الرئيسية / دول العالم / أوروبا / إيطاليا / الانتخابات الإيطالية تهز النظام من أساساته

الانتخابات الإيطالية تهز النظام من أساساته

كلمة هيئة تحرير ماركسي

ننشر فيما يلي المقال الهام الذي كتبه الرفيق فريد ويستون، عضو السكرتارية الأممية للتيار الماركسي الأممي، لتحليل الانتخابات البرلمانية التي شهدتها ايطاليا يوم 04 مارس 2018. تتمثل أهمية هذا المقال في التحليل الماركسي لدلالة الأرقام التي أسفرت عنها صناديق الاقتراع، والتي أبانت عن فشل الأحزاب التقليدية للطبقة البرجوازية في أن تحقق أغلبية تمكنها من تشكيل حكومة مستقرة لتواصل تطبيق سياسات التقشف والهجمات على العمال، مقابل صعود أحزاب “شعبوية” مثل حركة خمس نجوم، وهو ما فشل الكثير عن فهمه مما أصابهم باليأس والقنوط.

كما تأتي أهمية المقال كذلك في تحليله العميق لأزمة اليسار الايطالي وأسبابها وطرق حلها. إلا أن القسم الأكثر أهمية، من وجهة نظرنا، هو التحليل اللامع الذي قدمه لمشاركة الماركسيين الثوريين الايطاليين في الانتخابات، أسبابها ونتائجها، وخاصة تأكيده على أن الهدف، في هذه الفترة، لم يكن كسب مقاعد في البرلمان بقدر ما كان هو استغلال منبر الحملات الانتخابية للتواصل مع تلك الفئة المتقدمة من العمال والشباب التي تبحث عن بديل ثوري، ورفع راية الماركسية الثورية عاليا لكي تصير أكثر بروزا، لكي تتحول إلى نقطة مرجعية للعمال والشباب في المستقبل.

ما أحوج اليسار في منطقتنا إلى تطبيق التكتيك الماركسي الثوري من الانتخابات بعيدا عن كل من التصور الإصلاحي اليميني والغباء البرلماني الذي يجعل بعض اليساريين يتوهمون أنه يمكن حل المشاكل الجدية للطبقة العاملة والشباب من خلال الانتخابات ومؤسسة البرلمان، فتحولوا إلى كائنات انتخابية مدجنة.. وعن التصور العصبوي اليسراوي المتطرف الذي يعتقد أن الثورية تقتضي المقاطعة والصراخ في الهامش، فيضيع فرصة استغلال الحملات الانتخابية والمؤسسات التمثيلية للدعاية للثورة الاشتراكية وفضح حدود الديمقراطية البرجوازية وزيفها، والدعوة في المقابل إلى النضال من أجل الديمقراطية العمالية، ديمقراطية مجالس العمال والفلاحين المنتخبة في الأحياء والمصانع والقرى والجامعات.


الانتخابات الإيطالية تهز النظام من أساساته


فريد ويستون
07 مارس 2018

أسفرت الانتخابات الإيطالية -التي كانت زلزالا سياسيا بالمعنى الحقيقي للكلمة- عما كان متوقعا منذ فترة طويلة: برلمان معلق، بدون حزب أو ائتلاف من الأحزاب، قادر على تشكيل حكومة أغلبية. وقد عبر المحللون البرجوازيون الجادون عن أسفهم من أن أكثر من 50% من الناخبين صوتوا لصالح الأحزاب “الشعبوية” المناهضة للمؤسسة، في حين أن الأحزاب التي استند إليها النظام على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية قد ضعفت بشكل خطير.

جاءت النتائج على الشكل التالي: حصل تحالف يمين الوسط 37% من الأصوات و260 مقعدا في البرلمان؛ حركة خمس نجوم 32,68% من الأصوات و221 مقعدا؛ تحالف يسار الوسط 22,85% و 112 مقعدا؛ حزب Liberi e Uguali [أحرار ومتساوون] 3,39% و14 مقعدا. يتطلب تشكيل حكومة الحصول على 316 مقعدا في البرلمان، وهو ما لم تتمكن أي من القوى الرئيسية من تحقيقه في هذه الانتخابات. وهكذا فستنفتح فترة من عدم الاستقرار في الوقت الذي ستجري فيه مفاوضات لتجميع ائتلاف من نوع ما.

المشكلة هي أن لا أحد يعرف كيف يمكن بناء أي ائتلاف قادر على الحياة. يحتاج يمين الوسط إلى إيجاد 56 نائباً مستعدين لدعمه، في حين ستحتاج حركة خمس نجوم إلى العثور على 95 نائبا. هناك الكثير من التكهنات الآن حول نوع الحكومة التي ستسفر عنها المفاوضات. يمكن أن يكون هناك ائتلاف بين حركة خمس نجوم والحزب الديمقراطي، أو اتفاق بين حركة خمس نجوم والرابطة، أو حتى بين الحزب الديمقراطي واليمين.

لكن كل تلك الاختيارات تخلق مشاكل جديدة وليست أساسا لتشكيل حكومة مستقرة. وهناك خيار آخر تتم مناقشته وهو تشكيل حكومة ائتلافية قصيرة الأجل يكون غرضها الوحيد هو تغيير النظام الانتخابي، مرة أخرى، من أجل إدخال آلية تنتج أغلبية برلمانية.

يأتي ذلك في وقت تحتاج فيه البورجوازية الإيطالية إلى حكومة قوية قادرة على ضرب دولة الرفاه وحقوق العمال بشكل عام، من أجل سد الثقب الأسود الضخم في المالية العامة (أي ما يعادل 132% من الناتج المحلي الإجمالي)، والنظام المصرفي الفاشل والاقتصاد الراكد الذي لم يتمكن حتى من التعافي إلى مستويات ما قبل أزمة 2008.

في الماضي كانوا يعتقدون أنهم وجدوا في الحزب الديمقراطي القوة التي يحتاجون إليها لضمان مصالحهم، وأنه عندما يفشل سيمكنهم أن يعيدوا بيرلسكوني. لكن المشكلة تكمن في أن أكبر الخاسرين في هذه الانتخابات هما على وجه التحديد الحزب الديمقراطي وحزب بيرلسكوني Forza Italia. يشكل هذا الواقع جزء من ظاهرة عالمية أوسع تتمثل في انهيار ما يسمى بالوسط. والسبب هو أن هذه الأحزاب [الوسطية] هي التي كانت الأكثر ارتباطًا بسياسات التقشف خلال الفترة الماضية.

يمين الوسط وصعود الرابطة

يتكون الجزء الأكبر من يمين الوسط من حزب بيرلسكوني Forza Italia ورابطة سالفيني. كانت الرابطة تسمى برابطة الشمال ونظمت حملة من أجل انفصال الشمال عن بقية البلاد، وأشارت إلى أن الجنوبيين أناس كسالى وغير كفؤين. تسبب ذلك في اقتصار قاعدتها الانتخابية على الشمال وجعلها قوة صغيرة في السياسة الوطنية. وقد أعادت الآن تدوير نفسها لتظهر على أنها حزب محافظ يميني عنصري مناهض للهجرة، واستغلت خوف جزء من السكان من وصول المهاجرين “المستمر” من أفريقيا وآسيا. كانت إحدى شعاراتها الرئيسية “إيطاليا للإيطاليين”. وقد ارتفعت نسبة أصواتها من 4%، في عام 2013، تركزت في الشمال، إلى 17,6% اليوم مع انتشار وطني أكبر. وعلى الجانب الآخر، انتقل حزب بيرلسكوني ، “Forza Italia”، من 21,5%، عام 2013، إلى 14% اليوم.

دفع بيرلسكوني ثمن محاولته الظهور كشخصية “رجل دولة” أكثر مسؤولية في ائتلاف يمين الوسط. الآن هوتحت هيمنة الرابطة – صورة alessio85

لقد دفع بيرلسكوني ثمن محاولته الظهور كشخصية “رجل دولة” أكثر مسؤولية في ائتلاف يمين الوسط. وكعلامة واضحة على اليأس، تمت الإشادة به من قبل ممثلي البرجوازية الأكثر جدية، في إيطاليا وأوروبا، بكونه الرجل الذي يمكنه إنقاذ إيطاليا من الشعبوية، ويقصدون حتى الرابطة التي كان في تحالف معها.

إن ما تعجز البرجوازية عن فهمه هو أنه في ظل الظروف الحالية في إيطاليا سئمت شريحة كبيرة من السكان ممن يسمَّوْن “رجال الدولة”. وينظر الكثيرون إلى الاتحاد الأوروبي واليورو بكونهما مصدر المشاكل التي يعاني منها العمال، وبالتالي فإن أي سياسي يدافع عن الاتحاد الأوروبي واليورو لن يحقق نتائج جيدة. إن الأزمة شديدة والناس يريدون التغيير وليس نفس السياسات القديمة. والأحزاب التي تقدم سياسات “متطرفة” هي بالضبط التي تحقق أفضل النتائج في ظل هذه الظروف، أما ما يسمى بـ “المعتدلين” -وكان بيرلسكوني يعتبر معتدلا داخل تحالف يمين الوسط- فقد عانوا انتخابيا.

في هذا السياق كان سالفيني يقرع الطبول حول “إيطاليا للإيطاليين” ووعد بإعادة مئات الآلاف من المهاجرين إلى أوطانهم. في ظل ظروف تزايد البطالة، ينشر اليمين الفكرة التي تقول إنه في حالة إرسال المهاجرين إلى بلدانهم سوف تتحسن الأمور بالنسبة للإيطاليين. والمأساة هي أنه لا توجد أية قوة يسارية قادرة على أن تفسر أن سياسات “فرق تسد” اليمينية هذه لا تؤدي إلا إلى إضعاف الطبقة العاملة. في ظل غياب مثل هذه القوة، كان للدعاية العنصرية المعادية للأجانب تأثير على فئة مهمة من السكان.

وهكذا فإن الرابطة هي التي تهيمن الآن على يمين الوسط وليس بيرلسكوني. هذا يطرح مشكلة، لأنه خلال الحملة الانتخابية، كان بيرلسكوني قد أعلن بوضوح أن أي حزب في يمين الوسط يفوز بأكبر عدد من الأصوات سيحصل على منصب رئيس الوزراء، في حالة شكل اليمين الحكومة. هذا يعني أن سالفيني يمكنه أن يطالب بدور زعيم يمين الوسط. إن بيرلسكوني عوض حماية الطبقة البرجوازية من “الشعبوية”، مهد فعليا لصعود الرابطة. ومع ذلك فإن المشكلة تبقى هي أن سالفيني قد لا يحصل على منصب رئيس الوزراء الذي يطمح إليه، حيث أن يمين الوسط ككل لا يتمتع بالأغلبية اللازمة.

حركة خمس نجوم حققت أفضل من المتوقع

لقد حققت حركة الخمس نجوم نتائج أفضل بكثير مما توقعته استطلاعات الرأي، حيث فازت بأكثر من 32% من الأصوات، بعد أن كانت 25,5% في عام 2013. وقد برزت حركة الخمس نجوم الآن باعتبارها أكبر حزب منفرد في البرلمان. تقف لوحدها حيث رفضت تشكيل ائتلافات انتخابية مع أي قوة أخرى، واستفادت بوضوح من التصويت العقابي وأعطت تعبيراً عن الغضب المكبوت ضد المؤسسة.

نتيجة التصويت العقابي، حركة الخمس نجوم(بقيادة دي مايو) الآن هي أكبر حزب منفرد في البرلمان. – صورة: fair use

باعتبارها أكبر حزب، يحق لها أن تقوم بمهمة تشكيل الحكومة. على رئيس إيطاليا، ماتارلا، ترشيح من سيكون رئيساً للوزراء. إنه ينظر إلى تركيبة البرلمان ويبحث عن مرشح يمكنه أن يشكل أغلبية قادرة على الحياة. وهذا يعني أنه في مرحلة ما سيتعين عليه استدعاء زعيم حركة الخمس نجوم، دي مايو، ومطالبته بالتحقيق فيما إذا كان يمكنه حشد أغلبية في البرلمان.

فازت حركة الخمس نجوم بأغلبية ساحقة في الجنوب وبين الشباب. في الجنوب حصلت على ما بين 45% و55% من الأصوات في مختلف المناطق، وكانت النسبة بين الشباب 43%، وفقاً لدراسة لموقع SWG. هذا أمر معبر للغاية، حيث أن الشباب والجنوب هم أكثر من عانى من أزمة الرأسمالية في السنوات الأخيرة وتضرروا بشدة من البطالة. كما أنها حققت نتائج جيدة بين العمال الصناعيين والعمال غير الرسميين وبين فئات الطبقة المتوسطة التي دمرتها الأزمة الاقتصادية.

البطالة في بعض المناطق من إيطاليا عالية جدا. تصل نسبة البطالة في منطقة المناجم السابقة بسولشيس (Sulcis) في سردينيا، على سبيل المثال، إلى 30% وتبلغ نسبة البطالة بين الشباب 70%. لم يعد الناس في تلك المناطق يرغبون في سماع الخطابات القديمة للأحزاب الرسمية. إنهم يعانون الآن ويريدون أن يتم القيام بشيء جدي بشأن ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية الرهيبة.

اعتاد العديد من العمال التصويت لصالح الحزب الديمقراطي، لأنهم كانوا يرون فيه استمرارا لتقاليد الحزب الشيوعي القديم، لكن هذا تغير الآن. إنهم يشعرون أن الحزب الديمقراطي قد خانهم وتحولوا الآن إلى حركة الخمس نجوم. عندما سأل أحد مراسلي التلفزيون العمال في منطقة سولشيس في سردينيا لمن أعطوا صوتهم، أجاب معظمهم بأنهم صوتوا لحركة الخمس نجوم. وعندما سئل أحدهم عما إذا لم يكن ذلك قفزة في الظلام، وأنه قد يجعل الأمور أسوأ، أجاب: “كيف يمكن للأمور أن تصير أسوأ مما لدينا الآن؟”.

وهكذا فإن التصويت لصالح خمس نجوم هو بوضوح تصويت احتجاجي وطريقة لكنس جميع الأحزاب القديمة التي ينظر إليها على أنها مسؤولة عن الوضع الحالي. كان أكثر من عشرة ملايين إيطالي، وهم الذين صوتوا لصالح خمس نجوم، يصوتون ضد النظام ككل.

لكن ما الذي في مقدور حركة خمس نجوم أن تقدمه بشكل ملموس؟ لقد بنت قاعدة دعمها من خلال تقديم نفسها كحزب مناهض للتقشف، وباعتبارها حزبا يسائل دور الاتحاد الأوروبي وأثار حتى فكرة الاستفتاء على البقاء في منطقة اليورو، كما أنها قوت موقفها من خلال خطابها المناهض للفساد. إن الصورة التي سوقتها هي صورة حزب سيكنس النظام القديم.

ومع ذلك فكلما صارت أكبر وكلما أصبح تشكيل الحكومة بالنسبة لها احتمالا فعليا أكثر فأكثر، كلما صار قادتها أكثر “مسؤولية”. لقد اختفى حديثهم عن مغادرة منطقة اليورو، ولم يعد هناك أي حديث عن إجراء استفتاء على البقاء في منطقة اليورو. وقد ألقى زعيم الحزب، دي مايو، كلمة مساء الثلاثاء، كرر فيها عدة مرات كلمة “مسؤول” وذكر أنهم حزب مسؤول وسيفعلون ما هو صحيح بالنسبة لإيطاليا وأوروبا، وأضاف أنهم مستعدون للتحدث مع الأحزاب الأخرى، وهو أمر مختلف تماماً عن موقفهم السابق المتمثل في رفض العمل مع أي حزب.

قد يفسر ذلك أيضًا سبب خروج رئيس اتحاد المقاولات (Confindustria)، فينشينزو بوكيا، بتصريح قال فيه إن: “حركة خمس نجوم لا تخيفنا”، مضيفًا أنه يجب عليهم عدم التراجع عن القوانين التي طبقها الحزب الديمقراطي، مثل قانون العمل الذي ساعد في جعل ظروف العمل أكثر هشاشة. كما حذر “خمس نجوم” من القيام بتدابير من شأنها رفع الدين العام إلى أعلى مما هو عليه الآن. لكن بيان بوكيا يشبه شهادة الصلاحية التي أصدرها الرأسماليون لخمس نجوم، بأنه حزب يمكنهم أن يتعاملوا معه. وواقع أن الخمس نجوم لديهم موقف معادي تجاه النقابات العمالية يساعد في هذا السياق.

لقد تعزز موقف خمس نجوم، لكن من الواضح أنهم يسيرون نحو التراجع في الفترة المقبلة، حيث سيضطرون للتعامل مع مسألة كيفية إدارة الاقتصاد الرأسمالي.

انهيار أقصى اليمين

تقدمت مجموعتان يمكن وصفهما بالفاشية في هذه الانتخابات، وهي مجموعة “CasaPoundItalia” و “Italia agli Italiani”. بعد أن شهدت CasaPound نجاحا معينا في انتخابات محلية سابقة في ضواحي روما، اعتقدت أنها قد تحصل على بعض النواب في الانتخابات العامة، لكنهم في النهاية فشلوا في الوصول إلى عتبة 3%. لهذه النتيجة دلالة مهمة نظرا للتوجه الفاشي الواضح لهذه القوائم، لكنه كان أقل بكثير من توقعاتهم. حصلت CasaPound على نسبة 0,94%، في حين حصلت Italia agli على 0,38%.

حصل أقصى اليمين على نتيجة أسوأ من كل التوقعات: حصلت CasaPound على نسبة 0,94%، في حين حصلت Italia agli على 0,38%. – صورة: PD Utente

مباشرة بعد صدور النتائج، اشتكى زعيم CasaPound من أن وسائل الإعلام تجاهلتهم ولم تعطهم أي دعاية. ويوضح هذا الادعاء الأثر المحبط لنتائج الانتخابات على قيادة CasaPound، لكنه أبعد ما يكون عن الحقيقة، حيث حصلوا على الكثير من الدعاية الإعلامية خلال الحملة الانتخابية، فعلى سبيل المثال، عندما أطلق أحد العنصريين (ومرشح سابق في الرابطة الشمالية) النار على المهاجرين الأفارقة في شوارع ماسيراتا، كان هناك الكثير من الحديث عن اليمين المتطرف الفاشي. الحقيقة هي أن التيارات الفاشية لا تمتلك دعما كبيرا. هناك أيضا حقيقة أن أي شخص يريد التصويت لأحزاب عنصرية صريحة يمكنه أن يصوت إما للرابطة أو لشركائها في التحالف، Fratelli d’Italia (“إخوان إيطاليا”)، أو حتى إلى حد ما، للخمس نجوم، التي اعتمدت هي أيضا موقفا مناهضا للمهاجرين.

إلا أنه كانت هناك زيادة صغيرة، لكنها معبرة، في التصويت لليمين المتطرف. في عام 2013، بلغ مجموع أصوات مجموعتين من اليمين المتطرف 92.000 صوتًا (0,27% )، لكن في هذه المرة حققت المجموعتان الفاشيتان 429.000 صوتًا (1,32% ). وكانت CasaPound هي المجموعة التي استفادت أكثر من غيرها من تلك الأصوات بتحقيقها 305.000 صوتا.

تعطي هذه الأرقام الصورة الحقيقية لما يسمى بـ “التهديد الفاشستي” في إيطاليا. هذه المجموعات هامشية ويمكن بسهولة مقاومتها وعزلها، شريطة أن يتم تنظيم حركة جماهيرية أكبر بكثير ضد الهجمات العنصرية وضد الفاشيين. إنهم يشكلون تهديدًا باعتبارهم جماعات عنيفة معتادة على مهاجمة النشطاء اليساريين والمهاجرين. كما أنهم يلعبون دوراً في إثارة مزاج عام من العنصرية وكره الأجانب بين فئة من السكان.

اختفاء يسار الوسط

الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات هو تحالف يسار الوسط المتحلق حول الحزب الديمقراطي. حقق يسار الوسط أقل من 23%، مقابل 29,5% عام 2013، وبعد أن كان قد حقق أكثر من 40% في الانتخابات الأوروبية عام 2014. كان ذلك عندما كان الحزب يرتفع عاليا وكان رينزي يرى بأن الريح تجري بما تشتهيه سفنه ولا أحد يستطيع أن يقف في وجهه. استمر الحزب الديمقراطي في تنفيذ سلسلة من القوانين المعادية للعمال وإجراءات تقشف قاسية. في هذه الانتخابات دفع ثمن تلك السياسات، فلم يحقق سوى 18,8%، ليس أكثر بكثير من الرقم الذي حققته الرابطة، وخسر ما يقرب من ثلاثة ملايين صوت، منذ 2013.

تؤكد هذه النتيجة التراجع التدريجي الذي يحدث منذ عام 2014. كان الحزب الديمقراطي قد تلقى في تلك الفترة ضربة خلال استفتاء عام 2016، عندما رفض أكثر من 60% من الناخبين محاولة رينزي تغيير الدستور، في محاولة منه لتغيير النظام الانتخابي، وذلك على وجه التحديد لمنع صعود “حركة خمس نجوم” كأقوى حزب في البرلمان. فهم الناس هذه المناورة، فاستخدم الجنوب، وعلى وجه الخصوص العمال والشباب، الاستفتاء لتوجيه صفعة كبيرة إلى وجه رينزي.

استقال رينزي من منصب رئيس الوزراء، لكن حكومته استمرت تحت حكم جنتيلوني، بنفس الوزراء. يُنظر إلى رينزي على أنه ما يزال يقود الحكومة وصار شخصية مكروهة، سواء من اليسار أو من اليمين.

على الرغم من كل هذا، تحرك رينزي لتعزيز قبضته على الحزب الديمقراطي، وعمل على إقصاء فصيل الأقلية من أعضاء البرلمان الذين ينحدرون من الحزب الشيوعي القديم، مما أثار سلسلة من الانشقاقات داخل الفريق البرلماني، والتي أدت إلى تشكيل قائمة تسمى Liberi e Uguali [أحرار ومتساوون]. يضم ذلك بعض قادة الحزب الشيوعي السابق، مثل داليما الذي كان رئيساً للوزراء في 1998-2000. كان الهدف من وراء هذه القائمة هو إنقاذ المستقبل السياسي للأقلية التي أقصاها رينزي، لكن دون أن يقطعوا صراحة سواء مع السياسات التي دافعوا عنها في الماضي، أو مع إمكانية التعاون مع الحزب الديمقراطي. كانت استطلاعات الرأي تشير إلى أنهم قد يحصلون على حوالي 6%، لكنهم في النهاية حققوا نتيجة سيئة للغاية، حيث فازوا بـ 3,4% فقط، بالكاد فوق عتبة الـ3%، وقد حقق داليما نتيجة سيئة جداً في مسقط رأسه. وكان زعيم الحزب، غراسو، قد خرج خلال الحملة الانتخابية بتصريح أشار فيه إلى ضرورة تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الديمقراطي وحزب بيرلسكوني Forza Italia، على أن يلعب حزبه دور الحكم! من المرجح أن تتفكك هذه المجموعة قريبا، لأن كل عضو من نوابها يتطلع إلى إنقاذ مستقبله المهني، وربما سيعود البعض منهم إلى الحزب الديمقراطي.

يواجه الحزب الديمقراطي الآن أزمة خطيرة. لقد طرح رينزي استقالته كزعيم للحزب، لكنه لم يستقل بعد! ليس لغروره حدود. يقول إنه سيبقى زعيما حتى يتم تشكيل الحكومة. والسبب في ذلك هو أنه يعتقد أن الحزب يجب ألا يدخل في أي نقاش حول تشكيل أي تحالف حكومي، بل يجب أن يبقى في المعارضة. المنطق وراء هذا واضح، وهو أنه من أجل الحفاظ على الحزب الديمقراطي كأداة مفيدة للبرجوازية، عليه القيام بذلك من خلال البقاء في المعارضة وترك الآخرين يواصلون إجراءات التقشف.

كل هذا جيد من الناحية النظرية، لكنه لا يحل المشكلة الفورية التي يواجهها الرأسماليون في سعيهم لتشكيل حكومة على المدى القصير. هناك قسم مهم داخل الحزب يريد الانفتاح على خمس نجوم والشروع في مفاوضات حول تعاون محتمل بين الطرفين. وقد تحدى رينزي خصومه في الحزب للخروج إلى العلن وتوضيح ما يدافعون عنه. يوم الاثنين هناك اجتماع للهيئة القيادية للحزب حيث قد تحدث مواجهة قوية. إن ما نشهده هو الانقسام المحتمل للحزب الديمقراطي، حيث سيتم استخدام شظاياه لدعم هذه الحكومة أو تلك. وفي غضون ذلك، سيستمر الحزب في الانحدار وقد يختفي من مسرح السياسة الإيطالية.

يمثل ضعف الحزب الديمقراطي وتراجع رينزي مشاكل كبيرة للبرجوازية الإيطالية. لقد بنوا الحزب بجهد كبير على مدى فترة طويلة ليكون لسان حال الطبقة الرأسمالية. لكن المشكلة اليوم هي أن كل من يحكم ويحاول تسيير النظام يجب عليه أن يلتزم بقواعد النظام. أيا كان من يوجد في السلطة فإن السياسة المطبقة ستكون هي التقشف وخفض الإنفاق والهجوم العام على الطبقة العاملة.

ماذا بقي من اليسار؟

حزب إعادة التأسيس الشيوعي (Rifondazione Comunista) صار صورة شاحبة لما كان عليه في الماضي – صورة: Wikinade

right

كما سبق لنا أن أوضحنا في مقالة سابقة، فقد طرح ما تبقى من حزب إعادة التأسيس الشيوعي (Rifondazione Comunista) قائمة تدعى Potere al Popolo [السلطة للشعب] في هذه الانتخابات. وعلى الرغم من استطلاعات الرأي التي كانت تشير إلى أنهم سيحصلون على حوالي 1%، فقد قدموا أنفسهم باعتبارهم القوة اليسارية الجديدة. لقد منوا أنفسهم، في نوبة جنون، بأنه يمكنهم أن يتجاوزوا عتبة الـ3%، بل وكان بعضهم يحلم بأشياء أكبر. وهذا ما دفع بالبعض إلى التفكير بما إذا صار لدينا أخيرا حركة إيطالية تشبه Podemos الإسبانية، أو France Insoumise.

أدرك الماركسيون الإيطاليون أن مثل هذه القائمة لديها فرصة ضئيلة جدا لأن تظهر كبديل موثوق به. إن المكون الرئيسي داخلها هو Rifondazione Comunista، لكن هذا الحزب قد صار الآن صورة شاحبة لما كان عليه في الماضي من حيث العضوية والتأثير. لقد دعم هذا الحزب يسار الوسط في الماضي، بل وشارك حتى في إحدى حكوماته، بحجة أنه كان عليه أن يفعل ذلك لوقف تقدم اليمين. وكانت النتيجة أنه في عام 2008، خسر الحزب جميع مقاعده في البرلمان، وبدأ في التراجع منذ ذلك الحين. لم يعد سوى عصبة إصلاحية صغيرة. ما رفضوا أن يفهموه هو أنه لا يمكنك إعادة بناء اليسار في إيطاليا مع أشخاص ملوثين بسياسات يسار الوسط، وبنفس السياسات القديمة. إن المطلوب هو تبني سياسة طبقية واضحة ترفض أي تعاون مع ما يسمى بالوسط، رفض أي تعاون مع الأحزاب التي تدافع عن مصالح الطبقة الرأسمالية.

لكنهم غير قادرين على القطع مع السياسات القديمة. لقد استمروا في دعم تسيبراس[رئيس الحكومة اليونانية وزعيم حزب سيريزا، والذي يسهر الآن على تطبيق خطة التقشف -المترجم-] باعتباره النموذج بالنسبة لليسار في إيطاليا، وهو ما يوضح كل شيء عن طبيعتهم، كما يفسر سوء النتائج التي حققوها في هذه الانتخابات. إذا ما قارنا بين ما حققته قائمة “السلطة للشعب” بما سبق لقائمة “الثورة المدنية” التي كانت تابعة بدوره للحزب، سنة 2013، نرى أنهم فقدوا أكثر من نصف أصواتهم. في عام 2013، حققت قائمة “الثورة المدنية” نسبة 2,25% و765.000 صوت، في حين حققت قائمة “السلطة للشعب” في هذه الانتخابات نسبة 1,1% و361.000 صوت فقط. هذا هو الثمن الذي يدفعونه مقابل سنوات من الإصلاحية والتعاون الطبقي.

مأساة الوضع الإيطالي هي أن الحزب الديمقراطي، المدعوم في الماضي من طرف حزب إعادة التأسيس الشيوعي (Rifondazione) قد أعطى لكلمة “sinistra” [يسار] سمعة سيئة في نظر جماهير الشعب العامل. لقد صار “Sinistra” يرتبط برنزي وسياساته التقشفية. وهذا ما يفسر لماذا يمكن لحزب مثل الرابطة أن يصور نفسه كحزب للطبقة العاملة، قائلاً إن “اليسار” لا يفعل شيئاً للعمال!

اليسار الثوري

في الواقع لقد تعرضت القوى اليسارية التقليدية القديمة في إيطاليا للخراب بفعل توالي الأحداث. أدت عقود من التعاون الطبقي إلى حل الحزب الشيوعي القديم، وما نتج عن تفكك الحزب تم احتواؤه في ما هو الآن الحزب الديمقراطي، في حين فشل قادة حزب إعادة التأسيس الشيوعي في بناء حزب شيوعي حقيقي مكانه. لقد تحولت الطبقة العاملة الإيطالية من طبقة كانت تمتلك حزبا قويا يضم مليوني عضو، إلى طبقة دون أي حزب على الإطلاق. وقد كانت قائمة “السلطة للشعب” محاولة فاشلة لإحياء تشكيل إصلاحي في إيطاليا.

لقد أوضحنا في مقال سابق لماذا قرر الماركسيون في إيطاليا أنه كان من الضروري عليهم، في ظل هذه الظروف، طرح مبادرة ثورية مستقلة. لم يكن لديهم أي أوهام بأنهم سيحصلون على عدد كبير من الأصوات. إنهم ما يزالون قوة صغيرة جدا بحيث لا يمكن اعتبارها عاملا مهما في الأحداث، لا سيما في الساحة الانتخابية. ومع ذلك فإن عدم تقدمهم كان سيؤدي بهم إلى أن يلعبوا دورا سلبيا، والاكتفاء بمهمة “المراقبين” بالتعليق على الأوضاع. لقد أعطتهم قائمتهم الخاصة بهم أداة للعب دور نشط في الانتخابات ونشر أفكارهم على أوسع نطاق ممكن.

كانت الحملة ناجحة فيما يتعلق بالدعاية لأفكارهم. لقد تمكنوا من التحدث في برامج الحملات الانتخابية التلفزيونية، من مقابلة الرفيق كلاوديو بيلوتي على قناة RAI 2، والتي أشرنا إليها قبل الانتخابات، إلى عدد من المقابلات التلفزيونية والإذاعية المحلية والجرائد. لقد ذهب الرفاق إلى المدارس والجامعات والمصانع وأوصلوا رسالتهم إلى العمال والشباب. وحيث ما تمكنوا من التحدث كان لهم تأثير حسن على الناس. لم يُنظر إليهم على أنهم يسراويون متطرفون مجانين وإنما كأناس جديين يعرفون الحقائق والأرقام ولديهم تحليل للوضع الإيطالي والعالمي وبرنامج يجيب عن مشاكل الطبقة العاملة.

هذا، بالطبع، ليس كافياً للفوز بالانتخابات. معظم العمال والشباب الذين أرادوا التصويت لصالح قوة لديها الحجم الكافي لتشكل بديلا صوتوا لصالح الخمس نجوم. هذه سيرورة موضوعية لا يمكن لأحد أن يقفز عليها. لقد صوت العديد من العمال للخمس نجوم مدفوعين بوهم أن تلك هي الطريقة لتغيير الأشياء. سيشعرون بخيبة أمل شديدة وعندما سيخون حزب الخمس نجوم بدوره ناخبيه، فإن الوضع سيصبح متفجرا، لكن هذه أنغام من المستقبل.

كانت النتيجة من حيث الأصوات متواضعة جدا. في المناطق التي يمتلك فيها الماركسيون قاعدة دعم، مع مواقع نقابية مهمة، وقياديين نقابيين، وما إلى ذلك، مثل ميلان ونابولي ومودينا وبعض المناطق القليلة الأخرى، حصلوا على تصويت لائق. فازت قائمة Sinistra Rivoluzionaria [اليسار الثوري] بما مجموعه 32.500 صوت. صحيح أنهم كانوا قادرين على الترشح فقط في 60% من الدوائر الانتخابية، لكن مع ذلك فإن عدد الأصوات متواضع للغاية. لكن الهدف الرئيسي من وراء الحملة لم يكن هو كسب الكثير من الأصوات في صناديق الاقتراع، بل بناء روابط مع تلك الفئة من العمال والشباب الذين يبحثون عن بديل ثوري واستخدام الحملة الانتخابية كأداة لبناء القوى الماركسية. وفي هذا الصدد حققت الحملة نجاحا مهما.

كان هناك منافس آخر على اليسار، وهو Partito Comunista [الحزب الشيوعي] بقيادة ماركو ريزو، الذي كان رمزه العلم الأحمر والمطرقة والمنجل. هذه منظمة ستالينية لها علاقات مع الحزب الشيوعي اليوناني (KKE). كان ماركو ريزو شخصية قيادية في Rifondazione قبل انشقاقه في عام 1998، وكان عضوا في البرلمان بين عامي 1994 و2004 وعضوا في البرلمان الأوربي من عام 2004 إلى عام 2009. حقق الحزب 103.000 صوت (0,32% )، وبالتالي فهو ما يزال حزبا صغيرا جدا وهامشيا في الساحة السياسية الإيطالية.

هناك فئة من النشطاء اليساريين القدامى في إيطاليا الذين يعيشون الآن بمزاج مكتئب للغاية. يرون الردة الرجعية واليأس في كل مكان. لقد فشلوا في فهم سبب سقوط اليسار الإيطالي في مثل هذه الأعماق. وكثير منهم ما يزالون متمسكين بنفس الأفكار والسياسات والأساليب التي أدت إلى التفكك الحالي للأحزاب اليسارية.

أما المزاج السائد بين أعضاء التيار الماركسي الأممي في إيطاليا فهو الثقة. قد يبدو هذا غريبا بالنسبة للمناضلين اليساريين العاديين، وذلك لأنهم لا يمتلكون فهما علميا للمرحلة التي دخلناها. إنهم لا يرون سوى الجانب الرجعي لنتائج الانتخابات. لقد فشلوا في رؤية أن قسما كبيرا من الشعب الإيطالي قد صوت ضد النظام القديم. وبسبب الفشل التاريخي لليسار، فإن حركة النجوم الخمس هي التي استغلت ذلك المزاج، كما استغلته جزئيا أيضا الرابطة. إن ما فشلوا في فهمه هو أنه بمجرد ما سيتم اختبار الخمس نجوم، فإن الملايين من الذين وضعوا آمالا كبيرة على تلك الحركة، سيصبحون قاعدة ممكنة للحزب المستقبلي للطبقة العاملة.

لدى الماركسيين الثقة في الطبقة العاملة. سوف تتعلم من الأحداث وعندما ستتعلم ستبحث عن شيء أفضل من الرابطة أو الخمس نجوم. إن مهمة اليسار هي إعداد بديل قادر على أن يصبح نقطة مرجعية للطبقة العاملة. من خلال التدخل في الانتخابات اجتذب الماركسيون الإيطاليون انتباه فئة أوسع من الناس الذين يبحثون عن سياسة ثورية بديلة. ولقد بدأوا بالفعل في إشراك هذه الفئة في أنشطتهم ويعملون على تقوية التيار الماركسي. لقد كان هذا هو الهدف الرئيسي لتدخلهم في الانتخابات بقائمتهم الخاصة.

عنوان النص بالإنجليزية:

Italian elections: establishment shaken to its foundations

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *