صُدمت المؤسسة السياسية التركية بالفوز الساحق في الانتخابات لحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل. لقد حقق رجب طيب أردوغان، زعيم الحزب وعمدة اسطنبول السابق، فوزا ساحقا في انتخابات الأحد الماضي. وفاز حزبه بـ 363 مقعدًا في مجلس النواب المؤلف من 550 مقعدًا، مما جعله أقل بأربعة مقاعد من أغلبية الثلثين التي يحتاجها لتغيير الدستور. ومع ذلك، هناك تسعة مستقلين، قد يكون بعضهم متعاطفًا مع الحزب. في حين سيشغل حزب الشعب الجمهوري (CHP) المقاعد الـ 178 المتبقية.
لم يستطع أي من الأحزاب التي دخلت البرلمان في الانتخابات السابقة في البقاء ضمنه. وحصل حزب رئيس الوزراء الحالي بولنت اجاويد على واحد بالمئة فقط من الاصوات. وكانت تعابير وجه أجاويد على شاشة التلفزيون تروي القصة كاملة. هذا التحول الدراماتيكي هو تعبير عن غضب وإحباط واشمئزاز الجماهير من الأحزاب البرجوازية الفاسدة والمنحطة التي حكمت تركيا خلال السنوات الأربع الماضية.
خلقت هذه النتيجة الكثير من المشاكل للبرجوازية. فبصرف النظر عن المشاكل الكبيرة الأخرى، تبقى مسألة رئاسة الوزراء دون حل. وهذه قضية مهمة لأن زعيم الحزب، أردوغان، غير مؤهل لتولي منصب رئاسة الوزراء بأمر من المحكمة. ويتمثل العذر الرسمي في كونه ألقى قصيدة إسلامية قديمة في إحدى تجمعات حزبه. لقد اعتبر هذا عملا هداما!
إن السبب الحقيقي هو العداء المقيت لقسم من الطبقة الحاكمة التركية والدولة (خاصة الجيش) تجاه الأحزاب “الإسلامية”. تعتبر هذه الأحزاب تهديدًا للتوجه العام لتركيا المؤيد للغرب. لهذا السبب، يمارس الجناح المهيمن في البرجوازية ضغطا شديدا على هذا الحزب في محاولة لجعله أكثر انسجاما مع أهدافه.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الصراعات، فإن الاختلافات بين هذه الأقسام من البرجوازية هو اختلاف ظاهري أكثر منه حقيقيا. فبمجرد انتخاب حزب العدالة والتنمية، قام أردوغان على الفور بالتخلي عن ديماغوجيته القديمة المعادية للغرب وبدأ في التأكيد على التزامه بـ “الالتزامات الدولية القائمة لتركيا” وهذا يعني الناتو والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي.
إن الغرض من شغف أردوغان المفاجئ بالشؤون الدولية واضح تمامًا. ويهدف إلى إرسال إشارات تهدئة إلى القيادة العسكرية العليا لتركيا وإلى عواصم الاتحاد الأوروبي وواشنطن. في الواقع، تم بالفعل إرسال مسؤولي حزب أردوغان على وجه الاستعجال إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى قبل الانتخابات لطمأنة البرجوازية العالمية بأنه ليس لديها ما تخشاه سواء منه أو من حزبه. واعترف أردوغان أمس بأنه أبلغ سفير الاتحاد الأوروبي قبل الانتخابات بأنه “مستعد للقيام بزيارات إلى عواصم الاتحاد الأوروبي”.
تثبت هذه الحقائق بشكل قاطع أن حزب العدالة والتنمية ينوي تنفيذ سياسة برجوازية لا تختلف بجدية عن سياسات أسلافه. على سبيل المثال، تعد تركيا واحدة من أكبر الدول المدينة، وكان أردوغان يأمل في انتزاع بعض التخفيفات في القيود المالية التي يفرضها صندوق النقد الدولي. ومع ذلك، فمن الواضح أن زعيم حزب العدالة والتنمية مستعد لقبول إملاءات المصرفيين. حيث صرح: “سنجلس مع صندوق النقد الدولي ونناقش كل مادة من برنامج [القرض]. وسنطالب بتغييرات إذا رأينا أنها ضرورية”.
سيحدد ضعف الرأسمالية التركية السياسات التي ستنتهجها الحكومة الجديدة. سيضطر أردوغان للانحناء أمام ضغوط الرأسمالية الدولية والإمبريالية. فرغم كل الديماغوجية “الإسلامية”، ما من شك في أن تركيا ستدعم الأعمال العدوانية للولايات المتحدة ضد العراق، وذلك على أمل الحصول على بعض التنازلات. أما إذا كانت هناك أي تنازلات في الأفق فهذه مسألة أخرى!
بالإضافة إلى المشاكل التي تلوح في الأفق على الصعيد الدولي والاقتصادي، فإن أردوغان يواجه أيضًا أزمة دستورية محتملة. فحتى الآن تجنب التعليق على مسألة ما إذا كان يمكن استخدام الأغلبية الساحقة لحزبه في المجلس لتغيير الدستور أو القوانين التي تمنعه حاليًا من أن يصبح مرشحًا للرئاسة. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن تكون تركيا “ديمقراطية”، فإن السلطة الحقيقية لا تكمن في البرلمان -الجمعية- بل عند الجيش الذي هو، بالمناسبة، تكتل رأسمالي كبير (ثالث أكبر قوة في تركيا). إن أي محاولة لتحدي سلطة الجيش بشكل مباشر ستؤدي إلى أزمة خطيرة ذات تداعيات ثورية.
وحتى بدون ذلك، يواجه أردوغان مشاكل خطيرة. فبصرف النظر عن عدم أهليته للترشح كبرلماني، فإنه مهدد أيضًا باتخاذ إجراءات قانونية من قبل المدعي العام للدولة مما قد يجبره على التنحي عن قيادة الحزب. وهناك إجراءات أخرى جارية لإغلاق الحزب تمامًا. يجب أن نتذكر أن الجيش طرد آخر حكومة بقيادة إسلامية قبل خمس سنوات، بعد أن أثار رئيس الوزراء آنذاك، نجم الدين أربكان، حنق الجنرالات من خلال التأكيد على الاتصالات الدبلوماسية مع العالم العربي.
ومع ذلك، فإن تحرك الجيش ضد حزب العدالة والتنمية ليس على جدول الأعمال في الوقت الحالي. فففي مثل هذا الجو المشحون بالسخط الواسع النطاق والجماهير المتهيجة، فإن أي محاولة للقيام بانقلاب من شأنها أن تتسبب في وضع متفجر، والذي سيكون خطيرًا للغاية بالنسبة للطبقة الحاكمة. ففي وقت كتابة هذا المقال، كان رئيس الأركان العامة التركية في زيارة للولايات المتحدة، حيث، بالإضافة إلى التخطيط لمشاركة تركيا في الحرب على العراق، فإن الإمبرياليون الأمريكيون سينصحون بشدة الجيش التركي بعدم القيام بأي عمل استفزازي -على الأقل في هذه المرحلة.
في الواقع، ليس لديهم سبب للتحرك. إن حزب العدالة والتنمية مجرد حزب برجوازي آخر، له القليل من التلوين “الإسلامي”. وسيعمل كل ما في وسعه لإقناع الإمبرياليين والمؤسسة العسكرية بأنه لا يخفي أي أجندة إسلامية سرية. فأردوغان لم يفوت أي فرصة لتأكيد براءة حزبه، حيث صرح: “لقد سئمنا هذا النوع من الأسئلة. نحن لسنا حزبًا سياسيًا قائمًا على الدين. وأفضل طريقة للتيقن من ذلك هو أن تراقبوا لترو”. وقال إن حزب العدالة والتنمية هو “حزب ينتمي إلى يمين الوسط” وقام “بإعادة تشكيل الوسط السياسي … وجمع يمين الوسط في مكان واحد بطريقة أقوى”.
ماذا يعني كل هذا؟ هذا يعني: أن هؤلاء الملايين من العمال والفقراء الأتراك الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية يوم الأحد الماضي على أمل التغيير محكوم عليهم بخيبة أمل مريرة. القضية الأكثر إلحاحا بالنسبة للجماهير هي البطالة. فبعد الانهيار الاقتصادي في فبراير من العام الماضي، ارتفعت البطالة. الرقم الحالي للبطالة الحقيقية هو حوالي 25 في المئة. وفي عام واحد بعد الانهيار، انكمش الاقتصاد التركي بنحو 10 في المائة. وانخفضت مستويات المعيشة بشكل كبير. هذا هو السبب الحقيقي لانتصار حزب العدالة والتنمية.
إن أي محاولة لإظهار هذه النتيجة كتحول للرأي العام التركي تجاه الإسلاموية هو أمر خاطئ تمامًا. ففي المقام الأول، وعلى الرغم من حصول حزب العدالة والتنمية على أغلبية برلمانية كبيرة، إلا أنه حصل على 34 بالمائة فقط من الأصوات. لكن بفضل خصوصية النظام الانتخابي، حصلت على نتيجة برلمانية لا تتناسب مع الأصوات المدلى بها. حيث يقتضي هذا النظام الحصول على عتبة 10 في المائة للحصول على مقاعد، وهو نظام كان قد أقره الجيش بعد انقلاب 1980، من أجل إبعاد الأحزاب اليسارية. الآن هذا السلاح انقلب ضدهم. ولأن الأحزاب القديمة لم تكن قادرة على الحصول حتى على 10%، فلم يحصلوا على أي مقاعد. ونتيجة لذلك، فإن 45 في المائة من الأصوات غير ممثلة في البرلمان.
ومع ذلك، تكشف هذه الانتخابات عن وجود تيار قوي من السخط في المجتمع التركي. فقد أظهرت نتيجة الانتخابات مدى الاحتقان الهائل الذي تتطور في تركيا على مدى فترة طويلة. فمعظم الناس مستاءة بشدة عن الوضع الحالي. هذا السخط لا يتعلق فقط بحالة الاقتصاد -على الرغم من أهمية ذلك – إنه استياء يمس كل مجالات الحياة – الإسكان والتعليم والعدالة والدولة والجيش والشرطة والسياسيون والفساد المستشري الذي يصيب كل شيء.
كان أحد أسباب شعبية أردوغان هو الاعتقاد بكونه “السيد النظيف” عندما كان رئيسا لبلدية اسطنبول. في الواقع، لقد ملأ جيوبه وجيوب أتباعه من “الإسلاميين”. إنه رجل ثري جدا. والآن هو في السلطة، وستكون أمامه وأمام أتباعه فرص أكبر لإثراء أنفسهم على حساب الشعب.
في انتخابات الأحد الماضي، أظهرت الجماهير التركية أنها لا تعرف حقًا ماذا تريد، لكنها تعرف جيدًا ما لا تريده. هذه خطوة أولى مهمة، لكنها مجرد خطوة أولى. الآن سيتعين عليهم أن يتعلموا من خلال التجربة المريرة المعنى الحقيقي لحزب العدالة والتنمية. لقد حذر بالفعل أردوغان من عدم توقع أي انفراج لمدة ثلاث سنوات على الأقل. هذه محاولة لتخفيف التوقعات وتقليل الضغط من أجل الإصلاحات. لكنها لن تنجح في ذلك. فالجماهير لم تصوت لصالح حزب العدالة والتنمية من أجل لا شيء. إنها تطالب بالتغيير.
في ظل ظروف الأزمة الاقتصادية العميقة والبطالة الجماعية والحرب، ستهتز تركيا من أسسها. ليس لدى أردوغان وحزب العدالة والتنمية أي إجابة على المشاكل التي تواجهها الجماهير. وبعد فترة أولية من الهدوء، وحين تستوعب الجماهير تجربتها، ستكون هناك بدايات لحركة جماهيرية، خاصة على الجبهة الصناعية، ستصطدم الطبقة العاملة بهذه الحكومة. وسوف يكون المسرح مهيأ لاحتدام هائل في الصراع الطبقي في تركيا.
دينيز مورال
05 نوفمبر/تشرين الثّاني 2002