بعد مرور خمسة سنوات على وصول كرمان بك باكييف إلى السلطة بقرغيزستان، راكبا على ظهر ما أطلق عليها ثورة الزنابق، حيث عمل فقط على إتباع أوامر الإمبريالية بخنوع وملأ جيوبه وجيوب المحيطين به على حساب الشعب الكادح. والآن وصل صبر العمال والفقراء إلى نهايته فانتفضوا مرة أخرى. في هذا المقال يعمل عيسى الجزيري على تحليل خلفية الأحداث العنيفة التي تحدث بقرغيزستان.
بعد مرور خمسة سنوات على وصول كرمان بك باكييف إلى السلطة بقرغيزستان، في أعقاب “ثورة الزنابق”، هاهو قد أجبر على الفرار من البلاد، بواسطة طائرة صغيرة، بفعل انتفاضة جماهيرية ضد ارتفاع أسعار الماء والكهرباء. انطلقت الاحتجاجات يوم الثلاثاء من بعض المدن الصغرى والبلدات، لتنتشر بسرعة إلى العاصمة، بيشكيك، حيث واجهت قوات البوليس الجماهير وأطلقت عليها الرصاص الحي، لكنها تغلبت عليهم واكتسحت مقر البرلمان. إن البلد يغلي، والجماهير تهاجم ممتلكات وقصور أسرة الرئيس. وتواصل الأزمة الاقتصادية خلق انفجارات دورية، وقد وصلت نيرانها مؤخرا إلى حكومة قرغيزستان لكنها لن تكون الأخيرة.
اشتهر نظام باكييف بالفساد، حيث خصص المناصب العليا لأفراد أسرته وأصدقائه المقربين. منذ وصوله إلى السلطة عمل الرئيس وأفراد أسرته على تضخيم ثرواتهم على حساب الشعب القرغيزي، لكن عندما حدثت الأزمة الاقتصادية قرر رميها على كاهل الجماهير. لقد توقف الاقتصاد عن النمو، ومعدل التضخم يرتفع بسرعة رهيبة. خلال هذه السنة فرض الرئيس ارتفاعات هائلة في أسعار الكهرباء والماء، وكان يأمل أن تمر هذه الارتفاعات دون أن يحس بها أحد. كم كان مخطئا! في هذا البلد الغني بالموارد النفطية، تخوض الطبقة السائدة ألعابا مع الإمبريالية الأمريكية والروسية بينما تقاسي الجماهير الفقر المدقع. لقد شكل التضخم مشكلة جدية، حيث أدت إلى المزيد من تدهور مستوى عيش الطبقة العاملة المنخفض أصلا بقرغيزستان. وكانت الارتفاعات الأخيرة في الأسعار النقطة التي أفاضت الكأس.
مرحبا بكم في عالم الرأسمالية، هل تريدون طبقا من البطالة؟
عندما انهار الاتحاد السوفييتي، كانت قرغيزستان واحدة من الجمهوريات التي أعلنت استقلالها. تم القضاء على الاقتصاد المخطط، وفتحت الصناعة وموارد البلد على اضطرابات السوق ونهب المستثمرين والإمبريالية. بالرغم من كل الخطب المنافقة للسياسيين والمحللين البرجوازيين في مدح “الانتقال الديمقراطي” و”الحرية”، فإن فساد ودكتاتورية الطغمة الحاكمة اتخذا وتيرة سريعة جدا، حيث باعوا قطاعات الصناعة العمومية، ونهبوا البلد واغتنوا بشكل فاضح. كانت انعكاسات ذلك على الجماهير كارثية. كان الانعكاس الأول هو حدوث انهيار فوري لاقتصاد البلد، تلاه انتعاش جزئي مبني على ارتفاع ضئيل للاستهلاك، بفضل تحويلات المهاجرين لعائلاتهم في قرغيزستان، والتي شكلت 29% من الناتج الخام سنة 2008 (developmentandtransition.net). لكن وبالرغم من تواصل النمو، منذ 1996 حتى هذا اليوم، فإن الناتج الخام بالنسبة للفرد أقل بكثير من المستوى الذي كان قبل تطبيق الرأسمالية.
لكن منذ اندلاع الأزمة، تدهورت الوضعية بشكل سريع، حيث ترك النمو الاقتصادي مكانه للركود. سنة 2008، سجل النمو الاقتصادي 8,2%، وسنة 2009 سجل 7,6%. لكن سنة 2010، سجل معدل النمو 1-%. شكل هذا انهيارا عاما(indexmundi.com). وقد اقترن هذا بارتفاع معدلات التضخم ما بين 10% و33% في السنة طيلة الثلاثة سنوات الأخيرة. وصل معدل البطالة إلى 18% خلال الثلث الأول من السنة الحالية، وليست هناك أية مؤشرات عن إمكانية تحسن الوضع. أمام وضع البؤس المكثف هذا، لم يتمكن باكييف من الحفاظ على الرفع من ثروته وثروة أسرته وفساد نظامه إلا باللجوء إلى المزيد من الإجراءات الاستبدادية.
الرصاص والقمع: هي الأساليب “الديمقراطية” للرأسمالية في عصر الأزمة
خلال شهر يوليوز 2009، استخدم باكييف كل الموارد التي بين يديه من أجل ضمان فوزه في الانتخابات الرئاسية، حيث نظمت وسائل الإعلام العمومية الحملة الانتخابية لصالحه بشكل صريح، بينما تعرضت المعارضة ووسائل الإعلام المستقلة للقمع الشديد، وكانت هناك أخبار كثيرة عن حدوث حالات تزوير. وبمجرد إعلان فوزه انخرط الرئيس في تطبيق رفع شامل في أسعار الكهرباء والتدفئة والماء. ارتفعت أسعار التدفئة بـ 400%، وارتفعت أسعار الكهرباء ب 170%، وتضاعف سعر الماء الساخن أكثر من مرتين. والحجة التي أعطيت لتبرير هذه الارتفاعات هي أن المنشئات العامة تدهورت منذ المرحلة السوفييتية، وبالتالي ينبغي الحصول على أموال من أجل استثمارها في تحسين مستواها.
رمى هذا بطبيعة الحال بالمزيد من الأعباء على كاهل الطبقة العاملة القرغيزية المسحوقة أصلا. وقد صرح مارس سارييف لموقع EurasiaNet قائلا: “يمكننا بدون ريب الإحساس بتصاعد التوتر الاجتماعي. إنها سيرورة سيكولوجية تدريجية. سوف يشعر الناس بعد توصلهم بالفاتورة بصعوبة أدائها. وبعدما كانوا ينفقون في السابق ما بين 20% و30% من مواردهم لأداء الفواتير، سيكون عليهم الآن أن ينفقوا حوالي 80% من أجورهم من أجل صيانة المنشئات.”
ولم تكن أوضاع المتقاعدين أفضل، حتى هؤلاء الذين يحصلون منهم على إعانات عمومية. صرح أحد المتقاعدين، فيكتور كونونيكو، البالغ 73 سنة، من بيشكيك لموقع EurasiaNet، أنه يتوقع أن ينفق 75% من معاشه، وأضاف: “كيف يمكنني أن أعيش بما تبقى لي من معاشي؟ لا أدري. وهناك متقاعدون يحصلون على معاشات أقل مني. لا أدري كيف سيمكنهم أن يعيشوا” (eurasianet.org)
لكن بالرغم من ذلك، أصرت الحكومة على أنها لا تمتلك خيارا ما عدا الرفع من الأسعار. وقد زاد من غضب الجماهير معرفتها بأن قطاع الكهرباء موجود بين أيدي بعض أفراد أسرة الرئيس.
اندلاع الثورة
أدى السخط الجماهيري إلى حدوث انفجار خلال هذا الأسبوع. لقد بلغ السيل الزبى بالنسبة للجماهير. يوم الثلاثاء، 6 أبريل، اندلعت الاحتجاجات ضد ارتفاع الأسعار في مدينة تالاس غرب البلاد، حيث حاول وزير الداخلية فتح حوار مع الجماهير لإقناعهم بالعودة إلى منازلهم، لكنه تعرض لضرب كاد يودي بحياته. فقامت الجماهير بالهجوم على مبنى الحكومة، وأحرقت صور باكييف.
عندها امتدت الاحتجاجات بسرعة في كل أنحاء البلد، بدءا من المدن الثانوية. جاء رد الحكومة سريعا حيث قامت بإغلاق وسائل الإعلام واعتقال قادة المعارضة في محاولة منها لوقف المد الجارف. لكن ذلك كان بدون جدوى. إذ بمجرد ما استيقظت الجماهير، لم يعد أي قمع قادر على إيقافها. بحلول يوم الأربعاء، امتدت الاحتجاجات إلى قلب العاصمة بيشكيك، حيث حاولت قوات البوليس احتواء الجماهير المجتمعة أمام مقر الحزب الاشتراكي الديمقراطي. لجأ البوليس إلى إطلاق الغازات المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي والقنابل الصوتية لمنع الجماهير من السير نحو مقر وزارة الداخلية والبرلمان والقصر الرئاسي. وعندما توضح أنه من المستحيل وقف المتظاهرين، قام البوليس بإطلاق الرصاص الحي، مما أدى إلى مقتل 14 متظاهرا وجرح العشرات.
لم يؤدي هذا القمع سوى إلى صب المزيد من الزيت على نار الحركة المشتعلة، فتغلبت الجماهير الغاضبة على قوات البوليس، الذين يظهرون في صور الفيديو وهم يتعثرون في بعضهم ويقفزون فوق الأسوار في محاولة يائسة للفرار من الضرب على يد المحتجين. قتل 100 متظاهر خلال هذا اليوم، لكن الجماهير كانت مصممة على مواصلة الكفاح. وعندما توقفت وسائل القمع، الموجودة بين أيدي الأقلية التي تتحكم في المجتمع، عن تخويف ملايين المستغلين الكادحين صار النصر أكيدا. وعندما فرت قوات القمع مذعورة أمام المد الجماهيري، صارت الطبقة السائدة معلقة في الهواء، وانفضح موقعها باعتبارها مجرد أقلية بدون أية قاعدة دعم في المجتمع. آنذاك لم تعد المسألة سوى مسألة وقت. استولى 3000 محتج على المقر الحكومي الرئيسي في نارين، وطردوا الحاكم الإقليمي ألمازبك أكماتلييف. كما اجتمع ما بين 3000 و4000 محتج في الساحة الرئيسية بتالاس، وحاولوا الهجوم على مقرات البوليس. تحدثت التقارير عن تعرض قوات البوليس للضرب وتعرض مقراتهم للإحراق. في العاصمة استولت الحشود على مقرات وسائل الإعلام العمومية، وأحرقت مقر المدعي العام، وحررت قادة المعارضة الذين اعتقلوا يوم الثلاثاء. حتى مقر البوليس السري، وكالة الأمن الوطني، الممقوت من طرف الجماهير، سقطت بين أيدي المعارضة. تم الاستيلاء على مقر البرلمان، وتلاه مقر وزارة الداخلية، وأخيرا القصر الرئاسي نفسه، حيث أطلق القناصة النار على الجماهير. عند ذلك استقل الرئيس طائرة صغيرة وفر إلى مدينة أوش الجنوبية.
تولت زعيمة المعارضة روزا أوتونباييفا، وزيرة الخارجية السابقة، منصب الرئاسة وأعلنت تشكيل “حكومة شعبية” ستسير شئون البلاد لمدة ستة أشهر للتحضير لدستور وانتخابات جديدين.
لا مخرج في ظل الرأسمالية
ستواجه الحكومة الجديدة تناقضات هائلة. لقد حوّل باكييف البلد إلى منطقة عسكرية لمختلف القوات الإمبريالية المتصارعة، حيث تمتلك كل من الولايات المتحدة وروسيا قواعد عسكرية واسعة. تعتبر ماناس القاعدة العسكرية الكبيرة الوحيدة للإمبريالية الأمريكية بالمنطقة، وبالنظر إلى قربها من أفغانستان، فإن لها أهمية حيوية لعملياتهم في ذلك البلد. كان الرئيس السابق يلعب مع القوتين [الولايات المتحدة وروسيا]، وحصل على ملياري دولار كمساعدة من موسكو، ولإرضائها أمر بإزالة القاعدة الأمريكية، لكنه عاد وسمح للأمريكيين بالبقاء بعد أن وافق أوباما على دفع 60 مليون دولار سنويا، إضافة إلى كميات هائلة من النفط والمساعدات، التي امتصت كلها من طرفه ومن طرف أسرته. لقد كان إغلاق القاعدة الجوية مطلبا دائما للمعارضة، لكن روزا أوتونباييفا لمحت إلى أنه من الممكن السماح لها بالبقاء. إن إغلاقها سيكون تحديا مباشرا لمصالح الإمبريالية الأمريكية في المنطقة، ومن ثم فإن الحكومة الجديدة سوف تتوصل غالبا إلى عقد “اتفاق ملائم” آخر.
لكن المسألة الهامة التي ستواجه الحكومة الجديدة ستكون هي ارتفاع الأسعار. لقد تم تنصيب هذه الحكومة من طرف الجماهير في الشوارع، عندما ثارت ضد الغلاء، بينما كان القادة في السجون. فإذا لم يتم التراجع عن الغلاء في الأسعار، فإن الجماهير ستحس بالخيانة. لكن كيف يمكن للحكومة أن تغير السياسة الحالية؟ إن الاقتصاد يترنح على شفا الهاوية والأزمة قضت على كل هامش للمناورة. سوف يطالب الرأسماليون بتعميق إجراءات التقشف من أجل أداء الدين العمومي، المقدر بحوالي 3,647 مليار دولار، أو 74% من الناتج الداخلي الخام. ليس هناك من خيار آخر في ظل الرأسمالية.
ليس هذا سوى الفصل الأول من الثورة القرغيزية، قد تنتظر الجماهير فترة من الزمن لترى كيف ستتحرك هذه الحكومة، لكنها حتما ستطالب بأن توضع مشاكلها على رأس جدول الأعمال. وبالنظر إلى أن ثلث الساكنة يعيشون تحت خط الفقر، فإن كل محاولات الاستمرار في الضغط لن تقود إلا إلى المزيد من الانفجارات. لقد اعتصر الرأسماليون دماء الجماهير حتى النهاية، كم يمكنهم أن يستمروا في ذلك؟
لا بد من القضاء على الرأسمالية من أجل الاستجابة للحاجيات الملحة للجماهير. لقد تسببت جرائم الرأسمالية في إثارة سخط العمال والفقراء القرغيزيين، فإذا لم يتمكن القادة الجدد من إعطائهم مخرجا من الأزمة والبؤس، فإنهم سوف ينتفضون من جديد. وحده الاقتصاد المؤمم والمخطط بطريقة ديمقراطية من يمكنه أن يفتح الباب لمستقبل جديد لقرغيزستان. وقد قامت الجماهير الآن وهزت المجتمع بقوة. وسوف يكون لهذا الحدث صدى في أفغانستان وباكستان وأوزباكستان، وإيران حيث بدأت الثورة فعلا. لا أحد من هذه الأنظمة مستقر، والثورة لن تحترم الحدود الوطنية. إن القضاء على الرأسمالية في أي من هذه البلدان سيكون مقدمة لبناء فدرالية اشتراكية لآسيا الوسطى، ستوحد ثروات المنطقة، وتخرج الجماهير من مستنقع الفقر، وتوجه ضربة قاتلة لقوات طالبان والرجعية الإمبريالية في المنطقة.
عاشت الثورة القرغيزية!
عيسى الجزائري
الخميس: 08 أبريل 2010
عنوان النص بالإنجليزية:
Kyrgyzstan: mass revolt against rising prices, president fleess