الرئيسية / التيار الماركسي الأممي / بيانات ومنظورات / المنظورات العالمية: عصر ثوري ينفتح في جميع أنحاء العالم

المنظورات العالمية: عصر ثوري ينفتح في جميع أنحاء العالم

لقد تمت المصادقة على هذه الوثيقة من طرف المندوبين في المؤتمر العالمي للتيار الماركسي الأممي 2021 (انظر التقرير الكامل هنا). وتقدم تحليلنا العام للسيرورات الرئيسية التي تحدث في السياسة العالمية، في وقت يتسم بأزمة واضطراب غير مسبوقين. ومع وجود الديناميت في أسس الاقتصاد العالمي وجائحة كوفيد 19 التي ما تزال تلقي بظلالها على الوضع العالمي، فإن جميع الطرق تؤدي إلى احتداد الصراع الطبقي.


«وإجمالا إن الأزمة كانت تحفر عميقا مثل الخلد العجوز البارع».
(رسالة من ماركس إلى إنجلز، بتاريخ 22 فبراير 1858)

طبيعة المنظورات

إن الوثيقة الحالية، التي ينبغي قراءتها مقترنة مع الوثيقة التي أصدرناها في شتنبر 2020، ستكون مختلفة إلى حد ما عن وثائق المنظورات العالمية التي أصدرناها في الماضي.

في الفترات السابقة، عندما كانت الأحداث تسير بوتيرة أبطأ، كان من الممكن التعامل، وإن بشكل موجز، مع العديد من البلدان المختلفة. أما الآن فقد تسارعت وتيرة الأحداث لدرجة أنه من أجل التعامل مع كل شيء، يحتاج المرء إلى كتاب كامل. ليس الغرض من المنظورات إنتاج فهرس للأحداث الثورية، بل الكشف عن السيرورات الجوهرية الكامنة وراءها.

وكما أوضح هيجل في مقدمة كتابه “فلسفة التاريخ”: «إنها، في الواقع، الرغبة في امتلاك تصور عقلاني، وليس الطموح لتجميع مجرد كومة من المقتنيات، هي ما نفترض مسبقا أنه يجب أن يتملك دائما عقل المتعلم عند دراسة العلوم».

نحن نتعامل هنا مع السيرورات العامة، ولا يسعنا أن نتطرق إلا إلى عدد قليل من البلدان التي تساعد على كشف تلك السيرورات بشكل أوضح في هذه المرحلة. وسيتم التعامل مع البلدان الأخرى، بالطبع، في مقالات مستقلة.

أحداث درامية

بدأ عام 2021 بأحداث درامية. أزمة الرأسمالية العالمية تخلق موجات تنتشر من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. وفي كل مكان هناك نفس صور الفوضى والتفكك الاقتصادي والاستقطاب الطبقي.

لم يكد العام الجديد يبدأ حتى اقتحم حشد من الرعاع اليمينيين المتطرفين مبنى الكابيتول الأمريكي في واشنطن، بتحريض من الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، مما أعطى لمركز الإمبريالية الغربية مظهر دولة فاشلة.

تُظهر هذه الأحداث، إلى جانب الاحتجاجات الأكبر حجما لحركة “حياة السود مهمة” خلال الصيف الماضي، مدى عمق الاستقطاب الذي وصل إليه المجتمع الأمريكي.

وبالإضافة إلى ذلك أظهرت الاحتجاجات الكبيرة في الهند وكولومبيا والتشيلي وبيلاروسيا وروسيا نفس السيرورة: استياء الجماهير آخذ في الازدياد، والطبقة السائدة تفشل في الحكم بالطرق القديمة.

أزمة عالمية لا مثيل لها

تختلف هذه المنظورات العالمية عن أي منظورات أخرى تعاملنا معها في الماضي. إنها معقدة للغاية بسبب الجائحة التي تحوم مثل سحابة داكنة في جميع أنحاء العالم، وتعرض الملايين للبؤس والمعاناة والموت.

ما تزال الجائحة تنتشر خارج نطاق السيطرة. وفي وقت كتابة هذه الوثيقة، تم تسجيل أكثر من 100 مليون حالة في جميع أنحاء العالم، وحوالي ثلاثة ملايين حالة وفاة. هذه الأرقام غير مسبوقة خارج حرب عالمية، وما تزال تستمر في الارتفاع بلا هوادة.

لهذه الآفة الرهيبة أثر مدمر في البلدان الفقيرة حول العالم، كما أنها أثرت بشكل خطير على بعض أغنى البلدان.

يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية 30 مليون حالة، وقد تجاوز عدد الوفيات رقم نصف المليون. كما أن لبريطانيا أحد أعلى أعداد الوفيات بالنسبة لعدد السكان في العالم: أكثر من 04 ملايين حالة، وأكثر من 100.000 حالة وفاة.

وبالتالي فإن الأزمة الحالية ليست أزمة اقتصادية عادية. إنها تمثل حرفيا مسألة حياة أو موت بالنسبة لملايين الناس. وقد كان من الممكن تجنب الكثير من تلك الوفيات لو أنه تم اتخاذ الإجراءات المناسبة في وقت مبكر.

الرأسمالية عاجزة عن حل المشكلة

لا يمكن للرأسمالية أن تحل المشكلة: إنها هي بالضبط المشكلة.

COVID Image Lisa Ferdinando

تعمل هذه الجائحة على كشف الانقسامات الهائلة بين الأغنياء والفقراء. لقد كشفت خطوط الصدع العميقة التي تقسم المجتمع، الخط الذي يفصل بين أولئك المحكوم عليهم بالمرض والموت، وبين أولئك الذين ليسوا كذلك.

لقد فضحت تبذير الرأسمالية وفوضاها وعدم كفاءتها، وتحضر الشروط لاندلاع الصراع الطبقي في كل بلدان في العالم.

يحب السياسيون البرجوازيون استخدام المقارنات العسكرية لوصف الوضع الحالي. يقولون إننا في حالة حرب مع عدو غير مرئي، هو هذا الفيروس الرهيب. ويخلصون إلى أن كل الطبقات والأحزاب يجب أن تتحد وراء الحكومة القائمة. لكن هناك فجوة لا تنفك تتسع تفصل الأقوال عن الأفعال.

قضية الاقتصاد المخطط والتخطيط العالمي راهنية إلى أبعد مدى. الأزمة عالمية والفيروس لا يحترم الحدود ولا إجراءات الجمارك. يتطلب الوضع ردا عالميا، وتجميع كل المعارف العلمية وتعبئة جميع موارد الكوكب لتنسيق خطة عمل عالمية حقيقية.

وبدلا من ذلك ما لدينا هو مشهد مقيت للخلاف بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حول ندرة اللقاحات، في حين أن بعض البلدان الأكثر فقرا محرومة كليا من الحصول على أي لقاحات على الإطلاق.

لكن ما هو سبب هذه الندرة في اللقاحات؟ إن مشاكل إنتاج اللقاح -على سبيل المثال لا الحصر- هي انعكاس للتناقض بين الاحتياجات الملحة للمجتمع وبين آليات اقتصاد السوق.

لو كنا حقا في حالة حرب مع الفيروس، لكانت الحكومات ستعبئ كل مواردها لهذه المهمة. إن أفضل سياسة، من وجهة نظر عقلانية بحتة، هي زيادة إنتاج اللقاح بأسرع ما يمكن.

يجب توسيع القدرات الانتاجية، وهو ما لا يمكن القيام به إلا من خلال إنشاء مصانع جديدة. لكن الشركات الخاصة الكبرى لتصنيع اللقاحات ليست لديها أي مصلحة في توسيع الإنتاج على نطاق واسع لأنها ستكون أسوأ حالا من الناحية المالية إذا هي فعلت ذلك.

لو أنهم قاموا بزيادة الطاقة الإنتاجية بحيث يتم تزويد العالم كله باللقاح في غضون ستة أشهر، ستبقى المرافق المبنية حديثا فارغة بعد ذلك مباشرة. وستكون الأرباح بعد ذلك أقل بكثير مقارنة بالسيناريوهات الحالية حيث ستستمر المصانع الحالية في الإنتاج بكامل طاقتها لسنوات قادمة.

وهناك عقبة أخرى أمام الإنتاج الضخم للقاح وهي رفض شركات الأدوية الكبرى (Big Pharma) التخلي عن حقوق الملكية الفكرية على اللقاحات “الخاصة بها” (والتي تم تطويرها في معظم الحالات بفضل مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي) حتى تتمكن الشركات الأخرى من إنتاجها بثمن رخيص.

تحقق شركات الأدوية أرباحا تقدر بعشرات المليارات، لكن مشاكل كل من الإنتاج والعرض تعني وجود الخصاص في كل مكان. وفي غضون ذلك يواجه ملايين البشر الخطر.

حياة العمال في خطر

في سياق استعجالهم لتحريك الإنتاج (وبالتالي الأرباح) مرة أخرى، يلجأ السياسيون والرأسماليون إلى اختصار الطريق. يعملون على إعادة العمال إلى أماكن العمل المزدحمة دون حماية كافية. وهو ما يعادل إصدار حكم بالإعدام على العديد من هؤلاء العمال وعائلاتهم.

كل آمال السياسيين البرجوازيين كانت قائمة على اللقاحات الجديدة. لكن طرح اللقاحات كان فاشلا، ويتسبب الإخفاق في السيطرة على انتشار الفيروس -مما يزيد من خطر تطور سلالات جديدة مقاومة للقاحات- في آثار خطيرة، ليس فقط على حياة البشر وصحتهم، بل أيضا على الاقتصاد.

أزمة اقتصادية

وفقا لبنك إنجلترا، تعتبر الأزمة الاقتصادية الحالية هي الأشد حدة خلال 300 عام. خلال عام 2020، تم فقدان ما يعادل 255 مليون منصب شغل، في جميع أنحاء العالم، أي أربعة أضعاف ما كان عليه الحال في عام 2009.

Unemployment Image public domain

لقد بدأت الاقتصادات التي تسمى صاعدة في الغرق إلى جانب بقية الاقتصادات الأخرى. فالهند والبرازيل وروسيا وتركيا كلها في أزمة. اقتصاد كوريا الجنوبية انكمش العام الماضي، وذلك للمرة الأولى منذ 22 عاما. وقد حدث ذلك على الرغم من الدعم الحكومي الذي بلغت قيمته حوالي 283 مليار دولار. وصلت البطالة في جنوب إفريقيا إلى 32,5% وانكمش إجمالي الناتج المحلي عام 2020 بنسبة 7,2%. يعد هذا انكماشا أكبر مما تم تسجيله عام 1931 أثناء الكساد الكبير، وذلك على الرغم من إنفاق ما يعادل 10% من إجمالي الناتج المحلي في حزمة تحفيزات مالية.

أغرقت الأزمة ملايين الناس أكثر فأكثر في براثن الفقر. في يناير 2021، قدر البنك العالمي أن 90 مليون شخص سيقعون في براثن الفقر المدقع. وكتبت صحيفة الإيكونوميست، في 26 شتنبر 2020، أن:

«الأمم المتحدة أكثر تشاؤما. إنها تُعرِّف الفقراء على أنهم هؤلاء الذين ليست لديهم إمكانية الوصول إلى أشياء مثل المياه النظيفة والكهرباء والطعام الكافي والمدارس لأطفالهم.
بعمل قامت به مع باحثين من جامعة أكسفورد، تعتقد أن الجائحة يمكن أن تلقي بـ 490 مليونا، من 70 بلدا، في دائرة الفقر، مما يقوض ما يقرب من عقد من المكاسب».

وقد صاغ برنامج الأغذية العالمي، التابع للأمم المتحدة، الوضع بهذه العبارات: «في 79 بلدا حيث يشتغل برنامج الأغذية العالمي، وحيث تتوفر البيانات، يقدر أن ما يصل إلى 270 مليون شخص يعانون من الانعدام الحاد للأمن الغذائي أو أنهم معرضون لمخاطر عالية في عام 2021. وهي زيادة غير مسبوقة بنسبة 82% عن مستويات ما قبل الجائحة».

هذا وحده كاف لكي يعطي المرء فكرة عن المدى العالمي للأزمة.

وبالإضافة إلى آثار الجائحة، من المرجح أن تؤدي الأزمة البيئية العالمية إلى تفاقم هذا الوضع، مما سيؤدي إلى تفاقم الفقر وانعدام الأمن الغذائي. يهدد الاستغلال الرأسمالي للبيئة بوضع النظم البيئية الرئيسية على حافة الانهيار. لقد شهدنا زيادة في النزاعات حول الموارد المائية الشحيحة وتدمير البيئة مما سيؤدي حتما إلى الاضطرابات الاجتماعية والهجرات الجماعية المدفوعة بأسباب مناخية.

يرتبط الاضطراب العام حول العالم بشكل عضوي بتزايد الفقر. إنه سبب ونتيجة في نفس الآن. إنه السبب الأكثر جوهرية للعديد من الحروب والحروب الأهلية الجارية. وليست إثيوبيا سوى مثال واحد على ذلك.

كانت إثيوبيا تقدم باعتبارها مثالا نموذجيا. ففي الفترة الممتدة من 2004 إلى 2014، كان اقتصادها ينمو بنسبة 11% سنويا، وكان يُنظر إليها على أنها بلد ملائم للاستثمار. لكنها الآن دخلت في حالة اضطراب مع اندلاع القتال في إقليم تيغراي، حيث يحتاج ثلاثة ملايين شخص إلى إغاثة غذائية عاجلة.

هذه ليست حالة معزولة. قائمة البلدان التي تضررت من الحروب خلال الفترة الماضية طويلة جدا، وصور المعاناة الإنسانية مروعة:

أفغانستان: مليونا قتيل؛ اليمن: 100.000 قتيل؛ وقد أدت حروب المخدرات في المكسيك إلى مقتل أكثر من 250 ألف شخص. الحرب ضد الكورد في تركيا خلفت 45 ألف قتيل؛ الصومال 500.000 قتيل؛ العراق مليون قتيل على الأقل؛ جنوب السودان حوالي 400.000 قتيل.

في سوريا، قدرت الأمم المتحدة عدد القتلى بـ400.000، لكن هذا الرقم يبدو منخفضا للغاية. قد لا نتمكن أبدا من معرفة الرقم الحقيقي، لكن من المؤكد أنه يصل إلى 600.000 على الأقل. وفي الحروب الأهلية الرهيبة التي شهدتها الكونغو من المحتمل أن أكثر من أربعة ملايين شخص قد لقوا حتفهم. لكن هناك أيضا لا أحد يعرف الرقم الحقيقي. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة اندلاع الصراع في ناغورنو كاراباخ.

وهكذا فإن القائمة تطول وتطول. لم تعد مثل هذه الأشياء تعتبر ملائمة للنشر على الصفحات الأولى للصحف. لكنها تعبر بوضوح شديد عما قاله لينين ذات مرة بأن: “الرأسمالية رعب بلا نهاية”. إن استمرار وجود الرأسمالية يهدد بخلق ظروف البربرية في جميع البلدان، الواحد منها تلو الآخر.

أزمة النظام

دراسة الاقتصاد، من وجهة نظر ماركسية، ليست مسألة أكاديمية مجردة. إن له [الاقتصاد] تأثير عميق على تطور وعي جميع الطبقات.

هناك أزمة في كل مكان الآن، وهي ليست أزمة اقتصادية فحسب، بل أزمة النظام ككل. هناك مؤشرات واضحة على أن الأزمة شديدة وعميقة لدرجة أن الطبقة السائدة بدأت تفقد سيطرتها على الأدوات التقليدية التي استخدمتها في الماضي لتسير المجتمع.

ونتيجة لذلك تجد الطبقة السائدة نفسها عاجزة بشكل متزايد عن التحكم في الأحداث. وهذا واضح بشكل خاص في حالة الولايات المتحدة، لكنه ينطبق أيضا على العديد من البلدان الأخرى. يكفي ذكر أسماء ترامب وبوريس جونسون وبولسونارو لتأكيد هذه النقطة.

الولايات المتحدة الأمريكية

تحتل الولايات المتحدة الآن مكانة مركزية في المنظورات العالمية. لفترة طويلة جدا بدت الثورة في أغنى وأقوى أمة على وجه الأرض احتمالا بعيدا جدا. لكن الولايات المتحدة تضررت بشدة من الأزمة الاقتصادية العالمية وقد انقلب الآن كل شيء رأسا على عقب.

تقدم 68 مليون أمريكي بطلب للحصول على إعانة البطالة أثناء الجائحة، وكما هو الحال دائما، فإن الذين يعانون أكثر هم الأكثر فقرا وهشاشة، وخاصة الملونين. يقع ثقل آفة البطالة على كاهل الشباب بشكل خاص. فقد تعرض ربع الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما للطرد من العمل. فجأة سلب مستقبلهم منهم. لقد أصبح الحلم الأمريكي كابوسا أمريكيا.

أجبر هذا التغيير الدراماتيكي الكثير من الناس، كبارا وصغارا، على إعادة النظر في الآراء التي كانوا يعتبرونها في الماضي مقدسة، وبدأوا في مساءلة طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه. لقد أدى الصعود السريع لبيرني ساندرز في أحد طرفي الطيف السياسي، ودونالد ترامب في الطرف الآخر، إلى دق ناقوس الخطر للطبقة السائدة. لم يكن من المفترض أن يحدث هذا النوع من الأشياء!

وبسبب القلق من الخطر الذي يمثله هذا الوضع، اضطرت الطبقة السائدة إلى اتخاذ إجراءات طارئة. دعونا نذكر أنفسنا أنه وفقا للعقيدة الرسمية للاقتصاديين البرجوازيين، لم يكن من المفترض أن تلعب الدولة أي دور في الحياة الاقتصادية.

لكن في مواجهة الكارثة التي تلوح في الأفق، اضطرت الطبقة السائدة إلى إلقاء كل النظريات الاقتصادية، التي كانت مقبولة، في سلة المهملات. نفس الدولة التي يجب عليها، وفقا لنظرية السوق الحرة، أن تلعب دورا ضئيلا، أو لا تلعب أي دور، في الحياة الاقتصادية، أصبحت الآن الدعامة الوحيدة للنظام الرأسمالي.

لقد صار ما يسمى باقتصاد السوق الحر في جميع البلدان، بدءا من الولايات المتحدة الأمريكية، يعتمد حرفيا على جهاز الإنعاش، مثله مثل مريض بفيروس كورونا. معظم الأموال التي وزعتها الدولة ذهبت مباشرة إلى جيوب الأغنياء. لكن الطبقة السائدة خافت من العواقب السياسية لعملية إنقاذ أخرى للشركات، ولذلك قدمت منحا لكل السكان وعززت بشكل كبير تعويضات البطالة. لقد خفف هذا من تأثير الأزمة على الشرائح الأكثر فقرا. لكن هذا الدعم سوف يتقلص، في مرحلة ما، أو سيسحب تماما.

لدينا مفارقة تتمثل في وجود أفظع أشكال الفقر في أغنى بلد في العالم، جنبا إلى جنب مع أكثر أشكال الثراء والرفاهية فحشا. بحلول تشرين الأول (أكتوبر) 2020، لم يكن لدى أكثر من أسرة من بين كل خمس أسر أمريكية ما يكفي من المال لشراء الطعام. وبنوك الطعام تنتشر بشكل سريع.

اللامساواة والاستقطاب

لقد حطمت مستويات اللامساواة جميع الأرقام القياسية. وقد تحول التفاوت بين الأغنياء والفقراء إلى هوة لا يمكن رأبها. في عام 2020 نمت ثروة أثرياء العالم بمقدار 3,9 تريليون دولار. وصار مؤشر ناسداك 100 أعلى بنسبة 40% عما كان عليه قبل الجائحة. وخلال فبراير 2021، ارتفعت قيمة الأسهم المدرجة في البورصة عالميا، بمقدار 24 تريليون دولار منذ مارس 2020.

متوسط ​​رواتب الرؤساء التنفيذيين لشركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 (S&P 500) يبلغ 357 ضعف ما يكسبه العامل العادي. كانت النسبة حوالي 20 ضعف في منتصف الستينيات. وكانت ما تزال تشكل 28 ضعفا في نهاية ولاية رونالد ريغان عام 1989.

ولنسوق مثالا واحدا فقط، نقول إن جيف بيزوس يربح الآن في الثانية الواحدة أموالا أكثر مما يكسبه العامل الأمريكي العادي خلال أسبوع كامل. وهذا يعيد أمريكا إلى زمن البارونات الرأسماليين اللصوص الذين ندد بهم تيودور روزفلت قبل الحرب العالمية الأولى.

وهذا له تأثير. إذ أن كل الديماغوجية حول “المصلحة الوطنية” وأنه “يجب أن نتحد لمحاربة الفيروس” و”نحن جميعا في نفس القارب”، تبدو مكشوفة على أنها أبشع أشكال النفاق.

إن الجماهير مستعدة لتقديم التضحيات في ظل ظروف معينة. ففي أوقات الحرب يكون الناس على استعداد لتوحيد صفوفهم لمحاربة العدو المشترك، هذا صحيح. إنهم مستعدون، مؤقتا على الأقل، لقبول انخفاض مستويات المعيشة والقبول أيضا، إلى حد ما، بالقيود المفروضة على الحقوق الديمقراطية.

لكن الفجوة التي تفصل بين الذين يملكون والذين لا يملكون تعمق الاستقطاب الاجتماعي والسياسي وتخلق مزاجا متفجرا في المجتمع. إنها تقوض كل الجهود لخلق إحساس بالوحدة والتضامن الوطنيين، اللتان هما خط الدفاع الرئيسي للطبقة السائدة.

تظهر إحصائيات الاحتياطي الفيدرالي أن صافي ثروت 10% الأغنى في الولايات المتحدة وصلت 80,7 تريليون دولار في نهاية عام 2020. وهذا يعني 375% من الناتج المحلي الإجمالي وأعلى بكثير من المستويات التاريخية.

فرض ضريبة بنسبة 5% على تلك الثروة سيدر 4 تريليونات دولار، أو خمس الناتج المحلي الإجمالي. وهو المبلغ الذي سيدفع جميع تكاليف الجائحة. لكن البارونات اللصوص الأثرياء ليست لديهم أي نية في تقاسم ما نهبوه. يُظهر معظمهم (بمن في ذلك دونالد ترامب) عزوفا واضحا عن دفع أي ضريبة على الإطلاق، ناهيك عن 5%.

الحل الوحيد هو مصادرة أملاك المصرفيين والرأسماليين. وسوف تكتسب هذه الفكرة حتما المزيد والمزيد من الدعم، وستزيل التحيزات المتبقية ضد الاشتراكية والشيوعية، حتى بين تلك الفئات من العمال الذين خدعتهم ديماغوجية ترامب.

وقد بدأ هذا يثير بالفعل القلق بين المنظرين الجديين لرأس المال. توصلت ماري كالاهان إردوس، رئيسة إدارة الأصول والثروة في جيه بي مورغان، إلى النتيجة الحتمية حيث قالت: «ستواجهون مخاطر عالية للغاية من التطرف الناتج عن هذا. علينا أن نجد طريقة ما للتكيف، وإلا فإننا في وضع خطير للغاية».

الهجوم على مبنى الكابيتول

كان الهجوم على مبنى الكابيتول يوم السادس من يناير مؤشرا واضحا على أن ما تواجهه الولايات المتحدة الآن ليس مجرد أزمة حكومة، بل أزمة النظام نفسه.

لم يكن ذلك الحدث انقلابا ولا تمردا، لكنه كشف بشكل صارخ عن الغضب الهائل الموجود في أعماق المجتمع، وكذلك ظهور الانقسامات العميقة في الدولة. إن ما يشير إليه، في الأساس، هو أن الاستقطاب في المجتمع قد وصل إلى نقطة حرجة. ومؤسسات الديموقراطية البرجوازية تتعرض لضغوط هائلة.

توجد كراهية شديدة ضد الأغنياء والأقوياء وأصحاب الأبناك ووول ستريت وحكومة واشنطن بشكل عام (“المستنقع”). وقد قام الديماغوجي اليميني، دونالد ترامب، بتوجيه هذه الكراهية بمهارة.

ترامب نفسه ليس، بالطبع،  سوى التمساح الأكثر دهاءا وشرها في ذلك المستنقع. إنه يسعى وراء مصالحه الخاصة فقط. لكن ومن خلال قيامه بذلك، أضر بشكل خطير بمصالح الطبقة السائدة ككل. لقد لعب بالنار واستحضر قوى لا يستطيع لا هو ولا أي شخص آخر السيطرة عليها.

كان ترامب يدمر، بأقواله وأفعاله، شرعية المؤسسات البرجوازية ويخلق حالة من الاضطراب الهائل. وهذا هو السبب الذي يجعل الطبقة السائدة وممثليها السياسيين في كل مكان مرعوبين من سلوكه.

دعوى العزل (The impeachment)

حاول الديمقراطيون عزل ترامب واتهموه بتنظيم تمرد. لكنهم فشلوا، كما كان متوقعا، في إقناع مجلس الشيوخ بإدانته، الأمر الذي كان سيمنعه من الترشح لأي منصب عام في المستقبل.

Capitol Image Blink O Fanaye Flickr

كان معظم أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين سعداء للغاية للقيام بذلك. إنهم يكرهون ويخشون هذا السياسي المبتدئ. وكانوا يعرفون جيدا من يقف وراء أحداث 06 يناير. وجه زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش مكونيل، نقدا لاذعا للرئيس السابق، بعد أن صوت على تبرئته.

في الواقع، لقد كان هو وبقية أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الآخرين مرعوبين من ردة فعل أتباع ترامب الغاضبين إذا ما هم اتخذوا تلك الخطوة المصيرية. لقد قرروا أن الجبن أفضل الشيم، فصوتوا مرغمين لصالح تبرأته.

لكن لو أن ما حدث كان محاولة تمرد فإنها كانت محاولة سيئة للغاية. كانت أقرب إلى أعمال شغب واسعة النطاق منها إلى التمرد. اقتحم حشد من أنصار ترامب الغاضبين مبنى الكابيتول، بتواطؤ واضح من بعض الحراس على الأقل. لكنهم بعد أن استحوذوا بسهولة على قدس أقداس الديمقراطية البرجوازية الأمريكية، لم تكن لديهم أدنى فكرة عما يمكنهم أن يفعلوه به.

هؤلاء الغوغاء المفتقدين للتنظيم والقيادة تجولوا في الأرجاء بلا هدف، يحطمون أي شيء يكرهونه ويهتفون بالتهديدات ضد الديموقراطية نانسي بيلوسي، وضد العضوين الجمهوريين، نائب الرئيس مايك بنس وميتش ماكونيل، الذين اتهموهما بخيانة ترامب. وفي غضون ذلك توارى القائد العام للمتمردين عن الأنظار.

لو أن التاريخ يعيد نفسه، أولا كمأساة ثم كمهزلة، فإن هذه كانت مهزلة بكل معنى الكلمة. في النهاية لم يتم شنق أحد أو إرساله إلى المقصلة. فبعد أن تعب هؤلاء “المتمردون” من كثرة الصراخ، عادوا بهدوء إلى منازلهم أو دخلوا إلى أقرب حانة ليثملوا ويتفاخروا بمآثرهم العظيمة، ولم يتركوا ورائهم شيئا سوى كومة من القمامة وقليل من الغرور المكلوم.

ومع ذلك فإن تلك الأحداث شكلت، من وجهة نظر الطبقة السائدة، سابقة خطيرة للمستقبل. قال راي داليو، مؤسس أكبر صندوق تحوط في العالم، (Bridgewater Associates): «نحن على شفا حرب أهلية مروعة. إن الولايات المتحدة عند نقطة تحول يمكن خلالها أن تنتقل من التوتر الداخلي الذي يمكن التحكم فيه إلى الثورة». كان اقتحام مبنى الكابيتول بمثابة تحذير خطير للطبقة السائدة. سيكون لهذا بلا شك عواقب. وعلى الرغم من وابل العداء الإعلامي، فإن 45% من الجمهوريين المسجلين اعتبروا أن ذلك فعل مبرر.

لكن يجب مقارنة ذلك بالحقيقة الأكثر أهمية بكثير والتي هي أن 54% من بين جميع الأمريكيين يعتقدون أن إحراق مركز شرطة مينيابوليس كان عملا مبررا. وأن 10% من مجموع السكان قد شاركوا في احتجاجات حياة السود مهمة -أي أكثر بـ 20.000 مرة من أولئك الذين اقتحموا مبنى الكابيتول. كل هذا يدل على النمو السريع للاستقطاب الاجتماعي والسياسي الذي تشهده الولايات المتحدة.

لقد كانت الانتفاضات العفوية التي اجتاحت الولايات المتحدة، من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، في أعقاب مقتل جورج فلويد، والأحداث غير المسبوقة التي سبقت وتلت الانتخابات الرئاسية، نقطة تحول في الوضع برمته.

التغييرات في الوعي

من الطبيعي ألا يفهم الليبراليون والإصلاحيون الأغبياء أي شيء مما يحدث. إنهم لا يرون سوى سطح الأحداث، دون فهم التيارات العميقة التي تتدفق بقوة تحت السطح وترفع الأمواج.

تجدهم دائمي الصراخ عن الفاشية، ويعنون بها أي شيء لا يحبونه أو يخشونه. لكن من الواضح أنهم لا يعرفون شيئا على الإطلاق عن الطبيعة الحقيقية للفاشية. غير أنهم من خلال عزفهم المستمر على وتر “الخطر على الديمقراطية” (الذي يقصدون به الديمقراطية البرجوازية الشكلية) يزرعون الارتباك ويهيئون الأرضية للتعاون الطبقي تحت راية “أهون الشرين”. ودعمهم لجو بايدن في الولايات المتحدة مثال واضح جدا على ذلك.

ما يجب أن نأخذه في الاعتبار هو أن قاعدة دعم ترامب تتسم بطابع غير متجانس ومتناقض للغاية. إنها تتضمن جناحا برجوازيا، برئاسة ترامب نفسه، وعددا كبيرا من البرجوازيين الصغار الرجعيين، والمتعصبين الدينيين، والعناصر الفاشية الصريحة.

لكنه يجب علينا أن نتذكر أن ترامب قد حصل على 74 مليون صوت خلال الانتخابات الأخيرة، العديد منهم كانوا من الطبقة العاملة الذين صوتوا سابقا لأوباما لكنهم أصيبوا بخيبة أمل من الديمقراطيين. عندما يتم إجراء المقابلات معهم يقولون: “واشنطن لا تهتم بنا! نحن الناس المنسيون!”.

هناك تأرجحات عنيفة نحو اليسار ونحو اليمين أيضا. لكن الطبيعة تمقت الفراغ، وبسبب الإفلاس الكامل للإصلاحيين، بمن في ذلك الإصلاحيين اليساريين، تمكن الديماغوجيون اليمينيون، الذين يسمون بالشعبويين، من استغلال ذلك المزاج من الغضب والإحباط. ففي الولايات المتحدة لدينا ظاهرة الترامبية، بينما شهدنا في البرازيل صعود بولسونارو.

Trump Biden Image Socialist Revolution

لكن جاذبية الديماغوجيين اليمينيين سرعان ما تتبخر عندما تتلامس مع واقع الحكومة، كما توضح ذلك حالة بولسونارو بإسهاب. صحيح أن ترامب حافظ على دعم الملايين، لكنه مع ذلك تمت إزالته.

كان من المثير للاهتمام ملاحظة أنه في وقت الهجوم على مبنى الكابيتول، قال عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ميسوري، جوش هاولي: «سيواجه الجمهوريون في واشنطن صعوبة بالغة في معالجة هذا الأمر… لكن المستقبل واضح: يجب أن نكون حزبا للطبقة العاملة وليس حزبا لوول ستريت». (The Guardian)

قال لينين إن التاريخ يعرف كل أنواع التحولات الغريبة. ويجب على الماركسيين أن يكونوا قادرين على التمييز بين ما هو تقدمي وما هو رجعي. يجب أن نفهم أن كل هذه الأحداث تتضمن بشكل جنيني الخطوط العريضة للتطورات الثورية التي ستشهدها الولايات المتحدة في المستقبل.

بالطبع ليس لدى هذا السيناتور الجمهوري الرجعي أي نية في تنظيم حزب حقيقي للطبقة العاملة في الولايات المتحدة، ولن ينشأ مثل ذلك الحزب عن انشقاق داخل حزب الجمهوريين. لكن الاضطرابات التي يشهدها نظام الحزبين القديم هي بلا شك نذير بشيء جديد تماما: ظهور حزب ثالث يتحدى كلا من الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.

في البداية ستكون لذلك الحزب شخصية مشوشة وغير متجانسة للغاية. لكن العنصر المناهض للرأسمالية سيهيمن عاجلا أم آجلا. وهنا يكمن التهديد الحقيقي للنظام. عندما تبدأ الجماهير في التدخل المباشر في السياسة، عندما تقرر أن الوقت قد حان لأخذ مصيرها بأيديها، يعد هذا بحد ذاته أحد أعراض التطورات الثورية الوشيكة.

يفهم منظرو الرأسمالية الجادون التداعيات الخطيرة للاضطراب الحالي، وذلك أكثر بكثير من البرجوازية الصغيرة الانطباعية المذعورة. في 30 كانون الأول (دجنبر) 2020، نشرت صحيفة فايننشل تايمز مقالا مهما للغاية، موقعا باسم هيئة التحرير.

لقد رسمت فيه صورة مختلفة تماما للسيرورة التي تحدث، وإلى أين ستذهب، وقد كانت الاستنتاجات التي خلصت إليها من كل ذلك مقلقة للغاية من وجهة النظر البرجوازية:

«بدأت المجموعات التي تركت في الخلف بفعل التغيير الاقتصادي تستخلص بشكل متزايد أن المسؤولين لا يهتمون بمعاناتها، أو، الأسوأ من ذلك، أنهم قاموا بإفساد الاقتصاد لمصلحتهم ضد من يوجدون في الهامش.
يؤدي هذا، ببطء لكن بثبات، إلى وضع الرأسمالية والديمقراطية في حالة تناقض مع بعضهما البعض. ومنذ الأزمة المالية العالمية أدى هذا الشعور بالخيانة إلى تغذية رد فعل سياسي عنيف ضد العولمة ومؤسسات الديمقراطية الليبرالية.
قد تزدهر الشعبوية اليمينية نتيجة لرد الفعل العنيف هذا، بينما تبقى الأسواق الرأسمالية في مكانها.
لكن ونظرا لعدم قدرتها على الوفاء بوعودها للمحبطين اقتصاديا، فلن تكون سوى مسألة وقت فقط قبل أن تخرج مسلحة بالمذاري ضد الرأسمالية نفسها، وضد ثروة أولئك الذين يستفيدون منها».

يوضح هذا المقال فهما كاملا لديناميات الصراع الطبقي. بل حتى اللغة المستعملة معبرة. الحديث عن التسلح بالمذاري إحالة إلى التشابه مع الثورة الفرنسية، أو ثورة الفلاحين، عام 1381، عندما استولى الفلاحون على لندن.

مؤلفو تلك السطور يفهمون جيدا أن صعود ما يسمى بالشعبوية اليمينية يمكن أن يكون مجرد المرحلة الأولى قبل الانفجار الثوري. يمكن أن تكون التقلبات العنيفة للرأي العام نحو اليمين بمثابة تحضير لتقلبات أكثر عنفا نحو اليسار من قبل الجماهير الساخطة التي تبحث عن مخرج من الأزمة.

هذا تنبؤ شديد التبصر لكيفية تطور الأحداث خلال المرحلة القادمة، ليس فقط في الولايات المتحدة. يمكن ملاحظة هذا التقلب الهائل في العديد من البلدان، إن لم نقل في جميع البلدان. تتطور تحت السطح حالة من الغضب والمرارة والاستياء ضد النظام القائم.

انهيار الوسط

تقوم مؤسسات الديمقراطية البرجوازية على افتراض أن الهوة بين الأغنياء والفقراء يمكن إخفاؤها واحتواؤها ضمن حدود يمكن التحكم فيها. لكن هذا لم يعد ممكنا.

أدى النمو المستمر للامساواة الطبقية إلى خلق مستوى من الاستقطاب الاجتماعي لم نشهده منذ عقود. استقطاب يضغط على الآليات التقليدية للديمقراطية البرجوازية حتى أقصى حدودها، بل وما وراء تلك الحدود.

العداء بين الأغنياء والفقراء يزداد حدة كل يوم. إنه يوفر قوة دفع هائلة لقوى الطرد المركزي التي تفرق الطبقات. وهذا هو بالضبط سبب انهيار ما يسمى بالوسط.

يسبب هذا قلقا متزايدا بين أوساط الطبقة السائدة التي بدأت تشعر بأن السلطة تنفلت من بين أيديها. تربط الجماهير في كل مكان أحزاب النظام القائم بالتقشف والهجمات على مستويات المعيشة.

هناك مزاج غاضب داخل المجتمع. يتجلى هذا المزاج في انهيار الثقة في المؤسسات الرسمية والأحزاب والحكومات والقادة السياسيين والمصرفيين والأثرياء والشرطة والقضاء والقوانين القائمة وتقاليد ودين وأخلاق النظام القائم. لم يعد الناس يصدقون ما يقال لهم في الصحف والتلفزيون. إنهم يقارنون الاختلاف الكبير بين ما يقال وما يحدث، ويدركون أنه يتم إخبارنا بمجموعة من الأكاذيب.

لم يكن هذا هو الحال دائما. ففي الماضي لم يكن معظم الناس يهتمون كثيرا بالسياسة. وهذا ينطبق على العمال أيضا. كانت المحادثات التي تجري في أماكن العمل تدور عادة حول كرة القدم والأفلام والبرامج التلفزيونية. ونادرا ما كان يتم ذكر السياسة، إلا في وقت الانتخابات، ربما.

لكن الآن كل ذلك تغير. لقد بدأت الجماهير في الاهتمام بالسياسة، لأنهم بدأوا يدركون أنها تؤثر بشكل مباشر على حياتهم وحياة أسرهم. وهذا في حد ذاته ولذاته تعبير عن بداية التحرك في اتجاه الثورة.

في الماضي كان الناس إذا كلفوا أنفسهم أصلا عناء التصويت في الانتخابات، فإنهم عادة ما يصوتون لنفس الحزب الذي صوت له آباؤهم وأجدادهم. لكن الانتخابات أصبحت الآن غير قابلة للتنبؤ على الإطلاق. المزاج العام للناخبين هو الغضب وعدم الثقة والتقلب، مزاج يتأرجح بعنف من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار.

منظورات إدارة بايدن

واضعو استراتيجيات رأس المال يدركون المخاطر الهائلة وراء هذا الاستقطاب ويسعون جاهدين لإعادة بناء “الوسط”. لكنه من الناحية الموضوعية لا يوجد أساس حقيقي لذلك. ورهانهم على جو بايدن مثل من يتكئ على قصبة مكسورة.

تعلق وول ستريت الآن آمالها على إدارة بايدن وحملته للتلقيح. لكن بايدن يترأس الآن أزمة اقتصادية وسياسية عميقة في أمة منقسمة وآفلة.

تدفعه المؤسسة لزيادة تدخل الدولة في الاقتصاد، قد سارع إلى الكشف عن اعتزامه تطبيق حزمة تحفيز للاقتصاد الأمريكي بقيمة 1,9 تريليون دولار. فإذا أضفنا إلى ذلك حزمة 900 مليار دولار التي وافق عليها الكونغرس سابقا وثلاث تريليونات دولار من الإعفاءات التي تم تمريرها في بداية الجائحة، فإن كل هذا يزيد في تضخيم جبل الديون. الطبقة السائدة تحاول جاهدة استعادة الاستقرار السياسي.

عبر الأستاذ بجامعة هارفارد، كينيث روجوف، عن ذلك قائلا: «أنا متعاطف جدا مع ما يفعله بايدن… أجل، هناك بعض المخاطرة بأن يكون لدينا اضطراب اقتصادي في الطريق، لكننا الآن أمام اضطراب سياسي». كل هذا يحضر الشروط لأزمة ضخمة في المستقبل.

وفي غضون ذلك فإن هناك ملايين من المواطنين الساخطين الذين لا يعتقدون حتى أن بايدن قد فاز فعلا في الانتخابات. وكل ما سيفعله سيكون خطأ من وجهة نظرهم. ومن ناحية أخرى، فإن الآمال المبالغ فيها للعديد من مؤيديه سوف تتبخر، مثل قطرة ماء على موقد ساخن، بمجرد أن يتبدد الشعور الأولي بالارتياح الذي تلى رحيل ترامب. وعلى الرغم من أنه سيستمتع حتما بشهر عسل لبعض الوقت، فإن خيبة الأمل الهائلة ستتبعه، مما يمهد الطريق لحدوث اضطرابات جديدة وغليان وعدم استقرار.

أمريكا اللاتينية

أمريكا اللاتينية هي واحدة من أكثر مناطق العالم تضررا من كوفيد 19، سواء من وجهة نظر الصحة العامة أو من وجهة نظر الأزمة الاقتصادية.

انخفض الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة بنحو 7,7% عام 2020، وهو أكبر انهيار منذ 120 عاما. وقد جاء ذلك في أعقاب عقد من الركود، حيث بلغ متوسط ​​النمو السنوي 0,3% خلال الفترة ما بين 2014 و2019. ولا يُتوقع أن تستعيد المنطقة ناتجها المحلي الإجمالي لما قبل الأزمة حتى عام 2024. كما عادت مستويات الفقر المدقع إلى ما كانت عليه عام 1990.

تسبب ذلك بالفعل في حدوث اضطرابات اجتماعية وسياسية حتى قبل أن تبدأ الجائحة. عرفت أمريكا اللاتينية انتفاضات عام 2019 (الإكوادور، تشيلي)، والتي كانت جزءا من اتجاه عالمي (الجزائر، السودان، العراق، لبنان…)، قبل أن تتوقف مؤقتا مع انتشار الجائحة التي اجتاحت القارة مع عواقب مدمرة.

virus2 Image In defence of Marxism

شهدت البرازيل أحد أعلى حصيلة الوفيات في العالم كما تضررت بيرو بشدة. وفي الإكوادور كانت النعوش تتراكم أمام المشارح المكتظة، وفي بعض الأماكن تم ترك الجثث في الشوارع.

إلا أننا شهدنا في النصف الثاني من عام 2020، عودة حركات التمرد الجماهيرية. في شتنبر 2020، كان هناك انفجار للغضب في كولومبيا ضد جريمة قتل تسببت فيها الشرطة، والذي شهد إحراق 40 مركزا للشرطة. في البيرو أسقطت حركة الجماهير حكومتين. وأدت الاحتجاجات في غواتيمالا إلى إحراق مبنى البرلمان. استمر هذا حتى عام 2021، وكانت له عواقب سياسية مهمة. ففي كولومبيا عادت الحركة إلى الظهور بحركة إضراب وطنية قوية قلصت إلى الحد الأدنى قاعدة دعم حكومة دوكي. وفي البيرو شهدنا الانتخاب غير المتوقع لرجل التعليم والنقابي، بيدرو كاستييو، خلال الانتخابات الرئاسية. وبالمثل شهدنا في تشيلي هزيمة انتخابية لليمين وصعود مرشحين مرتبطين بانتفاضة 2019، وكذلك مرشحي الحزب الشيوعي والجبهة الموسعة، في انتخابات الجمعية التأسيسية ورؤساء البلديات وحكام المناطق.

في البرازيل، حيث أحدث اليساريون والعصبويون ضجة كبيرة حول انتصار “الفاشية” المزعوم، قد بدأت قاعدة دعم بولسونارو في الانهيار. وشعار “Fora Bolsonaro” (بولسونارو إرحل) الذي كان رفاقنا البرازيليون هم أول من أطلقه، والذي رفضه اليساريون باعتباره طوباويا، قد حصل الآن على قبول عام.

لقد صار “الرجل القوي” بولسونارو ضعيفا للغاية إلى درجة أنه لم يتمكن حتى من تشكيل حزبه. وعلى الرغم من أنه حاول يائسا القيام بذلك، فإنه فشل حتى الآن فشلا ذريعا حتى في الحصول على توقيعات كافية للتسجيل.

المشكلة ليست في قوة بولسونارو، بل في ضعف اليسار. حزب العمال، الذي كان يتمتع في الماضي بتأييد الأغلبية الساحقة من العمال، خسر في الانتخابات الأخيرة بشكل مذل. وهنا أيضا نجد أن الأمر لا يتعلق بالصعوبات الموضوعية، بل بضعف العامل الذاتي.

إن الأحداث الثورية والانتفاضات التي وقعت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية ووصول القادة “التقدميين” إلى السلطة بدعم من العمال والفلاحين (أندريس مانويل لوبيس أوبرادور في المكسيك، آرسي في بوليفيا، كاستييو في البيرو، إلخ) بمثابة دحض لكل هؤلاء (بمن فيهم العصبويون) الذين ادعوا وجود “موجة محافظة” في أمريكا اللاتينية. إن الرأسمالية هنا أضعف بكثير مما هي عليه في البلدان الرأسمالية المتقدمة، وكانت آثار الجائحة مدمرة من الناحيتين الصحية والاقتصادية، وتكتسب الجماهير القوة في خضم النضالات المثيرة للإعجاب التي شهدناها مؤخرا. لكل هذه الأسباب من المرجح جدا أن تكون أمريكا اللاتينية أحد ساحات الأحداث الثورية القادمة.

كوبا

وفي هذه الأثناء تواجه كوبا أزمة اقتصادية هائلة، تسببت فيها الجائحة وتفاقمت بفعل عقوبات ترامب والإجراءات الاقتصادية، التي لم يتراجع بايدن عن أي منها. وقد انخفض اقتصاد الجزيرة بنسبة 11% عام 2020.

لقد دفع ذلك القيادة إلى تنفيذ سلسلة من إجراءات السوق الرأسمالية، والتي كانت تتم مناقشتها منذ 10 سنوات لكنها لم تطبق بالكامل، بما في ذلك توحيد العملة، وإدخال علاقات السوق بين شركات القطاع الحكومي، وإغلاق شركات القطاع الحكومي غير “المربحة”، وإلغاء دعم أسعار المواد الغذائية الأساسية، إلخ.

وقد أثرت هذه الإجراءات بالفعل في زيادة اللامساواة وأثارت السخط. إنها نقطة تحول في السيرورة نحو عودة الرأسمالية.

تمثل هذه العوامل الاقتصادية الأساس الموضوعي لاحتجاجات 11 يوليوز. كانت تلك أكبر احتجاجات تشهدها كوبا منذ حركة “ماليكونازو” عام 1994، وقد جاءت في وقت أزمة اقتصادية عميقة وفي ظل حكومة لا تتمتع بنفس النفوذ الذي كان فيدل كاسترو يتمتع به في ذلك الوقت.

كان للحركة عنصر حقيقي للاحتجاج يتمثل في الخصاص والمشاق التي تعاني منها الطبقة العاملة. لكنه كان هناك أيضا عنصر آخر تمثل في الاستجابة لحملة الدعاية المستمرة على وسائل التواصل الاجتماعي والاستفزازات في الشوارع من قبل العناصر المعادية للثورة بشكل صريح، والتي تواصلت منذ شهور.

كان المتظاهرون، الذين بلغ عددهم حوالي 2000 في هافانا، مكونين من شرائح مختلفة: فقراء من الأحياء العمالية تضرروا بشدة من الأزمة الاقتصادية والإجراءات التي اتخذتها البيروقراطية؛ وحثالة وعناصر إجرامية؛ والعناصر البرجوازية الصغيرة المؤيدة للرأسمالية التي ازدهرت خلال السنوات العشر الأخيرة بفعل الإصلاحات الموالية للسوق الحرة؛ وفنانين ومثقفين وشباب مهتمين بالرقابة والحقوق الديمقراطية بشكل مجرد.

يجب توضيح أن الاحتجاجات قد جرت تحت شعارات “الوطن والحياة” (“Patria y vida “) و”لتسقط الديكتاتورية” و”لتسقط الشيوعية”، والتي من الواضح أنها ذات طابع معادي للثورة. إن المشاكل والمصاعب حقيقية وواقعية؛ وهناك عناصر مشوشة تشارك في الحركة؛ لكن وفي خضم كل هذا الارتباك، فإن العناصر المعادية للثورة هي التي تهيمن على تلك الاحتجاجات. إنها منظمة ومدفوعة ولها أهداف واضحة. ولذلك فإنه من الضروري مواجهتها والدفاع عن الثورة. إذا تمكن أولئك الذين يروجون لهذه الاحتجاجات، إلى جانب أسيادهم في واشنطن، من تحقيق هدفهم -أي الإطاحة بالحكومة-، فسوف يؤدي ذلك حتما إلى تسريع سيرورة عودة الرأسمالية وإعادة كوبا إلى وضعها السابق باعتبارها مستعمرة فعلية للإمبريالية الأمريكية. لن يتم حل المشاكل الاقتصادية والصحية التي تعاني منها الطبقة العاملة الكوبية، بل إنها، على العكس من ذلك، سوف تتفاقم. على المرء فقط أن ينظر إلى برازيل بولسونارو أو هايتي المجاورة ليقتنع بهذا. كما أنه سيكون لهزيمة الثورة الكوبية تأثير سلبي على وعي العمال في جميع أنحاء القارة وحول العالم.

في هذا الصراع الذي ينفتح، يقف التيار الماركسي الأممي موقف الدفاع عن الثورة الكوبية دون قيد أو شرط. إن النقطة الأولى التي يجب أن نشير إليها هي أننا نعارض بشكل مطلق الحصار الذي تفرضه الإمبريالية الأمريكية ونناضل ضده. ومع ذلك فإن دفاعنا غير المشروط عن الثورة لا يعني أننا غير نقديين. يجب أن نوضح بشكل جلي أن سياسات البيروقراطية مسؤولة إلى حد كبير عن خلق الوضع الحالي. يؤدي التخطيط البيروقراطي إلى سوء الإدارة وعدم الكفاءة والتبذير والتراخي. ويؤدي الإكراه البيروقراطي والتعسف إلى نفور الشباب. وتؤدي الإجراءات المؤيدة للرأسمالية إلى خلق التمايز الاجتماعي والفقر.

بدأت تتصاعد مواقف المسائلة تجاه القيادة على نطاق واسع بين العديد من العمال والشباب الذين يعتبرون أنفسهم ثوريين. يجب أن نوضح أن الطريقة الفعالة الوحيدة للدفاع عن الثورة هي من خلال أخذ الطبقة العاملة لزمام المسؤولية. يجب أن يكون نموذجنا هو الديمقراطية العمالية كما ظهرت في كومونة باريس وشرحها لينين في كتابه الدولة والثورة. إننا ندافع عن تنظيم أوسع نقاش سياسي وأكثره حرية بين الثوريين. يجب أن تصير وسائل الإعلام الحكومية منفتحة على جميع أطياف الموقف الثوري. يجب أن يتمتع العمال أنفسهم، في جميع أماكن العمل،  بالسلطات الكاملة لإعادة تنظيم الإنتاج لجعله أكثر كفاءة. وعلاوة على ذلك يجب إلغاء امتيازات البيروقراطية (المحلات الخاصة، الوصول التفضيلي للمنتجات الأساسية). ويجب أن يصير جميع مسؤولي الدولة منتخبين ويمكن عزلهم في أي وقت.

في نهاية المطاف سيتقرر مصير الثورة الكوبية في مجال الصراع الطبقي الأممي. يجب على الثوريين الكوبيين أن يتبنوا موقفا اشتراكيا ثوريا أمميا، في مواجهة الموقف القائم على الاعتبارات الجيوسياسية والدبلوماسية. إننا ندافع عن الديمقراطية العمالية والاشتراكية الأممية.

أوروبا

عام 2020 انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 7% عند الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وقد كان هذا أكبر انخفاض عرفته أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. تظهر الأرقام الرسمية أن هناك 13,2 مليون عاطل عن العمل، لكن الرقم الحقيقي أقرب إلى 12,6% (حوالي 20 مليون). وهناك 30 مليون آخرين ممن يعتبرون في عداد المفقودين من الأرقام الرسمية، والذين يوصفون بـ “البطالة المستترة”.

أخطأت مفوضية الاتحاد الأوروبي في طرح لقاح كوفيد 19، مما أدى إلى نقص كبير في إمدادات اللقاح في جميع أنحاء أوروبا. لم تحصل الدنمارك في البداية إلا على 40.000 جرعة، بينما كانت تتوقع الحصول على 300.000. كما أن هولندا في البداية لم تتلق أية جرعة.

يأتي فشل برنامج اللقاح نتيجة لكارثة نقص معدات الحماية الشخصية العام الماضي. عندما كانت إيطاليا تواجه أسوء فترات أزمتها، لم يظهر للتضامن الأوربي أي أثر. ساد منطق كل شخص لنفسه. كان برنامج اللقاح محاولة لإعادة التضامن داخل الاتحاد الأوروبي، لكنه فشل.

ومما زاد الطين بلة أن تصعيد الإجراءات التقييدية (الإغلاق، وما إلى ذلك) من أجل التصدي للجائحة من قبل 21 بلدا في منطقة اليورو، أدى إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي بشكل كبير، بحيث واجه التكتل ركودا مزدوجا.

عندما ضربت الجائحة لأول مرة، في الربيع الماضي، تعرض اقتصاد منطقة اليورو لصدمة مفاجئة وعميقة، والطفرة الجديدة في الإصابات ستبقى لفترة أطول مما يتسبب في انخفاض، أبطأ لكن أكثر حدة، في النشاط الاقتصادي.

خلال الأسابيع الأولى من عام 2021 تضرر قطاع الرحلات والبيع بالتجزئة والضيافة وثقة الأعمال وإنفاق المستهلكين. وهو ما يهدد بإحداث موجة متأخرة من حالات الإفلاس، ما لم تستمر الحكومات والبنوك المركزية في تبني إجراءات دعم الاقتصاد.

ونتيجة لذلك يتوقع الاقتصاديون أن انكماش الإنتاج في منطقة اليورو سيكون بين 1,8% و2,3% خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020، سيتبعه انخفاض آخر خلال الربع الأول من عام 2021 في العديد من الاقتصادات الرئيسية للتكتل، بما في ذلك ألمانيا وإيطاليا. وهو ما قد يدفع بمنطقة اليورو إلى ركودها الثاني، الذي تم تعريفه على أنه ربعين متتاليين من النمو السلبي، في أقل من عامين.

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وصعود ترامب، الذي لم يكن يكلف نفسه عناء إخفاء ازدرائه لكل ما هو أوروبي، صارت البرجوازية الأوروبية تشعر أنه لم يعد في إمكانها الاعتماد على الحلفاء التقليديين. وقد لاقت محاولة إيمانويل ماكرون الغبية للتعبير عن إعجابه بترامب فشلا ذريعا.

أوضح ترامب أنه يعتبر أوروبا عدوا رئيسيا، في حين أن روسيا ليست سوى “منافس”. وقد تابع كلماته بالأفعال. كانت سياساته الحمائية موجهة ضد أوروبا مثلما كانت موجهة ضد الصين. وقد حافظ على هذا الموقف العدواني حتى الأيام الأخيرة لإدارته. ومع مطلع السنة الجديدة أعلنت الولايات المتحدة عن زيادة جديدة في الرسوم الجمركية على صادرات الاتحاد الأوروبي من قطع غيار الطائرات والنبيذ القادم من فرنسا وألمانيا.

يسعى بايدن إلى تجديد العلاقات مع أوروبا. وقد عبر عن التزام الولايات المتحدة بالتعددية، بما في ذلك العودة إلى الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية واتفاقية باريس للمناخ. كما دعم المدير العام الجديد لمنظمة التجارة العالمية. كما تغير الموقف من الاتفاق النووي الإيراني. كل هذه خطوات مرحب بها من طرف الأوروبيين الذين يسعون بيأس لحدوث تغير في سياسة البيت الأبيض. وقد وصف ترامب هذه الإستراتيجية الجديدة بـ “أمريكا أخيرا”.

ومع ذلك فإن هناك صراعات بين الجانبين يصعب حلها. الأوروبيون غير مقتنعين باستراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين، كما أنهم حريصون على الاستفادة من الحرب التجارية الأمريكية مع الصين لأغراضهم الخاصة. اعتبرت معاهدة الاستثمار الجديدة، التي أبرمت بين الصين والاتحاد الأوروبي خلال الأسابيع الأخيرة من رئاسة ترامب، على أنها إهانة لجو بايدن، والتي أُجبر الرئيس الجديد على ابتلاعها.

هناك المزيد من الخلافات التي طال أمدها: فقد بقي نزاع إيرباص – بوينغ بخصوص المساعدات الحكومية مشتعلا منذ عقود دون أي حل في الأفق. كما أن خط أنابيب ”نورد ستريم 2” يتسبب أيضا في حدوث شقاق كبير بين الولايات المتحدة وألمانيا، إذ تعتبر الولايات المتحدة أن خط الأنابيب سيعزز نفوذ روسيا في أوروبا. وخلال الأشهر المقبلة سوف يتم اختبار مشاعر الحب المكتشفة حديثًا بين بايدن والأوروبيين، حيث سيحاول كلاهما إعادة الحياة لصادراتهما خلال مرحلة ما بعد أزمة الجائحة.

شكلت ألمانيا مرساة أوروبا، وجزيرة الاستقرار في خضم بحر كثير الهيجان. كان يُنظر إلى أنجيلا ميركل على أنها حامية الأمن في قيادة أهم بلد في أوروبا، لكن مع مجيء الجائحة ظهرت مشاكل جديدة.

كانت أوروبا تشهد بالفعل توترات متزايدة بين الدول الأعضاء، بعد أزمة عام 2008. كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نقطة تحول في هذه الدينامية، مثلها مثل أزمة الجائحة والنزعة القومية التي سادت خلال التعامل مع الأزمة الصحية. ستؤدي الأزمة العالمية العميقة إلى ممارسة ضغوط هائلة في هذا الاتجاه: يجب على الاتحاد الأوروبي أن يتنافس مع الكتل الإمبريالية الأخرى، وفي نفس الوقت سوف تتنافس مختلف الدول التي يتكون منها الاتحاد الأوروبي مع بعضها البعض لتصدير أزماتها الخاصة.

Merkel Image EU2017EE Flickr

لقد أدرك الرأسماليون الألمان أنه يتعين عليهم تغيير أساليبهم من أجل محاولة وقف نزعات الطرد المركزي المتزايدة داخل الاتحاد الأوروبي. وقد تعزز هذا الاتجاه أكثر عندما ضربت الجائحة. خلال الخريف الماضي اضطرت ألمانيا إلى ضمان قرض بقيمة 750 مليار يورو لصندوق الإنعاش الأوروبي من أجل الحفاظ على تماسك الاتحاد. سوف توفر هذه الحزمة الكبيرة إغاثة مؤقتة للاتحاد الأوروبي، لكنها ليست سوى دعم لمرة واحدة. لقد عارضت ألمانيا بشدة الدعوات الرامية للمضي قدما في هذا الاتجاه. وفي النهاية لم يتم حل أي من المشاكل.

اضطرت ميركل إلى تمديد الإغلاق في ألمانيا. وتحالفها الحكومي يصارع في خضم بطء معدلات التطعيم وعدم كفاية الإمدادات. لقد تحول المزاج الوطني من مشاعر تهنئة الذات إلى الكآبة. وقد قالت صحيفة فايننشل تايمز إن: «المشهد السياسي قبل انتخابات شتنبر يبدو أكثر انقساما وتقلبا».

في فرنسا، أصبحت حكومة ماكرون الآن فاقدة تماما لمصداقيتها، بمعدل رفض يصل 60%: الذي يعتبر أسوء معدل منذ احتجاجات السترات الصفراء. معدل البطالة الرسمي 9%، لكنه في الواقع أعلى بكثير.

لم تحقق “المناظرة الوطنية الكبرى” أي شيء لاستعادة الدعم الشعبي للحكومة، مثلما لم تحقق ذلك إقالة رئيس الوزراء إدوارد فيليب. ومحاولات ماكرون المتكررة لتمثيل دور “رجل دولة عظيم” على الصعيد العالمي لا تثير سوى السخرية على جميع المستويات.

بريطانيا

منذ وقت ليس ببعيد، كانت بريطانيا ربما البلد الأكثر استقرارا في أوروبا. أما الآن فقد أصبح على الأرجح البلد الأكثر اضطرابا.

لقد كشفت الأزمة الحالية بقسوة عن ضعف الرأسمالية البريطانية. تراجع اقتصاد المملكة المتحدة بنسبة 9,9% عام 2020، أي ضعف المعدل الذي سجلته ألمانيا وثلاثة أضعاف معدل الولايات المتحدة. والآن في مواجهة آثار الجائحة وكارثة البريكست، صار من الحتمي حدوث ركود آخر.

كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عملا جنونيا من جانب حزب المحافظين، الذي أفلت الآن من سيطرة الطبقة الحاكمة. الحكومة تحت سيطرة مهرج سيرك، هو بدوره تحت سيطرة شوفينيين رجعيين معتوهين.

إن حزب المحافظين، وعلى الرغم من فوزه الحاسم خلال انتخابات دجنبر 2019، قد فقد مصداقيته بشكل متزايد، لا سيما بسبب سوء تعامله مع الجائحة مما تسبب في وفيات أكثر من أي بلد آخر في أوروبا. يعد عدد الوفيات في بريطانيا (الذي لا تفصح الأرقام الرسمية عن حقيقته الكاملة) من بين أعلى المعدلات في العالم بالنسبة لعدد السكان. ومع ذلك فقد ظل المحافظون يقاومون باستمرار اتخاذ الإجراءات اللازمة إلى أن فرضت عليهم بسبب خطورة الموقف.

هؤلاء الناس لا يهتمون بحياة السكان وصحتهم. كما أنهم لا يهتمون بالحالة المؤسفة للخدمات الصحية الوطنية، التي تسببوا في تخريبها بعقود من الاقتطاعات. إنهم مدفوعون بشيء واحد فقط وهو: الأرباح.

يرغب المحافظون في استمرار الإنتاج بأي ثمن. ولهذا السبب كانوا مصممين على إعادة فتح المدارس. أدى ذلك خلال الأيام الأولى من شهر يناير إلى اندلاع احتجاج جماهيري واجتماع حاشد عبر الإنترنت ضم 400 ألف معلم ومعلمة. كان تهديدهم بخوض الإضراب هو ما أجبر الحكومة على إغلاق المدارس.

لكن وعلى الرغم من عدم شعبية الحكومة، فإن حزب العمال وقيادته اليمينية ما يزالون متخلفين عن حزب المحافظين. لا توجد معارضة حقيقية من جانب حزب العمال.

كانت استقالة كوربين وماكدونيل، بعد هزيمة حزب العمال في دجنبر 2019، بمثابة ضربة قوية لليسار وهدية للجناح اليميني. كانت لدى اليسار كل الفرص لكي يعمل على تغيير حزب العمال. لقد حصل قادته على الدعم الكامل من جانب قواعد الحزب. كان هذا سيعني إجراء تطهير شامل ضد الجناح اليميني لحزب العمال. لكنهم تراجعوا عن القيام بذلك ورفضوا دعم شعار إلغاء انتخاب النواب، الذي دافع عنه الماركسيون ومناضلون آخرون، والذي حظي بتأييد واسع في صفوف القواعد.

يخشى اليساريون في آخر المطاف إيصال النضال إلى نتائجه النهائية، وهو ما يعني إجراء قطيعة كاملة مع اليمين. لكن اليمين لا يظهر مثل هذا اللطف تجاه اليسار. فاليمينيون الذين شجعهم ضعف اليسار، قاموا بحملة تطهير ضده – بما في ذلك عزل كوربين نفسه. إن هذا الضعف ليس مجرد مسألة أخلاقية، إنه مسألة سياسية، إنه طبيعة بنيوية للإصلاحية اليسارية.

الرأسماليون الكبار هم من يحتلون الصدارة الآن في حزب العمال. وكير ستارمر لا يتحدث مثل زعيم للمعارضة، بل يتحدث كعضو خاضع في حكومة جونسون. إنه ينتظر قيام جونسون بالتحرك قبل أن يقول: “وأنا أيضا”.

لكن الجناح اليميني ذهب الآن بعيدا جدا. ومن خلال ممارساته يدفع اليمين اليساريين لكي يخرجوا لخوض الصراع. إن الميدان مهيأ لاندلاع المعركة داخل حزب العمال.

ومهما حدث فإنه يمكن للتيار الماركسي أن يحقق المكاسب وستفتح لنا العديد من الأبواب الجديدة. إن فن السياسة هو القدرة على اغتنام كل فرصة تسنح.

إيطاليا

تظل إيطاليا الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية الأوروبية. لقد كشفت الأزمة الحالية عن ضعفها المزمن. ونظرا لعدم قدرتها على التنافس مع الاقتصادات الأكثر قوة، مثل ألمانيا، فإنها تتراجع أكثر فأكثر، وتغرق في الديون أكثر من أي وقت مضى.

نظامها المصرفي يقف على حافة الانهيار وهو الشيء الذي يمكن أن يجر معه بقية أوروبا. الاتحاد الأوروبي ملزم بدعمها لهذا السبب بالذات، لكنه يفعل ذلك بغضب شديد.

المصرفيون، الألمان على وجه الخصوص، ينفد صبرهم بشكل متزايد، وقد كانوا حتى وقت قريب يطالبون باعتماد إجراءات جادة لخفض الإنفاق الحكومي ومهاجمة مستويات المعيشة. وهذا يعني أنهم كانوا يدفعون بإيطاليا نحو الهاوية. لقد تغيرت لهجتهم إلى حد ما منذ أن أجبرتهم الجائحة جميعا على اللجوء إلى الدولة للحصول على المساعدة. وبمجرد انتهاء الجائحة، سيعودون إلى التقشف تحذوهم مشاعر الانتقام.

تحتاج الطبقة السائدة الإيطالية إلى حكومة قوية لكي تتمكن من تجاوز الأزمة الحالية. لكنه لا إمكانية لوجود حكومة قوية في إيطاليا. النظام السياسي فاسد حتى النخاع. ويظهر انعدام الثقة في السياسيين من خلال أزمة دائمة للحكومة. تتوالى الحكومات الائتلافية الضعيفة الواحدة منها تلو الأخرى، في حين لا يتغير شيء من حيث الجوهر. إن الجماهير يائسة وينعكس بحثها عن مخرج من خلال التقلبات العنيفة نحو اليمين ونحو اليسار.

لقد تفاقمت الأزمة بشكل كبير بسبب الجائحة التي ضربت إيطاليا بشكل أبكر وأصعب من أي مكان آخر. وفي وقت كتابة هذه الوثيقة اقترب عدد الوفيات الناجمة عن كوفيد 19 من 100.000 شخص.

كانت الطبقة السائدة تأمل في الحفاظ على ائتلاف يسار الوسط لأطول فترة ممكنة من أجل منع حدوث انفجار اجتماعي. لكن ذلك أصبح غير ممكن، مع استنفاذ الخيارات السياسية الواحدة منها تلو الأخرى. بعد أن شعر حزب رينزي “إيطاليا حية” بالنيران تحت مؤخرته، قام بسحب وزرائه الثلاثة من حكومة كونتي، في أعقاب فشل التعاطي مع جائحة كوفيد 19، مما أدى إلى انهيار الحكومة وفتح الباب أمام تشكيل حكومة دراغي.

تدخل رئيس الجمهورية، وبدلا من الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة، وجه الدعوة لدراغي، المحافظ السابق للبنك المركزي الأوروبي، لتشكيل حكومة. نشهد هنا مثالا آخر لفرض “تكنوقراطي” على البلاد كرئيس للوزراء، دون أن ينتخبه أحد.

أتاح إفلاس “يسار الوسط” الفرصة لتشكيلات اليمين المتطرف مثل حزب “إخوان إيطاليا”. لقد بقوا خارج التحالف الذي يدعم دراغي، وذلك أولا لأنه ليس بحاجة إليهم، وثانيا لأنهم يأملون في تحقيق المكاسب على حساب حزب “ليغا”، الموجود الآن في الحكومة.

عاجلا أم آجلا، سوف تُستبدل الألعاب البرلمانية بمعركة مفتوحة بين الطبقات. ليست هناك أي إمكانية لأي استقرار على أساس النظام الحالي. لا يوجد في إيطاليا حزب عمالي جماهيري. لكن الجماهير يزداد غضبها ونفاذ صبرها يوما بعد يوم. وقد كانت التحركات الكفاحية التي قام بها العمال خلال الشهر الأول للجائحة بمثابة إنذار بما سيأتي.

الفشل المتكرر للحكومات يقود بشكل حتمي إلى انفجار الصراع الطبقي. وفي نهاية المطاف لن تحل القضايا داخل قاعة البرلمان، ويقترب بسرعة ذلك اليوم حيث سينتقل مركز الثقل من البرلمان الفاقد للمصداقية إلى المصانع والشوارع.

روسيا

يمكن رؤية نفس الاضطراب والتقلب في كل مكان. في روسيا، كانت عودة أليكسي نافالني واعتقاله هي إشارة البداية لموجة من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد. كانت هناك مظاهرات شارك فيها 40 ألف شخص في موسكو، و10 آلاف في بطرسبورغ وآلاف آخرين في 110 مدنية أخرى، بما في ذلك فلاديفوستوك وخاباروفسك.

لم تكن هذه الاحتجاجات بنفس النطاق الهائل الذي رأيناه في بيلاروسيا في وقت سابق، عندما خرج الملايين إلى الشوارع للإطاحة بلوكاشينكو. لكنها كانت مظاهرات كبيرة في السياق الروسي. كان تكوين المظاهرات غير متجانس إلى حد بعيد، بوجود العديد من الناس المنتمين إلى الطبقة الوسطى والمثقفين والليبراليين، لكن أيضا عدد متزايد من العمال، وخاصة العمال الشباب.

ردت الشرطة بالقمع. وقعت اشتباكات في الشوارع في العديد من المدن، اخترق الناس الحواجز، وأصيب نحو 40 فرد أمن بجروح. تم اعتقال عدة آلاف من الأشخاص.

ماذا تمثل هذه الاحتجاجات؟ كانت في جزء منها انعكاسا للسخط على اعتقال نافالني. لكن مسألة نافالني ليست سوى عنصر واحد في هذا الموقف، وليس بالضرورة العنصر الأهم.

تم تصوير أليكسي نافالني في وسائل الإعلام الغربية على أنه مدافع بطولي عن الديمقراطية. في الواقع، هو انتهازي طموح وله ماض سياسي مشبوه. وفي المستقبل سيُنظر إليه على أنه شخصية عرضية.

لكن حتى الشخصيات العرضية أيضا تلعب دورا في التاريخ في لحظات معينة. وكما هو الحال في الكيمياء، حيث هناك حاجة إلى محفز لإحداث تفاعل معين، كذلك في السيرورة الثورية، هناك حاجة إلى نقطة مرجعية لتعمل كمفجر لإشعال السخط المتراكم لدى الجماهير. الطبيعة الدقيقة لهذا المحفز ليست بالأمر المهم. وفي هذه الحالة كان المحفز هو اعتقال نافالني. لكن كان من الممكن أن يكون أيا من العوامل الأخرى.

انهيار مستويات المعيشة

الشيء الأهم ليس هو الصدفة التي من خلالها تعبر الضرورة عن نفسها، بل الضرورة ذاتها. لقد كان السبب الحقيقي وراء هذا النهوض هو الغضب المتراكم عند الجماهير من انهيار مستويات المعيشة والأزمة الاقتصادية وانتهاكات النظام الفاسد القمعي.

كل المؤشرات تشير إلى أن قاعدة دعم بوتين آخذة في الانهيار. كانت استطلاعات الرأي، في وقت من الأوقات،  تعطيه أكثر من 70% من التأييد. في وقت ضم شبه جزيرة القرم، ارتفعت هذه النسبة إلى أكثر من 80%. لكنها الآن تحوم حول 63%، وفي أدنى نقطة كانت أعلى بقليل من 50%. لا بد أن هذه الأرقام تسببت في قلق خطير في الكرملين.

في الماضي كان بإمكان بوتين أن يتباهى ببعض النجاح في المجال الاقتصادي، ولكنه لا يستطيع فعل ذلك بعد الآن. بين عامي 2013 و2018، قبل الجائحة، كان النمو الاقتصادي السنوي 0,7%، أي أن الاقتصاد كان راكدا في الواقع. لكن في نهاية عام 2020، صار النمو سالبا بنحو 5%. كما أن البطالة ترتفع بسرعة والعديد من العائلات تفقد منازلها.

لعب بوتين بالورقة القومية لبعض الوقت، ولا سيما بعد ضم شبه جزيرة القرم، التي تضم غالبية روسية. أدى ذلك إلى تعزيز شعبيته، لكن أبخرة الشوفينية المسمومة تبددت الآن إلى حد كبير، وتضررت مصداقيته بشدة بسبب إصلاح نظام التقاعد الذي طبقه.

هناك استياء متزايد من الفساد الفاحش وأسلوب الحياة الفاخر للنخبة الحاكمة. بعد يومين من اعتقاله، نشر نافالني مقطع فيديو، شاهده الملايين، يفضح الفساد الشخصي لبوتين، ويظهر قصرا كبيرا أقامه على البحر الأسود. كل هذا يبني مزاجا متفجرا.

قاعدة دعم النظام تتآكل مع الوقت. خارج زمرة الكرملين المكونة من الأوليغارشية المعروفة بالفساد، تتكون قاعدة دعم النظام بشكل أساسي من مسؤولي الدولة الذين تعتمد وظائفهم ومسارهم المهني على رؤسائهم، وعدد كبير من أصدقائهم الذين يعتمدون على عقود الدولة والعلاقات التجارية مع الكرملين، وغيرهم ممن ازدهروا من حسنات وفضل الكرملين.

وأخيرا، لكن ليس آخرا، يعتمد بوتين على جهاز الأمن والجيش. نظام بوتين هو نظام بونابارتي برجوازي. والبونابرتية، في التحليل الأخير، هي الحكم بالسيف. بوتين هو “الرجل القوي” الذي يقف على قمة الدولة ويتوازن بين الطبقات، ويقدم نفسه على أنه تجسيد للأمة الروسية.

لكن هذا الرجل القوي له أقدام من طين. وبينما يستنفد قاعدته الجماهيرية، يلجأ بشكل متزايد للحفاظ على موقعه من خلال مزيج من الاحتيال والتزوير الوقح للأصوات والقمع الصريح.

يقال إن تاليران قد نبه نابليون ذات مرة إلى أنه يمكن للمرء أن يفعل أشياء كثيرة بالحراب، إلا أن يجلس عليها. من الأفضل أن يفكر بوتين في تلك النصيحة الحكيمة. إن القبض على المعارضين السياسيين وسجنهم وتسميمهم ليس دليلا على القوة، بل على الخوف والضعف.

علاوة على ذلك، فإن الإرهاب سلاح يكون فعالا لبعض الوقت فقط، لكنه يخضع لقانون تناقص الانتاجية. سيبدأ الناس، عاجلا أم آجلا، في التخلص من خوفهم. وهذه هي أخطر لحظة بالنسبة لأي نظام استبدادي. المظاهرات الأخيرة دليل على أن هذه السيرورة قد بدأت بالفعل.

في الواقع إن الشيء الوحيد الذي يحافظ على النظام هو الجمود المؤقت للجماهير. من المستحيل أن نحدد على وجه اليقين إلى متى يمكن أن يستمر التوازن الهش الحالي. لقد نجح القمع الهائل، في الوقت الحاضر، في كبح جماح الاحتجاجات. لكن لم يتم حل أي من المشاكل الأساسية.

أثارت الاحتجاجات الأخيرة قلق النظام الذي يحاول الجمع بين القمع والتنازلات. لقد أعلن عن خطة لمساعدة العائلات الأشد فقرا. قد يمكنه هذا من كسب بعض الوقت. لكن السعر المنخفض نسبيا للنفط سيستمر في الإضرار بالاقتصاد الروسي وستظل العقوبات التي فرضتها أمريكا قائمة، بل وستشتد.

الحزب “الشيوعي”

غياب دور العامل الذاتي في روسيا واضح بشكل صارخ. لو كان الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية (CPRF) حزبا شيوعيا حقيقيا، لكان الآن بصدد الاستعداد لحسم السلطة. لكن زمرة زيوغانوف ليس لديها أي مصلحة في الاستيلاء على السلطة. لديهم ترتيبات مريحة للغاية مع بوتين، الذي يضمن لهم امتيازاتهم بشرط ألا يفعلوا شيئا يزعج سيطرته على السلطة.

RWP Image Matthias Berg Flickr

لقد خلق موقف قادة الحزب الشيوعي الروسي سخطا متزايدا في صفوف قواعد الحزب. ووقعت عدة تمردات حزبية محلية وإقليمية تم قمعها بالتطهير والطرد. وقد تم تدمير منظمات إقليمية بأكملها بهذه الطريقة. يخشى زيوغانوف من احتمال تصاعد مشاعر المعارضة الراديكالية داخل الحزب. وهذا التصاعد في المعارضة ونمو الأزمة داخل الحزب الشيوعي يفتحان إمكانية تعزيز النفوذ الماركسي الحقيقي بين قواعد الحزب.

قد تستمر الهدنة الهشة الحالية لعدة أشهر أو حتى عدة سنوات. لكن تأخير حل الأزمة سيعني فقط أن التناقضات ستستمر في النمو، مما يمهد الطريق لانفجار أكبر بكثير في المستقبل. إن العنصر الأكثر حسما في هذه المعادلة هو الطبقة العاملة الروسية، التي لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.

من المستحيل توقع الجدول الزمني الدقيق للأحداث. روسيا لم تدخل بعد في وضع ما قبل ثوري، لكن الأحداث تتحرك بسرعة كبيرة. يجب أن نتابع الأحداث في ذلك البلد.

الهند

في الهند لدينا ما يرقى إلى حركة انتفاضة للمزارعين، حيث نظموا مسيرة بالجرارات لتعطيل موكب يوم الجمهورية في دلهي في 26 يناير الماضي، حيث كان مودي يحتفل باستعراض عسكري كبير.

ينبغي أن توضع هذه الأحداث في سياق الأزمة العالمية للرأسمالية. ففي خضم المنافسة الشرسة داخل القطاع الزراعي، تحاول الشركات الغذائية المتعددة الجنسيات الكبرى خفض الأسعار التي يحصل عليها المزارعون الصغار والمتوسطون مقابل منتجاتهم.

إن إدخال الرأسمالية في الزراعة الهندية ليس ظاهرة جديدة. هكذا هو الحال منذ سنوات، كما رأينا في ظل حكومة مانموهان سينغ السابقة. لقد دخل رأس المال المالي إلى الزراعة الهندية على نطاق واسع، مما أجبر المزارعين على الاعتماد أكثر فأكثر على القروض، إلى درجة لا تطاق، من أجل شراء الموارد الزراعية الأساسية، التي ارتفعت تكاليفها بشكل كبير.

وبمجرد إصدار القوانين الجديدة، تم تخفيض المقابل المدفوع للمزارعين بنسبة تصل إلى 50%، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية في السوق. كان هذا الوضع الذي لا يطاق هو الذي أدى إلى اندلاع حركة ضخمة للمزارعين الهنود. مطلبهم هو إلغاء القوانين الجديدة. لكن لم يتم تلبية أي من مطالبهم، ولم يتم حل أي من هذه المشاكل في المفاوضات.

ما بدأ في غشت 2020 على شكل احتجاجات على نطاق صغير في إقليم البنجاب، عندما تم الإعلان عن مشاريع قوانين الزراعة، قد تصاعد إلى حركة أكبر بكثير لاحقا، وانتشر إلى ولايات أخرى. في شتنبر 2020، دعت نقابات المزارعين في جميع أنحاء الهند إلى إغلاق على مستوى البلاد (Bharat Bandh). واستمرت الحركة في التصعيد، حيث لم تسفر المحادثات التي لا تنتهي مع الحكومة عن أي نتائج ملموسة. شارك خمسة ملايين شخص في احتجاجات في 20 ألف موقع في دجنبر 2020.

Farmers India Image PTI

جاءت نقطة التحول المهمة في هذه الحركة مع الأحداث الدرامية في 26 يناير 2021، عندما تظاهر مئات الآلاف من المزارعين في دلهي للاحتجاج من أجل مطالبهم. شق المزارعون طريقهم من ضواحي المدينة إلى القلعة الحمراء التاريخية بالمدينة. أظهر هؤلاء الفقراء شجاعة هائلة، حيث واجهوا الشرطة المدججة بالسلاح، وتعرضوا للهجوم بالسياط والركل والضرب.

وعلى الرغم من القمع الشديد من قبل الشرطة تمكن المزارعون من اقتحام القلعة الحمراء وسيطروا عليها. تطلب الأمر من الشرطة الكثير من الجهد لطردهم. قُتل أحد المتظاهرين، وأصيب أكثر من 300 ضابط شرطة. لم يؤد هذا إلا إلى إثارة المزيد من غضب المزارعين، وجذب المزيد من المتضامنين إلى الحركة من الولايات والأقاليم الأخرى.

يعكس حجم هذا النضال أيضاً الغضب في المجتمع بأسره، حيث بدأت حتى تلك الفئات التي كانت تعتبر محافظة نسبياً في المناطق الريفية، تنخرط في النضال وتصبح راديكالية تحت تأثير الأزمة الاقتصادية.

منذ وقت ليس ببعيد، عندما فاز مودي في الانتخابات لأول مرة، كان اليساريون المتعبون واليساريون السابقون يشتكون من صعود “الفاشية” في الهند. إلا أن تيارنا، في المقابل، فهم أن انتصار مودي سيهيئ الظروف لمواجهة ذات أبعاد هائلة. وقد أكدت الأحداث منظوراتنا على نطاق واسع. وعوض الفاشية ما نشهده هو استقطاب طبقي هائل واحتدام للصراع الطبقي.

دور الستالينيين

من الواضح أن مودي قد اهتز بسبب انتفاضة المزارعين، التي أعطت فكرة عن الغضب المكبوت عند الجماهير. لكن ضعف الحركة في الهند موجود في قيادة النقابات العمالية، التي فشلت في تنظيم رد جدي من الطبقة العاملة الهندية القوية لدعم المزارعين.

يأتي كل هذا بعد سنوات شهدنا فيها تحركات ضخمة للبروليتاريا الهندية، مع عدة إضرابات عامة ضخمة لمدة 24 ساعة، شارك فيها ما يصل إلى 200 مليون عامل، وهو ما يشكل أكبر إضرابات عامة في تاريخ الطبقة العاملة العالمية.

في شتنبر 2016، دخل ما بين 150 و180 مليون عامل/ة في القطاع العام في إضراب عام لمدة 24 ساعة. في عام 2019، شارك حوالي 220 مليون عامل/ة في إضراب عام، ومرة ​​أخرى في يناير 2020، شارك 250 مليون عامل/ة في إضراب عام استمر لمدة 24 ساعة.

توضح هذه الحقائق الإمكانات الثورية الهائلة للبروليتاريا الهندية. الطبقة العاملة مستعدة للقتال. لكن سياسة الستالينيين لا تقوم على تعبئة الجماهير لخوض مواجهة حاسمة مع نظام مودي، بل فقط الاعتماد على الحركة الجماهيرية من أجل الحصول على تنازلات والتوصل إلى صفقات مع مودي.

لقد استخدموا تكتيك الإضرابات العامة ليوم واحد للسماح للعمال بتنفيس غضبهم، مع تحويل الحركة الجماهيرية إلى مسارات غير مؤذية. كان هذا هو نفس التكتيك الذي استخدمه قادة النقابات العمالية في اليونان، حيث دعوا إلى سلسلة من الإضرابات العامة ليوم واحد. هذه خدعة لإرهاق العمال، وتحويل الإضراب العام إلى خطوة لا معنى لها، وخلق وهم العمل الحاسم، مع العمل على تقويض العمل الحاسم في الممارسة العملية.

شعار الإضراب العام

توجد في الهند، من الناحية الموضوعية، جميع الشروط لتنظيم إضراب عام شامل. وقد كان في إمكان الأحزاب الشيوعية والقادة النقابيين أن يلعبوا دورا مهما في ذلك، لكنهم يماطلون. كان بإمكانهم إسقاط حكومة مودي ووضع حد لسياساتها الرجعية، لكنهم يقتصرون على إصدار بيانات رمزية دون أي دعوة لاتخاذ إجراءات جادة.

يؤكد هذا على الحاجة الملحة لبناء القوى الماركسية في الهند. لكنه يجب علينا أن نمتلك حس النسبية. منظمتنا في الهند ما تزال في مرحلة جنينية. وسيكون من الخطأ الفادح أن نبالغ في ما يمكننا تحقيقه.

إن مهمتنا الحالية ليست قيادة الحركة أو كسب الجماهير، بل العمل بصبر من أجل كسب أفضل العناصر وأكثرها ثورية، هؤلاء الذين نفد صبرهم من المراوغات والتذبذبات التي لا تنتهي للقيادة.

يجب أن نرفع شعارات انتقالية محينة تتوافق مع الاحتياجات الملحة للوضع وتدفع الحركة إلى الأمام، مع فضح السلوك الجبان للقيادة.

كان لنضال المزارعين صدى في المصانع. وقد بدأ القادة النقابيون، الذين شعروا بالنيران في مؤخرتهم، يتحدثون عن إضراب عام لمدة أربعة أيام. سوف نؤيد مثل هذا المطلب، لكن المطلوب الآن ليس الأقوال بل الأفعال!

يجب أن نقول: حسنا، دعونا نقوم بإضراب لمدة أربعة أيام، لكن كلاما أقل وعملا أكثر! حددوا اليوم! ولنبدأ حملة التعبئة في المصانع. ادعوا إلى اجتماعات احتجاجية جماهيرية، وشكلوا لجان إضراب. استقطبوا الفلاحين والنساء والشباب والعاطلين وجميع شرائح المجتمع المضطهَدة. واربطوا هذه الأجهزة النضالية على مستوى المدينة والجهة والبلد ككل. بمعنى آخر نظموا السوفييتات بغرض نقل السلطة إلى العمال والفلاحين.

بمجرد ما سيتم تنظيم الجماهير الهندية من أجل الاستيلاء على السلطة، لن تتمكن أي قوة على الأرض من إيقافهم. سرعان ما سيتحول إضراب عام لمدة أربعة أيام إلى إضراب عام شامل مفتوح. لكن هذا سوف يطرح مسألة السلطة.

هذا هو المنظور الذي يجب أن نشرحه بصبر للعمال والمزارعين الهنود. وبهذه الطرق سنتمكن، على الرغم من صغر حجمنا، من إيصال رسالتنا إلى العمال والشباب الأكثر تقدما الذين يبحثون عن طريق ثوري.

مهمتنا هي كسب وتدريب عدد كاف من الكوادر الثورية التي ستمكننا من التدخل الفعال في الأحداث الدرامية التي ستحدث في المرحلة المقبلة.

ميانمار

إن الانقلاب العسكري في ميانمار تأكيد على أننا نعيش في مرحلة “منعطفات حادة وتغيرات مفاجئة”. جاء الانقلاب مفاجأة للكثيرين. صاغ الجيش دستوراً يمنحهم ضمانة بامتلاك نسبة 25% من أعضاء البرلمان ويجعلهم يسيطرون على الوزارات الرئيسية. كما أدخل فقرة تسمح له بالتدخل أثناء “الطوارئ”.

لكن أين كانت حالة الطوارئ عندما نفذ انقلابه؟ لقد قام الجيش باختلاق حالة طوارئ من خلال الادعاء الكاذب بحدوث تزوير انتخابي واسع النطاق خلال الانتصار الساحق لأونغ سان سو كي والرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، في نوفمبر 2020.

السبب الحقيقي وراء الانقلاب هو الصراع المستمر حول من يجب أن يستفيد من برنامج الخصخصة الذي بدأ في عام 1988. لقد كان ضباط الجيش مشغولين منذ ذلك الحين بإثراء أنفسهم من خلال الاستيلاء على ممتلكات الدولة بأسعار زهيدة. ومن ناحية أخرى، يدفع الإمبرياليون، ولا سيما الولايات المتحدة، بميانمار لفتح أسواقها أمام الشركات متعددة الجنسيات.

المشكلة التي يواجهها الامبرياليون هي أن القوة الخارجية المهيمنة في ميانمار هي الصين. أكبر حصة من صادرات وواردات ميانمار هي مع الصين. وبالتالي فإن ما لدينا هنا هو صراع على مناطق النفوذ، بشكل أساسي بين الصين والولايات المتحدة، حيث أونغ سان سو كي هي وكيلة الولايات المتحدة.

يعمل القادة العسكريون على تحويل أنفسهم إلى أوليغارشيين رأسماليين، وقد رأوا الانتصار الساحق للرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بمثابة تهديد محتمل لمصالحهم. الجيش مكروه من جانب، وقد خشيت فئة الضباط من أنه مع ذلك الدعم الهائل، يمكن للحكومة القادمة أن تتحرك للحد من سلطتهم وامتيازاتهم.

كما خشي الجيش من تنامي ثقة الجماهير في نفسها بعد الانتخابات. وبعد أن كانوا يحكمون البلد عن طريق التوجيه عن بعد في الماضي، اعتقدوا أنهم يستطيعون التدخل وتحديد الاتجاه الذي سيسلكه البلد. لكنهم لم يأخذوا في الحسبان مدى قوة المعارضة للحكم العسكري. لم تنس الجماهير ما كان عليه الحال في ظل الحكم العسكري، وهم يرون أن قادة الجيش فاسدون ومتعطشون للاستيلاء على الأموال.

لدينا هنا مثال على ما أشار إليه ماركس بـ “سوط الثورة المضادة”. فعوض أن يؤدي الانقلاب إلى إرهاب الجماهير وشل حركتها، أدى إلى حفزها للنضال. وبالتالي فإن المنظور في ميانمار هو احتداد الصراع الطبقي، وليس الشلل والإحباط.

الصين

في السابق كانت الصين جزءا كبيرا من الحل لأزمة الرأسمالية العالمية، لكنها أصبحت الآن جزءا كبيرا من المشكلة.

في عام 2020 كانت الصين القوة الاقتصادية الرئيسية الوحيدة التي شهدت نموا. تدخلت الدولة الصينية بشكل حاسم للغاية لمواجهة كل من الجائحة والأزمة الاقتصادية. كان ذلك التدخل فعالا من وجهة النظر الرأسمالية، لكن تكلفته كانت عالية. لقد ارتفعت مستويات الدين في الصين بنسب مهولة منذ عام 2008، حيث ارتفعت بنسبة 30% خلال الجائحة، ووصلت إلى 285% عام 2020. وقد تجاوزت الصين الآن العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة في مستوى ديونها.

يتوقع البنك العالمي نموا بنسبة 08% هذا العام. لقد تمكنت الصين، منذ ربيع العام الماضي، من التفوق على بقية العالم. لكن هذا النجاح بالذات سيكون بمثابة نقطة ضعف لأن انتعاشها يعتمد على التصدير. تحاول السلطات في بكين منذ بعض الوقت تعديل هيكل الاقتصاد الصيني من الاعتماد الشديد على الاستثمار والتصدير إلى تعزيز الطلب الداخلي. كما حاولوا أيضا تطوير صناعات التقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، والجيل الخامس والطاقة الشمسية، التي لديها إنتاجية أعلى للعمالة. كما أنهم يحاولون تطوير اتفاقيات تجارية بديلة لمواجهة محاولات الولايات المتحدة عزل الصين.

لن تحل أي من هذه الإجراءات التناقضات المتصاعدة في الاقتصاد الصيني. في الواقع، منذ أن بدأت الجائحة، أصبح الاقتصاد أكثر اعتمادا على التصدير. وعلاوة على ذلك فإن الدين يستمر في النمو بطريقة متفجرة، والصراعات مع الجيران والقوى الإمبريالية الأخرى تزداد احتدادا، ويتواصل تفاوت النمو، مع تحقيق المناطق الساحلية لتقدم أكبر من المناطق الداخلية. وكل هذا سيؤدي إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية الموجودة بالفعل.

هذه وصفة لاندلاع تناقضات جديدة تهدد الاستقرار، ليس فقط في الصين ولكن في العالم بأسره. تتدخل الصين بشراسة في السوق العالمية وسيتعين عليها التدخل بشكل أكثر شراسة، مستفيدة من الأزمة في بقية العالم. وهذا يعني حتما زيادة التوتر بين الصين والولايات المتحدة، التي تعتبر الصين الخطر الرئيسي على اقتصادها ودورها العالمي.

ليس من قبيل المصادفة أن إدارة ترامب، في أواخر أيامها، تبنت نهج “الأرض المحروقة” تجاه الصين، وفي ظل حكم بايدن لن تتغير السياسة الأمريكية تجاه الصين بشكل كبير. كل من الجمهوريين والديمقراطيين يرون الصين التهديد الرئيسي للولايات المتحدة في العالم.

يهدد الصراع بين الولايات المتحدة والصين بنشوب حرب تجارية أكثر خطورة. هذا هو أكبر تهديد للرأسمالية العالمية، لأن نمو التجارة العالمية (ما يسمى بالعولمة) هو الذي وفر الأكسجين اللازم للرأسمالية خلال المرحلة الماضية.

وهذا بدوره سيكون له تأثير داخل الصين. سوف تمثل الأزمة الاقتصادية تهديدا خطيرا لاستقرارها الاجتماعي. لقد كانت هناك بالفعل عمليات إغلاق للمصانع وبطالة يتم التستر عليها لكنها موجودة. ألقت الشركات الخاصة بعبء مشاكلها على كاهل عمالها، عن طريق الطرد وتقليص الأجور. لقد تم تأخير دفع الأجور لشهور، مما أدى إلى إثارة غضب واستياء هائلين.

تخشى الدوائر الحاكمة احتمال حدوث انفجارات اجتماعية نتيجة الأزمة الاقتصادية وتنامي البطالة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفع شي جين بينغ إلى تضييق الخناق على هونغ كونغ. هذا ليس تعبيرا عن القوة، بل تعبيرا عن الخوف والضعف. كانت الطبقة السائدة في الصين مرعوبة من أن مثل ذلك النوع من الحركة يمكن أن ينتشر إلى الداخل، وفي المستقبل سوف ينتشر، حتما مثلما يلي الليل النهار.

لقد نجح النظام حتى الآن في السيطرة على حالة السخط المشتعلة في جميع أنحاء الصين. لكن يمكن للحركة أن تندلع في أي وقت، وعندما سيحدث ذلك لن يكون من الممكن قمعها كما حدث في هونغ كونغ. وحتى هناك كان النظام قد فقد لفترة من الوقت السيطرة على الأحداث. لكن في مواجهة مائة أو ألف هونغ كونغ في البر الرئيسي للصين، ستجد الطبقة السائدة نفسها على الفور معلقة في الهواء.

يجري التحضير لأحداث عظيمة في الصين. وهي الأحداث التي ستندلع عندما لا يتوقعها أحد. وذلك لأن هناك نظام شمولي، حيث يتم إخفاء معظم ما يحدث عن الأنظار.

تغير ميزان القوى

ما أخرج الولايات المتحدة من كساد الثلاثينيات لم يكن خطة روزفلت الجديدة، بل الحرب العالمية الثانية. لكن هذا الطريق مغلق الآن. لقد تراجعت قوة الإمبريالية الأمريكية مقارنة بالقوى الأخرى، وكذلك تراجعت قدرتها على التدخل عسكريا.

الحاجة لغزو الأسواق والاستحواذ على مصادر المواد الخام تجبر الصين على أن تكون أكثر عدوانية في السوق العالمية. لقد استطاعت الاستيلاء على مصادر المواد الخام في أنحاء مختلفة من العالم. لقد سيطرت، على سبيل المثال، على ميناء ومطار في سيريلانكا، وأنشأت قاعدة عسكرية في جيبوتي، وبنت السكك الحديدية في إثيوبيا، واستولت على مناجم النحاس والكوبالت في الكونغو، والنحاس في زامبيا، والنفط في أنغولا، وهلم جرا. كما أنها تطالب بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، وهو أهم طريق للتجارة العالمية.

هذا يهدد بشكل مباشر مصالح الإمبريالية الأمريكية. كل هذا يعني حتما مزيدا من التوتر بين الصين والولايات المتحدة. كان من شأن هذا في الفترات السابقة أن يؤدي بلا شك إلى الحرب. لكن ميزان القوى تغير الآن بشكل كامل.

لم يستطع ترامب أن يدفع كوريا الشمالية للتخلي عن أسلحتها النووية. التف “رجل الصواريخ الصغير” حوله. لماذا إذن لم تعلن الولايات المتحدة الحرب على كوريا الشمالية، التي في النهاية هي بلد آسيوي صغير جداً؟

لقد شن الأمريكيون في الماضي حربا على كوريا انتهت بتعادل الطرفين. لكنهم في فيتنام تعرضوا للهزيمة للمرة الأولى، بعد نزيف هائل للدم والمال. وبعد ذلك تعرضوا للإذلال في العراق وأفغانستان وسوريا.

في وقت من الأوقات، بدا أن ترامب يستعد لتوجيه ضربة جوية على إيران، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة خوفاً من العواقب. كل هذا يؤكد حقيقة أن الحرب ليست مسألة مجردة، بل هي مسألة ملموسة للغاية.

لم تستطع الولايات المتحدة الدفاع عن أوكرانيا أو جورجيا ضد روسيا، التي تمتلك جيشا قويا للغاية أظهر فعاليته في سوريا. اضطرت الولايات المتحدة إلى التراجع في سوريا، تاركة روسيا وإيران سيدين فعليين عليها. أرسل الأمريكيون مجموعة صغيرة من القوات إلى دول البلطيق “لحمايتها” من روسيا. لكن بوتين ليست لديه أي نية لغزو تلك الدول الصغيرة، ولن يقلق بشأن ذلك.

وفيما يتعلق بالصين فالأمور أكثر وضوحا. لم تعد الصين اليوم بلدا فقيرا متخلفا كما كانت في الماضي. إنها دولة متطورة اقتصاديا بجيش قوي، تمتلك أسلحة نووية وصواريخ باليستية عابرة للقارات تستطيع ضرب أي مدينة أمريكية تختارها.

إن حقيقة أن الصين وضعت مؤخرا قمرا صناعيا في مدار حول القمر وأرسلت رحلة إلى المريخ توضح هذه النقطة، وهو ما لاحظته واشنطن بشكل واضح. لذلك فإنه لا توجد أي حرب في المستقبل المنظور بين الولايات المتحدة والصين، أو بين الولايات المتحدة وروسيا.

احتمال إشعال حريق عام على غرار ما حدث خلال 1914-1918 أو 1939-1945 مستبعد كليا بسبب تغير ميزان القوى. سوف يعني ذلك في ظل الظروف الحديثة حربا نووية، ستكون لها عواقب كارثية على العالم بأسره.

لكن هذا لا يعني أن الفترة القادمة ستكون فترة هدوء سلمي. بل على العكس تماما، في الواقع. ستكون هناك حروب طوال الوقت -حروب محلية صغيرة لكنها مدمرة- في إفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص. شارك الإمبرياليون الأمريكيون، إلى جانب القوى الإمبريالية الأخرى، في حروب محلية، ودعموا جيوشا بالوكالة لشن حروب ضد منافسيهم، وسيكون هذا هو الحال أيضا مع الصين في المستقبل، لكنهم حريصون جدا على تفادي المخاطرة بأرواح الجنود الأمريكيين في حروب خارجية يعارضها الرأي العام الأمريكي الآن بشدة.

لا يمكن أن تتغير هذه المعادلة إلا في حالة انتصار نظام بونابرتي عسكري بوليسي في الولايات المتحدة. لكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بعد سلسلة من الهزائم الحاسمة للطبقة العاملة الأمريكية، وهذا ليس منظورنا على الإطلاق. قبل وقت طويل من احتمالية حدوث ذلك، ستكون لدى الطبقة العاملة العديد من الفرص للاستيلاء على السلطة. إن العويل المستمر لمن يسمون بـ “اليسار” والعصب حول الفاشية المزعومة التي يمثلها ترامب هو مجرد صبيانية، يجب ألا نوليها أي اهتمام على الإطلاق.

تستخدم الإمبريالية الأمريكية، في الوقت الحاضر، قوتها الاقتصادية لتأكيد هيمنتها العالمية. استخدمت إدارة ترامب مرارا وتكرارا التهديد بفرض عقوبات اقتصادية للتنمر على بقية العالم من أجل إجبار الجميع على اتباع سياسات واشنطن في مجال الشؤون الخارجية بخنوع. لقد قامت الإمبريالية الأمريكية بتحويل التجارة إلى سلاح.

بعد أن قام ترامب بشكل أحادي بتمزيق الاتفاق مع إيران، والذي تم وضعه بصعوبة من قبل الإدارة الأمريكية السابقة وحلفائها الأوروبيين، عمل على تشديد العقوبات من أجل خنق الاقتصاد الإيراني، ثم أجبر الشركات والبنوك الأوروبية على إتباعه، تحت طائلة استبعادها من أسواق الولايات المتحدة.

في الماضي، عندما كانت تحدث مشكلة ما بين الإمبرياليين البريطانيين وبين بلد شبه مستعمرة، مثل بلاد فارس، كانوا يرسلون بارجة حربية. أما في الوقت الحاضر فترسل الإمبريالية الأمريكية خطابا من مجلس التجارة. إن آثار هذا الإجراء في الواقع أكثر تدميرا بكثير من عدد قليل من القذائف التي يمكن إطلاقها من سفينة حربية.

قال كلاوزفيتز إن الحرب هي سياسة بوسائل أخرى. وفي الوقت الحاضر يجب أن نضيف أن التجارة هي حرب بوسائل أخرى.

“اقتصاديات الفودو”

عندما تواجه الطبقة السائدة احتمالية خسارة كل شيء، ستلجأ إلى إجراءات يائسة لإنقاذ نظامها. نحن نرى ذلك الآن. ففي سياق بحثهم اليائس عن حلول للأزمة، يترنح البرجوازيون مثل رجل مخمور من عمود إنارة إلى آخر.

لقد بحثوا في مزبلة التاريخ وخرجوا بأفكار الكينزية القديمة. فجأة أصبحت البرجوازية ثملة بأوهامها المكتشفة حديثا، التي هي مجرد نظريات قديمة فقدت مصداقيتها، وكانت قد نبذتها هي نفسها في السابق بازدراء.

اعتاد تيد غرانت وصف الكينزية بأنها اقتصاديات الفودو. وهذا وصف صحيح للغاية. تبدو فكرة أن البرجوازية تستطيع تجنب الأزمات، أو الخروج منها، عن طريق ضخ مبالغ كبيرة من المال العام جذابة -خاصة بالنسبة للإصلاحيين اليساريين، الذين تعفيهم تلك الفكرة عن الحاجة إلى النضال لتغيير المجتمع. لكن هناك مشكلة طفيفة.

الدولة ليست شجرة نقود سحرية. إن الفكرة القائلة بأنه يمكن للدولة أن تكون مصدر أموال غير محدودة هي محض هراء. ومع ذلك فقد تم تبني هذا الهراء من قبل كل الحكومات تقريبا. إنها حقا سياسة ولدت من اليأس. وأدت إلى تراكم ديون فلكية لم يسبق لها مثيل إلا في زمن الحرب.

في الوقت الحالي تنفق الحكومات في كل مكان الأموال مثل الماء. إنهم يتحدثون عن إنفاق مليارات الدولارات أو الجنيهات أو اليوروهات كما لو أنهم ينفقون بضع سنتيمات.

ونتيجة لذلك تراكمت قنبلة ديون موقوتة، مدمجة في أساسات الاقتصاد. ستكون آثار تلك القنبلة، على المدى الطويل، أكثر تدميرا من أي تفجير إرهابي. وهذا هو ما سبق لآلان غرينسبان أن أشار إليه ذات مرة باسم “الوفرة غير العقلانية للسوق”.

الكلمة الأكثر دقة هي “الجنون”. وهذا الجنون سيؤدي حتما للسقوط، والذي يشار إليه بشكل ملطف على أنه “تصحيح السوق”.

دور الدولة في الاقتصاد

يوم 08 ماي 2020، نشرت صحيفة فايننشال تايمز افتتاحية باسم هيئة تحريرها نقرأ فيها ما يلي:

«إذا استثنينا احتمال حدوث ثورة شيوعية، فمن الصعب تخيل كيف يمكن للحكومات أن تتدخل في الأسواق الخاصة -من أجل العمل، من أجل الائتمان، من أجل تبادل السلع والخدمات- بالسرعة والعمق كما حدث في الشهرين الماضيين من الإغلاق.
بين عشية وضحاها صار الملايين من موظفي القطاع الخاص يحصلون على رواتبهم من الميزانيات العامة، وأغرقت البنوك المركزية الأسواق المالية بالنقود الإلكترونية».

لكن كيف يمكن التوفيق بين هذه العبارات وبين الشعار الذي يتكرر كثيرا حول أن الدولة ليس لها أي دور على الإطلاق لتلعبه في “اقتصاد السوق الحر”؟ وعلى هذا السؤال تقدم صحيفة فايننشال تايمز إجابة أكثر إثارة للاهتمام:

(…) «لكن الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية ليست مكتفية ذاتيا، وتحتاج إلى الحماية والمحافظة عليها لكي تتعافى».

بعبارة أخرى: “السوق الحرة” ليست حرة على الإطلاق. ففي ظل الظروف الحالية يجب عليها أن تعتمد على الدولة كعكاز. لا يمكنها أن تستمر إلا بفضل المساعدات الضخمة وغير المسبوقة من جانب الدولة. أعلن صندوق النقد الدولي أن المبلغ الإجمالي للدعم المالي في جميع أنحاء العالم قد بلغ 14 تريليون دولار أمريكي. وصل الدين الحكومي العالمي الآن إلى 99% من الناتج العالمي الإجمالي، وذلك لأول مرة في التاريخ.

Economy Image Trans Silica Flickr

هذا اعتراف بالإفلاس، بالمعنى الحرفي للكلمة. يمكن تلخيص المشكلة المركزية في هذه المعادلة بكلمة واحدة وهي: الديون. بلغ إجمالي الدين العالمي (بما في ذلك ديون الحكومات والأسر والشركات)، في نهاية عام 2020، 356% من الناتج العالمي الإجمالي، بزيادة 35 نقطة مئوية عن عام 2019، ووصل إلى رقم قياسي بلغ 281 تريليون دولار. وهو الآن أعلى ويرتفع. وهذا هو الخطر الأكبر الذي يواجه النظام الرأسمالي.

أنفقت اليابان حوالي 03 تريليونات دولار لتخفيف الضربة الاقتصادية بسبب كوفيد 19، مما أدي إلى زيادة دينها العام، الذي يبلغ بالفعل 2,5 أضعاف حجم اقتصادها. والمشكلة في الصين أكثر خطورة، حيث تجاوز إجمالي الدين 280% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يضع الصين في نفس المستوى مع معظم البلدان الرأسمالية المتقدمة، وهو يرتفع بسرعة في جميع قطاعات الاقتصاد.

في يناير الماضي، دق البنك العالمي ناقوس الخطر بشأن “الموجة الرابعة من الديون”، والتي تعتبر شديدة بشكل خاص خارج البلدان الرأسمالية المتقدمة. إنهم قلقون للغاية بشأن انهيار مالي في الغالب ستكون له عواقب طويلة المدى.

يتصرف البرجوازيون كمقامر غير مسؤول ينفق كميات هائلة من مال لا يمتلكه أصلا. إنهم يعانون من نفس الأوهام ويشعرون بنفس النشوة والهذيان لإهدار مبالغ ضخمة من المال في اعتقاد واثق أن الحظ لن ينفد أبدا… حتى تأتي اللحظة القاتلة -كما هو الحال دائما- عندما يتعين سداد الديون.

عاجلا أم آجلا، سوف تطاردهم تلك الديون. لكنهم على المدى القصير يبدون سعداء للغاية بمواصلة هذا الجنون، حيث يطبعون مبالغ ضخمة من المال ليس لها دعم حقيقي، وإغراق الاقتصاد بكميات مذهلة من رأس المال الوهمي.

هذه ليست مجرد “أزمة ديون”، وذلك على عكس ما يدعي بعض الليبراليين والإصلاحيين. إن المشكلة الحقيقية هي أزمة الرأسمالية – أزمة فائض الإنتاج، والتي تمثل هذه الديون الهائلة أحد أعراضها. الديون الكبيرة ليست بالضرورة مشكلة لذاتها وفي حد ذاتها. إذ لو كان هناك نمو اقتصادي قوي على المدى الطويل، كما كان الحال خلال فترة ما بعد الحرب، لكان من الممكن إدارة هذه الديون وإلغائها تدريجيا. لكن مثل هذا المنظور مستبعد. النظام الرأسمالي ليس في عصر الانتعاش الاقتصادي، بل هو في عصر الركود والانحدار. ونتيجة لذلك سيصبح عبء الديون ثقلا هائلا على الاقتصاد العالمي أكثر من أي وقت مضى. والطريقة الوحيدة للحد من هذه المشكلة هي إما من خلال التقشف؛ والتضخم الذي سينتهي بدوره بانهيار وفترة تقشف جديدة؛ أو التخلف عن سدادها. لكن من شأن كل هذه الاحتمالات أن تؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار وإلى اشتداد الصراع الطبقي.

هل التعافي من الأزمة ممكن؟

بعد أن جرفتهم هذه النشوة قاموا حتى بنشر مقالات تتنبأ بثقة بحدوث انتعاش -ليس فقط تعافي بل صعودا هائلا. يمكن للمرء أن يقرأ في أعمدة الصحافة البرجوازية تنبؤات واثقة عن الانتعاش. لكن مثل هذه التنبؤات ليست فقط مبالغة في التفاؤل بل إنها تستخف بالحقائق بشكل يرثى له.

تختلف الأزمة الحالية عن أزمات الماضي من عدة جوانب. ففي المقام الأول إنها متشابكة بشكل لا ينفصم مع جائحة كوفيد 19، ولا يمكن لأحد التنبؤ بأي درجة من اليقين إلى متى سيستمر ذلك.

لكل هذه الأسباب لا يمكن اعتبار التوقعات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي أكثر من مجرد تخمين.

لكن هل هذا يعني أن احتمالية التعافي مستبعدة؟ كلا، سيكون من الخطأ استخلاص مثل هذا الاستنتاج. في الواقع، إن حدوث نوع من الانتعاش، عند نقطة معينة، مسألة حتمية. لقد مر النظام الرأسمالي دائما من فترات ازدهار وفترات ركود. لقد شوهت الجائحة الدورة الاقتصادية، لكنها لم تقض عليها.

لقد شرح لينين أن النظام الرأسمالي يمكنه دائما الخروج حتى من أعمق أزماته. وسوف يستمر في الوجود إلى أن تتم الإطاحة به من قبل الطبقة العاملة. عاجلا أم آجلا ستجد الرأسمالية طريقة للخروج من هذه الأزمة أيضا. لكن أن نقول هذا يعني أن نقول الكثير جدا والقليل جدا في نفس الوقت.

يجب طرح السؤال بشكل ملموس، على أساس ما نعرفه بالفعل. يمكن للطبيعة الدقيقة لفترات الازدهار والانكماش أن تختلف بشكل كبير. والسؤال الذي يجب طرحه هو: ما هو نوع التعافي الذي نتحدث عنه؟

هل سيكون بداية فترة طويلة من النمو والازدهار؟ أم سيكون مجرد فاصل مؤقت بين أزمة وأخرى؟ تستند المزاعم الأكثر تفاؤلا إلى أنه يوجد (على الأقل في الاقتصادات الرأسمالية الأكثر تقدما) “طلب مكبوت”.

طيلة فترة الجائحة لم يكن الناس قادرين على إنفاق الكثير من المال على السلع والمطاعم والمقاهي والحانات والسفر إلى الخارج. يمكن أن تؤدي نهاية الجائحة -كما تقول هذه النظرية- إلى تحرير هذه الأموال غير المنفقة، مما يعزز حركة تصاعدية حادة في الاقتصاد واستعادة الثقة. هذه الحقيقة، إلى جانب المزيد من ضخ كميات ضخمة من الأموال العامة، قد تؤدي إلى حدوث تعاف سريع.

التعافي والصراع الطبقي

دعونا نعترف للحظة أنه لا يمكن استبعاد مثل هذا السيناريو مسبقا. لكن ماذا ستكون العواقب؟ من وجهة نظرنا، لن يكون مثل هذا التطور سلبيا على الإطلاق. لقد أصابت الجائحة وما تلاها من ارتفاع في معدلات البطالة الطبقة العاملة بالصدمة وأدت إلى قدر معين من الشلل.

لقد كانت بمثابة كابح للإضرابات وغيرها من أشكال العمل الجماهيري، وسمحت للحكومات بفرض تدابير مناهضة للديمقراطية تحت ذريعة “مكافحة كوفيد 19”.

لكن حتى الانتعاش الاقتصادي الطفيف، مع انخفاض البطالة، إلى جانب تأثير إنتهاء الجائحة، من شأنه إعادة تنشيط النضال الاقتصادي، حيث سيسعى العمال لاستعادة كل ما فقدوه في الفترة السابقة.

لكن هذا الانتعاش سيكون مؤقتا وغير مستقر للغاية، لأنه سيُبني على أساس مصطنع وجد هش. سوف يحتوي في داخله على بذور تدميره. وكلما ارتفع هذا التعافي، كلما كان السقوط أشد.

وعلاوة على ذلك فإنه سيكون أيضا انتعاشا غير متكافئ، حيث من المرجح أن تتقدم الصين على حساب الولايات المتحدة وتتخلف أوروبا عن الركب. سيؤدي هذا إلى تفاقم التوترات بين الصين والولايات المتحدة، وأيضاً بين الصين وأوروبا، مما سيؤدي إلى مزيد من احتداد الحرب التجارية، مع التدافع للاستيلاء على الأسواق النادرة، وزيادة تقويض التجارة العالمية وكساد الحياة الاقتصادية.

هذا هو أكبر تهديد للرأسمالية العالمية على الإطلاق. لنتذكر أن الكساد الكبير لم يكن بسبب انهيار سوق الأسهم عام 1929، بل بسبب السياسات الحمائية التي تلت ذلك الانهيار.

“العشرينيات الصاخبة”

عندما يتوقع الاقتصاديون حدوث انتعاش حاد في أعقاب الجائحة، فإنهم غالبا ما يقومون بمقارنة الفترة الحالية مع “العشرينيات الصاخبة”. لكن هذا التشابه هش للغاية والاستنتاجات التي يمكننا استخلاصها منه بالكاد مشجعة من وجهة النظر الرأسمالية.

وول سانت كراش صورة الأرشيف الوطني الأمريكي

صحيح أنه كان هناك انتعاش بعد عام 1924، كان ذا طابع محموم إلى حد ما، مع مضاربات ضخمة في البورصة أنتجت كميات هائلة من رأس المال الوهمي. لكن يجب ألا ننسى أن ذلك الانتعاش انتهي بانهيار عام 1929.

من الممكن تماما أن نواجه موقفا مشابها. مع اختلاف واحد مهم وهو أن الكميات غير المسبوقة من رأس المال الوهمي التي يتم إنتاجها الآن هي أكبر بكثير مما كانت عليه في “العشرينيات الصاخبة”، بل إنها في الواقع، أكبر مما كانت عليه في أي وقت في التاريخ في وقت السلم. وبالتالي فإن السقوط عندما سيأتي -والأكيد أنه سيأتي- سيكون أكثر حدة.

لقد نسيت البرجوازية تفصيلة صغيرة، وهي أنه يجب على النقود أن تمثل قيما حقيقية، وإلا فهي مجرد ورق، سندات إذنية لن يتم الوفاء بوعد سدادها أبدا. تقليديا كان دعم النقود الورقية هو الذهب. كان على كل أمة أن تحتفظ بمخزون من الذهب في خزائنها، ومن الناحية النظرية كان في مقدور أي شخص أن يطالب بمبادلة قيمة الأوراق النقدية التي بحوزته بالذهب.

لكن ذلك لم يكن هذا ممكنا من الناحية العملية. ومع مرور الوقت تعلم الناس قبول فكرة أن الدولار أو الجنيه أو اليورو “جيد مثله مثل الذهب”. بالطبع يمكن أن يكون شيئا آخر، فقبل الذهب كانت الفضة، وقبل ذلك كان من الممكن أن يكون أي شيء آخر تقريبا، يمكن أن يكون الإنتاج. لكن ما لم تكن قائمة على نوع من القيمة المادية، فهي مجرد قطع ورقية لا قيمة لها.

عندما تم قطع الارتباط بالذهب من خلال إلغاء معيار الذهب، أصبح في إمكان الحكومات ومحافظي البنوك المركزية إصدار أي قدر من النقود الورقية يرغبون فيه. لكن ومن خلال ضخ كميات كبيرة من رأس المال الوهمي في الاقتصاد، تختل العلاقة بين كمية النقود المتداولة وبين السلع والخدمات التي يمكن أن تشتريها. في الاقتصاد الأمريكي، الذي يقاس بمقياس M2ا[1]، زاد عرض النقود بمقدار مذهل قدره 04 تريليونات دولار عام 2020. هذه زيادة بنسبة 26% في سنة واحدة، وهي أكبر زيادة سنوية بالنسبة المئوية منذ 1943. سيتم التعبير عن هذا في النهاية على شكل انفجار للتضخم الاقتصادي.

يتم الآن تجاهل هذه الحقيقة ببساطة من قبل السياسيين والاقتصاديين ومحافظي البنوك المركزية. وهم يشيرون إلى أن مخاوف التضخم لم تتحقق حتى الآن. هذا صحيح تماما ويعكس هبوطا حادا في الطلب، الذي هو أحد أعراض عمق الأزمة. فبسبب عدم وجود منفذ عبر أسعار المنتجات الاستهلاكية، أدى الضغط التضخمي إلى تضخم فقاعات المضاربة في أسعار الأسهم، والعملات المشفرة، إلخ. لكن هذا الوضع لا يمكنه أن يستمر. وعندها سوف تتحول نشوة المستثمرين تلك إلى نقيضها.

خلال الفترة التي سبقت أزمة عام 2008، تم احتواء التضخم من خلال عوامل أخرى، بما في ذلك نمو التجارة العالمية والتكنولوجيات الجديدة والبحث عن العمالة الرخيصة فيما يسمى بالعالم الثالث. لكن هذه العوامل، التي لعبت دورا قويا لما يقرب من 30 عاما، قد استنفدت نفسها إلى حد كبير في الفترة الأخيرة. استمر نمو التجارة العالمية يتراجع بشكل كبير لعدة سنوات، كما أن التكنولوجيات الجديدة، التي سمحت بتخفيض كبير في تكاليف الإنتاج، قد وصلت إلى نقطة التشبع.

وبالتالي فإنه ليس من قبيل المصادفة أن تظهر جميع الإحصائيات الخاصة بالتجارة العالمية اتجاها نحو الاعتماد على الداخل، أي العودة إلى الإنتاج في البلدان الرأسمالية الأصلية. وقد أثبت هذا الاتجاه نفسه تلقائيا من خلال الخيارات الاستراتيجية للشركات متعددة الجنسيات، لكن تم تعزيزه أيضا بشكل موضوعي من خلال السياسات الحمائية لترامب والحكومات الإمبريالية الأخرى.

بعد أزمة عام 2007، شهدنا توسعا قائما على الائتمان ضمن نظام من التقشف، والذي كان له طابع مختلف تماما عن اليوم: في الماضي كان المال يذهب إلى إعادة رسملة البنوك وشركات التأمين والشركات التي كانت على حافة الإفلاس، أو ذهب إلى البورصة أو المضاربة العقارية، لكن دون توسيع أساس الاستهلاك الجماهيري.

أما اليوم فقد تغير الوضع: إن التأثير المشترك لهذه الاتجاهات الجديدة هو وصفة للتضخم، ويطرح سلسلة من الأسئلة ذات الأهمية القصوى، والتي تتم مناقشتها أيضا على أعلى مستويات الطبقة السائدة. والأهم من ذلك هو ماذا سيحدث عندما ستضطر البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة والتوقف عن شراء السندات الرديئة (junk bonds) في السوق لكبح جماح التضخم المتزايد؟

ومن المفارقات أن التضخم هو نوع من “الحل” الرأسمالي لأزمة الديون، بقدر ما يؤدي ارتفاع التضخم والأسعار إلى خفض قيمة الدين. لكنه يأتي مع تكاليف اقتصادية واجتماعية هائلة. وبمجرد أن يشتعل يصبح من الصعب للغاية استعادة السيطرة عليه. أوضح تيد غرانت، في سبعينيات القرن الماضي،  أن البرجوازية القلقة من التضخم المتزايد، كانت كمن يركب على ظهر نمر، وأن المشكلة هي كيف يمكنها النزول دون أن تتعرض للافتراس.

واليوم، تعتبر مثل هذه المحاولات للالتفاف على أخطر أزمة فائض الإنتاج على الإطلاق من خلال اللجوء إلى ما أسماه ماركس بـ “حيل التداول”، لعبة خطيرة للغاية. لقد تجاوزنا اليوم كينز إلى حد بعيد: تدعو الكينزية الدولة إلى تحمل عبئ الديون عن طريق إصدار السندات؛ لكن ما يتم اقتراحه اليوم يختلف بشكل نوعي، أي اتباع الاقتراحات المجنونة لأنصار النظرية النقدية الحديثة، وبالتالي طباعة النقود بطريقة غير محدودة.

إن الشيء الذي يمثل تحولا نوعيا حقيقيا في النظام الرأسمالي هو أن نظرية غير عقلانية تماما مثل النظرية النقدية الحديثة صارت تجد نفسها في موقع متميز لتكييف، إن لم نقل تحديد، الخيارات الاقتصادية للقوة الإمبريالية الأولى في العالم!

هذه المسألة لا تهم الولايات المتحدة وحدها. إن هذا الاتجاه صار عالميا الآن. ففي الآونة الأخيرة ادعى نائب محافظ بنك اليابان، كيكو إيواتا، أنه يتعين على اليابان زيادة الإنفاق الضريبي عن طريق زيادة ديون القطاع العام، التي يمولها البنك المركزي. تم اعتبار اقتراح “مروحية الأموال” هذا كحل لانخفاض معدل النمو ويستند إلى فكرة أنه يجب تحفيز الطلب ببساطة عن طريق طباعة المزيد من الأموال. هذه بالضبط ادعاءات النظرية النقدية الحديثة، التي نوه بها دراغي أيضا عام 2016، عندما كان رئيسا للبنك المركزي الأوروبي، على الرغم من أن التناقضات الداخلية للاتحاد الأوروبي لم تمنحها نفس هوامش المناورة مثلما هو الحال في الولايات المتحدة واليابان.

على الرغم من عدم وجود طريقة لكي نعرف بشكل دقيق ومسبق كيف ستتطور الأزمة، فإن التوترات الناجمة عن الديون الضخمة المتراكمة ستسبب حالة من الذعر عند نقطة معينة. سوف ترتفع أسعار الفائدة بشكل حاد لمكافحة التضخم. القروض الرخيصة التي أبقت النظام قائما حتى الآن، ستجف بين عشية وضحاها. ستتوقف البنوك عن إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة التي سوف تفلس.

وكما كان الحال في عام 1929، سوف تصب الحقائق الاقتصادية الماء المثلج على “الحيوية غير المنطقية” للمستثمرين. وبشكل حتمي سيندلع الذعر في بورصات العالم. سيبيع المستثمرون أسهمهم بخسارة، مما سيؤدي إلى انخفاض حاد لا يمكن إيقافه.

لقد بدأ المستثمرون يرون بالفعل الديون الهائلة التي تتراكم في الولايات المتحدة، وبدأوا في الشك في أن الدولار يساوي فعلا القيمة التي يقال إنه يساويها. وفي وقت لاحق، ما لم يتم اتخاذ إجراءات علاجية جادة، سيكون هناك تدافع لإغراق الدولار، وسيكون للانخفاض الحاد في قيمة الدولار تأثير الدومينو على العملات الأخرى، مما سينتج عنه فوضى في أسواق المال العالمية.

سوف يبحث الرأسماليون عن ملاذ آمن في الذهب والفضة والبلاتينيوم. ستكون تلك مقدمة لركود عميق في الاقتصاد الحقيقي، مع انهيار الاستثمار وجفاف القروض، وما ينجم عن ذلك من موجات إفلاس وإغلاق المصانع والبطالة.

وفي النهاية ستضرب الأزمة البنوك نفسها. يمكن أن يتسبب انهيار بنك كبير واحد في أزمة مصرفية عامة. هذا ما حدث في 11 ماي 1931، عندما أعلن بنك كريديتانستالت النمساوي (Creditanstalt bank) أنه خسر أكثر من نصف رأس ماله، وهو الحد الذي، بموجب القانون النمساوي، يتم عنده إعلان إفلاس البنك.

كل هذا يمكن أن يحدث مرة أخرى. يحاول الاقتصاديون البرجوازيون تهدئة الأعصاب المتوترة من خلال القول إن هذا لا يمكن أن يحدث لأننا تعلمنا دروس التاريخ. لكن وكما أشار هيغل: «ما تعلمنا إياه التجربة والتاريخ هو أن الناس والحكومات لم يتعلموا أبدا أي شيء من التاريخ، ولا يتصرفون وفقا للمبادئ المستخلصة منه».

ومع ذلك فإن مصابيح التحذير تومض بالفعل، ويمكن لبعض الاقتصاديين الأكثر رصانة رؤية ذلك. لكن على الرغم من كل التحذيرات، لا بديل أمام البرجوازية سوى اتباع المسار الذي اختارته بالفعل.

تُظهر الرأسمالية الآن جميع أعراض مرض الشيخوخة المتقدم. يمكننا أن نقول على وجه اليقين إن أي انتعاش لن يؤدي إلى تحسن في الوضع العام لذلك النظام، بل سيكون مجرد انتعاش دوري يهيئ الطريق لأزمة أعمق. ويتم التحضير الآن لكساد اقتصادي أكثر حدة مما حدث في الثلاثينيات. ستكون هذه نتيجة حتمية للسياسات التي يتم اتباعها الآن. هذا هو المنظور الحقيقي، وستكون العواقب الاجتماعية والسياسية لا حصر لها.

العواقب الاجتماعية والسياسية

دراسة الاقتصاد، بالنسبة للماركسيين، لها أهمية فقط بقدر انعكاسه على وعي الجماهير. يحتوي السيناريو الذي حددناه على أوجه تشابه واضحة مع الثلاثينيات، لكن هناك أيضا اختلافات مهمة.

في ذلك الوقت [في الثلاثينيات]، تم حل التناقضات في المجتمع في فترة زمنية قصيرة نسبيا، ولم يكن من الممكن أن تنتهي إلا بانتصار الثورة البروليتارية أو انتصار الرجعية على شكل فاشية أو بونابرتية. أما اليوم فإن مثل هذا الحل السريع مستبعد بفعل موازين القوى المختلفة.

الطبقة العاملة اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه في الثلاثينيات. ووزنها النوعي في المجتمع أكبر بكثير، في حين أن الاحتياطيات الاجتماعية للرجعية (الفلاحون وغيرهم من أصحاب الأملاك الصغيرة، وما إلى ذلك) قد انخفضت بشكل حاد.

الاستخدام العادل للصور في كولومبيا

تجد البرجوازية نفسها اليوم في مواجهة أخطر أزمة في تاريخها، لكنها غير قادرة على التحرك بسرعة في اتجاه الرجعية. ومن ناحية أخرى فإن الطبقة العاملة، وعلى الرغم من قوتها الموضوعية، فإنه يتم كبحها باستمرار من قبل القيادة التي أصبحت الآن أكثر انحطاطا مما كانت عليه في الثلاثينيات.

لكل هذه الأسباب، فإن الأزمة الحالية سوف تطول. يمكن أن تستمر سنوات، أو حتى عقودا، مع موجات صعود وهبوط، بسبب غياب العامل الذاتي. ومع ذلك فإن هذا مجرد وجه واحد للعملة. وحقيقة أنها ستكون طويلة وممتدة لا تعني أنها ستكون أقل اضطرابا، بل على العكس تماما: المنظور هو أنها ستكون سيرورة من التغيرات الحادة والمفاجئة.

لا يمكن اختزال تطور الوعي لدى الطبقة العاملة ميكانيكيا في عدد الإضرابات والمظاهرات الجماهيرية. هذا الاختزال فكرة خاطئة تميز العصبويين واليساريين المتطرفين الذين يعتمدون بالكامل على الحركية المفرطة، ويفشلون في رؤية السيرورات الأعمق للتجذر التي تحدث بهدوء تحت السطح طوال الوقت. وهذا ما أسماه تروتسكي بالسيرورة الجزيئية للثورة الاشتراكية.

لا يستطيع التجريبيون السطحيون أن يروا سوى سطح الأحداث، لكن السيرورات الحقيقية تغيب عن انتباههم بشكل كامل. ونتيجة لذلك فإنهم يفقدون التوازن بشكل فوري بسبب فترات الهدوء المؤقتة في الصراع الطبقي. يصبحون محبطين ومتشائمين، ويتم أخذهم على حين غرة تماماً عندما تندلع الحركة فجأة إلى السطح.

لقد شكل تزامن الجائحة مع البطالة الجماهيرية كابحا للنضال الاقتصادي. كان هناك انخفاض حاد في عدد الإضرابات عندما كانت الظروف غير مواتية للمظاهرات والتحركات الجماهيرية، على الرغم من أنها حدثت في بعض الأحيان. لكن غياب النضالات الجماهيرية لا يعني نهائياً توقف تطور الوعي. بل على العكس تماماً، في الواقع.

لقد ارتبكت الطبقة العاملة مؤقتا عند بداية الجائحة، على الرغم من وجود موجة إضرابات مهمة في إيطاليا خلال مارس وأبريل 2020.

باستخدام مبرر الجائحة، ظلت الطبقة السائدة تمارس ضغوطًا هائلة على العمال لأكثر من عام. لكن هذا خلق حالة من السخط والاستياء، مما أرسى الأساس لانفجار الصراع الطبقي.

ومع انخفاض حالات الإصابة بالفيروس، ستتعبد الطريق أمام تحركات كبرى للطبقة العاملة سواء على القضايا الاقتصادية أو السياسية.

لم نعد في فترة 2008-2009، عندما فوجئ العمال بالأزمة وسياسات إعادة الهيكلة التي كانت غير متوقعة في الغالب، مما ساهم في شل مؤقت لمبادرة الحركة العمالية.

العمال الآن وبعد أن تعافوا من التأثير الأولي للأزمة، بدأوا يستعيدون الثقة ويؤمنون بأن النضال يمكنه أن يحقق نتائج ملموسة، مما يؤدي إلى استعداد أكبر للتعبئة من أجل النضال.

سيتم تعزيز هذه السيرورة من خلال إعادة فتح الاقتصاد، بالإضافة إلى التجارب الحديثة خلال الجائحة، والتي كشفت الدور الأساسي للطبقة العاملة في المجتمع، لا سيما في القطاعات التي لم تغلق أبدا (الرعاية الصحية، النقل، التجارة، الصناعة)، لكنهم رغم ذلك تعرضوا لضغط لا يطاق ولزيادة لا ترحم في وتيرة العمل.

لقد دفع العمال ثمنا باهظا للغاية من حيث عدد الوفيات والتضحيات في الكفاح ضد كوفيد 19، وبالتالي فإنهم اليوم ليسوا فقط أكثر وعيا بالدور الذي يشغلونه في المجتمع، بل ويريدون أيضا أن يتم تعويضهم على ذلك من خلال زيادة أجورهم وتحسينات في ظروف عملهم. وهذا عامل حاسم في تطور الوعي الطبقي.

ما تزال بيروقراطيات النقابات العمالية تشكل عائقا، وتضع القيود على الحركة بقدر ما تستطيع. لكنهم لم يعودوا يمتلكون نفس السلطة التي تسمح لهم بالسيطرة على العمال كما كانوا في الماضي. إنهم يعتمدون على قوة الجهاز البيروقراطي والدولة البرجوازية، لكن هذه السلطة لم يسبق أن كانت بمثل هذا الضعف الذي هي عليه الآن.

ستحاول البرجوازية استخدام تدابير قسرية وقمعية لكبح الصراع الطبقي، عبر فرض قوانين جديدة لمكافحة الإضراب وقيود على الحق في التظاهر في كل مكان، لكن التاريخ يعلمنا أنه بمجرد أن تبدأ الجماهير في التحرك، لا يبقى هناك قانون قادر على إيقافها. يمكن لتلك الأساليب أن تؤخر السيرورة، لكنها ستجعلها أكثر انفجارا في المستقبل.

في البداية سيكون لتحركات العمال طابع اقتصادي في الغالب. لكنهم خلال هذه السيرورة سوف يزدادون راديكالية بسبب عمق الأزمة والإحباطات الهائلة التي تراكمت على مر السنين، وبالتالي ستكتسب تلك التحركات في النهاية طابعا سياسيا. ستكون [ثورة] “ماي 1968” جديدة، أو “خريف ساخن” جديد، على رأس جدول الأعمال في مختلف البلدان الواحد منها تلو الآخر.

وفي سياق كهذا، لن يؤدي التضخم إلى كبح الحركة، بل سيعمل على المزيد من تحفيزها، كما رأينا ذلك عدة مرات في التاريخ. إن الضغط العام على الأجور بالنسبة للغالبية العظمى من العمال، بالإضافة إلى النقل الفاضح للثروة من العمل المأجور إلى رأس المال، يعني أن ارتفاع التضخم سيدفع العمال للدفاع عن قوتهم الشرائية.

على هذه الأرض الأكثر خصوبة ستزدهر أفكار الماركسيين. ستدخل النقابات في أزمة وستتعرض القيادات القديمة المفلسة للتحدي. يجب علينا بالطبع أن نحافظ على حس النسبية. لسنا بعد قادرين على تحدي هيمنة الإصلاحيين على الحركة العمالية. لكن من خلال تطبيقنا بشكل ماهر لتكتيك الجبهة الموحدة، سيمكننا إحراز تقدم داخل النقابات. من الضروري النضال ضد الانتهازية، لكن من الضروري كذلك النضال ضد الانحرافات العصبوية واللاسلطوية النقابية (كما هو الحال في نقابة Cobas الإيطالية)، والتي انفضح إفلاسها خلال هذه الأزمة.

تلعب العصبوية والمغامراتية الدور الأكثر سلبية داخل النقابات العمالية، حيث تقودان طليعة الطبقة إلى طريق مسدود، وتفصلها عن الحركة الجماهيرية. من خلال الجمع بين الصرامة فيما يتعلق بالمبادئ وبين التكتيكات المرنة، سنتمكن من إثبات تفوق الماركسية، واكتساب المواقع تدريجيا والبدء في الظهور باعتبارنا قوة جدية داخل الحركة العمالية.

عمق الأزمة يغير سيكولوجية ملايين الرجال والنساء. وقد صار الشباب، على وجه الخصوص، منفتحين بشكل أكبر على الأفكار الثورية. التناقضات الصارخة في المجتمع والمعاناة المخيفة للجماهير – كل هذه الأشياء تخلق كما هائلا من الغضب والسخط، الذي يتراكم بصمت في عمق المجتمع.

كلما طالت مدة هذه السيرورة، كلما كان الانفجار أكثر عنفا وجذرية، عندما سيأتي أخيرا. وسوف يأتي حتما، كما يلي النهار الليل. وكما كتب ماركس إلى إنجلز:

«وإجمالا إن الأزمة كانت تحفر عميقا مثل الخلد العجوز البارع».

النقابات العمالية

 ذات مرة كتب تروتسكي أن النظرية هي تفوق التوقع على الدهشة. والإصلاحيون والعصبويون يندهشون دائما عندما يبدأ العمال في التحرك بعد فترة من الجمود الظاهري.

في بداية عام 1968، شطب الماندليون والعصبويون الآخرون على الطبقة العاملة الفرنسية بالكامل. قالوا إن العمال “تبرجزوا” و”تأمركوا”. وكتب أحد هؤلاء السادة أنه لا توجد أي إمكانية لحدوث إضراب عام في أي بلد أوروبي في ذلك الوقت. بعد أسابيع قليلة، شن العمال الفرنسيون أكبر إضراب عام ثوري في التاريخ.

لقد تم تضليلهم تماما بسبب غياب تحركات كبيرة للطبقة العاملة في الفترة السابقة. واليوم أيضا، أصيب العديد من النشطاء في النقابات والحركة العمالية بالارتباك بسبب الأحداث الماضية. لقد فقدوا الثقة في قدرة العمال على النضال وأصبحوا متشائمين ومتشككين وكلبيين. لقد أصبحوا هم أنفسهم عقبة وعائقا في طريق النضال. سيكون من المميت لنا أن نسترشد بآرائهم المريضة والانهزامية.

صورة النقابات wftucentral org

كما أوضحنا حتى الانتعاش الاقتصادي الضعيف نسبيا سيكون إشارة البداية لانفجار الصراع الطبقي، والذي سيهز النقابات العمالية من أسسها. لقد صار القادة النقابيون الإصلاحيون منفصلين بالفعل تماما عن قاعدتهم. إنهم يعكسون الماضي، أي تلك الأيام التي كانت لديهم حياة سهلة وعلاقات جيدة مع أرباب الأعمال، الذين يستطيعون منح امتيازات للعمال دون أن ينقصوا أرباحهم.

صارت الأمور مختلفة تماما الآن. يحاول أرباب الأعمال تحميل كل أعباء الأزمة على كاهل العمال، الذين يجدون أنفسهم في وضع لا يطاق، حيث صارت حتى حياتهم وحياة عائلاتهم في خطر.

إن عمق الأزمة يقصي أي نوع من التنازلات الحقيقية وطويلة الأمد. سيتعين على العمال النضال من أجل كل مطلب – ليس للحصول على تنازلات جديدة، بل للحفاظ على المكاسب التي تحققت في الماضي.

لكن حتى في حالة نجاحهم، فإن مكاسبهم ستضرب بفعل التضخم، الذي سيعاود الظهور نتيجة الكميات الهائلة من رأس المال الوهمي الذي يتم تداوله. إن ما يعطيه أرباب الأعمال باليد اليمنى سوف يستردونه باليد اليسرى.

وهذا يعني أن النقابات ستتعرض للضغط من طرف العمال الذين سيطالبون باتخاذ إجراءات للدفاع عن حقوقهم وظروف عملهم ومستويات معيشتهم. عندها إما سيرضخ قادة النقابات لهذا الضغط، وإما سيجدون أنفسهم خارج مواقع القيادة وسيتم استبدالهم بآخرين مستعدين للنضال. سوف تتغير النقابات في مسار النضال.

عندما يتعرض العمال للكبح من طرف النقابات الرسمية، وعندما لا يكون هناك منظور فوري لتغيير القيادة، سيقومون، في بعض الظروف، بتطوير مبادراتهم القاعدية الخاصة. إن ظهور مثل هذه المنظمات العمالية القاعدية، مثل حركة Mareas في إسبانيا، وحركة Santé en Lutte في فرنسا، وتجمع ألف من سائقي الحافلات في بلجيكا، وما إلى ذلك، هو نتيجة لتراكم الغضب عند العمال، والحاجة إلى عمل جماعي فوري، وسلبية قادة النقابات الرسميين.

يعلمنا الديالكتيك أن الأشياء يمكن أن تتغير إلى نقيضها، ويجب أن نكون مستعدين لذلك. حتى النقابات الأكثر رجعية والتي تبدو ظاهريا خاملة ستنجر إلى هذا النضال. وقد بدأت هذه السيرورة بالفعل في بلدان مثل بريطانيا. وقادة اليمين القدامى بدأوا يموتون أو يتقاعدون أو سيتم استبدالهم، واحدا بعد الآخر.

بدأ جيل جديد من المناضلين العماليين الشباب في تحدي القيادة. وقد صار المجال مهيأ لتحويل النقابات إلى منظمات للكفاح. ويجب علينا، نحن الماركسيون، أن نكون في الصفوف الأولى لهذا النضال الذي يعتمد عليه في نهاية المطاف نجاح الثورة الاشتراكية.

المهمة التي تنتظرنا

لن يكون عام 2021 مثل أي عام آخر، لقد مرت الطبقة العاملة من مدرسة قاسية للغاية، ستكون هناك العديد من الهزائم والنكسات، لكن في تلك المدرسة سوف يستخلص العمال الدروس اللازمة.

يمكن لتراكم الغضب والتوتر على مدى سنوات عديدة أن يؤدي إلى حدوث تغيرات مفاجئة بين عشية وضحاها، مما سيطرح أسئلة جدية للغاية أمامنا. ويجب أن نكون مستعدين! خلال المرحلة المقبلة ستدخل فئات جديدة ساحات النضال. لقد رأينا ذلك في فرنسا مع السترات الصفراء. ونراه الآن في الهند مع حركة المزارعين. وفي الولايات المتحدة شهدنا المظاهرات الضخمة التي اندلعت في أعقاب اغتيال جورج فلويد، والتي شملت ما يقدر بنحو 26 مليون شخص في 2000 مدينة وبلدة في جميع الولايات الخمسين، وواشنطن العاصمة، وبورتوريكو وغيرها، مما دفع ترامب إلى الهروب إلى مخبأه.

إن الأزمة الرئيسية هي القيادة. المزاج الغاضب للجماهير موجود لكنه لا يجد تعبيرا عنه في المنظمات الرسمية. يحاول قادة النقابات العمالية كبح الحركة. لكن بهم أو بدونهم، ستجد الحركة بشكل ما طريقة للتعبير عن نفسها.

إن الجماهير لا تتعلم إلا من شيء واحد فقط وهو: التجربة. وكما اعتاد لينين أن يقول: “إن الحياة تعلم”. يتعلم العمال من تجربتهم خلال الأزمة. لكنها سيرورة تعلم بطيئة ومؤلمة. سيستغرق الأمر وقتا حتى تستخلص الجماهير نفس الاستنتاجات التي توصلنا إليها منذ سنوات بفضل النظرية.

سيكون من الممكن تسريع سيرورة التعلم هذه بشكل كبير في حالة وجود منظمة ثورية جماهيرية بأعداد كافية ولها نفوذ معنوي كاف لكي ستمع إليها العمال. إن ذلك الحزب موجود كإمكانية في شخص التيار الماركسي الأممي. لكنه موجود في الوقت الحاضر في حالة جنينية فقط. وكما كتب العجوز هيغل: «عندما نرغب في رؤية شجرة بلوط بجذعها القوي، وأغصانها المنتشرة، وأوراقها الكثيفة، لا نشعر بالرضا إذا حصلنا بدلا من ذلك على ثمرة البلوط».

لقد حققنا إنجازات كبيرة، ونتوقع أن نحقق المزيد. لكنه يجب علينا أن نعترف بنزاهة أننا نفتقر في الوقت الحالي إلى الأعداد اللازمة. نحن نفتقر إلى الجذور الضرورية في الطبقة العاملة ومنظماتها لإحداث فرق جوهري.

ومع ذلك فإنه بالأفكار الصحيحة والشعارات المناسبة، يمكننا الوصول إلى العمال والشباب الأكثر تقدما، ومن خلالهم يمكننا الوصول لاحقا إلى أعداد أكبر. يمكننا أن نجد أنفسنا هنا أو هناك قادرين على قيادة نضالات معينة. لكن بشكل عام، علينا أن نهدف إلى تحقيق نجاحات صغيرة، لأن النجاحات المتواضعة والانتصارات الصغيرة ستوفر لنا نقاط انطلاق لتحقيق نجاحات أكبر في المستقبل.

لقد أظهرت أمميتنا قدرا هائلا من المرونة والجرأة في مواجهة الصعوبات واكتشاف أساليب عمل جديدة. ونتيجة لذلك تمكنا خلال الأشهر الاثني عشر الماضية من إحراز تقدم هائل، بينما شهدت المجموعات الأخرى أزمات وانشقاقات، وسرعان ما سقطت في غياهب النسيان الذي تستحقه.

IMT Image Revolutionære Socialister

لدينا عدد أقل بكثير من المنافسين مما كان عليه الحال في الماضي. العصب تتحطم إلى شظايا، والستالينيون -الذين كانوا يشكلون عائقا جديا في الماضي- أصبحوا مجرد ظل شاحب لما كانوا عليه في السابق. ما زالوا يتشبثون ببعض المواقع في النقابات التي ورثوها من الماضي. لكنهم يعملون بشكل ثابت كغطاء “يساري” للجناح اليميني للبيروقراطية. وستتم إزاحتهم جانبا بمجرد أن يبدأ العمال في التحرك.

الاتجاه الأساسي الذي سيظهر في الفترة المقبلة هو الإصلاحيون اليساريون الذين ليس لديهم أي منظور سياسي واضح. لم يعد الكثير منهم يتبنون، ولو بالكلمات، التغيير الاشتراكي للمجتمع، وبالتالي يتأرجحون باستمرار بين ضغوط البرجوازيين والإصلاحيين اليمينيين، وبين ضغط القواعد العمالية. هذه ظاهرة عالمية.

لكن وعلى الرغم من افتقارهم إلى أفكار واضحة (وجزئيا بسبب ذلك)، فإنهم سيصلون حتما إلى الواجهة نتيجة تجذر الجماهير. وبسبب تذبذبهم السياسي وافتقارهم إلى أي أيديولوجية واضحة، سوف يرفعون أحيانا شعارات راديكالية للغاية، بل وحتى “ثورية”. لكنها ستكون مجرد كلمات، وسينعطفون إلى اليمين بنفس السرعة التي انعطفوا بها إلى اليسار. سنقدم لهذا اليسار دعما نقديا، سوف ندعمهم كلما ناضلوا ضد اليمين، لكننا سوف ننتقد أي ميل للتراجع والتنازل والاستسلام.

إن إحدى السمات المشتركة لجميع خصومنا السياسيين -بمن فيهم اليساريون- هي عدم قدرتهم على كسب الشباب. ونجاحنا الواضح في كسب أفضل الشباب يملأ المتشككين بالغضب والسخط. وهو فوق كل هذا يصيبهم بالحيرة. كيف يمكن للتيار الماركسي الأممي أن يكسب كل هذا العدد من الشباب في الوضع الحالي، حيث كل شيء مظلم للغاية ولا أمل فيه؟ يهزون رؤوسهم غير مصدقين ويستمرون في التذمر من حالة العالم الحزينة.

كما أشار لينين: من لديه الشباب لديه المستقبل. ليس من الصعب رؤية سبب نجاحنا. إن الشباب ثوريون بطبيعتهم. إنهم يطالبون بخوض نضال جاد ضد الرأسمالية ويكرهون التردد والارتباك النظري.

تقوم قوتنا على شيئين: النظرية الماركسية والتوجه الحازم نحو الشباب. لقد أثبتنا في الممارسة العملية أن هذه توليفة ناجحة. توفر هذه النجاحات الثقة والتفاؤل بالمستقبل. لكن يجب علينا في جميع الأوقات الحفاظ على حس النسبية. ما زلنا في البداية فقط.

أمامنا تحديات أكبر بكثير ستضعنا على محك التجربة. لا مجال للاكتفاء بما تحقق. إذا سألنا أنفسنا ما إذا كنا مستعدين للاستفادة من الفرص العظيمة الموجودة، فماذا ستكون الإجابة؟ إذا كنا صادقين مع أنفسنا، فيجب أن نجيب بالنفي. كلا، لسنا مستعدين، ليس بعد على الأقل. لكن يجب أن نستعد في أسرع وقت ممكن. وهذا في التحليل النهائي يعني النمو.

يجب أن نبدأ دائما بالكيف، ونكسب الأعضاء واحدا تلو الآخر ونعمل على تكوين الكوادر وتدريبهم. لكن يجب علينا بعد ذلك تحويل الكيف إلى كم، أي: بناء منظمة أكبر وأكثر فاعلية. وبدوره يتحول الكم إلى كيف. بوجود مائة كادر يمكن تحقيق أشياء تكون مستحيلة بعشرة كوادر. ودعونا نفكر فقط بما يمكن أن نفعله في بريطانيا أو باكستان أو روسيا بألف من الكوادر. إنه فرق نوعي!

يجب أن يسير بناء الكوادر جنبا إلى جنب مع النمو. لا يوجد تناقض بين هاتين المهمتين. يجب أن تتطور المنظمة مع تغير الوضع، ويجب أن تتغير مع تغير الوضع، لتصبح أكثر احترافية وأكثر انضباطا وأكثر نضجا.

لدينا الأفكار والأساليب الصحيحة المنظورات الصحيحة. ومع ذلك فإننا بحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير. إن مهمتنا الآن هي تحويل هذا إلى نمو وإنشاء جيش ثوري قوي من الكوادر القادرة على قيادة العمال في النضال. ونحن بالفعل نخطو خطوات ملهمة في هذا الاتجاه.

في البداية ظهر كما لو أن الجائحة ستخلق صعوبات لا يمكن التغلب عليها بالنسبة للماركسيين. لقد حطمت بالتأكيد كل تلك العصب التي تسمي نفسها ماركسية والتي تعتمد على الحركية المفرطة. لكن الرياح جرت بما تشتهيه أشرعة التيار الماركسي الأممي، حيث كسبنا أكثر من 1000 عضو جديد خلال العام الماضي. وهذه ليست سوى البداية.

يا أيها الرفاق في الأممية! نحن في سباق مع الزمن. يمكن تحديد مهمتنا ببساطة كما يلي: وهي أن نبث الوعي في الإرادة اللاواعية (أو شبه الواعية) للطبقة العاملة لتغيير المجتمع.

يجري التحضير لأحداث عظيمة. ولكي نرتقي إلى مستوى المهام الهائلة، نحتاج إلى ثورة داخلية، تبدأ بثورة في عقليتنا. لا يمكننا التفكير بنفس الطريقة القديمة. يجب استئصال كل آثار عقلية الحلقات الصغرى والروتين. إن المطلوب هو نهج احترافي لبناء الحزب. لا يوجد في حياتنا شيء أكثر أهمية من ذلك. وإذا واصلنا السعي وراء الأفكار والتكتيكات والأساليب الصحيحة، فسنحقق ذلك بالتأكيد.

صودق عليه بالإجماع
يوليوز/تموز 2021


[1]  مقياسM2، ويعرف أيضا بمقياس موديلياني للأداء المعدل حسب المخاطر، هو مقياس لعرض النقود يشمل النقد وودائع الشيكات، ويشتمل على أصول عالية السيولة ولكنها ليست نقدية.- هامش من المترجم

مترجمة عن النص الإنجليزي على هذا الرابط:

A worldwide epoch of revolution is being prepared