يصادف هذا الشهر [ديسمبر] الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفياتي، عندما دخلت أقوى دولة عمالية مشوهة في حالة من الفوضى حيث شرع الشيوعيون المفترضون في نهب الدولة وأصولها، وسط ترحيب من الإمبريالين الغربيين. أطلت الرأسمالية برأسها القبيح، واضطر عمال الاتحاد السوفياتي إلى دفع الثمن.
طبيعة الاتحاد السوفياتي
شكلت الثورة الروسية عام 1917، أعظم حدث في تاريخ البشرية. فلأول مرة في التاريخ، لم يكتف المضطهدون بالتمرد فقط، بل انتفضوا واستولوا على السلطة وتمسكوا بها. وقد عجزت حتى القوى المشتركة لجميع الدول الإمبريالية في العالم عن إسقاط الدولة العمالية الجديدة.
كان في مقدور الثورة الروسية أن تكون بداية الثورة العالمية، لكن ذلك لم يحدث، لأسباب لا يمكننا الدخول فيها هنا.
تحقق الانتصار في الحرب الأهلية بكلفة باهظة. لم تكن روسيا أبدا بلدا غنيا، لكن بعد الحرب العالمية والحرب الأهلية، صارت الصناعة والزراعة في حالة يرثى لها.
عزلة الثورة في ظل تلك الحالة من التخلف الاقتصادي وضعت الأساس لصعود البيروقراطية. وبحلول نهاية العشرينيات، من القرن الماضي، كانت الدولة العمالية قد انحطت إلى ما أسماه تروتسكي: دولة عمالية مشوهة. قامت البيروقراطية الجديدة، المكونة إلى حد كبير من أعداء ثورة 1917، بمصادرة السلطة السياسية من الطبقة العاملة والفلاحين، سواء داخل الحزب أو جهاز الدولة.
يتطور اتجاهان متعاكسان في عمق النظام السوفياتي… إلى درجة أنه، ولصالح الشريحة العليا، تعمل [البيروقراطية] على دفع قواعد التوزيع البرجوازية إلى أقصى الحدود، وتستعد لإعادة الرأسمالية. وهذا التناقض بين أشكال الملكية وبين قواعد التوزيع لا يمكنه أن ينمو إلى ما لا نهاية. فإما أن تمتد القاعدة البرجوازية، بشكل أو بآخر، إلى وسائل الإنتاج، أو أنه سيتم جعل قواعد التوزيع متوافقة مع نظام الملكية الاشتراكية.[1]
كانت تلك الشريحة البيروقراطية الجديدة تعيش على حساب العمال بطريقة تشبه إلى حد بعيد طريقة عيش الرأسماليين في الغرب. كانت لديهم فيلات وسيارات فاخرة ومعاطف منك ومجوهرات وساعات باهظة الثمن. لكنهم بالطبع لم يحصلوا على ثروتهم من خلال الملكية الخاصة، بل من خلال نهبهم لخزائن الدولة.
وكان هذا أيضا هو السبب في اضطرارهم إلى خنق جميع أنواع المناقشات الديمقراطية. لأنهم كانوا يعلمون أنه بمجرد رفع الغطاء ستصبح امتيازات البيروقراطية هدفا للنقد. لقد لعب الرأسماليون، على الأقل تاريخيا، دورا تقدميا في الادخار والاستثمار، وحصلوا على أرباحهم في المقابل. لكن البيروقراطية لم تلعب مثل هذا الدور. لقد كانت طفيلية تماما.
لم تكن للبيروقراطيين الصغار المتغلغلين في جميع مستويات الإدارة أية مصلحة في تطوير الاقتصاد. لقد كانوا مهتمين فقط بالحفاظ على مناصبهم. لذلك إذا طلب منهم رؤسائهم طنا واحدا من المسامير، فإنهم سيقدمون طنا واحدا من المسامير، أما مسألة ما إذا كانت تلك المسامير ذات فائدة للنجار فقد كانت اعتبارا ثانويا تماما. وكلما زادت المطالب التي توجهها البيروقراطية مركزيا، كلما ازداد الغش سوءا.
الاقتصاد الحديث بنية معقدة تتطلب توزيعا متوازنا للموارد بين الفروع المختلفة. لقد كافحت البيروقراطية دائما للحفاظ على ذلك التوازن، لكن كلما انحسرت الثورة من الذاكرة وزاد تعقيد الاقتصاد، كلما ازداد الوضع تفاقما.
وبدلا من أن تقود البيروقراطية الجديدة العالم نحو الاشتراكية، عملت على المزيد من إعاقة التطور، بل ولعبت دور كابح للتطورات الثورية في أماكن أخرى. كانت البيروقراطية الرجعية تتغذى من الإحباط الناتج عن كل ثورة مهزومة، مما عزز قبضتها على السلطة. وتماما مثلما تخشى البيروقراطية النقابية في الغرب العمال أكثر مما تخشى أرباب العمل، فإن بيروقراطية الاتحاد السوفياتي كانت تخشى العامل الروسي أكثر من خشيتها من الإمبرياليين الغربيين.
انتقلت البيروقراطية من كونها قيدا نسبيا على تطور الاقتصاد إلى قيد مطلق. أي أنه في ظل الرقابة العمالية، كان من الممكن للاقتصاد أن يتطور بشكل أسرع وأكثر استدامة. إلا أنه وحتى في ظل البيروقراطية، من الثلاثينيات إلى الستينيات، كان هناك بعض التطور، بل كان تطورا سريعا في بعض الأحيان. لكن بحلول نهاية السبعينيات، دخل الاقتصاد مرحلة ركود وصار الانهيار وشيكا.
محاولات غورباتشوف للإصلاح
صار ميخائيل غورباتشوف زعيما للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي في عام 1985. كان يمثل تلك الفئة من البيروقراطية التي كانت تحاول إدخال إصلاحات للخروج من المأزق الاقتصادي. لقد تحدث غورباتشوف عن الرقابة العمالية والديمقراطية، لكنه لم يكن من الممكن تطبيق أي منهما طالما استمرت البيروقراطية تسيطر على المجتمع.
بالنسبة للبيروقراطية، في الواقع، لم يكن الاختيار بين الرقابة العمالية وبين العودة إلى الرأسمالية أمرا صعبا. لقد فضلوا الرأسمالية. إلا أنه في البداية لم يكن هذا اختيارا واعيا. كانوا ما يزالون يحاولون الإصلاح للحفاظ على النظام القائم. كان غورباتشوف يحاول الاستناد على الطبقة العاملة لكبح أسوأ تجاوزات الفئة البيروقراطية، ليس لإسقاطها، بل للحفاظ على النظام ككل. وكما أوضح تيد غرانت فإنه:
كان هذا هو الخلل الأساسي في موقف غورباتشوف. كانت محاولة تشجيع مبادرة أكبر وبالتالي إنتاجية أكبر من جانب العمال، مع الدفاع في نفس الوقت عن امتيازات ومصالح البيروقراطية، مهمة مستحيلة.[2]
أكد غورباتشوف أنه يجب الحفاظ على الامتيازات “المشروعة”:
نحن نستعيد مبدأ الاشتراكية بالكامل: من كل فرد حسب مقدرته، ولكل حسب عمله.
إذا تساءلتم من أين يأتي هذا “المبدأ”، فإنه ابتذال للمبدأ القائل “من كل حسب قدرته، ولكل حسب احتياجاته”. وهذا ليس من قبيل الصدفة. لقد كان ذلك هو التبرير الأيديولوجي لسيادة البيروقراطية.
تمت إقالة حوالي 200.000 من أكثر المسؤولين فسادا، لكن ذلك لم يكن سوى خدش على سطح البيروقراطية القوية البالغ عددها 19 مليونا. وبالنسبة للعمال ازداد الضغط. كان برنامج الإصلاح يعني تردي مستويات المعيشة وظروف العمل. أصبح إدمان الكحول مشكلة خطيرة، مما أدى إلى ارتفاع معدل تغيب العمال بسبب الشرب. وقد أدت محاولات تقييد بيع الكحول إلى خلق سوق سوداء ضخمة للكحول المقطر بشكل غير قانوني، فصار من الضروري التخلي عن تلك المحاولات. وفي الوقت نفسه استمرت البيروقراطية في إثراء نفسها أكثر فأكثر.
تم تخفيف احتكار الدولة للتجارة الخارجية في النصف الثاني من الثمانينيات. وقد وفر هذا فرصا هائلة لمزيد من نهب أصول الدولة. صار في إمكان الشركات الاحتفاظ بجزء من عائدات التجارة الخارجية. وهو ما كان يعني، من الناحية العملية، أنه صار في إمكان المديرين في الصناعات التصديرية أو الوسطاء أن يستولوا على جزء كبير من العائدات، والتي تودع بعد ذلك في حسابات بنكية في الغرب. وقد ساعد التحرير المتزامن للبنوك على نشاط هذه العملية.
كان خودوركوفسكي مستشار يلتسين يمتلك علاقات من الغرب. تعكس حياته المهنية مسار العديد من أفراد الطبقة الأوليغارشية الجديدة. كان في عام 1986 يعمل بدوام كامل في الكومسومول (شبيبة الحزب الشيوعي)، ثم أسس عام 1987 “مركز الإبداع العلمي والتقني للشباب”، المرتبط بالكومسومول، والذي كان يتاجر مع الغرب. وقد مكنه ذلك في ما يزيد قليلا عن عام من أن يأسس بنكا، ميناتيب (Menatep)، بمساعدة من أصحاب أبناك غربيين. سرعان ما أصبح هذا البنك أحد أكبر البنوك الروسية الخاصة والتي من خلالها سيطر خودوركوفسكي على شركة يوكوس للنفط والغاز. وبحلول نهاية التسعينيات، صار خودوركوفسكي يملك حصة السيطرة في 30 شركة، وبحلول عام 2004 صار الرجل السادس عشر في قائمة أغنى أغنياء العالم، بثروة قدرها 16 مليار دولار.
تمكن الاقتصاد من تحقيق طفرة نمو مؤقتة، لكن سرعان ما سارت الأمور نحو الأسوأ. ترك الطعام ليتعفن في الحقول، وتفاقمت أعمال السرقة والاختلاس. أصبحت السوق السوداء المصدر الرئيسي للسلع للمصانع والمتاجر والمستهلكين. كانت الرفوف فارغة، وبحلول عام 1990 صار 70 مليون شخص يعيشون على خط الكفاف. اجتاحت الاتحاد السوفياتي موجة من الإضرابات، وبلغت ذروتها بإضراب لعمال المناجم شارك فيه 300 ألف عامل. وقد وردت تقارير عن سيطرة العمال على بلدات التعدين خلال هذه الإضرابات:
صارت لجان الإضراب السلطة الفعلية في المدن. وقد انشغلت بمسائل التجارة والنقل وحفظ النظام. وطوال اليوم يأتي إلى اللجان أناس لم يتمكنوا لفترة طويلة من الحصول على المساعدة أو الدعم من أي منظمة أخرى. فيقوم أعضاؤها بالتحقيق في كل المشاكل ويستشيرون المتخصصين ويوفرون، حيثما أمكنهم ذلك، العلاج الطبي والإصلاحات والوظائف…[3]
لقد حملت هذه الممارسات التي قام بها العمال بذور الثورة السياسية. لكن الطبقة العاملة لم تكن تتوفر على منظمة يمكنها توحيد نضالاتها والسماح لها بفرض مطالبها الطبقية. فتم تحريف نضالهم وأصبح ذريعة لمزيد من الخصخصة.
في عام 1990، نشرت صحيفة “سوفييت ويكلي” استطلاعا للرأي زعم أن ما بين 15 و20٪ فقط من الشباب يؤمنون بالاشتراكية. كانت البيروقراطية قد شوهت اسم الاشتراكية ولوثتها. انتشرت أعمال الشغب وبدأت الجماهير تتخلص من خوفها من جهاز الدولة القمعي، حتى أنها بدأت تهاجم قوات الشرطة وتطاردها.
انعكست الشكوك وخيبات الأمل، السائدة على نطاق واسع بين الناس، في النكات السياسية مثل تلك التي تقول: “هل وصلنا إلى شيوعية حقيقية، أم ما يزال هناك ما هو أسوأ؟”. ومع ذلك فإنه في عام 1990 كان أكثر من 40% من السكان يفضلون العودة إلى إدارة اقتصادية أكثر مركزية و25% فقط من أرادوا نظام السوق. وبالتالي فإن الانتقال إلى الرأسمالية لم يكن ذا شعبية.
لكن البيروقراطية كانت قد بدأت في التحرك بجدية نحو الرأسمالية. كانوا قد فقدوا كل ثقة في “الاشتراكية”، أي في أنفسهم، وكانوا ينظرون إلى الغرب بنظرة ملؤها الرهبة والإعجاب. سبق لتروتسكي أن أشار إلى أن أعضاء البيروقراطية سيحاولون تأمين مراكزهم ومكانة أبنائهم من خلال تحويل أنفسهم إلى رأسماليين. وهذا ما حدث آنذاك. حاول البيروقراطيون على جميع المستويات نهب أكبر قدر ممكن من الغنائم. تفشى الفساد. وبدأ برنامج التقشف، بما في ذلك الخصخصة (الذي مس في البداية المقاولات الصغيرة)، وتحرير الأسعار والأجور.
يلتسين يدخل المشهد
بحلول عام 1990، بدأت لجنة التخطيط العمومية (Gosplan) تحذر من خطر انهيار كامل للاقتصاد. فبرز يلتسين –الذي كان عضوا سابقا في المكتب السياسي [للحزب الشيوعي] أقيل بسبب إدانته للبيروقراطية والفساد- باعتباره زعيما للجناح المؤيد للرأسمالية. كان هو وفصيله يضغطون من أجل “إصلاحات” أسرع لحل الوضع.
كان تفكك الاتحاد السوفياتي قد بدأ بشكل جدي، واستخدم يلتسين منصبه، باعتباره رئيس مجلس السوفيات الأعلى الروسي، لزيادة سلطاته (في مواجهة حكومة الاتحاد السوفياتي)، وخلق موقع قوة منافس لغورباتشوف. .
لم يكن غورباتشوف ووزراؤه قد قرروا بعد الانتقال إلى الرأسمالية. كانوا يحاولون تحقيق التوازن بين الجناح الموالي للرأسمالية وبين الحرس القديم داخل البيروقراطية. وفي عام 1990 تراجع غورباتشوف عن عدد من الإصلاحات المؤيدة للسوق. ألقى خطابا هاجم فيه البيروقراطية، لكنه أكد أنهم ليسوا بصدد الانتقال نحو اقتصاد السوق. بعد ذلك استقال يلتسين من الحزب الشيوعي. واصل غورباتشوف محاولة التوازن بين الفصيلين، لكن الوضع كان قد بدأ يخرج عن سيطرته. كان هناك آنذاك حزبان قانونيان معلنان في الاتحاد السوفياتي: الحزب الشيوعي، حزب البيروقراطية القديم، من جهة، وتحالف الأحزاب المؤيدة للإصلاح، بزعامة يلتسين، من جهة أخرى.
فشلت إصلاحات السوق في وقف انهيار الاقتصاد. انخفض الناتج الاقتصادي في الأشهر الستة الأولى من عام 1991 بنسبة 10% مقارنة بالعام السابق. وكانت هناك إضرابات أخرى في مناجم الفحم.
فاز يلتسين برئاسة فدرالية روسيا في يونيو 1991. كان ذلك منعطفا حاسما. وفي الوقت نفسه كانت الجمهوريات السوفياتية الأصغر قد بدأت تطالب بالاستقلال. اضطر غورباتشوف إلى صياغة معاهدة اتحاد جديدة، مما أثار حفيظة المتشددين. عندها بدأ غورباتشوف يناور مع يلتسين ضد الفصيل المتشدد لتمرير المعاهدة، والتي ستمنح مزيدا من الحكم الذاتي للجمهوريات المكونة له، بما في ذلك بالطبع فدرالية روسيا. كان ذلك يعني بالفعل نهاية الاتحاد السوفياتي.
شن المتشددون محاولة انقلابية لوقف المصادقة على المعاهدة. وعلى الرغم من مشاركة كبار المسؤولين، وكذلك جهاز المخابرات (KGB)، في ذلك الانقلاب فقد كان ضعيفا من حيث التنظيم. يبدو أن قادة الانقلاب كانوا يراهنون على انضمام غورباتشوف إلى الانقلاب أو الاستقالة لصالح نائبه، لكنه رفض ذلك. أصدر قادة الانقلاب مذكرة توقيف ضد يلتسين، لكنهم في الواقع لم يكونوا قادرين على تنفيذها. وتمكن من الهرب من قبضتهم.
استغل يلتسين الموقف لصالحه. تحصن في مبنى البرلمان (البيت الأبيض) ووجه نداء إلى الناس للانضمام إليه، وهو ما فعله حوالي 10.000 شخص. حاول قادة الانقلاب الهجوم على البيت الأبيض، لكنهم اضطروا إلى الانسحاب بعد مناوشات تسببت في مقتل بعض المتظاهرين. ثم انهار كل شيء وتم القبض على مدبري الانقلاب.
صار غورباتشوف ضعيفا. كان المتشددون قد تعرضوا للهزيمة ولم يعد بإمكانه الاستناد عليهم ضد يلتسين. ولم يعد بإمكانه مقاومة الهجوم. وبحلول نهاية العام تم نسيان معاهدة الاتحاد، وانهار الاتحاد السوفياتي، وانهارت معه رئاسة غورباتشوف.
لم يعان يلتسين وفصيله من ذلك الافتقار إلى التصميم الذي ميز مدبري الانقلاب. إذ شن الهجوم على الحزب الشيوعي يوم 29 غشت، أي بعد أسبوع على فشل الانقلاب. ثم بدأ في تفكيك الحزب، وتأميم جميع أصوله. وأخيرا تم حظر الحزب في 06 نوفمبر.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبح يلتسين رئيسا مطلقا بلا منازع لروسيا وشرع بسرعة في “تحرير” الاقتصاد. منحه مجلس النواب سلطات الطوارئ لإجراء إصلاحات اقتصادية، بما في ذلك رفع القيود.
كان العامل المحدد في هذه السيرورة هو عدم وجود حركة مستقلة للطبقة العاملة. لم يكن العمال قادرين على لعب دور مستقل، ونتيجة لذلك فقد كانت المعركة بأكملها تدور بين جناحي البيروقراطية: أحدهما قاتل بثقة وبدعم من جانب الإمبريالية الغربية، والآخر كان محبطا تماما وبدون خطة حقيقية. كان المتشددون يدافعون عن الوضع الراهن الذي كان قد فشل ولم يعد أحد يؤمن به.
لم ير العمال أي آفاق عند أي من الجناحين. كانت هناك إضرابات ومظاهرات، لكن كان هناك ارتباك هائل وانعدام بدائل حقيقية. حظيت دعوة الإضراب العام التي أطلقها يلتسين بتأييد رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة السابقة، مارغريت تاتشر، لكن قلة قليلة من العمال التزموا بها. كان الأشخاص الذين احتشدوا في معسكر يلتسين طلابا ومهندسين ومضاربين رأوا ميزة مادية في العودة إلى الرأسمالية. وقد مكنت سلبية الطبقة العاملة يلتسين وجناحه من السيطرة على الوضع.
انقلاب يلتسين
على الرغم من أنه كان يبدو أن المتشددين قد هُزموا، فإن ظهور المعارضة لم يستغرق وقتا طويلا. كانت الإجراءات الجديدة تجعل أوضاع الطبقة العاملة تزداد سوءا بشكل سريع. أدى إلغاء ضوابط الأسعار في ظل الخصاص إلى ارتفاع هائل للتضخم. ارتفعت الأسعار بنسبة 300% في شهر واحد، وبحلول نهاية عام 1992 بلغ التضخم 2400%.
انتهى الأمر بروسيا بأسوأ ما في النظامين: مساوئ سوء الإدارة البيروقراطية مقترنة برأسمالية المحسوبية. كان يتم إنتاج نفس السلع الرديئة، لكن بأسعار متضخمة إلى حد كبير الآن. وفي الوقت نفسه لم يتم دفع الأجور. وكانت المصانع مشلولة بسبب نقص المواد الأولية. كان الوضع يزداد سوءا. أثار هذا احتجاجات حاشدة أمام البيت الأبيض، مما أجبر الحكومة على مضاعفة الحد الأدنى للأجور ورفع المعاشات التقاعدية.
كتب يلتسين في مذكراته أن هدفه كان هو جعل “الإصلاح” لا رجعة فيه. أي أنه أراد أن يجعل العودة إلى الرأسمالية مسألة لا رجعة فيها، لكنه كان يواجه معارضة. أصبح من الواضح أن الكونغرس كان عائقا جديا أمام تحقيق “إصلاحات” يلتسين لمزيد من التقدم. وفي ربيع عام 1992، اضطر يلتسين للتراجع الجزئي عن علاجه بالصدمة وإقالة وزير المالية غيدار. كان ذلك تحذيرا له. كان عليه إذا أراد المضي قدما أن يستغني عن البرلمان ويتولى سلطات ديكتاتورية.
طيلة الجزء الأكبر من عام 1992، كان يلتسين يتجادل مع البرلمان حول دستور جديد، لكنه فشل في الوصول إلى اتفاق. في دجنبر وافق الكونغرس على إجراء استفتاء على دستور جديد، في أبريل، مقابل استقالة رئيس الوزراء غيدار، الذي عاد في يونيو. لكن هذا الاتفاق لم يستمر طويلا. فبحلول مارس 1993، انتقل يلتسين إلى الحكم بالمراسيم، وهي خطوة منعتها المحكمة الدستورية، وحكمت بأنها غير دستورية. فصار يلتسين متابعا بإجراءات الإقالة، التي نجا منها بصعوبة.
عندها ركز يلتسين كل جهوده على الاستفتاء. كانت القوى الإمبريالية تدعم يلتسين علانية وفي أبريل، قبل الاستفتاء مباشرة، تم الاتفاق على مساعدة بـ 42 مليار دولار. مكن ذلك يلتسين من تقديم وعد بزيادة أخرى في الحد الأدنى للأجور والمعاشات، الشيء الذي كان بمثابة رشوة واضحة. فاز يلتسين بفارق ضئيل في الاستفتاء، على الرغم من أن معدل الامتناع عن التصويت كان مرتفعا وكون يلتسين ربما قام بتزوير النتائج. ومع ذلك فقد استخدم يلتسين النتيجة ذريعة لمهاجمة أعدائه.
في شتنبر علق يلتسين أشغال الكونغرس، ووعد بإجراء انتخابات جديدة بموجب دستور جديد كتبه بنفسه. وعلى الفور صوت الكونغرس لصالح عزل الرئيس من منصبه. أعاد يلتسين تعيين غيدار وحاول الحصول على الدعم للدستور الجديد. لم يحقق الكثير من النجاح في ذلك المسعى، إذ عارض مناورته 148 من أصل 176 من القادة الإقليميين، بما في ذلك مجلس مدينة سان بيترسبورغ. الإمبريالية الغربية دعمت يلتسين بالطبع. لم يكونوا مهتمين جدا بالشكليات القانونية أو الديمقراطية، إذ كان كل اهتمامهم منصبا على تدمير الاقتصاد المخطط وفرص نهب الشركات العمومية.
حاصر يلتسين البيت الأبيض، حيث تحصن قادة الكونغرس. وجه معارضو يلتسين نداء فاترا إلى الجماهير. لم يكن لديهم أي استعداد لشن حركة جماهيرية قوية ضد انقلاب يلتسين. وحاولوا، بدلاً من ذلك، الاعتماد على الجيش والمخابرات. أطلقوا ما يرقى إلى انقلاب مضاد. لكن ومثل العام السابق لم يكن هناك آنذاك أي استعداد للدفاع عن النظام القديم.
بدأ عمال موسكو في التعبئة ضد الانقلاب. وفي 03 و04 أكتوبر، اخترق عشرات الآلاف من المتظاهرين خطوط الشرطة ووصلوا إلى البيت الأبيض. لكن ذلك لم يكن كافيا لكسر الحصار.
وبدلا من ذلك اقتحم يلتسين البيت الأبيض، بعد تقديمه للرشوة لعدد من النواب لكي يتخلوا عن مواقعهم. وحاول قيادة الجيش للقيام بذلك. إلا أنه، كما كتب في مذكراته، لم يجد من بين جيش قوامه مليونان ونصف المليون ولو فيلقا واحدا. وفي النهاية قام بتجميع قوة من مزيج من ضباط الجيش والمخابرات (KGB) والشرطة.
أعطى الاستيلاء على البرلمان دفعة قوية للتحرك نحو الرأسمالية، لكن المقاومة استمرت. قام يلتسين بحضر أحزاب وصحف المعارضة، وأوقف المجالس المحلية وأقال أعضاء المجالس والمحافظين. بل أغلق حتى المحكمة الدستورية. وكل ذلك باسم “الديمقراطية”. كان من المفترض أن توفر انتخابات البرلمان (الذي تم تغيير اسمه، باستعادة الاسم القيصري ‘دوما’) غطاء قانونيا للمناورات، لكن معسكر يلتسين انقسم إلى عدة أحزاب مختلفة وفشل النظام في تحقيق أي استقرار.
صار الوضع الاقتصادي أسوء خلال السنوات القليلة التالية. واستمر الاقتصاد في الانكماش طيلة عقد كامل. في عام 1989 بلغ الناتج الإجمالي 1.46 تريليون دولار، بينما وصل في نهاية عام 1998 إلى 800 مليار فقط، بانخفاض قدره 44 %. كانت إنتاجية العامل الروسي العادي عام 1992، تساوي 30% من معدل إنتاجية العامل الأمريكي، مقابل 19% فقط عام 1999. كانت استعادة الرأسمالية كارثة حقيقية. لم يكن لذلك الدمار الاقتصادي من مثيل سوى ما حدث للقوى المهزومة خلال الحرب العالمية الثانية. انخفضت الأجور الحقيقية بأكثر من النصف. وبحلول عام 2000 كان 29% من السكان يعيشون في الفقر.
أثارت الصعوبات الاقتصادية المتواصلة اندلاع حركات جديدة للطبقة العاملة، لكنها تعرضت للخيانة. يعتبر الكثيرون أن استعادة الرأسمالية في روسيا حدث عام 1991، لكن الحقيقة هي أن النظام الجديد لم يكن قد استقر بعد آنذاك. كانت تمزقه التناقضات والأزمات وكان العمال ما يزالون يقاومونه.
نظام في أزمة
كان الغرب يدفع في اتجاه المزيد من “الإصلاحات”، كان الشعار هو: “المزيد من الصدمة، المزيد من العلاج”، “لا عودة لروسيا إلى الوراء”. وقد كان يلتسين وزمرته سعداء بالقيام بذلك، مع الحرص بالطبع على أن يملئوا جيوبهم في هذه العملية. تم الكشف عن بعض المعاملات القذرة في محاكم المملكة المتحدة، حيث تصارعت الأوليغارشية على ملكية العديد من الشركات. وقد وصفت صحيفة الغارديان في تقريرها كيف أن يلتسين “منح عمليا أصول الدولة إلى مجموعة صغيرة من رجال الأعمال ذوي العلاقات الجيدة”، في مقابل مساعدته في تزوير الانتخابات الرئاسية لعام 1996. حيث ذهبت، على سبيل المثال، شركة يوكوس، عملاق النفط الذي تبلغ قيمته 03 مليارات دولار، إلى خودوركوفسكي مقابل 100 مليون دولار.
كانت هذه هي طبيعة الطبقة الحاكمة الجديدة في روسيا. ويعد معدل التفاوت في توزيع الثروة حاليا من أعلى المعدلات المسجلة بين الاقتصادات العالمية الرئيسية. كان أغنى 1% من السكان عام 2000 يمتلكون 54% من الأصول في روسيا. في حين أنه في الولايات المتحدة امتلكت هذه المجموعة 33% فقط. واليوم زادت الأوليغارشية الروسية حصتها من الكعكة بشكل طفيف وصارت تمتلك 58 %.
كان العمال هم الأكثر تضررا إذ أجبروا على دفع ثمن الكارثة الاقتصادية. لم ترتفع معدلات البطالة بالسرعة نفسها، إلا أن هذا يرجع جزئيا إلى أن الشركات أبقت العمال على الورق، لكن دون أن تدفع لهم أجورهم. تأخرت الأجور لأشهر عديدة كما أنه تم تقليصها بسبب التضخم المفرط. وهو ما مهد الطريق لموجة جديدة من النضالات.
كانت انتخابات عام 1995 بمثابة هزيمة كبيرة للأحزاب الموالية للرأسمالية، التي خسرت ما يقارب نصف مقاعدها. حقق الحزب الشيوعي الروسي نجاحا كبيرا، وكان لدى اليسار ما يقارب نصف المقاعد في مجلس الدوما. كانت تلك علامة على أن المزاج قد بدأ يتغير في المجتمع. ربما تعرضت الانتخابات الرئاسية عام 1996 للتزوير، وإذا لم يكن الأمر كذلك فقد تدخل الغرب بشدة لدعم يلتسين، بما في ذلك تزويده بالأموال في لحظة حاسمة من الحملة الانتخابية. لكن ذلك لم يحقق الاستقرار السياسي المنشود من طرفهم.
تلت ذلك موجة إضرابات ضخمة في خريف عام 1996، بما في ذلك تشكيل “لجان إنقاذ”، والتي كانت مجالس سوفييتات في كل شيء ما عدا الاسم. احتل العمال المصانع وبدأوا يسيرونها تحت سيطرتهم. وعادت تلك الحركة مرة أخرى في عام 1998. أظهرت استطلاعات الرأي معارضة كبيرة لإصلاحات السوق. وفي يناير 1997 أظهر استطلاع للرأي أن 48% من المستجوبين يعتبرون الاشتراكية أفضل من الرأسمالية بالنسبة لروسيا، بينما يعتقد 27% عكس ذلك. لو كان هناك حزب شيوعي يستحق هذا الاسم، لكان من الممكن تعميم هذه الحركة في جميع أنحاء روسيا، وكان من الممكن أن يتولى العمال السلطة، لكن قيادة الحزب الشيوعي الروسي كانت لديها أفكار أخرى.
كان الحزب الشيوعي كبيرا ويتمتع بدعم واسع، لكن قيادته كانت مكونة من فلول البيروقراطية القديمة، ولم يكن لديها في الواقع بديل عن الرأسمالية، مثلها في ذلك مثل المتشددين خلال أعوام 1991-1993. لم تكن لدى هؤلاء القادة خبرة في العمل الجماهيري، حيث اعتادوا على التآمر داخل أروقة السلطة. وكان آخر شيء يريدونه هو أن يتولى العمال السلطة. لذلك لم يتمكنوا من توفير أي بديل للعمال الذين كانوا يبحثون عن مخرج.
في عام 1991 لم تكن عملية إعادة الرأسمالية حتمية، وكان من الممكن عكسها. لكن ومع فشل الحزب الشيوعي، وعدم وجود حزب قادر على قيادة العمال لحسم السلطة، فقد تمكن النظام من إيجاد الاستقرار في شخص زعيم جديد: بوتين.
الصعود الغريب لبوتين
بحلول عام 1998 كان يلتسين قد صار ورقة محروقة. فإضافة إلى الوضع الاقتصادي الكارثي والطريقة التي تم بها بيع أصول الدولة بثمن زهيد، تورطت عائلة يلتسين في فضيحة فساد. لم يعد قادرا على الحفاظ على تماسك حكومته، وبلغ معدل دعمه في استطلاعات الرأي حوالي 03 %.
كان خلفاء يلتسين يتصارعون على المنصب، وبرز مرة أخرى خطر فوز زعيم الحزب الشيوعي زيوغانوف في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لكن وعلى الرغم من أن زيوغانوف قدم نفسه على أنه خادم أمين، وأنه يعارض ملكية الدولة، فإن الأوليغارشية لم تثق في قدرته على كبح جماح العمال.
فظهر بوتين في هذا الوضع. كان مسؤولا صغيرا في المخابرات السوفياتية (KGB)، انسحب من الخدمة الفعلية عام 1991 وبدأ مهنة يفترض أنها مدنية مع رئيس بلدية سان بيترسبورغ، حيث كان مكلفا بالعلاقات الخارجية للمدينة. تشير التقديرات إلى أن 80% من جميع المشاريع المشتركة مع الغرب قد عرفت مشاركة ضباط المخابرات السوفياتية. تورط في سان بيترسبورغ في فضيحة فساد شملت 100 مليون دولار من المواد الخام التي صدرتها المدينة، على ما يُفترض أنه مقابل مواد غذائية، لكن تلك المواد الغذائية لم تظهر أبدا. والاحتمال الأرجح بالطبع هو أن بوتين ومسؤولين آخرين قد اقتسموا الغنيمة بدلا من تسليم الطعام.
عيّن يلتسين بوتين في طاقمه الرئاسي عام 1997، وبعد ذلك بعام عينه رئيسا لجهاز الأمن الفيدرالي، الذي خلف جهاز المخابرات السوفياتية (KGB). ثم صار بعد عام رئيسا للوزراء. من شأن هذا أن يثير بعض الدهشة. كان المجتمع الروسي بأكمله في حالة اضطراب، مما فتح طرقا جديدة للترقي لأشخاص مثل بوتين وآخرين ممن يتميزون بانعدام الضمير الأخلاقي. كما يكشف عن عدم وجود أشخاص موثوق بهم في قمة النظام.
ومع ذلك فقد كان من الواضح أن بوتين كان يمتلك علاقات قوية، وربما لم يترك خدمة المخابرات السوفياتية أو جهاز الأمن الفيدرالي فيما بعد. وقد اتضح مدى قربه من المخابرات بعد فترة وجيزة من ترقيته إلى منصب رئيس للوزراء في عام 1999.
قدم الصراع في الشيشان وقودا لتأجيج المشاعر الوطنية. عدد من التفجيرات الغامضة هزت روسيا في شتنبر 1999، بعد شهر واحد فقط من تولي بوتين للسلطة. وبالإضافة إلى الانفجارات تم اكتشاف قنبلة وتعطيلها، لكن جهاز الأمن الفيدرالي زعم أنها كانت جزءا من تمرين تدريبي. وكان رئيس مجلس الدوما قد أعلن عن أحد التفجيرات قبل ثلاثة أيام من وقوعها. كان بعض العملاء الأذكياء قد خلطوا مواعيد تفجيرات موسكو وفولجودونسك.
تم رفض الدعوات لإجراء تحقيق مستقل، وتعرض جميع الجناة المفترضين للقتل أو حُوكموا في محاكم سرية. تم إيقاف عمل إحدى اللجان غير الرسمية التي شكلها عضو مجلس الدوما، كوفاليف، عندما تعرض اثنان من أعضائها للاغتيال واعتقل واحد. وكان عميل جهاز الأمن الفيدرالي المنشق ليتفينينكو، الذي اغتيل في لندن عام 2008، أحد شهود اللجنة.
نسبت التفجيرات إلى الإسلاميين، وتزامنت مع غزو داغستان (الجمهورية المجاورة). أمر بوتين على الفور بقصف غروزني ردا على ذلك. كان الأمر برمته بمثابة دعاية ضخمة لصالح بوتين، الذي نال ثناء واسعا في الصحافة الروسية، والتي، بالطبع، كانت تحت سيطرة الأوليغارشية.
في الأسابيع التالية ارتفعت شعبية بوتين بشكل كبير. استقال يلتسين في دجنبر، مما جعل بوتين رئيسا بالإنابة، وأدى إلى إجراء انتخابات في مارس، بدلا من يونيو كما كان متوقعا. فاز بوتين بأغلبية في الجولة الأولى. لكنه لم يحقق أغلبية في مجلس الدوما، فقام الحزب الشيوعي بشكل فضائحي بتزويده بالأصوات اللازمة.
نظام بوتين
يمثل بوتين توطيد النظام الرأسمالي في روسيا. لا شك أن بعض الليبراليين يحلمون بديمقراطية على النمط الغربي، لكن ما هو الأساس الذي يمكن أن يقوم عليه مثل هذا النظام؟
كانت هناك الكثير من المحاولات لتجميل نظام يلتسين، لكنه لم يكن مختلفا كثيرا عن نظام بوتين. إذ كما رأينا لم يتردد يلتسين في الدوس على الدستور والمجالس المنتخبة عندما كان يناسبه ذلك. لقد أسس حكمه على زمرة صغيرة من الأوليغارشيين الفاسدين للغاية، الذين سلمهم كميات هائلة من ممتلكات الدولة. كان عازما على استعادة الرأسمالية في روسيا، وقد تلقى دعما قويا من الغرب لهذا الغرض. لكن نظام يلتسين كان يعاني من أزمة، ولم يكن له مستقبل طويل الأمد.
عندما وصل بوتين إلى السلطة، بدأ بتنظيف أسوء التجاوزات التي شهدتها سنوات يلتسين. قام بسجن بعض أعضاء الأوليغارشية، وقلص سيطرتهم على وسائل الإعلام، ليس لتسليمها إلى العمال، بالطبع، بل لتقديمها إلى أصدقائه، أو وضعها تحت سيطرته. لكن مثل هذه التحركات لمعاقبة الأوليغارشية كانت تحظى بشعبية كبيرة في ذلك الوقت.
افترضت القوى الغربية، بشكل خاطئ تماما، أن روسيا ستعود إلى الرأسمالية على شكل مستعمرة للغرب: عودة إلى روسيا قبل عام 1917. هذا ما حققوه في معظم أنحاء أوروبا الشرقية. لكن الأوليغارشية الروسية الجديدة كانت لها مصالحها الخاصة ، وكانت قد بدأت في استعادة ثقتها بنفسها. عادت روسيا إلى الظهور على مسرح السياسة العالمية، ليس كأمة فقيرة ضعيفة، بل كقوة إمبريالية متعطشة لاستعادة مجالات نفوذها التي فقدت مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
لم يكن هذا شيئا مرتبطا ببوتين، إذ أن يلتسين كان قد أيد إخضاع الشيشان واقترح أيضا إعادة ترسيم حدود الجمهوريات السوفياتية السابقة (لصالح روسيا). كانت الأوليغارشية الروسية الجديدة قد بدأت في استرجاع ثقتها بنفسها، ومع انتعاش الاقتصاد خلال السنوات اللاحقة، زادت تلك الثقة.
كان النظام يعيد تشكيل نفسه. لم يتغير شيء من حيث الجوهر، إلا أنه كان لا بد من القيام بشيء ما لإزالة الصورة المروعة لسنوات يلتسين. لقد ولت سنوات الخضوع المطلق لإملاءات صندوق النقد الدولي وواشنطن. بالطبع لم يكن بوتين مستعدا لإلغاء الرأسمالية، لكنه كان حريصا جدا على إعادة تأهيل مكانة روسيا كقوة عظمى، بعد عقد من الاهانة الوطنية، وقد كان ذلك يحظى بالشعبية.
تمت إعادة تبني النشيد الوطني السوفياتي في عام 2000، مع استعمال كلمات جديدة، على الرغم من معارضة أشخاص مثل يلتسين الذي جادل بأنه لا ينبغي للمرء أن يتبع بشكل أعمى نزوات الجماهير (وهو اعتراف ضمني بأن النشيد كان شعبيا). كما استمر بوتين في الحديث عن الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك لينين وستالين، بكلمات إيجابية. لكنه، بالطبع، يذكر أيضا بعض القياصرة بعبارات مماثلة.
ومع ذلك فإنه يجب أن تتوافق الأفكار بطريقة ما مع الواقع. ادعى بوتين أنه يمثل تغييرا مقارنة مع يلتسين، لكن التغييرات السطحية التي أجراها ما كانت كافية تماما، لولا تزامنها مع ازدهار الاقتصاد. بوتين لم يتحدث فقط، بل إنه عندما تحدث عن إعادة إحياء روسيا، لوحظ ذلك أيضا في الوضع الاقتصادي. لم يكن لذلك، بالطبع، علاقة به، بل بالتغير الذي عرفته أسعار النفط. تمثل منتجات النفط والغاز حوالي 60% من الصادرات الروسية.
هذا المزيج من كارثة سنوات يلتسين، والانتعاش الاقتصادي اللاحق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعطى للنظام الجديد نوعا من الاستقرار. لقد أصيبت الطبقة العاملة بالإحباط والتفكك، أولا بسبب سنوات الستالينية في ظل الاتحاد السوفياتي، ثم بسبب الدور الكارثي للحزب الشيوعي في حركة 1996-1998. كان هذا أحد الركائز المهمة الأخرى لكل من الانتعاش الاقتصادي ونظام بوتين.
نظام بوتين، مثله مثل العديد من الأنظمة البونابارتية، يعتمد بشكل كبير على اللعب بورقة العدو الخارجي. إنه يحتاج إلى حروب ناجحة لكي يستمر. كانت الحرب في الشيشان مثالا على ذلك، حيث سحق الشيشان بوحشية. ثم عمل على سحق الجيش الجورجي عام 2008، بعد ذلك جاءت الحرب في أوكرانيا عام 2014، ثم الحرب في سوريا أعوام 2015-2016.
ومع ذلك فإن هذه المحاولات لكسب الشعبية من خلال تأجيج القومية بدأ تأثيرها يقل تدريجيا. كما أنها مكلفة للغاية. الإنفاق العسكري الروسي الآن أعلى من نظيره الأمريكي بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، يبلغ 03.9 %، وهو ما يشكل أكثر من ضعف مثيله في المملكة المتحدة.
يعيش نظام بوتين في الوقت الضائع. اعتاد بوتين على تحقيق نسبة 60-70% من الأصوات، لكنه تراجع الآن إلى 40 %. لم تكن هناك انتخابات حرة في روسيا، لكن الانتخابات البرلمانية الأخيرة كانت أكثر تزويرا من معظم الانتخابات الأخرى. اشتد اضطهاد المعارضين وتزوير الأصوات. ربما كان ما يصل إلى نصف عدد الأصوات، الثمانية والعشرين مليونا، التي حصل عليها حزب بوتين روسيا الموحدة هي أصوات مزيفة. عام 2007، في ذروة شعبية بوتين، فاز حزب روسيا الموحدة بـ 315 مقعدا، بنسبة 49% من الأصوات. أما هذا العام فقد أعطت استطلاعات الرأي لروسيا الموحدة 35 %. ومع ذلك فإنهم سيحصلون على 50% في الانتخابات، وهو ما يكفي لتأمين 324 مقعدا، وهو ما يزيد بأربعة مقاعد فقط عن أغلبية الثلثين المطلوبة لإجراء تغييرات دستورية. من الواضح أن النظام ضمن حصولهم على ما يكفي من الأصوات لتأمين ذلك العدد.
في ظل الديمقراطية البرجوازية العادية، تكون الانتخابات والاحتجاجات بمثابة صمام أمان، حيث ترتفع وتنخفض شعبية الأحزاب المختلفة مع تغير المزاج الجماهيري، ولا سيما بين الطبقة العاملة. تمثل نتائج الانتخابات وأرقام الإضرابات مقياسا يمكن المرء من الحكم على المزاج السائد بين الطبقات. لكن عندما يتعلق الأمر بنظام مثل النظام الروسي، فإن الأمر يكون أصعب بكثير. ويزداد الأمر سوءا بسبب عدم جدوى المعارضة البرلمانية. يدفع القمع والاحتيال مزاج الاستياء إلى الأعماق، لكن هذا يعني فقط أنه سيظهر بشكل أكثر انفجارا عندما سيأتي.
وبالنظر إلى الأزمة التي تحدث على الصعيد العالمي والكارثة التي غرقت فيها روسيا، فإن وقت الحساب ليس بعيدا. إلا أن البديل سيكون بنفس البؤس، لكن بقناع ديمقراطي. يظهر هذا الإفلاس الكامل للمعارضة الليبرالية. لا أحد مهتم بعملاء الإمبريالية الأمريكية، أو بالعودة إلى سنوات يلتسين. كما أنه ليس من الممكن أو المرغوب فيه إعادة عقارب الساعة 30 عاما إلى الوراء، وإعادة إنشاء اقتصاد خاضع للإدارة البيروقراطية. يبحث العمال عن بديل حقيقي. وهو ما يعني ضرورة العودة إلى أفكار ثورة أكتوبر. يبقى هذا هو السبيل الوحيد للمضي قدما.
هوامش:
[1] تروتسكي، الثورة المغدورة، الفصل التاسع.
[2] Russia: From Revolution to Counter Revolution.
[3] Trud, 3 August 1989.
10 ديسمبر/كانون الأول 2021
ترجم عن النص الأصلي:
تعليق واحد
تعقيبات: عشرون عاما على غزو العراق: الإرث الوحشي للإمبريالية – ماركسي