يوم الأحد [13-06-2021]، انتخب الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، حكومة جديدة بأغلبية ضئيلة -60 صوتا مقابل 59- منهيا بذلك سيطرة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على السلطة طيلة 12 عاما. تميزت فترة حكمه بتطبيق سياسات يمينية وبالقمع الوحشي ضد الفلسطينيين، مقدما نفسه على أنه رجل إسرائيل القوي. وقد كان المثال الأخير على ذلك هو القصف الدموي الأخير على غزة. لكن ما الذي ستجلبه الحكومة الجديدة؟ ولماذا فقد نتنياهو سيطرته على السلطة؟
يؤيد نتنياهو القمع الوحشي ضد الفلسطينيين والديماغوجية العنصرية وسياسة التقشف. وقد تخللت فترة حكمه سلسلة من فضائح الفساد، والتي تمكن من التملص منها حتى الآن. لكن، ومع ذلك، فإن الحكومة التي تم تعيينها لتحل محله ليست بأي حال من الأحوال أكثر تقدمية من حكومته. والتغيير الذي حصل لا يعكس سوى وجود أزمة عميقة للطبقة السائدة في إسرائيل.
الأزمة المتفاقمة للدولة الإسرائيلية
تاريخ نتنياهو السياسي هو تاريخ رجعي ماكر ومتهور. لقد أظهر سابقا قدرة كبيرة على اغتنام كل فرصة حتى في الظروف غير المواتية، وتحويل الموقف لصالحه. وتمكن على مر السنين من احتلال موقع مركزي في السياسة الإسرائيلية لدرجة أن أزمة حكمه أصبحت متداخلة بشكل لا ينفصم مع أزمة الدولة الإسرائيلية.
لكنه خرج الآن مهزوما. إلا أنه، مثله مثل صديقه وحليفه دونالد ترامب، لا يرضى بالخسارة ويخطط بالفعل للانتقام. وقد عمل، مثله مثل ترامب، على تحريض قوى رجعية لا يمكنه السيطرة عليها بالكامل، لكنه سيحشدها من أجل العودة في المستقبل. إنه أبعد ما يكون عن لعب دور هامشي في السياسة الإسرائيلية.
الائتلاف الحكومي الذي أطاح بنتنياهو دليل على الأزمة العميقة للنظام السياسي الإسرائيلي. إذ على الرغم من أن قسما مهما من الطبقة السائدة في إسرائيل مصمم على التخلص من إشكالية استمرار نتنياهو في رئاسة الوزراء، فإن هشاشة التحالف الذي تستند إليه هذه المحاولة دليل على عمق الأزمة.
مشكلة الطبقة السائدة في إسرائيل هي أن الاستقرار المؤسساتي، سواء مع نتنياهو أو بدونه، هو مجرد وهم. فبعد نتائج الانتخابات غير الحاسمة في مارس، فشل نتنياهو في حشد دعم الأغلبية لحكومته الجديدة. وقد أطال فترة بقائه في المنصب من خلال تعجيل الأزمة التي أدت إلى القصف الوحشي لغزة في ماي. كان يعول على تحقيق نصر ساحق يقوي موقفه، لكن ذلك التكتيك جاء بنتائج عكسية.
وفي محاولة يائسة لإيجاد مخرج من المأزق، عهد الرئيس ريفلين إلى “الليبرالي المعتدل”، يائير لابيد، رئيس حزب يش عتيد، بتشكيل حكومة جديدة. توقفت محاولة لبيد خلال قصف غزة، لكنها اكتسبت زخما بعد وقف إطلاق النار، عندما أصبح واضحا أن مزاعم نتنياهو بالنصر كانت جوفاء.
شرع لابيد في إقامة تحالف غريب للغاية. فعلى اليمين يتشكل الائتلاف من حزب يمينا اليميني المتطرف ورئيسه نفتالي بينيت، الذي أدى اليمين كرئيس للوزراء. إنه يمثل حركة الاستيطان القومية الدينية. ثم هناك حزب أفيغدور ليبرمان، يسرائيل بيتنا، وهو حزب يميني وعنصري ومؤيد للمستوطنين. كما ضم التحالف القومي المحافظ، جدعون ساعر، وهو عضو قديم في حزب الليكود بزعامة نتنياهو، والذي أنشأ الآن قائمته الخاصة.
ومع ذلك فإنه من أجل تحقيق أغلبية برلمانية، احتاج لبيد إلى دعم المزيد من الأحزاب. وقد سارع ما يسمى بـ”اليسار الصهيوني” إلى إنقاذه. كما سارع الحزب الاشتراكي الديموقراطي أفودا وحزب ميرتس اليساري الليبرالي إلى تقديم دعمهما له. وكانت جوهرة التاج هي إدراج القائمة العربية الموحدة الإسلامي ضمن الائتلاف. وفي مشهد سريالي، قام زعيم ” القائمة العربية الموحدة ” بمصافحة الصهيوني المتعصب، نفتالي بينيت، عندما توصلوا لاتفاق للانضمام إلى الحكومة. هذا التحالف الغريب والهش يوحده شيء واحد فقط وهو: معارضة نتنياهو.
كانت محاولة نتنياهو تحويل مسار الأحداث لصالحه من بين أسباب تصعيد الدولة الإسرائيلية للعنف في القدس ثم في غزة لاحقا. توقع نتنياهو أنه سيتمكن من إجهاض هذا التحالف من خلال شن حرب جديدة ضد الفلسطينيين، الأمر الذي من شأنه أن يدق إسفينا بين اليمين وبين اليسار الصهيونيين، ويجعل من المستحيل على الحزب العربي أن ينضم إلى تحالف مع أحزاب المستوطنين اليمينيين. إلا أنه بعد أسبوعين من القصف الوحشي، الذي خلف مقتل أكثر من 260 فلسطينيا و12 إسرائيليا، وتدمير عشرات الآلاف من المنازل، اكتشف نتنياهو أنه لم يفشل فقط في منع تشكيل التحالف ضده، بل إنه ربما ساهم في تعزيزه.
عنصر جديد في المعادلة
إن أهم تغيير في الوضع الحالي، كما أوضحنا في مقال سابق، هو ظهور نضال جماهيري موحد للفلسطينيين داخل إسرائيل 1948 وفي القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة والشتات الفلسطيني، والذي توج بالإضراب الفلسطيني العام، يوم 18 ماي. لقد تردد صدى المقاومة الفلسطينية الجماهيرية ضد اضطهاد الدولة الإسرائيلية على الصعيد الأممي. وتعكس الموجة الكبيرة والمتنامية من التضامن الأممي موقفا جديدا تجاه الأفكار الثورية بين الشباب والعمال في جميع أنحاء العالم. هذه الحركة -التي ساعدت غطرسة نتنياهو في اطلاقها- هي تهديد لاستقرار الرأسمالية الإسرائيلية ولجميع الأنظمة العربية الرجعية في المنطقة. وبالتالي فهي مشكلة بالنسبة لكل ميزان القوى الإمبريالي في الشرق الأوسط.
وبالمناسبة فإن هذه الحركة تتحدى أيضا حتى سلطة القيادة التاريخية للنضال الوطني الفلسطيني. وهذا هو الحال بالتأكيد مع حركة فتح، التي فقدت مصداقيتها بالفعل وتتعاون حاليا مع إسرائيل في قمع الحركة الفلسطينية في الضفة الغربية، مع موجة الاعتقالات التي تشنها ضد النشطاء الفلسطينيين الشباب. بينما سجلت حماس زيادة مؤقتة في شعبيتها بين الفلسطينيين بسبب موقفها المتحدي لإسرائيل خلال قمع حركة الأقصى والقصف الإسرائيلي على غزة. لكن على المدى المتوسط، ستواجه سلطة حماس، كقوة رائدة في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، تحديا هائلا، حيث أن نجاح أساليب النضال الجماهيري يكشف إفلاس موقف حماس السياسي في عيون آلاف الشباب الفلسطيني.
تؤدي الحكومة الإسرائيلية الجديدة اليمين في نفس الوقت الذي تشن فيه الدولة الإسرائيلية حملة قمع ضد النشطاء الفلسطينيين، حيث تم اعتقال أكثر من 1500 فلسطيني منذ وقف إطلاق النار في غزة. لكن هذه الحملة فشلت في منع تصاعد النضالات الجماهيرية الفلسطينية. وفي غضون ذلك ، تم الإعلان، هذا المساء، عن تنظيم مسيرة من طرف المستوطنين اليهود المتطرفين عبر القدس الشرقية احتفالا بانتصار عام 1967. اختارت الحكومة الجديدة عدم حظر المسيرة التي كان من المقرر أن تمر عبر باب العامود، رغم أنها استفزاز صريح ضد الفلسطينيين. والاشتباكات المحتملة التي ستنجم عنها ستكون الاختبار الأول للحكومة الجديدة، وهو الاختبار الذي قد لا تنجو منه.
نتنياهو والبرجوازية الإسرائيلية
تأسست دولة إسرائيل على أساس أيديولوجي مفاده أن لجميع اليهود، سواء كانوا عمالا أو رأسماليين، نفس المصالح التي تتعارض مع مصالح العرب، والفلسطينيين على وجه الخصوص. ومن خلال الادعاء بأنها المدافع عن اليهود ضد “التهديد العربي”، تعمل الطبقة السائدة الإسرائيلية على حشد العمال والشباب الإسرائيليين وراء دولة إسرائيل، أي وراء الدفاع عن المصالح الأساسية للطبقة الرأسمالية.
إن هذه الفكرة هي بالطبع مجرد ستار دخان يخفي حقيقة مختلفة وهي أن العمال اليهود والرأسماليين اليهود لديهم مصالح متناقضة في الأساس. إسرائيل بلد يسجل مستوى عال جدا من اللامساواة الاجتماعية: فمن ناحية، لديك طبقة سائدة رجعية للغاية وبعض أغنى الشركات في العالم، ومن جهة أخرى لديك طبقة عاملة تعاني من أجور زهيدة وارتفاع هائل في أسعار الكراء والمواد الغذائية. إسرائيل مجتمع يعيش 20٪ من سكانه تحت خط الفقر. ووفقًا لمقياس منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن إسرائيل هي الأكثر تفاوتًا بين الدول الأعضاء البالغ عددها 38 دولة. ولإخفاء هذه التناقضات الطبقية، تحتاج البرجوازية الإسرائيلية إلى أسطورة “وحدة مصالح” كل اليهود.
لكي تتمكن الطبقة الرأسمالية الاسرائيلية من الحفاظ على سلطتها، اعتمدت دائما على النزعة القومية واضطهاد الفلسطينيين. ويتم تنفيذ المشروع الصهيوني لتوسيع إسرائيل كوطن لليهود، من خلال الاستيلاء المستمر على أراضي الفلسطينيين وشن الحروب ضد البلدان المجاورة. وقد تم تصميم هذه السياسات لتغذية عقلية القلعة المحاصرة والهستيريا المعادية للعرب بين العمال والشباب الإسرائيليين. تهدف هذه التكتيكات العنصرية والتخويف إلى طمس الفروق الطبقية وحشد العمال اليهود الإسرائيليين خلف الدولة الإسرائيلية.
لقد أتقن بنيامين نتنياهو هذه الطريقة. لكن ما أثار استياء البرجوازية الإسرائيلية هو أن نتنياهو صار يعتمد بشكل متزايد على هذه السياسات ليس من أجل تعزيز مصالح الرأسمالية الإسرائيلية ككل، بل لمجرد تثبيت موقعه في السلطة وحماية نفسه من الملاحقة القضائية بسبب العديد من تهم الفساد. وكلما وقع في مأزق وفقد الدعم الشعبي، يقرع طبول الحرب ويرفع حدة ديماغوجيته الشوفينية.
لقد رأينا استخدامه لهذه الأساليب خلال قصف وغزو غزة عام 2014؛ وتخريب الاتفاق النووي الأمريكي مع إيران، بما في ذلك الاغتيالات المتكررة لعلماء نوويين إيرانيين؛ وتطبيق قانون الدولة القومية اليهودية العنصري، الذي طرحه عام 2018؛ والاعلان (الذي لم ينفذ) عن ضم الضفة الغربية في ربيع العام الماضي؛ وقصف غزة في الأسابيع القليلة الماضية. لقد تم تصميم كل هذه المناورات، جزئيا وبطريقة أو بأخرى، لإثارة الهستيريا القومية من أجل تعزيز شعبية نتنياهو المتدهورة.
وعندما بدأت شعبيته في التراجع بدأ يعتمد أكثر فأكثر على أحزاب اليمين واليمين المتطرف، لا سيما أحزاب المستوطنين. مكنته هذه السياسة من البقاء في السلطة مؤقتًا، لكن على حساب تنفير شريحة متزايدة من الإسرائيليين، لا سيما العمال والشباب والطبقات الوسطى الحضرية. وعلاوة على ذلك بدأ عدد متزايد من الإسرائيليين يتمكنون من رؤية أن مسألة الحرب والسلام يتم تحديدها على أساس اعتبارات المصلحة الشخصية لنتنياهو ولا علاقة لها بالدفاع عن مصالح الأغلبية. لقد أدت سياساته إلى تقويض فعالية التكتيك الأساسي الذي تستخدمه الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية لتعزيز سلطتها. وهذا تهديد خطير لاستقرار الرأسمالية الإسرائيلية على المدى الطويل.
نتنياهو والإمبريالية
إن سياسات نتنياهو القصيرة النظر والمتمركزة حول الذات لم تهدد فقط الاستقرار الداخلي للرأسمالية الإسرائيلية، بل تسببت كذلك في تعريض مصالح الإمبريالية الأمريكية في المنطقة للخطر. لقد دخلت الإمبريالية الأمريكية في أزمة بعد هزائمها في العراق وأفغانستان، والاضطراب الناجم عن الثورات العربية عام 2011. وينعكس هذا في العديد من الشقلبات التي تقوم بها بين مختلف القوى المتصارعة مثل إيران وتركيا والمملكة السعودية وإسرائيل.
في عهد الرئيس أوباما، بدأت الولايات المتحدة في تغيير استراتيجيتها من خلال الاعتماد على المفاوضات والصفقات والاتفاقيات ومحاولة تغيير التحالفات والتراجع جزئيا عن التدخل العسكري المباشر في المنطقة. لقد كان الاتفاق النووي مع إيران جزءا من هذه الاستراتيجية، لكنه أدى إلى المزيد من زعزعة استقرار علاقات الولايات المتحدة مع حلفاءها التقليديين الرئيسيين، وخاصة المملكة السعودية وإسرائيل. انعكس كل هذا في الحرب السورية، التي شهدت سقوط السياسة الأمريكية في تناقضات غير قابلة للحل، مما سمح بظهور فاعلين أساسيين مثل روسيا وإيران من جهة، وقوى إقليمية أخرى مثل تركيا والمملكة السعودية من جهة أخرى. بدأت كل واحدة من تلك القوى تسعى خلف الكواليس وراء مصالحها الخاصة، بل ودخلت في صراع مفتوح مع الإمبريالية الأمريكية. وقد شهدنا تراجع الولايات المتحدة إلى لعب دور ثانوي في المنطقة، وذلك لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
كانت السياسات التي انتهجها ترامب محاولة لاستعادة التحالف مع بعض حلفاء الولايات المتحدة السابقين. لكنها انتهت بفوضى أسوأ من وجهة نظر المصالح العامة للإمبريالية الأمريكية. وقد انعكس ذلك أيضا في الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية. حيث تم التخلي عن أي تظاهر بالحياد، مع انحياز الولايات المتحدة علنا لنتنياهو. لقد اتضح أنها مقامرة خطيرة بشكل خاص، وهو ما زاد من تهديد استقرار جميع الأنظمة العربية التي أقدمت على أي نوع من أنواع التطبيع مع إسرائيل.
تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة بايدن الإبحار نحو مياه مألوفة وأكثر هدوء، وذلك استنادا إلى لعبة المفاوضات متعددة الأطراف التي ترعاها الولايات المتحدة من أجل إعادة مارد القوى الرجعية ومارد القوى الثورية اللذان أطلقتهما الأزمة الحالية إلى القمقم. لكن هذه المحاولة محكوم عليها بالفشل.
لقد تم تقويض هذه الاستراتيجية بفعل قيام نتنياهو بالترويج للحرب ضد إيران (وهي الحرب التي اعتبرت مغامرة حتى من طرف القيادة العليا للجيش الإسرائيلي) وبتصعيد القمع ضد الفلسطينيين، وهو ما يشكل عاملا قويا للغاية في تقويض استقرار الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة في المنطقة.
منذ تأسيس دولة إسرائيل قدمت الأنظمة العربية الرجعية والطغاة في المنطقة أنفسهم على أنهم حماة للفلسطينيين من أجل صرف الانتباه عن سياساتهم القمعية والتوسعية. وبينما يذرفون دموع التماسيح على اضطهاد الفلسطينيين، فإنهم لا يقتصرون على قمع شعوبهم فحسب، بل ويساعدون أيضا الدولة الإسرائيلية على قمع الفلسطينيين. ومع ذلك فإن تزايد القمع الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني يضعهم تحت ضغط متزايد.
إن الصمت المطبق للعديد من القادة العرب خلال قصف غزة في الأسابيع الأخيرة قد أضعف بشدة مصداقيتهم في عيون شعوبهم. والغالبية العظمى من هذه الأنظمة منهكة أصلا بسبب أزماتها العميقة، وتواجه مزاجا ثوريا بين شعوبها، سواء في مصر أو الأردن أو المملكة السعودية أو دول الخليج.
شبح الثورات العربية عام 2011 أو الحركات الثورية عام 2019 يلوح في سماء الرأسماليين والإمبرياليين في المنطقة. وقد أدت الحركة الهائلة الموحدة والقوية للجماهير الفلسطينية، التي أثارتها إسرائيل في الأسابيع الماضية، إلى إعادة إحياء تلك الذكريات بين الجماهير وكذلك بين الطبقات السائدة. يعرف الإمبرياليون الأمريكيون تأثير حركة التحرر الفلسطينية على الجماهير المضطهَدة في المنطقة بأسرها. كما أن سياسة نتنياهو قد أدت إلى تقويض التحالف بين إسرائيل والدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة، والتي تعتبر الركائز المهمة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة. لقد صار من الواضح أن نتنياهو صار يمثل عبئا كبيرا جدا على الإمبريالية الأمريكية.
انشقاقات بين صفوف الطبقة السائدة
حدث بالتالي انشقاق في صفوف البرجوازية الإسرائيلية حيث بدأ قسم متنامٍ منها يعتبر أنه من الضروري التخلص من نتنياهو لمنع المزيد من زعزعة استقرار الوضع السياسي. وبذلت العديد من المحاولات لطرده. لكن المشكلة من وجهة نظر الطبقة الرأسمالية هي أنه لا يوجد حزب مستعد لتولي زمام الأمور. ففي حين تم إضعاف نتنياهو وحزبه الليكود، فإن بقية الأحزاب البرجوازية توجد في وضع أضعف.
في البداية تم عرض اتهامات الفساد ضد نتنياهو أمام أنظار الجمهور. ثم دفعت البرجوازية الكبرى شريك نتنياهو في الائتلاف، رئيس حزب يسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان، إلى رفض تشكيل ائتلاف معه بعد انتخابات 2019. حاولت الطبقة السائدة في تلك الانتخابات ترقيع تحالف يسمى كاحول لافان (أو ما يسمى بـ”تحالف الوسط”)، بقيادة بيني غانتس ويائير لابيد. لكن محاولتهم لإزاحة نتنياهو باءت بالفشل، وبعد ذلك فقد غانتس مصداقيته تماما بسبب دخوله في ائتلاف مع نتنياهو، أي مع نفس العدو الذي كان يقف ضده. وقد أدت الأزمة السياسية إلى تنظيم أربع انتخابات خلال العامين الماضيين.
وفي الوقت الذي كانت تتراكم فيه تهم الفساد ضد نتنياهو، كان حلفاءه وأتباعه الحزبيون ينقلبون عليه بشكل متزايد. جدعون ساعر هو واحد منهم، وكذلك نفتالي بينيت وأيليت شاكيد من حزب يمينا اليميني. صار الجميع الآن مصطفين ضد نتنياهو في الائتلاف الجديد. وقد أدت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد 19 إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والاضطراب السياسي.
وبعد الانتخابات الأخيرة في مارس، حاول نتنياهو مرة أخرى التغلب على التحدي الذي يواجه سلطته من خلال تبني إجراءات قمعية أكثر عدوانية ضد الفلسطينيين، مما أدى إلى حدوث الاشتباكات في الشيخ جراح والمسجد الأقصى وإثارة الصراع الأخير مع حماس. لكن هذه المناورة لم تؤت ثمارها كما كان الحال من قبل. فأولا، نظر غالبية الإسرائيليين إلى حملة القصف والاستفزازات التي قام بها نتنياهو في المسجد الأقصى بارتياب كبير. وثانيا، عوض أن تؤدي إلى إظهار دولة صهيونية مطلقة القوة، فقد انتهى الصراع إلى طريق مسدود بفعل الحركة الجماهيرية للفلسطينيين داخل حدود إسرائيل، وحركة التضامن المؤيدة للفلسطينيين التي اندلعت في جميع أنحاء المنطقة وعبر العالم.
لقد أصبح نتنياهو عائقا من وجهة نظر السواد الأعظم من الطبقة السائدة في إسرائيل. أفعاله تقوض شرعية الدولة الصهيونية. وهذا هو السبب وراء سعي الطبقة السائدة الآن بكل جهودها لإزاحته بأية وسيلة، مما يجبر حلفاء غير متوقعين مثل نفتالي بينيت وحزب “راعم” على تشكيل ائتلاف.
الحكومة الجديدة: سيئة كسابقتها
من وجهة نظر الطبقة العاملة والشعب الفلسطيني المضطهَد، إن هذه الحكومة لا تقدم شيئاً. يمكن وصف برنامجها بأنه “سياسة نتنياهو بدون نتنياهو”. إن ما يقلق الطبقة السائدة بشأن نتنياهو ليس فساده، أو قمعه العنيف للفلسطينيين، أو عنصريته، أو هجماته على مستويات معيشة الطبقة العاملة. فكل ذلك ضروري للرأسمالية الإسرائيلية. إن ما أثار قلقهم هو أن نتنياهو كان يفضح هذه التكتيكات ويتسبب في خلق تقاطب غير محتمل داخل المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي يقوض شرعية الدولة ومؤسساتها.
انضمام ما يسمى بـ”اليسار الصهيوني” (أفودا وميرتس) إلى الحكومة لا يمكن أن خفي أجندتها اليمينية. لقد أبان كل من حزب العمل المزعوم (أفودا) وميرتس عن ألوانهما الحقيقية. الأحزاب الصهيونية التي من المفترض أنها “يسارية” دائما ما تسير في ذيل الأحزاب الصهيونية اليمينية. وبينما يتم تصويرهم على أنهم تقدميون، فإنهم مستعدون دائما لدعم مجموعة من الأحزاب الاستيطانية اليمينية والعنصرية ضد مجموعة أخرى. إن مجرد فكرة “الصهيونية اليسارية” هي بالفعل تناقض في الجوهر، فمن المستحيل الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وفي نفس الوقت مشاركة الأيديولوجية الصهيونية القومية للطبقة السائدة في إسرائيل.
كما أن إلقاء نظرة على الأشخاص الأعضاء يوضح بدوره موقف هذه الحكومة: نفتالي بينيت (يمينا) سيكون رئيسا للوزراء خلال العامين الأولين، وبعد ذلك –وعلى فتراض بقاء هذا التحالف لفترة طويلة!- سيأتي دور يائير لبيد (يش عتيد) ليحل محله. بينيت عنصري وداعم صريح للمستوطنين الصهاينة. إنه يؤيد الضم الإسرائيلي للضفة الغربية ومعروف بتصريحات مثل: “لقد قتلت الكثير من العرب ولا أرى أي خطأ في ذلك!”.
ستذهب وزارة الداخلية إلى اليمينية المتطرفة أييليت شاكيد من يمينا، التي سخرت من أولئك الذين وصفوها بالفاشية في إعلان انتخابي قبل بضع سنوات حيث رشّت نفسها بعطر كتب عليه “الفاشية” قائلة إن: “رائحته مثل الديمقراطية بالنسبة إلي!”. وزير المالية هو أفيغدور ليبرمان، وهو نفسه مستوطن صهيوني يعيش في الضفة الغربية وكان سابقًا وزيرا للخارجية ووزيرا للدفاع في عهد نتنياهو. وسيبقى بيني غانتس وزيرا للدفاع، وهو المنصب الذي شغله في عهد نتنياهو خلال القصف الأخير على غزة. وقد كان غانتس أيضا القائد العسكري لقصف وغزو غزة في عام 2014، مما أسفر عن مقتل 2300 فلسطيني، ثلثاهم من المدنيين، وفقا للأمم المتحدة.
الحاجة إلى بديل ثوري
هذا “التحالف المناهض لنتنياهو” ضعيف بشكل استثنائي، ولن يمر وقت طويل قبل أن يندلع الاقتتال الداخلي المرير. لو توفر اليوم حزب ثوري حقيقي في إسرائيل، لكانت الانقسامات داخل صفوف الطبقة السائدة وفساد وضعف أحزابها ستقدم فرصة لانفصال فئة من العمال اليهود الإسرائيليين عن الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية وتبني موقف طبقي مستقل.
لكنه لا يوجد بعد حزب يساري إسرائيلي بأفكار واضحة وقادر على استغلال هذه الفرصة. وضد التمييز والحرب الدائمة واضطهاد الشعب الفلسطيني وفساد الأحزاب القائمة، يكتفي حزب حداش، الذي يعتبر أكبر حزب في اليسار الإسرائيلي، والذي هو تحالف يسيطر عليه الحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي)، بالمطالبة بمزيد من “الديمقراطية”. لكن ماذا يعني هذا؟ هل يعني ديمقراطية برلمانية برجوازية؟ أي الفساد والمساومة على المناصب، والتي من خلالها تقرر الطبقة السائدة من من ممثليها يجب أن “يمثل ويخدع” الجماهير، كما كتب ماركس ذات مرة؟ الحقيقة هي أنه على أساس الرأسمالية لا يمكن أن تكون هناك أي نهاية للإمبريالية الإسرائيلية وقمع الفلسطينيين. كما لا يمكن أن تكون هناك أي نهاية للفساد والاستغلال. إن ما نشهده في إسرائيل ليس مجرد حالة “مؤسفة” وعرضية. إن ذلك هو أفضل ما يمكن للرأسمالية أن تقدمه. لا يمكن أن تكون هناك رأسمالية إسرائيلية بدون كل ما يترتب عنها من تعفن. وبالتالي فإن المطلوب ليس هو الوعظ الأخلاقي أو المطالب المجردة من أجل “الديمقراطية” أو “السلام”، بل المطلوب هو النضال من أجل الإطاحة الثورية بالدولة البرجوازية الإسرائيلية.
شهدنا في الأسابيع القليلة الماضية ظهور حركة جماهيرية بطولية للشباب الفلسطيني. لكن وعوض أن يقوم حزب حداش بتنظيمهم في كل الأحياء وتنسيق الحركة من أجل الإطاحة الثورية بدولة إسرائيل، اكتفى بالدعوات المسالمة. كانت شعاراتهم هي: “ضد الحرب” و”العرب واليهود يرفضون أن يكونوا أعداء” و”أطفال غزة وبير السبع يريدون العيش”… لكن لمن توجه هذه المناشدات الأخلاقية؟ هل لحكومة نتنياهو؟ أم إلى القيادة العليا للجيش الإسرائيلي؟ أم إلى الصهاينة الليبراليين؟
من الصواب معارضة الحرب الرجعية، لكن النزعة السلمية الليبرالية لا يمكن أن تقدم أي مخرج من حلقة البربرية التي نشهدها. يقوم كل “سلام” إمبريالي على أساس العنصرية والتمييز والاستيلاء على الأراضي وعمليات الإخلاء والقمع العنيف لاحتجاجات الشعب الفلسطيني. ويتم قطعه بشكل دوري بالحرب الإمبريالية، التي تسعى إلى نفس الأهداف بوسائل أخرى. ويتبع الحرب بدورها “سلام” إمبريالي جديد في حلقة اضطهاد لا نهاية لها. يجب أن نفضح بلا رحمة المصالح الطبقية وراء آلية القهر هذه. ما هو ضروري هو النضال للقضاء على القومية الرجعية التي تغذيها الدولة الإسرائيلية، وذلك من خلال تعزيز الصراع الطبقي والتضامن الطبقي والأممية البروليتارية في سياق الموجة الثورية التي تهز الرأسمالية والإمبريالية على نطاق عالمي.
إن المطلوب في إسرائيل وفلسطين هو منظمة ماركسية ثورية حقًا يمكنها تقديم منظور ملموس للإطاحة الثورية بالدولة الرأسمالية الإسرائيلية وإقامة فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط، والتي ستمكن كلا من اليهود الإسرائيليين والشعب الفلسطيني من أن يعيشوا بسلام مع جميع شعوب المنطقة الأخرى. ما زالت مهمة بناء مثل هذه المنظمة لم تنجز بعد. وهذه هي المهمة الملحة للعمال والشباب الأكثر تقدمية وراديكالية في كل فلسطين التاريخية.
فرانز ريجر وفرانسيسكو ميرلي
15 يونيو/حزيران 2021