الرئيسية / دول العالم / الأوضاع العالمية / عالم على حافة الهاوية ثورة تلوح في الأفق

عالم على حافة الهاوية ثورة تلوح في الأفق

[تمت المصادقة على هذه الوثيقة خلال اجتماع الهيئة القيادية للتيار الماركسي الأممي، بعد مناقشة جرت في 12-13 شتنبر 2020. إنها بمثابة تحيين لمنظوراتنا حول الوضع العالمي المتفجر.]


نحن نعيش منعطفا تاريخيا حاسما. ومن الطبيعي، في مثل هذه الأوقات، أن يبحث الناس عن نقاط مرجعية أو أوجه تشابه تاريخية. لكنه لا يوجد أي شيء يمكننا أن نشبه به ما نمر به اليوم.

قال بنك إنجلترا إن هذه ستكون أعمق أزمة منذ 300 عام، لكن حتى هذا غير كاف. في الواقع إن الوضع الذي نمر به فريد من نوعه.

وللعثور على أي شيء مشابه إلى حد ما، علينا العودة إلى فترة الطاعون خلال القرن الرابع عشر، الذي قضى على ما بين ثلث ونصف سكان أوروبا.

آنذاك اعتقد الناس أنها نهاية العالم، لكنها، في الواقع، لم تكن نهاية العالم، بل كانت نهاية نظام اجتماعي اقتصادي معين يسمى الإقطاع. لقد كان إيذانا بصعود طبقة ثورية جديدة، هي البرجوازية الناشئة، وبدايات الثورات البرجوازية في هولندا وإنجلترا. صحيح أن الجائحة الحالية لم تصل بعد إلى تلك المستويات الدراماتيكية، لكنها في النهاية، ستكون أكثر تدميرا.

يستمر المرض في تقدمه بلا هوادة، وينشر الفوضى في تلك البلدان الفقيرة التي ليس لديها وسيلة لمكافحته. إن الجائحة تنتشر خارج نطاق السيطرة، وخاصة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكن أيضا في الولايات المتحدة. صحيح أنها لم تسفر حتى الآن عن تلك الأعداد الهائلة من الوفيات التي تسبب فيها الطاعون، لكن حصيلة القتلى في العالم ستصل إلى أكثر من مليون بحلول نهاية شتنبر. وفي وقت كتابة هذا التقرير، كان العدد الإجمالي لحالات الإصابة المؤكدة بالفيروس أكثر من 24 مليون حالة على مستوى العالم.

وعلى الرغم من تلك الضوضاء المشجعة التي تصدر عن بعض الحكومات بخصوص اللقاحات، فإن فعالية تلك اللقاحات لم تثبت بعد. وكما هو الحال دائما فإن الفقراء هم أكثر من يعاني. وبسبب انفضاح عجز اقتصاد السوق عن تقديم أي حلول لما يمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة لملايين الناس، فقد صار التشكيك في النظام الرأسمالي يتصاعد بشكل متزايد.

من المهم الإشارة إلى أن هذه الجائحة ليست سبب الأزمة الاقتصادية الحالية، التي بدأت قبل وقت طويل من السماع بهذا الفيروس. لكن الجائحة أدت، بلا شك، إلى تعقيد الوضع برمته ومفاقمة حدة الأزمة. وبشكل ديالكتيكي يصبح السبب نتيجة، وتصبح النتيجة بدورها سببا.

تسارع السيرورات

سبق لإنجلز أن أشار إلى أن هناك فترات في التاريخ تمر فيها 20 سنة كما لو أنها يوم واحد، إلا أنه أضاف أن هناك فترات أخرى يمكن فيها أن تتكثف 20 عاما في 24 ساعة.

تعبر هذه الملاحظة بدقة عن طبيعة الوضع الحالي، والتي تتمثل السمة الرئيسية له في السرعة الهائلة التي تتحرك بها الأحداث. المنعطفات الحادة والمفاجئة خصائص متضمنة في الوضع برمته.

لو أن شخصا ما توقع في يناير ما سوف يحدث خلال الأشهر الستة التالية، لما كان أحد سيصدقه. في الواقع، كان الجميع سيعتقدون أنه مجنون تماما.

أولا، سرعة الانهيار الاقتصادي مذهلة. لقد كانت الصدمة التي لحقت بالاقتصاد العالمي من جراء فيروس كوفيد -19 أسرع بكثير وأكثر حدة من الأزمة المالية لعام 2008، بل وحتى الكساد الكبير.

حدة الانهيار الاقتصادي في الولايات المتحدة مشابهة لما كان عليه الحال خلال فترة الكساد الكبير. لكن وبينما لم تصل آثار انكماش عام 1929 ذروتها إلا بعد حوالي أربع سنوات، فإن تأثيرات فيروس كورونا ظهرت بعد أربعة أشهر فقط.

في أعقاب انهيار وول ستريت عام 1929، انهارت أسواق الأسهم بنسبة 50% أو أكثر، وتجمدت أسواق الائتمان، مما أدى إلى حالات إفلاس كثيرة وارتفعت معدلات البطالة، في حين انكمش الناتج الداخلي الإجمالي بشكل حاد. لكن كل هذا استغرق حوالي ثلاث سنوات لكي يحدث.

أما خلال الأزمة الحالية فقد كانت ثلاثة أسابيع فقط كافية ليحدث انهيار اقتصادي ومالي مماثل. وقد استغرق الأمر 15 يوما فقط لكي تتراجع سوق الأسهم الأمريكية بنسبة 20%، وهو أسرع انخفاض من نوعه على الإطلاق. وفي غضون بضعة أشهر أو أسابيع، وصلت البطالة في الولايات المتحدة إلى 40 مليونا. كما أن الاستهلاك والإنفاق الرأسمالي والصادرات، يشهدون سقوطا حرا غير مسبوق. وعلى حد قول نورييل روبيني:

«حتى أثناء الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية، لم يتم إغلاق الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي بشكل كامل، كما حدث اليوم في الصين والولايات المتحدة وأوروبا».

أزمة عالمية

هذه أزمة عالمية للرأسمالية بكل معنى الكلمة.

سياسة ترامب هي “أمريكا أولا”، وقد طبقها بعدوانية كبيرة. إنه يريد أن يجعل “أمريكا عظيمة مجددا”، لكنه نسي أن يضيف: “على حساب بقية العالم”. القومية الاقتصادية هي الفكرة الوحيدة التي تشغل عقله، هذا إذا كان يفكر أصلا. إنه يعلن بجرأة أن الحرب التجارية مسألة “جيدة”، وهذا لن يؤدي إلا إلى مفاقمة الأزمة.

تهدد هجماته الشرسة على الصين بتدمير النسيج الهش للتجارة العالمية والعولمة. لكن هذا  ليس سوى أحد أعراض تلك الظاهرة. كما أنه فرض رسوما جمركية على عدد من البلدان الأخرى بما في ذلك تلك التي من المفترض أنها حليفة له، مثل الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان. وقد زادت الجائحة الأوضاع سوءا، مما أدى إلى موجة جديدة من الحمائية، فضلا عن تراجع التجارة العالمية بنحو 13%.

هذا يعني أننا نتجه نحو كساد عميق. دعونا نتذكر أن سبب الكساد الكبير بين الحربين العالميتين لم يكن هو انهيار عام 1929، بل الموجة اللاحقة من الحمائية والتنافس في تخفيض قيمة العملة وسياسات “رمي الأزمة على الجار”، التي حاولت تصدير البطالة إلى بلدان أخرى.

مساعدات هائلة

من أجل تجنب الانهيار الفوري ضخت الحكومات تريليونات من الدولارات في الاقتصاد. وفي غضون أيام من الإغلاق، وافق الكونغرس الأمريكي على حزمة تحفيزات تعد الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة في زمن السلم. وقد تم تبني نفس السياسات في جميع أنحاء العالم. بحلول نهاية يونيو أعلنت حكومات مجموعة العشرين (G20) عن حزم تحفيزات بقيمة إجمالية تساوي 10 تريليون دولار، أو ما يعادل 12% من الاقتصاد العالمي. لكن منذ ذلك الحين وافق الاتحاد الأوروبي على حزمة أخرى بقيمة 850 مليار دولار، وسيقوم الكونغرس الأمريكي بالمصادقة على منح تحفيزات بقيمة تريليون دولار أخرى على الأقل.

ولمواجهة حدوث صدمة ملحمية بسبب الإغلاق، قام الاحتياطي الفيدرالي بتعبئة كمية هائلة من السيولة. خلال السنوات السبع، التي أعقبت انهيار عام 2008، كان الاحتياطي الفيدرالي، قد اشترى، في عدة جولات، أصولا بقيمة 3,5 تريليون دولار. لكن خلال ثلاثة أشهر فقط من الأزمة الحالية، اشترى الاحتياطي الفيدرالي ما قيمته 3 تريليون دولار من الأصول. تم استخدام نصف هذا المبلغ لشراء الديون الحكومية لتسهيل حزم التحفيز، وتم إنفاق النصف الآخر على سندات الشركات وأسواق الرهن العقاري.

إن هذه المنح الضخمة، التي تقدم للشركات الكبيرة من أجل التخفيف من آثار الأزمة، هي منح غير مسبوقة تاريخيا. لكن حتى هذه المبالغ الرهيبة -التي تجعل خطة مارشال تبدو وكأنها شيء تافه بالمقارنة- لن تكون كافية لوقف الانهيار الاقتصادي.

الحقيقة الواضحة هي أن الاقتصاد الرأسمالي في الوقت الحاضر لم يعد قادرا على الاستمرار إلا بفضل ضخ كميات ضخمة من الأموال من طرف الحكومات. كل هذا له تأثير في تراكم جبل هائل من الديون التي ستوجب، عاجلا أم آجلا، سدادها.

هل سيكون هناك انتعاش؟

Stock market Image Trans Silica Flickr

من أجل مواساة أنفسهم يتوقع الاقتصاديون حدوث انتعاش قوي مستقبلا. لكن هذا مجرد وهم. والحقيقة هي أنه من أجل تجنب الانهيار الفوري، ضخت الحكومات، كما رأينا، تريليونات من الدولارات في الاقتصاد.

في 09 أبريل 2020، نشر موقع Foreignpolicy.com بعض التعليقات المثيرة للاهتمام حول الأزمة، حيث قال:

«لقد  مكن هذا الإجراء الموازن الضخم والمستعجل من الحيلولة حتى الآن من حدوث انهيار مالي عالمي فوري، لكننا نواجه الآن فترة طويلة سيؤدي فيها انخفاض الاستهلاك والاستثمار إلى مزيد من الانكماش».

وقد كتب نورييل روبيني، من كلية ستيرن للاقتصاد بجامعة نيويورك قائلا:

«وحدها الحكومات المركزية هي التي لديها ميزانيات كبيرة وقوية بما يكفي لمنع انهيار القطاع الخاص».

إلا أنه يضيف بعد ذلك:

«لكن هذه التدخلات الممولة بالعجز يجب تمويلها بالنقد بالكامل. أما إذا تم تمويلها من خلال الدين الحكومي فإن أسعار الفائدة سترتفع بشكل حاد، وسوف يخنق ذلك الانتعاش في مهده».

وهذا يعني أن البنك المركزي يجب أن يستمر في طباعة النقود لتمويل الإنفاق الحكومي.

كما يسخر روبيني بشدة من تلك التنبؤات المفرطة في التفاؤل حول ما يسمى بالتعافي على شكل حرف V، حيث يقول:

«يبدو أن الانكماش الجاري الآن لن يكون لا على شكل حرف V ولا على شكل حرف U، ولا على شكل حرف L (أي هبوط حاد يتبعه ركود). بل بالأحرى سيبدو على شكل I، أي على شكل سقوط عمودي لأسواق المال والاقتصاد الحقيقي».

هذا هو المنظور، فحتى بدون تفشي موجة جديدة للجائحة، وهو الشيء الذي ليس مستبعدا على الإطلاق، لن يحصل الانتعاش الاقتصادي الموعود، بل ستواجه الجماهير في جميع البلدان عقودا من الاقتطاعات العميقة في مستويات المعيشة والبطالة والتقشف.

من سيدفع الثمن؟

من سيدفع الثمن؟ هذا هو السؤال الذي لا يرغب أحد في طرحه، ناهيك عن الإجابة عليه. كتب مارتن وولف، كبير الاقتصاديين في Financial Times، ما يلي:

«لقد أدت الجائحة إلى زيادة في الإنفاق المالي كبيرة جدا حتى مقارنة مع الأزمة المالية. وهذا يثير الآن السؤال عن كيفية إدارة هذا الدين ومن سيدفع ثمنه» (ف ت، 5/7/20).

لكن الجواب واضح، فكل ثقل الأزمة سيلقى على عاتق أولئك الأقل قدرة على الدفع، أي: الفقراء والمسنين والمرضى والعاطلين والطبقة العاملة بشكل عام. لكن الطبقة الوسطى لن تخرج سالمة أيضا.

بعض الإصلاحيين اليساريين (بوديموس في إسبانيا، على سبيل المثال) توصلوا بحماقة إلى استنتاج مفاده أن المبالغ الكبيرة الممنوحة للشركات من أجل دفع أجور العمال المسرحين من الأموال العامة تشير إلى حدوث تغيير جوهري في طبيعة الرأسمالية. إنهم يرون في ذلك نهاية “النموذج الليبرالي الجديد” وعودة مرحب بها إلى الرأسمالية بوجه (كينيزي) مبتسم.

ورغم ذلك فلهؤلاء السيدات والسادة الجرأة على اتهام الماركسيين بأنهم طوباويون! لكنهم سوف يضطرون إلى تغيير النبرة عندما ستشرع الحكومات، التي أنفقت مبالغ طائلة لم تكن تمتلكها، في انتزاعها من الشعب من خلال زيادة الضرائب والاقتطاعات الكبيرة في النفقات العامة.

سيظل العبء المالي الهائل محسوسا لسنوات -وربما عقود- قادمة، وسيمنع أي احتمال لحدوث انتعاش جدي. وعاجلا أم آجلا، سيؤدي العجز الهائل إلى ارتفاع معدلات التضخم  وضغط على الائتمان وانكماش هائل في الاقتراض، وانهيار جديد. هذا هو المنظور الحقيقي للمستقبل المنظور. إنها وصفة مكتملة لتصاعد الصراع الطبقي في جميع البلدان.

وهذا ما يفهمه ممثلو الطبقة السائدة الأكثر حكمة، كما نرى في الفاينانشيال تايمز، التي أشارت يوم 09 مارس إلى أن:

«دفع ثمن الجائحة سيثير جميع تلك الأسئلة. العودة إلى التقشف ستكون جنونا، ستكون دعوة إلى اندلاع اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق، إن لم نقل ثورة، وهبة من السماء لصالح الشعبويين. مع مرور الوقت -ولفترة طويلة- سيتوجب دفع الفواتير المالية. ومع ذلك فإن الديمقراطية الليبرالية لن تنجو من هذه الصدمة الاقتصادية الكبرى الثانية إلا إذا تم القيام بالتعديلات ضمن عقد اجتماعي جديد يغلب رفاهية الأغلبية على مصالح أصحاب الامتيازات» (ف ت، 9/3/20).

صحيفة Financial Times لا تشرح لنا كيف سيمكن تحقيق هذه المعجزة، لكن هذه السطور معبرة للغاية. إنها تظهر أن منظري رأس المال يتوصلون إلى نفس النتيجة التي توصل إليها الماركسيون. البرجوازية عالقة بين المطرقة والسندان. ويفهمون أن الثورة متضمنة في الوضع الحالي. وهم ليسوا مخطئين في ذلك.

“الانزلاق نحو الكارثة”

في عام 1938 قال ليون تروتسكي عن الطبقات الحاكمة في العالم إنها “تنزلق إلى الكارثة وأعينها مغلقة”. تبدو هذه السطور وكأنها كتبت اليوم. إن رد فعل البرجوازيين وممثليهم السياسيين المأجورين على جائحة فيروس كورونا رد فعل مدفوع بالذعر الأعمى.

في الماضي، وحتى في لحظات الأزمات العميقة والحروب، كان الناس يشعرون أن الحكومات، حتى وإن لم تكن مسيطرة تماما على الوضع، فإن لديها على الأقل نوع من الخطة للخروج من الأزمة.

لكن الوضع اليوم ليس كذلك. منظرو رأس المال قد فقدوا التوازن بشكل كامل. وتعكس المقالات الافتتاحية للصحف البرجوازية الجادة حالة من الحيرة والقلق القريبة من اليأس.

يمر العالم بأكبر انهيار اقتصادي في التاريخ، وبين عشية وضحاها صارت كتب الاقتصاد المدرسية القديمة بالية تستحق أن ترمى في سلة المهملات. لا تستطيع الشركات التنبؤ بالمستقبل والاستثمار ينهار، وقد عانى الاقتصاد من أزمة أسوأ بكثير وظهرت آثارها بشكل أسرع بكثير من أزمة الثلاثينيات. التوقعات الاقتصادية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا قيمة لها على الإطلاق، حيث لا يمكن لأحد التنبؤ بالنتائج التي ستخلفها جائحة فيروس كورونا الحالي.

الوضع أسوأ عندما نأتي إلى القادة السياسيين. هناك مثل يقول إن الشعب يحصل على الحكومة التي يستحقها. هذا ليس صحيحا تماما، لكن الصحيح بشكل كامل هو أن الطبقة الحاكمة في ظل الأزمة الحالية لديها الحكومة التي تستحقها.

يمثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وبوريس جونسون في بريطانيا، وبولسونارو في البرازيل، تجسيدا للإفلاس الفكري والأخلاقي للبرجوازية في مرحلة شيخوختها. إنهم يقودون بفرح شعوبهم إلى حافة الهاوية، ويقذفونهم فوقها. إن القيادة السيئة تجعل الوضع السيء أسوأ ألف مرة. البرجوازية تنتف شعرها وتشتكي بصوت عال من هذا الوضع، لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئا حيال ذلك.

الولايات المتحدة الامريكية

يمكن العثور على التعبير الأكثر وضوحا عن ذلك في الولايات المتحدة، أي البلد الأغنى في العالم.

يقال إن الإمبراطور الروماني نيرون كان يعزف على قيثارته بينما كانت روما تحترق. والآن ها هو الإمبراطور ترامب يقلد سلفه سيء السمعة، على الرغم من أنه قد وافق أخيرا على ارتداء القناع الطبي، الشيء الذي يعتبر تحسنا ملموسا.

تم طرد ملايين العمال الأمريكيين أو أنهم أرسلوا في إجازة مؤقتة. عمال الوجبات السريعة والبقالة يخاطرون بحياتهم مقابل الحد الأدنى للأجور، بينما تنتشر الجائحة خارج نطاق السيطرة وتعرض ملايين الناس لمعاناة وموت من الممكن تلافيهما.

ارتفعت الطلبات الجديدة للحصول على إعانات البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة، مما يشير إلى ارتفاع عدد حالات تسريح العمال وتسارع انكماش سوق العمل.

جاء الانهيار المفاجئ بمثابة صدمة لملايين العمال الأمريكيين. خففت المساعدات المالية الحكومية الموقف مؤقتا، لكن حصيلة تفشي فيروس كورونا استمرت في الارتفاع بلا هوادة.

وجاء وقع الأزمة أشد على المناطق المحرومة التي يسكنها أساسا فقراء من السود وغيرهم من الأقليات الاثنية الأخرى، مما يجعل التفاوتات الاثنية القائمة منذ فترة طويلة أكثر وضوحا من ذي قبل.

حركة تمرد

أدى مقتل جورج فلويد أخيرا إلى انفجار استياء وغضب ملايين الفقراء، وخاصة السود، بالولايات المتحدة. لم تأت هذه الحركة من العدم. لقد كانت نتيجة عقود من الاستغلال والقمع والفقر وسوء ظروف السكن والعنصرية وعنف الشرطة.

وقد أعرب المؤرخ والأستاذ بجامعة رايس، دوجلاس برينكلي، عن الموقف بوضوح مثير للإعجاب حين قال: «يمكن أن تبدأ خيوط حياتنا المدنية في التفكك، لأن الجميع يعيشون في صندوق بارود».

كانت هناك العديد من جرائم القتل المماثلة على مدى عقود عديدة، وذلك دون أن تثير احتجاجات بهذا الحجم، لكن مقتل جورج فلويد شكل بالنسبة لملايين الفقراء في الولايات المتحدة القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد سقطت الصور المروعة لعنف الشرطة مثل عود ثقاب مشتعل فوق برميل مليء بالبارود.

في مينيابوليس، التي كانت مهد الحركة، اضطرت قوات الشرطة إلى الفرار أمام حشد من المتظاهرين الغاضبين الذين شرعوا في إحراق مركز للشرطة. كانت تلك مشاهد لحركة ذات خصائص تمردية. لكن الأهم من ذلك هو سرعة البرق التي تطورت بها الأحداث.

وكما لو أن الحركة موجهة بيد خفية، اندفعت الاحتجاجات الجماهيرية من الساحل إلى الساحل، واجتاحت المدن الأمريكية الواحدة منها تلو الأخرى. لقد شارك في الاحتجاجات ما لا يقل عن 10% من السكان كما دعمها الكثيرون. ومن المثير للدهشة أن غالبية الأمريكيين (54%) قالوا إن إحراق مبنى مركز شرطة مينيابوليس عمل مبرر. والأهم من ذلك هو حقيقة أن عمال 29 ميناء أضربوا تضامنا مع الاحتجاجات، بينما رفض سائقو الحافلات في بعض المدن نقل شرطة مكافحة الشغب.

ردت الدولة بقمع شديد الوحشية، وتم فرض حظر التجول في 200 مدينة. ومع ذلك فقد استمرت الاحتجاجات لأسابيع. كان هذا مؤشرا على الأشياء التي يحبل بها المستقبل، نوع من التحضير للثورة الأمريكية.

أحداث من هذا النوع ليست لها في الحقيقة سابقة في التاريخ الأمريكي الحديث. إن هذه الحركة هي الجواب النهائي على جميع المشككين والجبناء الذين زعموا أن الطبقة العاملة لن تتحرك أبدا، وخاصة في الولايات المتحدة.

انشقاقات بين صفوف الطبقة الحاكمة

إن الانشقاقات داخل الطبقة الحاكمة هي أول مؤشر على تطور الوضع الثوري. أراد ترامب استخدام الجيش لسحق التمرد، لكن هذا قوبل بالرفض من جانب قادة الجيش، بل وحتى من بين جزء من الجمهوريين.

ونقلت شبكة CNN عن مسؤولين في وزارة الدفاع قولهم إن هناك “انزعاجا عميقا ومتزايدا” لدى البعض في البنتاغون، حتى قبل أن يعلن الرئيس رغبته في نشر الجيش لفرض النظام في المدن الأمريكية. حملت صحيفة وول ستريت جورنال العنوان الرئيسي التالي: “لا تستدعوا القوات”. وقالت: «في الوقت الحالي من المرجح أن يتسبب مشهد نزول القوات إلى شوارع الولايات المتحدة في إشعال الوضع أكثر من تهدئته…».

أرسل ترامب لاحقا قوات من الأمن الداخلي لقمع المظاهرات في بورتلاند. وتماما كما توقعت وول ستريت جورنال، فقد كان تأثير ذلك هو خلق حركة أكبر وأكثر عنفا. لقد أصبح الوضع أشبه بحرب أهلية في الشوارع. وهكذا فقد خدم دونالد ترامب الثورة بفعالية كبيرة!

يدل هذا على حدود سلطات الدولة، كما أنه يعطينا صورة عن شكل الأوضاع القادمة.

حدود العفوية

كتب ليون تروتسكي عام 1938، أنه يمكن للمرء أن يختصر أزمة الإنسانية في أزمة قيادة البروليتاريا. يجب أن نفكر مليا فيما تعنيه هذه الكلمات. غني عن البيان أن حركة الجماهير هي دائما القوة المحركة الرئيسية للثورة، وحول هذه النقطة نحن نتفق مع اللاسلطويين. لكنهم ينتهون حيث تبدأ المشاكل الحقيقية للثورة.

ما الذي تظهره الأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة؟ لقد كشفت عن القوة الهائلة الكامنة عند الجماهير. تكشف أن هناك قوة في المجتمع أقوى حتى من أقوى دولة أو جيش أو جهاز شرطة. أجل هذا صحيح تماما. إن الحركة العفوية للجماهير هي الشرط المسبق للثورة الاشتراكية، لكنها في حد ذاتها، لا تكفي لضمان النجاح.

وبالمثل فإن البخار هو أيضا قوة هائلة. إنها القوة التي قادت الثورة الصناعية، وتستمر في دفع الحياة الاقتصادية حتى يومنا هذا. لكن البخار لا يكون قوة إلا عندما يتركز في نقطة واحدة، بفضل المكبس الذي يركز قوته ويضاعفها ألف مرة. بدون ذلك سوف يتبدد البخار في الهواء بلا فائدة.

نفس الشيء يقال عن الثورة. فبدون التنظيم والقيادة اللازمين، ستبقى القوة الهائلة للطبقة العاملة مجرد قوة محتملة وليست قوة فعلية.

يعطينا تاريخ الحروب العديد من الأمثلة عن كيف هُزم جيش كبير من الجنود الشجعان على يد قوة أصغر بكثير من الجنود المنظمين المنضبطين بقيادة ضباط متمرسين. وللحرب بين الطبقات العديد من نقاط التشابه مع الحرب بين الأمم.

ما رأيناه في الولايات المتحدة يظهر محدودية سلطات الدولة عندما تواجه انتفاضة جماهيرية، مثل تلك التي رأيناها في ذلك البلد. إن هذه الحركة العفوية للجماهير هي الشرط المسبق للثورة الاشتراكية. لكنها في ذاتها ولذاتها لا تكفي لضمان النجاح. كان هناك شيء ينقص، وهذا الشيء هو منظمة وقيادة قادرة على تقديم خريطة للسير إلى الأمام.

لكن بدون التنظيم والقيادة اللازمتين، كان من المحتم أن تنحسر الاحتجاجات عاجلا أم آجلا. الشيء المدهش هو أنها استمرت كل ذلك الوقت. هل كانت تلك ثورة؟ من الواضح أنها لم تكن ثورة بعد، لكن من المؤكد أنه يمكن اعتبارها تحضيرا للثورة المستقبلية.

لا شيء سيبقى كما كان

هناك تغيير كبير في الوعي في الولايات المتحدة. تظهر استطلاعات الرأي ارتفاعا في دعم الاشتراكية: 67% من الشباب سيصوتون لصالح رئيس اشتراكي. والأكثر إثارة للدهشة هو أن 30% ممن تزيد أعمارهم عن 65 عاما سيفعلون الشيء نفسه إذا أتيحت لهم الفرصة. لكن الفرصة لم تتح لهم.

لقد  رفض بيرني ساندرز، بعد أن قام ببث الآمال بين الملايين من الناس، أن يتقدم كمرشح اشتراكي، على الرغم من وجود دعم كبير لخلق حزب جديد. وبدلا من ذلك اختار دعم جو بايدن كمرشح ديمقراطي، مستخدما مبرر الحاجة لهزيمة ترامب. سوف يكون لهذا المبرر بلا شك بعض الأثر على كثير من الناس الراغبين بشدة في التخلص منه [ترامب]. لكن كثيرين غيرهم سيرفضون ذلك باشمئزاز.

ستجري الانتخابات في نوفمبر، ويمكن أن تحدث أشياء كثيرة من الآن إلى ذلك الحين، لكن الحملة الانتخابية قد بدأت بالفعل. لقد حاول ترامب لعب ورقة “القانون والنظام”، لكن هذا أدى إلى نتائج عكسية. وهو الآن يكرر باستمرار أن الانتخابات ستتعرض للتزوير بسبب التصويت عبر البريد. هذه الحقيقة مؤشر واضح على أنه يتوقع أن يخسر. وتظهر استطلاعات الرأي بالفعل أنه يتراجع، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه سيخسر.

لقد توصل الكثير من الناس إلى الاستنتاج الصحيح بأن الاختيار بين الديمقراطيين والجمهوريين ليس خيارا على الإطلاق. وهناك نمو مماثل للاهتمام بالأفكار الاشتراكية، وحتى الشيوعية. يتضح هذا من خلال النمو السريع الذي أحرزه فرعنا في الولايات المتحدة، لكنه يظهر أيضا من خلال النمو السريع لعضوية حزب الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكي (DSA) في جميع أنحاء البلاد. لقد انضم إليه ما يقدر بـ 10.000 شخص منذ مارس، وبذلك يصل إجمالي أعضاءه إلى حوالي 66.000، وفقا للأرقام الداخلية.

هناك شيء واحد واضح: بغض النظر عمن سيسكن البيت الأبيض في العام المقبل، فإنه لن يستمر شيء كما كان في السابق. تنتظر الولايات المتحدة أوقات عاصفة، ستكون هناك انتصارات وستكون هناك هزائم؛ لكن ولفترة كاملة سيتأرجح البندول بحدة إلى اليسار.

الحاجة إلى الديالكتيك

وحدها المعرفة بالمنهج الديالكتيكي الماركسي ما يمكن المرء من النظر إلى ما تحت السطح (“الحقائق”) وفهم السيرورات الحقيقية التي تنضج ببطء تحت السطح.

لقد فوجئ المراقبون السطحيون والانطباعيون بهذه الحركات، التي بدت وكأنها خرجت من العدم، مثل صاعقة من سماء زرقاء صافية. لكن الاضطرابات الحالية لا تأتي من العدم، لقد  تراكمت طيلة كل المرحلة السابقة.

إن الافتقار إلى المنهج الديالكتيكي هو ما يفسر العجز التام لمنظري رأس المال، الذين لا يستطيعون تفسير الأزمة الحالية أو تقديم حل لها. وهذا ينطبق أيضا على الطبقة الوسطى والمثقفين، الذين استولى عليهم التشاؤم، الذي ينعكس في أفكار ما بعد الحداثة التي تنكر إمكانية التقدم بشكل عام، وذلك ببساطة لأن التقدم في ظل الرأسمالية قد توقف.

يشرح الديالكتيك أن كل شيء يتحول عاجلا أم آجلا إلى نقيضه. إن وعي الطبقة العاملة لا يتطور في خط مستقيم. ويمكنه أن يتخلف لفترة طويلة عن مواكبة الأحداث، لكنه عاجلا أم آجلا يلتحق به بطفرة. هذا بالضبط ما تعنيه الثورة. ونحن الآن نرى هذه السيرورة تتكشف أمام أعيننا.

يجب أن نضع في اعتبارنا أن التحركات الثورية كانت قد بدأت بالفعل خلال العام الماضي، في السودان ولبنان والعراق والإكوادور وتشيلي، إلخ. وينعكس التجذر قبل كل شيء في التغير السريع لوعي الجماهير.

كيف يتغير الوعي

ذلك التأخر في الوعي الذي كنا نصفه في الماضي قد أخلى مكانه لطفرات عنيفة في وعي الجماهير. فأينما نظرنا نرى تصاعد الاستياء والغضب والسخط والكراهية ضد النظام القائم.

يعبر هذا عن نفسه بطرق مختلفة في مختلف البلدان، لكننا نرى في كل مكان أن الجماهير -العمال والشباب- قد بدأوا في التحرك لتحدي النظام القديم والنضال ضده. ويكفي أن نذكر الأحداث التي تجري الآن أمام أعيننا.

فلنأخذ مثالين مهمين للغاية: إسرائيل ولبنان. إذا كان هناك من بلد في العالم يعتبره الكثير من الناس بمنأى عن الصراع الطبقي، فهو إسرائيل. كان يبدو لمعظم الناس أن نتنياهو يتحكم بشكل كامل في الوضع. لكن الأزمة قد ضربت إسرائيل الآن، ومستويات المعيشة تنخفض والبطالة آخذة في الازدياد. وقد خرجت الجماهير إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط حكومة نتنياهو.

ولدينا في لبنان مثال أكثر وضوحا. فبعد الحركة الثورية التي اجتاحت البلاد في نهاية العام الماضي، أدى الانفجار الذي شهده ميناء بيروت، والذي دمر المدينة وشرد 300 ألف شخص، إلى اندلاع حركة ثورية جديدة أكثر كفاحية. منذ وقت ليس ببعيد كانت حركة مثل هذه تبدو مستحيلة، وذلك بسبب الانقسامات الطائفية الحادة في المجتمع اللبناني. لكننا الآن نشهد تصاعدا هائلا للحركة الثورية، حيث توحدت جميع قطاعات الطبقة العاملة في خضم النضال.

انفجارات الغضب الشعبي هذا لم تأت من العدم. لقد تراكمت عواملها طيلة المرحلة السابقة، وخاصة سنوات التقشف العشر الأخيرة.

بيلاروسيا وروسيا

نشهد تغيرا دراماتيكيا مماثلا في بيلاروسيا، حيث اتخذت الحركة الاحتجاجية ضد لوكاشينكو حجما هائلا، إلا أنها ذات طبيعة مشوشة ومتناقضة.

تريد القيادة البرجوازية الصغيرة تسريع عملية الخصخصة وإقامة علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروبي، لكن ظهور الطبقة العاملة على الساحة كقوة رئيسية، تتحرك في اتجاه الإضراب العام، أصبح عنصرا مهما في المعادلة. عمال القطاع العام لن يشاركوا الليبراليين حماسهم للخصخصة وإدخال اقتصاديات السوق.

ليس الوضع في بيلاروسيا مشابها لما كان في أوكرانيا حيث سيطرت على الحركة عناصر قومية رجعية متطرفة وفاشية. لا توجد بين السكان في بيلاروسيا نفس المشاعر المعادية لروسيا. وبيلاروسيا مندمجة بشكل وثيق مع روسيا اقتصاديا ولغويا وتاريخيا، بحيث يصعب رؤيتها تنفصل عن موسكو وتتجه نحو الغرب.

لا يمكن التنبؤ مسبقا بكيف ستنتهي الحركة الحالية. سوف يراقب بوتين هذه الأحداث بقلق متزايد. لكن خيارات بوتين في بيلاروسيا محدودة. إن التدخل المسلح سيكون عملا جنونيا، من شأنه أن يثير عداء الشعب البيلاروسي ويخلق نوعا من المشاعر المعادية لروسيا التي تدفعهم نحو الغرب. وعلى أي حال فليست لدى بوتين مصلحة في إنقاذ لوكاشينكو، بل على العكس تماما.

لا شك أن زمرة الكرملين ستناور مع كبار البيروقراطيين في مينسك لإيجاد شخصية “إصلاحية” مناسبة لتحل محل لوكاشينكو الممقوت والتوصل إلى اتفاق مع موسكو. ونجاح مثل هذه المناورة مرهون بالتطور المستقبلي للحركة الجماهيرية نفسها.

سيكون للحركة التي تشهدها بيلاروسيا تداعيات جدية على روسيا نفسها. يخشى بوتين، لأسباب وجيهة، من اندلاع حركة مماثلة في روسيا. وتعطي الأحداث التي تشهدها خاباروفسك الدليل على أن هذه المخاوف لها ما يبررها. ربما كان تسميم المعارض الليبرالي، نافالني، بمثابة رد فعل مذعور. لكن وعلى أية حال فإن التناقضات في روسيا تشير كلها إلى نضج وضع متفجر.

أوروبا

النزعة القومية، وليس التعاون الدولي، هي السمة الغالبة في المرحلة الحالية، وهذا يمثل تهديدا لكل نظام التجارة العالمية الهش الذي شكلته البرجوازية بمجهودات كبيرة خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.

وليست الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين سوى أحد أعراض هذه الظاهرة. لكن هناك أيضا حرب تجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا. وحتى بين البلدان الأوروبية بدأت تظهر طيلة الوقت خطوط صدع خطيرة.

لقد أشرنا منذ وقت طويل إلى أن البرجوازية الأوروبية يمكنها أن تحافظ على درجة من التعاون لبعض الوقت، لكن هذه السيرورة ستسير في الاتجاه المعاكس في حالة حدوث ركود عميق. وهذا هو الحال الآن بوضوح.

ألمانيا

كانت ألمانيا هي القوة المحركة الرئيسية للاقتصاد الأوروبي، لكنها تضررت بشدة من جراء الأزمة. تكمن قوتها الأساسية في قدرتها على التصدير، لكن تبين الآن أن نقطة قوتها هذه صارت نقطة ضعفها الرئيسية. لقد تسبب التباطؤ في الصين وانتشار الأزمة في بقية أوروبا في انخفاض حاد في الصادرات، خاصة في قطاع السيارات الذي هو قطاع رئيسي.

كان الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا قد بدأ يتراجع بالفعل منذ الربع الأخير من عام 2019. والآن من المتوقع أن ينخفض ​​الناتج المحلي الإجمالي الألماني بأكثر من انخفاض الناتج المحلي للولايات المتحدة، بسبب اعتمادها على التصدير. هناك فائض في إنتاج السيارات، مما أدى إلى إغلاق المصانع وتسريح العمال وتدمير مناصب الشغل في معظم قطاعات الاقتصاد. هناك ما لا يقل عن ثلاثة ملايين عاطل عن العمل، وهذا الرقم لا يشمل من يعملون لحسابهم الخاص والطلاب.

يفضح كل هذا خطوط الصدع التي تمزق الاتحاد الأوروبي.

تفكك الاتحاد الأوروبي

هناك انقسام متزايد مع البلدان الأعضاء في أوروبا الشرقية. يعتقد الكثيرون في بروكسل أن بلدانا مثل بولندا والمجر يجب ألا تحصل على المال إلا إذا تخلت عن سياسات إصلاح القضاء التي يرى منتقدوها أنها اعتداءات على سيادة القانون.

لكن الانقسام الرئيسي الآن هو بين البلدان الأكثر تضررا من الفيروس -مثل إيطاليا وإسبانيا- وبين بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين همهم حماية أموالهم. لقد كانت إيطاليا على وجه الخصوص واحدة من أوائل البلدان الأوروبية التي عانت من تفشي المرض وسجلت 35.000 حالة وفاة، التي هي واحدة من أعلى المعدلات في العالم. وقد اتضحت هذه التوترات خلال الاجتماع الأخير الذي تصارع فيه قادة الاتحاد الأوروبي للتفاوض بشأن حزمة الحوافز لمساعدة البلدان على التعافي من الجائحة.

رفضت كل من السويد والدنمارك والنمسا وهولندا، إلى جانب فنلندا، بإصرار السماح بتقديم 500 مليار يورو في شكل منح للبلدان الأكثر تضررا من آثار جائحة كوفيد 19. لقد جادلوا بأن الحزمة المقترحة سخية أكثر مما يجب، وأنه يجب على أي حال ألا تكون منحة بل قروضا واجبة السداد. هؤلاء القادة الذين من المفترض أنهم متحضرون، ومعظمهم من الاشتراكيين الديمقراطيين، يتجادلون مثل تجار خيول في سوق من أسواق العصور الوسطى.

وبعد اجتماع طويل ومضطرب، حيث كال زعماء الاتحاد الأوروبي الإهانات لبعضهم البعض وضرب ماكرون بيده على الطاولة وهدد بالانسحاب، توصلوا في النهاية إلى اتفاق هش. لم يكن لديهم خيار سوى الموافقة على صفقة حل وسط، وفي سياق ذلك ألقوا بمزاعم التضامن الأوروبي من النافذة.

إيطاليا

كانت المسألة الإيطالية في قلب هذا الشجار. كان من الممكن للفشل في التوصل إلى اتفاق أن يؤدي إلى انهيار الحكومة الائتلافية في إيطاليا، وإمكانية إعادة الحياة لسالفيني ورابطته المناهضة لأوروبا.

لقد انتقل مركز أزمة الاتحاد الأوروبي من اليونان إلى إيطاليا، التي أصبحت الآن رجل أوروبا المريض. إنها الحلقة الأضعف في سلسلة الرأسمالية الأوروبية. تشكل الأزمة في إيطاليا تهديدا على مستقبل الاتحاد الأوروبي أكبر بكثير مما كانت عليه اليونان في أي وقت مضى. اليونان، على كل حال، بلد صغير نسبيا، لكن إيطاليا اقتصاد كبير، حيث تمثل 11% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي. إن ديون إيطاليا الضخمة، البالغة 2500 مليار يورو، يمكن أن تخرب مالية الاتحاد الأوروبي وقد يؤدي انهيار إيطاليا إلى تدمير الاتحاد الأوروبي نفسه. هذا ما يفسر الموقف الحذر الذي تبنته ميركل. لقد كان من المستحيل عليها أن تتخذ مع إيطاليا نفس الموقف المتشدد الذي اتخذته مع اليونان، فاضطرت جزئيا إلى تغيير نبرتها. كما يفسر ذلك جزئيا غضب الرئيس الفرنسي خلال القمة الأخيرة لزعماء الاتحاد الأوروبي.

لقد كشفت أزمة فيروس كورونا عن الضعف الشديد للرأسمالية الإيطالية، والفساد وعدم الكفاءة من جانب حكومتها. تضرر شمال إيطاليا بشدة من أزمة كورونا. يمثل  الشمال 50% من الناتج المحلي الإجمالي الإيطالي، ومع ذلك فقد عرفت هذه المنطقة المزدهرة مشاهد الموت والدمار التي عادة ما كان المرء يربطها ببلد من بلدان العالم الثالث.

تسببت الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع أزمة كوفيد 19 في إثارة الغضب والاستياء. كان على العمال الاشتغال من 12 إلى 14 ساعة دون أجر إضافي، حتى أيام السبت، وخاصة منهم العاملين في قطاع الصحة الذين يخاطرون بحياتهم. يفضح هذا الاستهتار الإجرامي بحياة العمال وصحتهم من جانب أرباب العمل.

لقد  صارت التغييرات المفاجئة والحادة في الوعي واضحة. لقد أصبح المعلمون والطلاب راديكاليين للغاية ومستعدين للنضال. كانت هناك موجة من الإضرابات غير الرسمية، التي تمت الدعوة إليها بشكل عفوي من طرف القواعد، لكن الإصلاحيين والقادة النقابيين بذلوا قصارى جهودهم لوقف الحركة. أرباب العمل في موقع الهجوم، لكن قادة النقابات يسعون إلى ميثاق اجتماعي، على الرغم من عدم توفر شروط ذلك.

يؤدي هذا التناقض إلى فقدان القيادة النقابية لنفوذها بشكل سريع، مما يمهد الطريق لانفجارات أكبر خلال الفترة المقبلة. إن الساحة مهيأة لانفجار الصراع الطبقي بمستوى لم نشهده منذ السبعينيات. ولهذا تداعيات هامة على أوروبا بأكملها.

فرنسا هي التالي على الخط

على الرغم من أن المشكلة الأكثر إلحاحا هي الأزمة في إيطاليا، فإن فرنسا نفسها ليست بعيدة عن الركب. وهذا ما يفسر رد فعل إيمانويل ماكرون على عناد الأوروبيين الشماليين. قالت التقارير إنه ضرب بيده على الطاولة وهدد بالانسحاب من المناقشات، متهما “الأربعة المقتصدين”[1] بتعريض كل المشروع الأوروبي للخطر.

قال الرئيس الفرنسي إنه “لا يوجد خيار” سوى إنشاء صندوق “يمكنه إصدار ديون مشتركة بضمان مشترك” لتمويل البلدان الأعضاء وفقا لاحتياجاتها وليس وفقا لحجم اقتصاداتها. لكن ألمانيا وهولندا عارضتا هذه الفكرة.

عمل وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، على وضع التحدي بشكل صارخ:

«إما أن تستجيب منطقة اليورو بطريقة موحدة للأزمة الاقتصادية وتخرج منها أقوى، وإما ستدخل في فوضى عارمة وتتعرض لخطر الزوال» (ف ت، 23/3/20).

لكن أوروبا لا تستجيب بطريقة موحدة، بل على العكس من ذلك فاقمت الأزمة الاقتصادية بشكل كبير الخلافات الوطنية ودفعت الطبقات السائدة في مختلف البلدان في اتجاهات مختلفة. لم يكن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوى بداية سيرورة تفكك لم تنته بعد، وستتسبب في اندلاع أزمة متشنجة تلو الأخرى.

بريطانيا

سيكون التأثير الفوري لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كارثيا على أوروبا ومأساويا على بريطانيا. بعد مغادرتها للاتحاد الأوروبي، ستجد البرجوازية البريطانية نفسها في أسوأ العوالم الممكنة.

سوف تنفضح كل الأوهام الشوفينية الغبية بقسوة بكونها مجرد خداع. سوف تجد بريطانيا نفسها محصورة في دور جزيرة صغيرة هامشية قبالة سواحل أوروبا. وتلك “العلاقة المتميزة” مع أمريكا التي تتبجح بها بريطانيا اليوم ستنفضح باعتبارها علاقة مهينة بين السيد وخادمه. وتلك المكانة التي كانت تتمتع بها في العالم في الماضي ستنهار بين عشية وضحاها مثل بيت من ورق.

طرح مارتن وولف توقعا قاتما في الفاينانشيال تايمز، حيث قال:

«لن تظهر “بريطانيا العالمية”، بل ما سيظهر هو بلد يبحث عن الفتات من طاولات القوى التجارية الكبرى، التي هي بدورها منخرطة في نزاع شرس فيما بينها» (ف ت، 25/5/20).

وبالفعل فإن التناقضات القومية التي تمزق نسيج المملكة المتحدة بدأت تبرز إلى الواجهة. يتصدر الموقف الداعم للاستقلال في اسكتلندا استطلاعات الرأي اليوم بنسبة 07 إلى 09 نقاط مئوية، مع زيادة الكراهية والاستياء ضد حكومة المحافظين.

قد يجد بوريس جونسون نفسه وقد تحول من رئيس لوزراء بريطانيا العظمى إلى رئيس وزراء لإنجلترا الصغيرة.

الصين

كانت الصين إحدى القوى المحركة الرئيسية التي دفعت الاقتصاد العالمي خلال المرحلة الماضية. لكن الآن كل شيء يتحول بشكل ديالكتيكي إلى نقيضه؛ لم تعد الصين تعتبر جزءا من الحل، بل صارت جزءا من المشكلة.

لقد أقامت الصين قاعدة صناعية عملاقة ذات قدرة إنتاجية هائلة. لكن الطلب الداخلي لا يمكنه استيعاب هذه الإمكانيات الإنتاجية الهائلة. يجب على الصين أن تصدر من أجل البقاء. لكن نجاحها في مجال التصدير يثير الآن ردود فعل غاضبة من جانب منافسيها، ولا سيما في الولايات المتحدة، لكن أيضا في أوروبا.

حتى قبل الأزمة الحالية كان الاقتصاد الصيني قد بدأ يتباطأ بمعدل ينذر بالخطر، لكن الأزمة دفعت الاقتصاد إلى حافة الهاوية. خلال الربع الأول، توقع جي بي مورغان تشيس (JPMorgan Chase) أن تعرف الصين انخفاضا بنسبة 40% في الناتج المحلي الإجمالي عن الأشهر الثلاثة السابقة، وهو أكبر انكماش سجل في 50 عاما على الأقل.

وتظهر أحدث الأرقام الرسمية أن معدل البطالة في الصين قد بلغ 5,9%، وهو أعلى رقم يتم تسجيله منذ بدأ تسجيل المعطيات في التسعينيات. لكن من الواضح أن هذا الرقم لا يعكس حقيقة الأزمة في الصين، حيث لم يتم تضمين العمال المهاجرين في الإحصاءات.

يفسر هذا سبب اتخاذ شي جين بينغ خطوات لتقوية سلطاته الديكتاتورية وسحق الحركة في هونغ كونغ. الصين مقبلة على انفجار للصراع الطبقي، الذي تختمر شروطه الآن.

“رعب بلا نهاية”

قال لينين ذات مرة إن الرأسمالية هي الرعب بدون نهاية. ويمكننا الآن أن نرى بشكل ملموس حقيقة هذه المقولة. لقد حذر برنامج الغذاء العالمي، التابع للأمم المتحدة، مؤخرا من أن أكثر من 265 مليون شخص مهددون بالمجاعة. العواقب الاجتماعية لجائحة كورونا في البلدان الرأسمالية المتقدمة سيئة بما يكفي، لكن البلدان الفقيرة تواجه كارثة بكل المقاييس.

لقد خلفت الجائحة آثارا مروعة بين أفقر فئات المجتمع، حتى في أغنى البلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها ذات تأثيرات رهيبة على أغلبية سكان العالم.

تفضح جائحة كورونا بقسوة المستويات الوحشية لعدم المساواة التي تسود العالم. يكافح واحد من بين كل شخصين على هذا الكوكب يوميا من أجل مجرد البقاء. نصف سكان العالم لا يحصلون على الرعاية الصحية الأساسية. المرض بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الفقر يمكنه أن يكون بمثابة حكم بالإعدام. يعمل ملياري شخص على الصعيد العالمي في القطاع غير الرسمي، مقابل أجور البؤس، ومعظمهم في البلدان الفقيرة.

تقع آثار الفيروس بشكل أكبر على كاهل الفقراء والمياومين والعاملين في القطاع غير الرسمي، وكثير منهم من النساء، الذين يفتقرون إلى الحماية المالية والاجتماعية. يضطر ملايين الأشخاص إلى الذهاب إلى العمل ومواجهة الموت بسبب الفيروس القاتل، لأنهم غير قادرين على تحمل خسارة الدخل وبسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية والضروريات الأخرى. في البلدان الفقيرة، يعيش الكثير من الناس في مستوطنات حضرية عشوائية أو أحياء الصفيح، حيث غالبا ما يكون هناك اكتظاظ وسوء الظروف الصحية. وعندما يتشارك ما يصل إلى 250 شخصا في صنبور ماء واحد، كيف يمكن الحديث عن التباعد الاجتماعي وغسل اليدين وتتبع الحالات لمنع انتشار الفيروس؟

ورغم ذلك فإن تلك البلدان وبدلا من أن تستثمر في أنظمة الرعاية الصحية الخاصة بها من أجل مواجهة الفيروس، يتعين عليها استخدام مواردها الثمينة لسداد ديونها. من المقرر أن تصل مدفوعات الديون الخارجية لأفقر 77 بلدا، في عام 2020 وحده، إلى 40 مليار دولار على الأقل. وهكذا فإنه حتى في الوقت الذي يواجه نصف العالم الخراب بفعل جائحة رهيبة ويواجه ملايين الناس الموت إما بسبب المرض أو الجوع، فإن مصاصي الدماء الإمبرياليين يستمرون في تجفيف الدماء من شرايين الشعوب.

إفريقيا

جنوب إفريقيا، التي شهدت أحد أكبر الزيادات في عدد الحالات في يوم واحد، لديها أكبر عدد من الإصابات المؤكدة في القارة الأفريقية. كما شهدت مصر منذ منتصف ماي ارتفاعا سريعا في عدد الحالات. وشهدت ليسوتو وناميبيا خلال الأيام الأخيرة زيادات حادة في عدد الحالات.

وهناك قلق متزايد بشأن ما يحدث في نيجيريا التي تحتل المرتبة الثالثة من حيث إجمالي الحالات المسجلة حتى الآن في القارة. المراكز الخمسة الأولى من حيث معدلات الوفيات تحتلها تشاد والسودان والنيجر وليبيريا وبوركينا فاسو. يوجد في ملاوي 25 سريرا للعناية المركزة و16 جهاز تنفس صناعي لأكثر من 18 مليون شخص، أما في زامبيا فيوجد طبيب واحد لكل 12.000 شخص.

شهدت العديد من البلدان تعطل الأسواق وأدى الحجر الصحي المجتمعي إلى خسائر في الدخل. تم إرسال ملايين العمال إلى منازلهم بدون أجر؛ بينما الآخرون، الذين يعملون في الوظائف الأضعف من حيث الأجور والأقل أمنا، غير قادرين على حماية أنفسهم من الفيروس القاتل. وتحذر الأمم المتحدة من أن نصف الوظائف في إفريقيا معرضة للخطر.

الهند وباكستان

للجائحة تأثير مدمر على باكستان، لكن الوضع في الهند وصل إلى مستويات أكثر دراماتيكية. وقد بدأنا للتو في فهم المدى الحقيقي للعدوى والوفيات الناجمة عن الفيروس. تشير الأرقام الرسمية إلى إصابة أكثر من مليوني شخص، ومن المؤكد أن هذا الرقم أقل بكثير من الواقع.

كما حذر العلماء من أن الهند قد تكون على بعد أشهر من الوصول إلى ذروة تفشي المرض، على الرغم من أنها تسجل بالفعل ثالث أكبر عدد من الحالات المؤكدة. المستشفيات في المدن الأكثر تضررا، بما في ذلك مومباي وبنغالور، مكتظة بالمرضى. وقد حاول ناريندرا مودي “حل” مشكلة الجائحة بطرد ملايين الفقراء الذين يعيشون في شوارع دلهي ومومباي ومدن أخرى. لكن ذلك لم يؤد إلا إلى انتشار الجائحة في القرى والمحافظات، التي تفتقر إلى أبسط الخدمات الصحية الأولية. ستكون العواقب البشرية مخيفة حقا.

من بين القوى العاملة في الهند، البالغ عددها 471 مليونا، لا يستفيد سوى 09% فقط من الضمان الاجتماعي، و90% منهم ليست لديهم عقود عمل رسمية. يشكل المهاجرون بينهم 139 مليون عامل، وقد تم إرسال الكثير منهم إلى قراهم، بشكل لم يشهد شيء مثله منذ التقسيم عام 1947.

يحاول مودي وعصابته الشوفينية الهندوسية صرف الانتباه عن الأزمة من خلال تأجيج نيران الشوفينية الهندوسية والطائفية، وتسليط المزيد من البؤس والعنف على الجماهير الهندية البائسة. ولأنه لم يكتف بتنفيذ حملة قمع شرسة في كشمير، وبالتالي إثارة صراع مع باكستان، فقد شرع بعد ذلك في اشعال حرب حدودية مع الصين، سيخرج منها بأنف مكسور.

أمريكا اللاتينية

في أمريكا اللاتينية ضرب الفيروس بأشد الأشكال ضراوة. لقد خرج عن السيطرة في بلدان مثل البرازيل وتشيلي والإكوادور وبيرو. وفي بعض مدن الإكوادور امتلأت المقابر وبدأوا يتركون الجثث ملقاة في الشوارع.

لقد أظهرت الحكومات اليمينية أنها عاجزة بشكل مطلق عن التعامل مع هذا الخطر على حياة الناس. بل وعلى العكس من ذلك فإن سلوكهم الإجرامي وغير المسؤول جعل الأزمة أسوأ مليون مرة. لكن المزاج السائد في أمريكا اللاتينية قد شجعته بشكل كبير التطورات التي تعرفها الولايات المتحدة.

لقد رفعت الاحتجاجات الجماهيرية التي تشهدها الولايات المتحدة وحركة “حياة السود مهمة” معنويات الشعوب جنوب نهر ريو غراندي، والذين معظمهم لم يكن يعتقد أبدا أن مثل هذه الأمور يمكنها أن تحدث في البلد الذي يعتبر قلب الإمبريالية. الجماهير مستعدة للنضال، لكن المشكلة مرة أخرى هي غياب القيادة.

البرازيل وتشيلي

بولسونارو، في البرازيل، تقلصت قاعدته وانقسم حزبه، وذلك على الرغم من الهستيريا الغبية لما يسمى باليسار والعصبويين الذين اعتقدوا أن الفاشية قد انتصرت بفوزه.

يوجد في البلد بالفعل ما يقرب من أربعة ملايين شخص مصاب بفيروس كورونا، بمن في ذلك الرئيس نفسه الذي يستفيد من خدمات أفضل الأطباء، لكن المرض بالنسبة للعديد من الفقراء في البرازيل، سيكون بمثابة حكم بالإعدام.

أزمة فيروس كورونا تعيق الحركة الجماهيرية مؤقتا. لكن تحت السطح هناك غضب هائل ضد الحكومة، وفي اللحظة التي سيخفف فيها الإغلاق سيعبر هذا الغضب عن نفسه في نهوض ثوري هائل.

حالة البرازيل معروفة جيدا، لكن سلوك السلطات في تشيلي ليس أفضل بكثير، حيث أن حكومة بينيرا اليمينية تقود البلد نحو كارثة وطنية.

لقد شهدت تشيلي احتجاجات جماهيرية ثورية في خريف عام 2019، وتشهد بداية لحركة احتجاجية جديدة موجهة أساسا ضد قطاع المعاشات التقاعدية المخصخص، الموروث عن ديكتاتورية بينوشيه. الناس المحتاجون للمال من أجل البقاء، يطالبون بحقهم في سحب أموالهم من شركة AFP المخصخصة.

الحكومة تقاوم لكنها تعرضت لهزيمتين في البرلمان. ويمكن لحركة جديدة أن تسقطها بسهولة. كان هناك مؤخرا إضراب لعمال الموانئ احتجاجا على الفضيحة، كما أن عمال المناجم بدورهم يهددون بالإضراب.

اضطرت حكومة بينيرا إلى تقديم تنازل بخصوص AFP، مما سمح للناس بسحب 10% من أموالهم. يظهر هذا مدى ضعف حكومته. ليست الحكومة قادرة على الاستمرار في السلطة إلا بسبب الموقف التصالحي الذي يتبناه كل من اليسار البرلماني والقادة النقابيون. لكن لم يتم حل أي مشكل أساسي، والانفجار الاجتماعي الجديد قادم لا محالة.

أزمة الإصلاحية

الاحتمالات الثورية متضمنة في الوضع برمته. تتجلى هذه الحقيقة من خلال تزايد التجذر بين فئات واسعة من المجتمع، وخاصة الشباب. وقد لاحظ منظرو رأس المال هذا الاتجاه بقلق. قالت صحيفة الفاينانشيال تايمز:

«لقد عملت الأزمة المالية على تشكيل آراء جيل الألفية بطرق بدأت تؤثر بالفعل في الحياة السياسة على جانبي المحيط الأطلسي، بما في ذلك رغبة القسم الأكبر من الشباب في تعريف أنفسهم بأنهم اشتراكيون.

لقد رفع جيل الألفية جيريمي كوربين إلى قيادة حزب العمال وبيرني ساندرز إلى عتبة الترشح للرئاسة باسم الحزب الديمقراطي. ومن المرجح أن يؤدي فيروس كورونا إلى المزيد من شحذ هذا المزاج».

هذه مقالة معبرة للغاية وتوضح كيف أن منظري رأس المال الجديين قد توصلوا إلى استنتاجات مماثلة لتلك التي توصل إليها الماركسيون. إنهم بدورهم يفهمون أن الفئات المستيقظة حديثا ستتجه في المقام الأول نحو الإصلاحيين اليساريين. ومثل هذا التطور متوقع جدا في ظل الظروف الحالية.

الإصلاحية اليسارية

بسبب ضعف قوى الماركسية الحقيقية، ستتجه تلك الفئات المتجذرة في المقام الأول نحو السياسيين الإصلاحيين اليساريين، الذين يبدو وكأنهم يقدمون مخرجا من الأزمة.

وتحت ضغط الجماهير يمكن لهؤلاء أن يتبنوا خطابا راديكاليا للغاية. لكنهم في آخر المطاف لا يمتلكون أي منظور للقضاء على الرأسمالية.

إنهم يعتقدون أنه يمكن إصلاح الرأسمالية، وجعلها أكثر إنسانية، وأكثر ديمقراطية، وما إلى ذلك. ستفضح هذه الأوهام بقسوة على محك الأحداث، مثلما رأينا بالفعل في حالة تسيبراس في اليونان.

الثورة بالنسبة للإصلاحيين غير واردة على الإطلاق، وذلك ليس فقط بالنسبة للإصلاحيين اليمينيين بل وبشكل خاص بالنسبة للإصلاحيين اليساريين. سوف يخترعون دائما ألف حجة وحجة ليؤكدوا أن الثورة مستحيلة وطوباوية، وما إلى ذلك.

لقد أُجبرت الجماهير أخيرا على مواجهة الواقع. لقد بدأت ببطء في استخلاص النتائج. هذا هو أعظم مصدر لقوتنا وأعظم سبب لضعف الرأسمالية والإصلاحية. سوف يستغرق الأمر بعض الوقت، لكن عاجلا أم آجلا سوف تختفي الأوهام القديمة تدريجيا من وعي الطبقة العاملة.

لقد مرت أعداد كبيرة من العمال والشباب المتجذرين في مدرسة تسيبراس وساندرز وجيريمي كوربين. وقد تعلمت أفضل العناصر دروسا قيمة من تلك المدرسة. وبعد تخرجهم انتقلوا الآن إلى مستوى أعلى وسيبحثون عن الوعي في مدرسة الماركسية الثورية. يجب علينا أن نساعدهم على إجراء ذلك الانتقال. لكن كيف يمكن القيام بذلك؟ هناك خطئان محتملان هنا:

الانتهازيون لا يوجهون أي نقد لقادة اليسار الإصلاحيين ويصبحون في الواقع مثل ناد من نوادي المعجبين بهم. لكن وعلى الطرف الآخر نجد العصبويين الطائشين، الذين يعتقدون أنهم ثوار عظماء فقط لأنهم قرأوا بضعة أسطر من تروتسكي دون أن يفهموا منها ولو كلمة واحدة، يعلنون بصوت عال أن هذا الزعيم اليساري أو ذاك سوف يخون. لا مكان في صفوف التيار الماركسي الأممي لأي من هذين الانحرافين. من الصعب تحديد أيهما يضر أكثر بقضية الماركسية الحقيقية.

يجب علينا في تعاملنا مع الإصلاحيين اليساريين أن نكون حريصين على الجمع بمهارة بين الحزم فيما يتعلق بالمبادئ وبين المرونة واللياقة اللازمتين في طريقة توجيه انتقاداتنا. أو على حد تعبير ماركس: يجب علينا أن نكون «لطفاء من حيث الأسلوب، صارمون من حيث المضمون». بهذه الطريقة فقط سيكون في استطاعتنا أن نكسب أفضل العمال والشباب الذين ما تزال لديهم أوهام نزيهة في الإصلاحية اليسارية.

يجب علينا أن نرد على مواقف الإصلاحيين اليساريين، ليس بالشتائم بل بالشرح الصبور. ومن خلال التجربة سيتمكن الأشخاص الذين يتحركون في اتجاه ثوري من أن يفهموا حدود ليس فقط الإصلاحيين اليمينيين بل وأيضا اليساريين منهم.

احتضار الرأسمالية

أينما نظرنا نرى صورا لانهيار قوى الإنتاج وتصاعد البطالة وتزايد الفقر والمعاناة والحروب والأزمات والمرض والموت. لكن كل ذلك ليس سوى الأعراض الخارجية للمرض الجوهري. وعلينا، مثل الطبيب الجيد، أن نكون قادرين على تحليل الأعراض لشرح السبب الجوهري.

من الطبيعي أن يستخلص الأشخاص الذين يفتقرون إلى الفهم العلمي الماركسي للتاريخ استنتاجات متشائمة. لكننا سبق أن رأينا مثل هذه الأعراض عبر التاريخ.

انهيار الإمبراطورية الرومانية حدثٌ استمر على مدى قرون ورافقته أفظع مظاهر الانحطاط الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والفلسفي. ومع ذلك فإن مرحلة الانحطاط الطويلة تلك لم تسر في خط مستقيم، بل كانت هناك فترات من التعافي، تماما مثلما يمر المحتضر أحيانا من فترات تجعله يبدو وكأنه يتماثل للشفاء، بينما هي في الواقع مجرد مقدمة لتدهور آخر لا رجعة فيه.

ليس من المستبعد بأي حال من الأحوال حدوث فترات انتعاش من هذا القبيل بالنسبة للرأسمالية. لكن من الواضح أن الخط العام هو الانحدار. لا وجود لأي حل دائم. إننا نعيش عذاب احتضار الرأسمالية، على حد تعبير تروتسكي. وهذا العذاب يهدد الجنس البشري بأكمله.

قوة القصور الذاتي

يجب على الماركسيين عند تحليلهم للظواهر أن يحرصوا على فحصها من جميع الجوانب، آخذين في الاعتبار القوى المتناقضة التي تدفع في اتجاهات مختلفة.

لقد دخلنا في أكثر الفترات اضطرابا في تاريخ البشرية. لا يمكن إيجاد حل دائم على أساس النظام الحالي للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية. هذا لا يعني، بالطبع، أنه لا يمكن، في لحظات معينة، إيجاد درجة معينة من التوازن الهش؛ بل على العكس من ذلك، إن بعض فترات الانتعاش المؤقت مسألة حتمية. لكنها ستكون قصيرة الأمد وستكون مجرد مقدمة لانهيار جديد وأكثر حدة.

يتميز الوضع الحالي بتجاذب معقد للقوى. فمن ناحية تسعى الجماهير جاهدة لإيجاد مخرج من الأزمة، وهم مستعدون للسير على الطريق الثوري، لكنهم يفتقرون إلى برنامج ثوري ومنظور واضح للمضي قدما.

لكن التمردات العفوية لا يمكنها أن تحل المشاكل المطروحة. ولذلك فإنها، في مرحلة معينة، تهدأ مثلما يحدث في النهاية لأمواج المحيط عندما تصطدم بالصخور الصلبة.

ومن ناحية أخرى يمتلك النظام الحالي قدرة هائلة على المقاومة. وهذا يعطي الثقة لبعض منظري البرجوازية. وقد أدلى المؤرخ الأمريكي، إريك فونر، مؤخرا بالتصريح التالي:

«يبدو أن هناك قصورا ذاتيا قويا للغاية يدفعنا إلى العودة إلى الوضع الطبيعي. أنا متشكك تجاه الفكرة التي تقول إن هذا الفيروس سيغير كل شيء».

من الضروري بالنسبة لنا أن ننظر إلى هذه الملاحظة بعناية شديدة، لأنها تحتوي على نواة مهمة من الحقيقة.

نحن، بالطبع، نعلق أهمية كبيرة على الموجة الحالية من النضالات التي تعرفها الولايات المتحدة والبلدان الأخرى. نحن نرحب بذلك، ونستقبله بكل حماس ممكن. لكننا نفهم أيضا أن هذه أعراض تمثل تعبيرا جنينيا عن الأحداث العظيمة التي يتم التحضير لها.

ولكي نتمكن من تحديد المنظور الصحيح وصياغة التكتيكات الصحيحة، يجب علينا أن نفهم الجانب الآخر للمسألة. إن قوة القصور الذاتي هي عنصر أساسي معروف وبسيط من قوانين الميكانيكا. لكن باستخدام القوة الكافية يمكن التغلب حتى على أقوى حالات القصور الذاتي.

أقوى حالات القصور الذاتي على الإطلاق هي قوة الطبع والعادات والتقاليد التي تثقل بشكل كبير على الوعي البشري. إن الغرائز الموروثة عن الماضي البعيد تجعل الناس بطبيعتهم يقاومون التغيير ويخافون منه. ومن أجل تحقيق قفزة إلى الأمام يجب التغلب على هذا الحاجز. لكن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال أقوى الكوارث الاجتماعية والاقتصادية، والتي تجبر الرجال والنساء على التساؤل عن أشياء كانوا يعتبرونها حتى الآن ثابتة وغير متغيرة.

مهمة الثوريين

يعتمد النظام الرأسمالي على الدعم لكي يبقى على قيد الحياة. وهو يعتمد الآن حصريا على المعونات الهائلة من جانب الدولة. لكن من المفترض، وفقا لنظريات اقتصاد السوق، ألا تلعب الدولة أي دور في الحياة الاقتصادية.

لذلك يجب طرح السؤال التالي: إذا كان النظام الرأسمالي لا يستطيع البقاء دون دعم من الدولة، فلماذا لا نلغيه بشكل كامل، ونترك الدولة تسيطر بالكامل على الاقتصاد لإنقاذه من السقوط في هوة الإفلاس؟

إن الوضع الحالي هو إدانة كاملة للنظام الرأسمالي، الذي استنفذ بالكامل دوره التاريخي ولم يعد يصلح إلا لأن يُلقى في مزبلة التاريخ. لكننا نعلم أن الرأسمالية لن تنهار ببساطة تحت وطأة تناقضاتها. يمكنها الخروج حتى من أعمق الأزمات، وسوف تخرج من الأزمة الحالية أيضا. لكن السؤال هو: كيف ستخرج، وما هو الثمن الذي ستتكبده البشرية؟

على الرغم من أن فترات الانتعاش الجزئي والمؤقت ليست مستبعدة بأي حال من الأحوال، فمن الواضح أن الخط العام هو خط الانحطاط. سيكون الانتعاش القادم انتعاشا مؤقتا فقط، وتمهيدا لانهيار جديد وأكثر عمقا لقوى الإنتاج. ففي ظل الرأسمالية لا إمكانية لأي حل دائم.

تشبه الرأسمالية اليوم وحشا يحتضر وهو واقف على قدميه، مصاب بمرض عضال، وهو يتداعى ويتحلل. لكنه مع ذلك يرفض أن يموت. وعواقب هذه المقاومة على الإنسانية مخيفة إلى أقصى الحدود. ومع ذلك فإن هذا ليس سوى جانب واحد للصورة، إذ في أحشاء هذا الاحتضار النهائي، هناك مجتمع جديد يكافح من أجل أن يولد.

من واجبنا أن نفعل كل ما في وسعنا لتقصير فترة الاحتضار هذه، وتسهيل عملية ولادة النظام الجديد والمساعدة في حدوث تلك الولادة، بحيث تحدث في أسرع وقت ممكن وبأقل قدر ممكن من الألم والمعاناة.

الحتمية ليست هي القدرية

تقوم الماركسية على أساس المفهوم المادي للتاريخ. نحن نرفض مفهوم ما بعد الحداثة (المثالي) الذي يعتبر التاريخ مجرد تكرار لحوادث لا معنى لها. إن للتاريخ قوانينه الخاصة، ومن واجبنا أن نفهمها.

نحن نؤمن بالحتمية التاريخية، بمعنى أننا نفهم أن السيرورات التاريخية العامة تعمل وفقا لقوانين محددة. لكن الحتمية لا تعني على الإطلاق النزعة القدرية. لقد شرح ماركس مرات عديدة أن الرجال والنساء يصنعون تاريخهم بأنفسهم. وعندما يدخل نظام اجتماعي اقتصادي في مرحلة الانحطاط، تصير الثورة الاجتماعية على جدول الأعمال.

لكن مسألة ما إذا كانت تلك الثورة ستنجح أم ستفشل تعتمد على المشاركة النشطة للعامل الذاتي، أي بالمصطلح الحديث: الحزب الثوري وقيادته.

خلال القرن السابع عشر في إنجلترا، اندلعت الثورة البرجوازية الأولى تحت راية الدين. كان البيوريتانيون (Puritans) يعتقدون أن نهاية العالم تقترب، وأن قيام مملكة الله صار قريبا. كانوا يعتقدون أن هذا أمر محسوم.

كان الكالفينيون يؤمنون بشدة بالقدر. بالنسبة لهم كان كل شيء مقدرا بمشيئة الله، التي هي أكبر بكثير من إرادة الأفراد من الرجال أو النساء. لكن هذه القناعة لم تقلل بأي حال من الأحوال من حماستهم الثورية وتصميمهم على خلق ذلك العالم الجديد بأسرع ما يمكن.

بل على العكس من ذلك لقد حفزتهم على اجتراح مآثر عظيمة من الشجاعة والجرأة الثوريتين. ونفس المهمة بالضبط تواجه الثوريين اليوم. وسوف نتعامل معها بنفس روح التصميم الثوري. الفرق هو أننا، على عكسهم، سوف نكون مسلحين بالنظريات العلمية للماركسية الثورية.

الثورة العالمية

ما هي طبيعة الوضع الحالي؟ إنها فترة تحضيرية للثورة. لقد أدت العولمة، وما أعقبها من تكثيف للتقسيم العالمي للعمل، إلى زيادة الترابط بين الاقتصاديات العالمية إلى درجة غير مسبوقة.

عملت العولمة، وحتى وقت قريب، على دفع تطور الرأسمالية إلى آفاق جديدة. والآن سوف تعمل هي نفسها على نشر الثورة على نطاق عالمي.

في سياق هذه الأحداث، ستتاح للطبقة العاملة العديد من الفرص لحسم السلطة بين أيديها. وسواء عاجلا أم آجلا، في بلد أو في آخر، سيحدث الاختراق، وهو ما سيؤدي إلى تغيير الوضع على المستوى العالمي.

من المستحيل أن نحدد بشكل مسبق المكان الذي سيحدث فيه ذلك. يمكن أن يكون في البرازيل أو إيطاليا أو لبنان أو اليونان أو روسيا أو الصين، أو ربما في الولايات المتحدة نفسها. لكن وبمجرد حدوث ذلك، ستنتشر التداعيات في جميع أنحاء العالم بسرعة أكبر بكثير من أي وقت آخر في التاريخ.

اقتصرت ثورات 1848-1849 على أوروبا، ولم يكن لها سوى صدى محدود في بقية العالم. لكن ثورة أكتوبر 1917 العظيمة خلقت موجات ليس فقط في أوروبا، بل أيضا في آسيا، حيث شكلت البداية الحقيقية لنضالات الشعوب المستعمَرة المستعبَدة من أجل الحرية. والآن نحن نرى حركات ثورية في كل مكان: من فرنسا إلى لبنان، ومن بيلاروسيا إلى تايلاند، ومن الولايات المتحدة إلى تشيلي، أي، بعبارة أخرى، نرى بالفعل الخطوط العريضة للثورة العالمية المتنامية.

الصبر الثوري

في الماضي لم تكن الأوضاع ما قبل الثورية تستمر لفترة طويلة. كانت الأزمة تحل، غالبا في غضون أشهر، إما عن طريق انتصار الثورة، أو الثورة المضادة في شكل نظام فاشستي أو بونابرتي. لكن ميزان القوى الطبقي الحالي لا يسمح بمثل هذا الحل السريع. إن تقلص الأساس الاجتماعي الجماهيري للرجعية (الفلاحون، إلخ) يعني أن الطبقة السائدة في معظم البلدان لا يمكنها أن تلجأ على الفور إلى استخدام الردة الرجعية الفاشية أو البونابارتية.

ومن ناحية أخرى فإن الطبقة العاملة ممنوعة من الاستيلاء على السلطة بسبب قادة منظماتها الجماهيرية. ولهذه الأسباب فإنه يمكن لأزمة الرأسمالية أن تطول لمدة من الزمن، لسنوات، وربما عقود، مع فترات صعود وهبوط.

ستتميز هذه الفترة بتقلبات عنيفة للرأي العام، نحو اليسار ونحو اليمين على حد سواء، بشكل يعبر عن البحث الحثيث للجماهير عن مخرج من الأزمة. ستلي الحكومات الضعيفة بعضها البعض، وكل الأحزاب والقادة الحاليين سيخضعون للاختبار. سوف تجرب الجماهير كل الخيارات المتاحة الواحد منها تلو الآخر، وستتخلص من الأحزاب الواحد منها تلو الآخر، قبل أن تصل في النهاية إلى استنتاجات ثورية.

لقد بدأت هذه السيرورة بلا شك. وهذه هي الحقيقة الأكثر أهمية. لكن بداية السيرورة ليست سوى بداية. ومن أجل أن تنضج هذه السيرورة وتتطور إلى كامل مداها، سيكون من الضروري المرور عبر سلسلة من التجارب، لأنه بالتجربة فقط يمكن للجماهير أن تتعلم. وسوف تتعلم. والنتيجة النهائية ليست في الأفق بعد.

الماركسيون أناس صبورون. إننا لا نمانع إذا استغرقت السيرورة وقتا أطول قليلا، وذلك لسبب بسيط وهو أننا لسنا مستعدين بعد. لقد أصبح العمال والشباب الآن أكثر انفتاحا على أفكارنا من أي وقت آخر. ومن الواضح أن هناك مزاج مناهض للرأسمالية يتطور في كل مكان. وصارت أفكارنا ذات راهنية لأنها تعكس بدقة الوضع الحقيقي.

إن الظروف الموضوعية للثورة الاشتراكية العالمية، وكما أشار تروتسكي، ليست ناضجة فحسب، بل تعفنت. لكن وبالإضافة إلى الشروط الموضوعية، فإن العامل الذاتي يعتبر ضروريا أيضا. ومهمتنا هي بناء هذا العامل.

لنبني التيار الماركسي الأممي!

عاشت القوى الماركسية الحقيقية، لأسباب يخرج تحليلها عن نطاق هذه الوثيقة، مرحلة تاريخية طويلة من التراجع. إن ضعف التيار الماركسي الثوري على الصعيد العالمي هو الذي يجعل من الصعب في الوقت الحالي أن تنضم الجماهير إلى صفوفنا.

سيقتصر جمهورنا في هذه الفترة على أكثر الفئات تقدما من بين العمال والشباب، وذلك لسبب بسيط هو أننا لم نجمع بعد القوى الكافية للوصول إلى الجماهير بشكل مباشر. لكن تلك الفئات المتقدمة بالتحديد هي التي ستمكننا من الوصول إلى الجماهير. في الواقع ليس هناك من طريق آخر.

عندما تنفتح أمامنا فرص كبيرة، علينا بالطبع أن نكون مستعدين لاتخاذ مبادرات جريئة. في كثير من الأحيان يمكن لتدخل جريء من قبل واحد فقط من رفاقنا في اجتماع جماهيري أن يحدد ما إذا كان الإضراب سيحدث أم لا. يمكن لمبادرة جريئة أن تمكننا من قيادة حركات جماهيرية مهمة. وغني عن القول إنه يجب علينا أن نتشبث بهذه الفرص بكلتا يدينا. لكن علينا في جميع الأوقات أن نحافظ على الإحساس بالنسبية. يجب ألا تكون لدينا نظرة مبالغ فيها لقواتنا ويجب علينا أن نفهم في الوقت المحدد ما هو ممكن وما هو غير ممكن.

لقد شدد لينين في كثير من الأحيان على ضرورة الصبر الثوري. لا يمكننا أن نقفز فوق رؤوس الطبقة العاملة. ولا يمكننا أن نصرخ بصوت أعلى مما تسمح به حبالنا الصوتية. وقد نبه تروتسكي أنصاره إلى أنه لا يمكنهم أن يحصدوا حيث لم يزرعوا. ليست هناك من طرق مختصرة للنجاح. إن البحث عن طرق مختصرة وصفة مؤكدة للانحرافات، سواء من النوع الانتهازي أو من النوع اليساري المتطرف. وكلاهما كارثي بنفس القدر.

سنخطو خطوة واحدة في كل مرة، ونحدد لأنفسنا أهدافا طموحة لكنها قابلة للتحقيق، ثم نتحقق من تنفيذها. يتكون بناء منظمة ثورية من سلسلة كاملة من الخطوات الصغيرة، لكن التطورات الصغيرة تمهد الطريق لأشياء أعظم بكثير في المستقبل.

يحرز التيار الماركسي الأممي تقدما مطردا. وهذا ما يعترف به أصدقاؤنا وأعداؤنا على حد سواء. لقد أظهرت مدرستنا الأممية الأخيرة أن أفكارنا تصل بالفعل إلى الآلاف من العمال والشباب الأكثر تقدما الذين يبحثون عن الطريق الثوري.

كانت تلك خطوة كبيرة إلى الأمام، لكنها البداية فقط. سيتحول الآلاف إلى عشرات الآلاف، وسنتمكن في النهاية من الوصول إلى الملايين. دخول المرحلة الجديدة من الثورة العالمية بمجموعة من 20 عضوا ليس مشابها على الإطلاق لدخولها بمنظمة من ألف عضو. هذه مهمة صعبة للغاية، لكنها مهمة لا مفر منها.

إن أصعب مهمة هي الانتقال من أول حلقة صغيرة من المناضلين إلى أول مائة مناضل. كما أن الانتقال من أول مائة مناضل إلى أول ألف ليس بالأمر السهل، لكنه أسهل بكثير من الخطوة الأولى. لكن الانتقال من ألف مناضل إلى عشرة آلاف يكون أسهل. والانتقال من عشرة آلاف إلى مائة ألف هو مجرد خطوة واحدة فقط.

وباستعارة عبارة من الفيزياء نقول إننا نحتاج إلى الوصول إلى الكتلة الحرجة، أي تلك النقطة التي سيمكن فيها للتيار الماركسي الأممي أن يتدخل كعامل حاسم حقا في الأوضاع. وقبل كل شيء  يجب علينا الاهتمام بتكوين الكوادر. نبدأ بالكيف الذي يتحول عند نقطة معينة إلى كم، والذي بدوره يصبح كيفا.

هذه هي المهمة التي تنتظرنا. وفقط من خلال تحقيقها سيصير من الممكن وضع حد لكابوس الرأسمالية، وفتح الطريق لبناء عالم جديد وأفضل في ظل الاشتراكية.

المنظورات على موقع الدفاع عن الماركسية:

A world on the brink: revolution looming


هامش:

[1]  الأربعة المقتصدين (Four frugal) اسم يطلق على النمسا والسويد والدنمارك وهولندا. المترجم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *