لقد أنتج النظام الرأسمالي العنصري مرة أخرى نفس المأساة، بما في ذلك الكلمات الأخيرة التي قالها كل من جورج فلويد وإريك جارنر. وقد أثارت الجريمة أحد أكبر الاحتجاجات التي شهدتها منطقة مينيابوليس، كما انتشرت حركات مماثلة إلى مدن أخرى مثل لوس أنجلوس وممفيس.
مساء يوم الاثنين، على الساعة الثامنة مساء، تم استدعاء الشرطة إلى متجر كاب فودز جنوب مينيابوليس للتحقيق في قضية تزوير. بعد ذلك بساعات أصدرت الشرطة بيانا روتينيا بعنوان بريء يقول: “وفاة رجل بحادث طبي أثناء تدخل للشرطة”.
لكن سرعان ما انفضح كذب الرواية الرسمية عندما انتشر فيديو لضابطين يقفان على جسد رجل أسود. وفي الشريط الذي التقطه أحد المارة يظهر أحد الضباط وهو يضغط بركبته على رقبة الرجل الذي كان يتوسل قائلا: “لا أستطيع التنفس! من فضلك، لا أستطيع التنفس! أنا على وشك الموت!”، بينما يواصل اللهاث بيأس لعدة دقائق، وأحد الضباط يسأله بنبرة غاضبة: “ماذا تريد؟”. بعد ساعات قليلة، أعلن عن وفاة جورج فلويد.
زعم بيان الشرطة الأول أنهم عثروا على رجل يشتبه في كونه تحت تأثير المخدرات. وقال بأن الشرطة طلبت سيارة إسعاف لشخص “يعاني من ضائقة طبية”، دون أي إشارة إلى أن وقوف الضابط على رقبته قد تسبب في هذا الضائقة.
وعلى مدار صباح الثلاثاء، شهدت وسائل التواصل الاجتماعي ظهور المزيد من الصور ومقاطع الفيديو. وتظهر إحدى الصور أربعة ضباط، ثلاثة منهم يشاهدون بينما يضغط زميلهم بركبته على رقبة جورج.
مباشرة بعد ذلك عبأت حركة أرواح السود مهمة (Black Lives Matter) بمينيسوتا لاحتجاج من خلال صفحات فايسبوك، يوم الثلاثاء الساعة 05 مساء. وبحلول الساعة الثالثة بعد الظهر تم طرد الضباط الأربعة المعنيين -ديريك تشوفين، توماس لين، تو ثاو، جيه ألكسندر كوينج. لكن الجماهير كانت قد بدأت بالفعل بالتجمع أمام كاب فودز.
لم يكن من الواضح كيف ستكون الاستجابة لتلك الدعوة في ذروة تفشي فيروس كورونا. لكن بعد شتاء طويل وفي خضم أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ الولايات المتحدة ومع انزعاج الملايين من نتائج الانتخابات التمهيدية الرئاسية، كان الغضب الشديد داخل المجتمع على استعداد للانفجار. هذه هي الجريمة التاسعة والأربعون التي ترتكبها الشرطة ضد الأمريكيين السود في مينيابوليس وحدها منذ عام 2000. كان من الواضح أن السيل قد بلغ الزبى، بالجائحة أو بدون جائحة.
قام منظمو الاحتجاجات بتوزيع أقنعة واقية ومعقمات الأيدي وقنينات المياه لمن يحتاجون إليها وتم تشجيع التباعد الاجتماعي. عندما وصلت المسيرة إلى أوجها ملأت عدة شوارع، حيث سار المئات بشكل سلمي حاملين لافتات مثل “حياة السود مهمة” و”لا أستطيع التنفس!” ورددوا “اللعنة على ترامب!” و”لا سلام بدون عدالة!”
عبر البعض عن مشاعر الغضب الشديد والشعور بالعجز من خلال كسر بعض نوافذ سيارات الشرطة. وردا على ذلك أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع وقذائف غير مميتة على المتظاهرين، الذين كان من بينهم أطفال وآباء ومسنون. صباح يوم الأربعاء أصدر عمدة مينيابوليس، جاكوب فراي، بيانا دعا فيه إلى اعتقال الضابط الذي قتل جورج فلويد.
في مساء ذلك اليوم تجمع حشد صغير من المحتجين بشكل عفوي أمام مركز الشرطة. ومما لا شك فيه أن حجم تلك الاحتجاجات كان يمكن أن يكون أكبر لولا جائحة كوفيد 19. وقد تابع البث المباشر آلاف المشاهدين الذين كانوا في أغلبهم متعاطفين مع المتظاهرين.
وعلى الرغم من أن المتظاهرين وقفوا في الشارع مسالمين بأيديهم مرفوعة، وهم يهتفون “لا أستطيع التنفس” و”توقفوا، لا تطلقوا النار”، فإن الشرطة هاجمتهم مرة أخرى بالغازات المسيلة للدموع. قام بعض المتظاهرين باقتلاع أغطية صناديق القمامة الكبيرة لاستخدامها كدروع ضد طلقات الشرطة، وكان المتظاهرون يطلبون من أي شخص يحاول رمي أشياء على رجال الشرطة من وراء المتاريس المؤقتة أن يتوقف عن ذلك.
قبل أسابيع فقط كان رجال الشرطة يقفون بهدوء أمام مبنى الكابيتول الحكومي في سانت بول المجاورة بينما كان متظاهرون مسلحون يطالبون الحاكم بإعادة فتح الاقتصاد. كان التكوين العرقي والطبقي لذلك الاحتجاج مختلفا بلا ريب، إذ كانوا من البرجوازيين الصغار البيض. لكن وبما أن الشرطة أداة لحماية الملكية الخاصة وأرباح الرأسماليين، فإن الاحتجاجات من أجل إعادة فتح الاقتصاد كانت تحت حمايتها. إلا أن الاحتجاجات من أجل العدالة في مقتل جورج فلويد – والتي هي في العمق احتجاجات راديكالية ضد نظام يعتمد على العنصرية لاستغلال وتقسيم الطبقة العاملة- ليست مقبولة من طرف نفس هؤلاء الضباط.
كانت المظاهرات حتى الآن عفوية إلى حد كبير، وتدفق الغضب المتراكم مثل غاز مضغوط وجدا أخيرا ثغرة يخرج منها. ومثلها مثل حركة فيرغسون، التي اندلعت بطريقة مماثلة، فقد قوبل الغضب المبرر للمجتمع بالعنف والقمع من طرف الشرطة. ورداً على ذلك سيتم تنظيم المزيد من الاحتجاجات يومي الخميس والسبت. لكن الحركة بدون قيادة، وبالتالي بدون اتجاه.
نشرت عدة نقابات بيانات تدين إدارة شرطة مينيابوليس وتدعو حكومة المدينة إلى “التحرك”. لكن المطلوب من الحركة العمالية المنظمة هو أكثر بكثير من ذلك! يجب عليهم أن يرتبطوا مباشرة بالاحتجاجات وأن يعبئوا أعضائهم لإغراق الشوارع. فمع وجود 364.000 عضو نقابي على مستوى الولاية، يمكن أن يتم شل شوارع المدينة إذا قامت قيادات النقابات بالتحرك. الطبقة العاملة هي التي لديها القدرة على فرض “الإغلاق” من خلال التوقف عن العمل! إن إضرابا عاما على مستوى المدينة – على غرار إضراب سائقي الشاحنات عام 1934- سيجذب انتباه السلطات! وفي نهاية المطاف سيطرح سؤال: من الذي يجب أن يسير المجتمع؟
على الرغم من أن البعض يستغلون الفوضى واللاتنظيم الناجم عن حركة عفوية بلا قيادة لنهب المتاجر وحتى حرق المباني، فإن تلك الأحداث ليست نتيجة للاحتجاجات، بل نتاج للنظام الذي تدافع عنه الشرطة. إن الرأسمالية تخلق عالماً من الوفرة في المتاجر الكبيرة للبيع بالتجزئة، في حين أن أعداد كبيرة من الناس يتضورون جوعا وغير قادرين على شراء المنتجات الموجودة أمامهم، كما تبقى الشقق الفاخرة شاغرة في خضم أزمة الإسكان. وقد تفاقمت هذه التناقضات بسبب الكارثة الاقتصادية التي أصابت العمال والفقراء. منذ مارس فقد 41 مليون عامل في الولايات المتحدة وظائفهم بالكامل، من بينهم 39% من العمال ذوي الأجور المنخفضة الذين يكسبون أقل من 49.000 دولار [في السنة]. كما أن 35% من الأسر التي لديها أطفال تعاني من انعدام الأمن الغذائي. وقد أدى هذا إلى مزاج متفجر للغضب يبحث عن منفذ للتعبير عن نفسه.
ومع ذلك فقد ظهرت بعض أشكال التنظيم الجنينية خلال الساعات الـ 48 الأولى، مثل توزيع الأقنعة ومعقمات الأيدي وغيرها من التبرعات لمن يحتاجون إليها. كما رأينا أيضا أدلة على أن المتظاهرين قادرين تمامًا على “الحفاظ على النظام” فيما بينهم. فعلى سبيل المثال عندما حاول بعض الأفراد رمي القمامة على الشرطة، كتعبير عن الغضب الشديد، تم إيقافهم من قبل بقية الحشود حتى لا يعطوا للشرطة مبررا لشن المزيد من العنف.
لكن من أجل الارتقاء بالنضال إلى مستوى أعلى يجب على الحركة العمالية المنظمة أن ترتبط بنشاط بالمحتجين اعترافا منها بضرورة النضال العمالي المشترك ضد النظام الرأسمالي العنصري. ومع الموارد والأعداد التي تمتلكها النقابات، ستأخذ الحركة طبيعة مختلفة تمامًا. سيكون من المستبعد أن تطلق الشرطة الغاز المسيل للدموع على الآلاف من رجال الإطفاء وعمال الحديد والصلب! لكنهم إذا فعلوا ذلك ضد الطبقة العاملة الواسعة، قد يؤدي ذلك إلى اندلاع أزمة أكثر حدة للحكومة، وهي أزمة لن تقتصر على المدينتين.
على الرغم من واجهة “مينيسوتا اللطيفة”، فإن مينيسوتا واحدة من أكثر الولايات من حيث التمييز العنصري في البلاد، كما أنها تشهد تصاعد الغضب الطبقي والإحباط. قبل جائحة كوفيد 19 كان 7% فقط من سكان مينيسوتا البيض يعيشون تحت خط الفقر الرسمي، مقارنة بـ 32% من السكان السود. وكانت البطالة الرسمية بين السود أعلى بثلاث مرات تقريبا من معدل البطالة بين البيض. ولعقود من الزمان مُنعت العائلات السوداء من شراء ممتلكات في “الأحياء البيضاء” من خلال ما سمي “بالميثاق العرقي” ما بين عامي 1910 و1950. هذه عنصرية مؤسساتية، وقحة وجلية، وهي مرتبطة بقوة بالرأسمالية الأمريكية.
وكقاعدة لا يقوم ضباط الشرطة بدوريات في أحيائهم. غالبا ما يتم تجنيدهم من بين أكثر فئات المجتمع رجعية ويطلقون في اتجاه الأحياء الفقيرة والطبقة العاملة لإرهاب نفس تلك الجماهير التي يكرهونها. هذا هو السبب في أن الدعوات إلى “السيطرة المجتمعية” على الشرطة وقيام الضباط بدوريات في الأحياء التي ينتمون إليها، تكون في صدارة مطالب الكثير من الناس كل مرة يقتل فيها شرطي أبيض شخصا أسود في الشارع.
لكن من المستحيل فرض سيطرة مجتمعية على أحيائنا الخاصة، وضمان سلامتنا بينما توجد لامساواة جوهرية في كل جوانب الحياة الأخرى. لا يمكن تحقيق “المساواة في الحياة” إلا بإلغاء الرأسمالية واستبدال الدولة الرأسمالية بأخرى يديرها العمال ديمقراطيا. إن الشرطة جزء من جهاز الدولة الرأسمالية التي تستخدم للدفاع عن الأقلية الصغيرة التي تمتلك وسائل الإنتاج. ولن يغير أي قدر من تدابير الرقابة أو “مجالس الرقابة المجتمعية” الطبيعة القمعية لهذه الأجهزة.
لا يمكننا نحن العمال أن نعتمد على الشرطة الرأسمالية لحمايتنا. يجب على الفدرالية الجهوية لعمال مينيابوليس أن تنظم لجان الدفاع عن الأحياء العمالية لتوحيد العمال النقابيين والعمال غير المنظمين والعاطلين للتحرك عند الضرورة للرد على عنف الشرطة في أحياء الطبقة العاملة، يمكننا الدفاع عن أنفسنا بشكل جماعي!
وبالمثل فإن المطالب الأخيرة إلى “التحرك” و”العدالة” ليست ملموسة بما فيه الكفاية. ما هي طبيعة ذلك التحرك؟ وعدالة من؟ كيف تتحقق العدالة عندما يكون النظام بأكمله مذنبا؟
لقد تحرك العمدة فراي بقوة أكبر، مقارنة بالعديد من الحالات المماثلة الأخرى، لمحاسبة هؤلاء الضباط، وذلك لأنه يعلم أنه يجلس على برميل بارود. لكن علينا ألا نثق في هذا العضو في الحزب الديمقراطي ولا في رأسماليي المدينة. كما يجب ألا تكون لدينا أي ثقة في أن مكتب التحقيقات الفدرالي، الذي تم استدعاؤه للتحقيق في القضية، يمكنه أن يحقق “العدالة” بأي شكل من الأشكال.
إن مؤسسة الشرطة ككل تعج بالعنصرية وإساءة استخدام السلطة، وهو انعكاس للنظام الذي تدعمه. ولن تؤدي إزالة القليل من “التفاح الفاسد” إلى تغيير جذري للعلاقات الطبقية التي تتسبب في مثل هذه المآسي. وحتى لو عادت الشرطة إلى “السلوك الجيد” لبعض الوقت فإنه، في نهاية المطاف ، ستحدث جريمة قتل أخرى على يد ضابط آخر “خارج السيطرة”.
من أجل الحفاظ على نظام تستطيع فيه الطغمة الحاكمة الصغيرة أن تستمر في قمع الغالبية العظمى من المجتمع، يجب عليها تقسيمنا على أساس العرق والجنسية والدين والجنس والجندر وأي شيء آخر يمكن لها أن تحصل عليه. وعندما يلوم قسم من الطبقة العاملة قسما آخر لامتلاكه قطعة أكبر من الكعكة، تنام الطبقة الرأسمالية بسلام وهي تمتلك المخبزة كلها. الثورة الاشتراكية لن تمحو على الفور كل الأحكام المسبقة التي غرسها المجتمع الرأسمالي، لكنها ستدمر الأساس الذي تقوم عليه العنصرية، حتى نتمكن من القضاء عليها كليا.
كان فريد هامبتون، قبل أن يقتل هو أيضا على يد الشرطة في شيكاغو، قد قال: “سنحارب العنصرية ليس بالعنصرية، بل سنحاربها بالتضامن. إننا لن نناضل ضد الرأسمالية بالرأسمالية السوداء، بل سنناضل ضدها بالاشتراكية… سنناضل [ضد الرجعية] جميعنا كشعب متحد ونحقق ثورة بروليتارية أممية”.
وكما أوضحنا في برنامجنا: “لا يمكن القضاء على قرون من الاستغلال والعنصرية والقهر إلا بالقضاء على الرأسمالية وبناء الاشتراكية”.
انضموا إلى التيار الماركسي الأممي والنضال لتحقيق هذا الهدف!
إريكا رويدل
28 ماي 2020
عنوان ومصدر المقال على موقع الثورة الاشتراكية الأمريكي: