. ستحاول الولايات المتحدة إبقاء التنازلات التي قدموها مخفية وراء الكواليس، وتصوير كل ما ينتج عنها على أنه انتصار. ومع ذلك فإن ما يظهره كل هذا هو أن الولايات المتحدة لن “تعود” بالتأكيد، وبوتين، الذي يدرك هذه الحقيقة تماما، يستفيد استفادة كاملة من الوضع.
يعكس الوضع في أوكرانيا الوضع العالمي. عندما يكون النظام الرأسمالي في فترة ازدهار عام، ويكون هناك ما يكفي من الغنائم لتقاسمها بين مختلف الطبقات الرأسمالية، يكون في مقدور النظام أن يبدو مستقرا. لكن عندما يكون النظام في أزمة، فإن كل دولة قومية تحاول بقوة أكبر تأكيد مصالح طبقتها السائدة، مما يؤدي إلى مزيد من الاحتكاكات والانفجارات مثل تلك التي نشهدها الآن. ويتفاقم هذا بسبب أزمة الإمبريالية الأمريكية، التي لم تعد قادرة على إملاء قواعد العلاقات العالمية، وبالتالي استقرار الوضع، كما كانت تفعل في الماضي. على العكس من ذلك، فقد أصبحت هي نفسها قوة مزعزعة للاستقرار. إن هذا الاضطراب المتزايد هو السمة المميزة للمرحلة التي نعيش فيها. إنه انعكاس لنظام مريض.
24 يناير/كانون الثاني 2022
ترجم عن النص الأصلي:
تعليق واحد
تعقيبات: أوكرانيا: بوتين يزيد الأمر سوءا باعترافه بجمهوريتي دونباس وإرسال قواته إلى هناك – ماركسي