يشكل هذا المقال فصلا من كتاب أشمل نشره التيار الماركسي الأممي في سياق إصدار الأعمال الكاملة لتيد غرانت. كان قد ظهر لأول مرة في مجلة Militant International Review ، في يوليوز عام 1978. ويتناول بالدراسة والتحليل عددا من الحركات الثورية التي عرفها العالم الثالث التي أدت إلى تشكيل دول بونابرتية بروليتارية على شاكلة الصين وروسيا.
ويشمل هذا المقال سوريا وفيتنام (بعد توحيد الجنوب والشمال) ولاووس وكمبوتشيا [كمبوديا الحالية] وأنغولا وموزمبيق وإثيوبيا. جاءت التطورات التي حدثت بالفعل في تلك البلدان لتؤكد صحة التحليل الذي قدمه تيد غرانت للثورات في المستعمرات منذ 1949 وطوره منذ ذلك الحين. وتأكيدا لذلك التحليل كذلك أدت بعض الاختلافات الموجودة بين البيروقراطيتين الروسية والصينية إلى صراع وصل إلى حد النزاع المسلح. كانت هناك اشتباكات مسلحة على الحدود الروسية الصينية، وعلى الحدود الفيتنامية مع كمبوتشيا والصين. لا يوجد أي تفسير آخر للصراع بين تلك الدول “الاشتراكية” المزعومة، بخلاف الموقف الأساسي الذي طوره تيد غرانت لشرح الصراع بين تيتو وستالين، والذي طوره عند تحليله للستالينية الصينية ثم لاحقا في كتاباته حول الثورة في المستعمرات.
في هذه المقالة تم إيلاء اهتمام خاص لكل من كوبا وإثيوبيا. وفي ما يخص هذه الأخيرة كانت حركة ثورية قد تمكنت من الإطاحة بالإمبراطور، هيلا سيلاسي، عام 1974 ، وبعد ذلك بفترة وجيزة قام نظام عسكري بزعامة العقيد منغستو الذي وطد حكمه من خلال الاعتماد على مصادرة ممتلكات الملاكيين العقاريين والرأسماليين. إلا أن هذه الحكومة الجديدة اعتمدت نفس الأساليب الشمولية المميزة لجميع الدول الستالينية بالعالم الثالث. كما أن سياستها تجاه الأقليات القومية لم تكن أقل قمعا من النظام السابق، وانخرطت في حروب ضد المغاوير الإريتريين في الشمال وضد المغاوير المدعومين من الصومال في منطقة أوغادين.
كانت تلك هي الفترة التي حوّل خلالها الستالينيون الروس دعمهم من الصومال (التي كانت هي أيضا نظاما بونابرتيا بروليتاريا) إلى إثيوبيا وبدأوا في تقديم مساعدة نشطة لهذه الأخيرة. عند هذه النقطة وجدت القيادة العصبوية لما تبقى من الأممية الرابعة القديمة نفسها في موقف عسير يتمثل في اضطرارهم لشرح كيف يمكن أن تقدم “دولة عمالية سليمة” (كوبا) دعما نشطا لـ”دولة فاشية” (إثيوبيا).
ومرة أخرى لم يكن من الممكن فهم الأحداث إلا بفضل التحليل الذي قدمه تيد غرانت سابقا، حين وضح كيف تم إنشاء الدول الستالينية في كل من كوبا وإثيوبيا. تقدم هذه المقالة شرحا للسيرورات العامة التي تحدث خلال الثورات في المستعمرات، في إشارة، على سبيل المثال، إلى الانقلاب الذي عرفته أفغانستان عام 1978. كان ذلك الانقلاب قد أدى إلى إقامة دولة عمالية مشوهة سرعان ما اضطرت بيروقراطية موسكو إلى تدعيمها ثم غزوها بعد عام فقط، في دجنبر 1979.
ونعمل في موقع “ماركسي” على نشر ترجمته العربية نظرا لأهميته ولأننا نعتقد أنه من الضروري للجيل الجديد من الماركسيين أن يفهم الإشكالات التي كانت مطروحة في ما مضى حول الموقف الماركسي من الثورة في الدول المستعمرة سابقا والدول العمالية المشوهة.
الثورة في المستعمرات والدول العمالية المشوهة
في البلدان البرجوازية في الماضي، حيث كان ما يزال للبرجوازية دورا تلعبه، وتتطلع بثقة إلى المستقبل – أي عندما كانت تقدمية بشكل حقيقي في تطوير القوى المنتجة – استفادت من عقود وأجيال لاتقان جهاز دولتها كأداة لسيطرتها الطبقية. فالجيش والشرطة والموظفون، والطبقة المتوسطة وخاصة جميع المناصب العليا وكبار الموظفين، ورؤساء الإدارات وقادة الشرطة، والضباط وخاصة العقداء والجنرالات، يتم اختيارهم بعناية لتلبية احتياجات الطبقة الحاكمة وخدمة مصالحها. وعندما يكون الاقتصاد مزدهرا تجدهم يخدمون باخلاص “المصلحة الوطنية”، أي: مصلحة الطبقة المالكة – الطبقة الحاكمة.
في سوريا، كما هو الحال في جميع البلدان المستعمرة سابقا، اضطر الإمبرياليون، وفي هذه الحالة الامبريالية الفرنسية، جزئيا تحت ضغط منافسيهم وخاصة الإمبريالية الأمريكية، إلى التخلي عن الهيمنة العسكرية المباشرة. والدولة التي نشأت هناك ليست ثابتة وجامدة. لقد أعطى ضعف وعجز البرجوازية هامشا معينا من الاستقلال لضباط الجيش. ومن هنا جاء المسلسل المتواصل للانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة. لكنهم في آخر المطاف يعكسون مصالح الطبقة السائدة، ولا يمكنهم ان يلعبوا دورا مستقلا.
إن الصراع بين التكتلات داخل الجيش يعكس عدم الاستقرار والتناقضات السائدة في مجتمع معين. إن الأهداف الشخصية المختلفة للجنرالات، إذا ما نجحوا في الوصول إلى السلطة، تعكس المصالح المختلفة للطبقات الاجتماعية أو لقطاعات من الطبقات الاجتماعية، البورجوازية الصغيرة بمختلف مكوناتها، أو البرجوازية، أو في ظل ظروف معينة حتى البروليتاريا. يجب أن تعكس فئة الضباط مصلحة طبقة أو شريحة اجتماعية ما في المجتمع. إنهم لا يمثلون أنفسهم رغم أنهم بالطبع قد ينهبون المجتمع ويرفعون من شأن نخبتهم الحاكمة. ومع ذلك يجب أن يكون لهم أساس طبقي في مجتمع معين.
لا تقف الأنظمة البونابارتية في الهواء بل تتأرجح بين الطبقات. إنها تمثل في أخر المطاف الطبقة المسيطرة في المجتمع. واقتصاد تلك الطبقة يحدد الطبيعة الطبقية لتلك الأنظمة. بعض تلك البلدان، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، القارة شبه المستعمرة التي كانت طيلة القرن الماضي تحت هيمنة الإمبريالية البريطانية ثم الأمريكية، مستقلة اسميا لأكثر من قرن من الزمان. ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من مرورها من فترة من الاضطراب استفادت الطبقة الحاكمة المشكلة من ملاك الأراضي والرأسماليين من فترة كافية لاتقان بناء جهاز دولتها. أحيانا يمكن لمختلف فئات القوات المسلحة أو فصائل من القوات المسلحة أن تعكس مصالح فئات مختلفة من الطبقة الحاكمة، بل وقد تعكس حتى ضغوط الإمبريالية، وفي المقام الأول الإمبريالية الأمريكية.
لكنهم حتى الآن يعكسون دائما مصلحة الطبقة الحاكمة في الدفاع عن الملكية الخاصة.
في بورما، حيث يواجه النظام الذي استقل حديثا من الهيمنة البريطانية، وحيث الطبقة الحاكمة عاجزة عن “توحيد البلاد”، سلسلة من الثورات والحروب. وقد تشكل الجيش من أعضاء رابطة الحرية المعادية للفاشية، التي تصف نفسها بأنها “اشتراكية”.
وبوجود الصين البلد المجاور كنموذج، سئم قادة الجيش من عجز ملاك الأراضي والرأسماليين عن حل مشاكل بورما. فقاموا مستندين على دعم العمال والفلاحين، بتنظيم انقلاب عسكري، وصادروا ملاك الأراضي والرأسماليين، وأنشأوا ما أسموه “الدولة البورمية البوذية الاشتراكية”.
الصين
إلى حين اندلاع الثورة الروسية حتى لينين نفسه كان ينفي إمكانية انتصار الثورة البروليتارية في بلد متخلف. لم تسر الثورة الصينية لأعوام 1944- 1949 على خطى ثورة أعوام1925- 1927. لقد كانت حرب فلاحين، اندلعت بسبب العجز الكامل للبرجوازية عن إنجاز مهام الثورة البورجوازية الديمقراطية -القضاء على الملاكين العقاريين، وتحقيق الوحدة الوطنية وطرد الإمبريالية – وانتهت بانتصار الستالينيين الصينيين.
لم يكن برنامج الستالينيين الصينيين يختلف جوهريا عن برنامج كاسترو في كوبا: 50 أو 100 سنة من “الرأسمالية الوطنية” والتحالف مع “البرجوازية الوطنية”. وبالتالي اعتقد العديد من البرجوازيين الأمريكيين بأنهم مجرد دعاة “إصلاح زراعي”.
وحده التيار الماركسي في بريطانيا من جادل ضد الستالينيين والعصب التي تطلق على نفسها اسم “التروتسكية “، وأوضح حتمية انتصار ماو وإقامة دولة عمالية مشوهة.
وفي الوقت الذي كان فيه ماو والحزب الشيوعي الصيني يتبنى برنامج الرأسمالية و”الديمقراطية الوطنية” توقعنا نحن حتمية صعود نظام بونابارتي بروليتاري في الصين بعد الثورة. لم يكن للثورة الصينية أية علاقة مع أساليب الثورة البروليتارية في روسيا في عام 1917.
تم حسم السلطة من خلال حرب الفلاحين عبر منح الأراضي لجنود جيش تشيانغ كاي تشيك. ثم من خلال التأرجح بين الطبقات ومواجهتها بعضها ضد البعض الآخر بأسلوب بونابارتي، وبمجرد ما تم تحقيق الانتصار العسكري تمت مصادرة أملاك الاقطاعيين والرأسماليين. والآن تقريبا جميع العصب التي تسمي نفسها “تروتسكية” تقبل الحقيقة الملموسة. لكنها لم تطرح نظريا من قبل امكانية أن تقود حرب فلاحين كلاسيكية إلى إقامة دولة عمالية، ولو مشوهة. لقد كان العمال في الصين سلبيين طوال فترة الحرب الأهلية لأسباب لن ندخل في نقاشها هنا. لكن هذا كان خير مثال على إمكانية قيام طبقة – الفلاحون في شكل الجيش الأحمر- بتنفيذ مهام طبقة أخرى.
من الطريف الآن أن نرى العصب تبتلع بدون نقاش فكرة أن دولة “عمالية” قد تأسست في الصين بفضل جيش الفلاحين، وذلك فقط لأن هناك ما يسمى بالـ “حزب شيوعي” على رأس الجيش. هذه الفكرة خاطئة تماما وخيالية من وجهة النظر الماركسية. لأن الفلاحين، كطبقة، هم الأقل قدرة على الوصول إلى الوعي الاشتراكي.
إن الاعتقاد بأن مثل هذه العملية مسألة “طبيعية” هو تشويه للماركسية. لا يمكن أن يفسر ذلك إلا بمأزق الرأسمالية في الصين وشلل الإمبريالية ووجود دولة بونابارتية قوية في روسيا الستالينية، والأهم من ذلك كله تأخر انتصار الثورة في البلدان المتقدمة صناعيا. لا يمكن للبلدان المستعمرة أن تنتظر، فالمشاكل ملحة جدا، ولا يوجد حل على أساس الرأسمالية. ومن هنا ظهور تطورات خاصة في البلدان المستعمرة. لكن ثمن هذا هو، كما هو الحال في الاتحاد السوفياتي، ضرورة ثورة سياسية ثانية لوضع زمام الرقابة على المجتمع والصناعة والدولة في أيدي البروليتاريا. هكذا فقط يمكن البدء حقا في الانتقال نحو الاشتراكية، أو بخطوات في ذلك الاتجاه.
إن الدعم الواسع لـ “الاشتراكية” الموجود في البلدان المستعمرة، ليس فقط بين صفوف الطبقة العاملة بل أيضا بين صفوف الفلاحين وفئات واسعة من البرجوازية الصغرى في المدن، هو تعبير عن المأزق التام للملاكين العقاريين والرأسمالية في البلدان المستعمرة خلال الحقبة الحديثة. كما أنه نتيجة أيضا للثورتين الروسية والصينية وانجازاتهما في تطوير الصناعة والاقتصاد. هذا هو العامل الذي يرسي الأساس لتطور أنظمة بونابارتية بروليتارية.
يمكن تعريف الدولة اختصارا بكونها هيئات من الرجال المسلحين على حد تعبير إنجلز. ومع هزيمة بوليس وجيش شيانج كاي شيك وتدميره، ومع تدمير جيش باتيستا[1] في كوبا، صارت السلطة بين أيدي كل من ماو وكاسترو. ولا يغير شيئا في حقيقة الوضع كون ماو “شيوعيا” وكاسترو برجوازيا ديمقراطيا.
نموذج موسكو
لقد كان ماو أبعد ما يكون عن نموذج الثورة البروليتارية إلى حد أنه عندما دخل شنغهاي وغيرها من المدن، واستقبله العمال الذين استولوا على مصانعهم بتنظيم مظاهرات ترحيب حاملين الأعلام الحمراء، أطلق عليهم الرصاص فورا من أجل “استعادة النظام”! لقد كانت الدولة التي أنشأها ماو على صورة موسكو، موسكو الستالينية، وليس موسكو 1917!
لقد قام ماو، وبأسلوب بونابارتي كلاسيكي، وعلى أساس جيش الفلاحين الذي لعب دائما في الماضي دور أداة من أدوات الأنظمة البونابارتية (البرجوازية)، بالتأرجح بين الطبقات. وبعد أن بنى دولة على صورة موسكو، وبالاعتماد على العمال والفلاحين، تمكن من استئصال البرجوازية بدون ألم. وكما سبق لتروتسكي أن قال: لكي تقتل أسدا أنت في حاجة الى بندقية، لكن يكفي الظفر لتقتل البرغوث! لذلك، وبعد أن تأرجح بين البرجوازية وبين العمال والفلاحين من أجل منع العمال من الاستيلاء على السلطة، تمكن ماو وعصابته – بعد تأسيس الدولة – من سحق البرجوازية قبل الالتفات نحو العمال والفلاحين لسحق أي عنصر من عناصر الديمقراطية العمالية.
ثم أقامت البيروقراطية نظام الحزب الوحيد الدكتاتوري الشمولي، تمركز النظام حول دكتاتورية فرد بونابارتي واحد هو: ماو. لكن ليس عبثا تضع النظرية الماركسية مهمة تحقيق الثورة الاشتراكية والانتقال إلى الاشتراكية على كاهل الطبقة العاملة. هذا ليس حكما تعسفيا، بل بسبب الدور المحدد الذي تلعبه البروليتاريا في الإنتاج والذي يمكنها من تحقيق وعي خاص لا تمتلكه أية طبقة أخرى. والفلاح البرجوازي الصغير هو الأقل قدرة على تطوير مثل هذا الوعي. والثورة التي تستند إلى طبقة الفلاحين محكومة بطبيعتها بأن يكون مصيرها الانحطاط والبونابارتية. وبالضبط لأن الديكتاتورية البونابارتية البروليتارية تحمي امتيازات النخبة المتحكمة في الدولة والحزب والجيش والصناعة ومثقفي الفن والعلم، فإنها نجحت في العديد من البلدان المتخلفة.
ترى الماركسية في تطوير القوى المنتجة المفتاح لتطور المجتمع. لكن في ظل الرأسمالية لم يعد هناك سبيل للمضي قدما، وخاصة بالنسبة للبلدان المتخلفة. هذا هو السبب الذي يدفع ضباط الجيش والمثقفين وغيرهم، الذين تأثروا بانحطاط مجتمعاتهم إلى تبديل ولائهم في ظل ظروف معينة. إن الانتقال إلى نظام بونابارتي بروليتاري يوسع فعلا من قوتهم ومكانتهم وامتيازاتهم والدخل الذي يحصلون عليه. إنهم يصبحون الشريحة القائدة الوحيدة والمسيرة الوحيدة للمجتمع، ويرفعون أنفسهم فوق الجماهير أعلى مما كانوا عليه سابقا. ويصيرون سادة المجتمع.
الاقتصادات الانتقالية
إن الاتجاه نحو تلبية حاجات القوى المنتجة التي تجاوز تطورها حدود الملكية الخاصة، واضح في معظم الاقتصادات المتقدمة، بل وحتى في البلدان المستعمرة الأكثر رجعية.
ليست هناك على أساس الرأسمالية أية إمكانية لتطور ثابت ومتواصل ومستمر للقوى المنتجة في بلدان ما يسمى بالعالم الثالث. إن الإنتاج يعاني من الركود أو التراجع. وفي فترات الركود العالمي تتراجع مستويات المعيشة، ولا سيما في البلدان الصغيرة. ليس هناك من مخرج على قاعدة النظام الرأسمالي. وهذا ما يفسر وحشية الأنظمة البونابارتية البرجوازية مثل تلك السائدة في باكستان وإندونيسيا والأرجنتين وشيلي وزائير. ولكن الاعتماد على الحراب والرصاص، في ظل نظام مفلس وبال، لا يعطى سوى هدنة مؤقتة للغاية. إن الاستياء يتزايد وينعكس في فئة ضباط القوات المسلحة وفي كل المجتمع. وهذا بدوره يؤدي إلى مؤامرات الضباط أفرادا وجماعات.
الجيش هو مرآة المجتمع ويعكس تناقضاته. هذا هو سبب الاضطرابات التي تشهدها بعض البلدان كما هو الحال في سوريا، وليس مجرد أهواء الضباط المعنيين. إنه مؤشر عن الأزمة الخانقة التي يعيشها المجتمع، والتي لا يمكن حلها بالطريقة القديمة. يمكن لهذه الفئات من المجتمع أن تتبنى “الاشتراكية” على الطريقة الستالينية – البونابارتية البروليتارية – بأكبر قدر من الحماس بسبب احتقارهم لجماهير العمال والفلاحين.
إن المسخ الرهيب للدولة العمالية الذي تمثله روسيا والصين، وغيرهما من الدول العمالية المشوهة الأخرى، يجذبهم على وجه التحديد بسبب موقع الكوادر المتعلمة “المثقفة” في تلك المجتمعات. إن ما يثير اشمئزاز الماركسيين هو ما يجذب الستالينيين.
إن القاسم المشترك الوحيد الذي تملكه تلك الدول مع الدول العمالية السليمة أو مع الدولة الروسية سنوات 1917-1923 هو ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وعلى هذا الأساس يصير في إمكانها أن تخطط وتطور الموارد الإنتاجية بوسائل قسرية وبوتيرة من المستحيل تماما تحقيقها على أساس الملكية الرأسمالية- الاقطاعية. لكن هذا ممكن بالطبع لفترة محدودة من الزمن فقط. إذ عند نقطة معينة تصبح الأنظمة الستالينية عائقا مطلقا وقيدا لتطور الإنتاج. وقد وصلت روسيا وأوروبا الشرقية إلى هذه الحدود. القاسم المشترك لتلك الدول مع دولة عمالية سليمة، من وجهة نظر الماركسية، هي حقيقة أنها اقتصادات انتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية.
لكن الماركسية تعلمنا أن الحركة نحو الاشتراكية تتطلب ممارسة البروليتاريا للرقابة والتوجيه والمشاركة. إلا أن وجود نخبة متميزة تمارس هيمنة غير محدودة ولا تقبل بفقدان مكانتها من خلال “اضمحلال” الدولة، يؤدي إلى تناقضات جديدة. فالفساد والمحسوبية والتبذير وسوء الإدارة والفوضى التي تتسبب فيها البيروقراطية بشكل حتمي، يدخل في تناقض مع حاجيات التنمية الاجتماعية، وهذا يتجلى في تزايد العداء بين البروليتاريا والنخبة البيروقراطية.
لقد سبق لتروتسكي أن شرح منذ فترة طويلة أن البيروقراطية في روسيا قد طورت القوى المنتجة بطريقة كانت البرجوازية عاجزة عن القيام بها، لكن بتكلفة عالية جدا للجماهير. إن البيروقراطية تلعب الدور (دور تقدمي نسبيا) الذي لعبته البرجوازية في الماضي. لكن تروتسكي أوضح أن هذا الدور ينتج أيضا تناقضاته الخاصة. فالبيروقراطية أقل استعدادا من البرجوازية لفقدان امتيازاتها وسلطتها. وبدلا من ذلك تنمو أكثر حتى تصبح ورما سرطانيا خطيرا على المجتمع. لا يمكن استئصالها إلا عن طريق الثورة السياسية.
وسيتم تحفيز هذه الثورة إما بفعل الأحداث داخل تلك البلدان أو بفضل استيلاء ناجح على السلطة تحققه بروليتاريا واحدة من البلدان الرأسمالية المتقدمة وإقامة نظام الديمقراطية العمالية. سيتم إنشاء دولة عمالية سليمة وديمقراطية عمالية حقيقة إما عن طريق ثورة اجتماعية في الغرب أو عن طريق الثورة السياسية في روسيا وأوروبا الشرقية. لا بد من التأكيد على أن الميزة الوحيدة التي تشترك فيها تلك الدول العمالية المشوهة مع نموذج الدولة العمالية هي ملكية الدولة للاقتصاد ومخطط الإنتاج. وحدها العصب “المثالية” و”الانتقائية” من يمكنها أن تكتشف فرقا جوهريا بين حرب الفلاحين التي جاءت بماو إلى السلطة وبين حرب عصابات كاسترو، المستندة إلى الفلاحين وأشباه الفلاحين والفلاحين بدون أرض وكذلك بعض العمال السابقين. ليس هناك فرق كبير بينهما، على الرغم من الأفكار البرجوازية الديمقراطية لتي تجول في ذهن كاسترو والتي لم تكن تختلف على الاطلاق عن البرنامج الذي خاض ماو الحرب الأهلية على أساسه.
في كوبا نجد أنه على الأقل تدخلت الطبقة العاملة، في المراحل الأخيرة من الصراع، من خلال الإضراب العام في هافانا، والذي قلب الكفة لصالح كاسترو. بينما لم يحدث أي شيء من هذا القبيل في الحرب الأهلية في الصين سنوات 1945- 1949. ولا كان هذا النوع من التدخل مقبولا من طرف ماو؛ صحيح أنه لولا غباء الإمبريالية الأمريكية لكانت النتائج لتكون مختلفة في كوبا. ولكن مع مأزق الرأسمالية الكوبية، مثل ما كان عليه حال الرأسمالية الصينية، فإن كاسترو اتخذ من أوروبا الشرقية والصين نماذج له في صراعه مع الإمبريالية الأمريكية، مثلما اتخذ ماو الدولة البونابارتية البروليتارية القوية في روسيا نموذجا له.
وفي كلتا الحالتين شكل ذلك خطوة هائلة إلى الأمام من وجهة النظر التاريخية. تم القضاء على الاقطاعية والرأسمالية. وهذا يعني إزالة قيود الملاكين العقاريين شبه الإقطاعيين وقيود الملكية الخاصة عن الصناعة. احتكار التجارة الخارجية، سيرا على هدي النموذج الروسي، هو أيضا عامل تقدمي قوي. شكلت هذه التدابير تحريرا عظيما للقوى المنتجة من القيود المفروضة عليها. وبالتالي فإنه يمكننا مقدما أن نحيي الثورة الصينية باعتبارها ثاني أكبر حدث في تاريخ البشرية، بعد الثورة الروسية. لكن وبسبب طابعها البونابارتي – ومصلحة البيروقراطية حتما في الحفاظ على امتيازاتها وسلطتها ومداخيلها- سيكون على الجماهير أن تقوم بثورة ثانية قبل أن تتمكن من تحقيق دولة الديمقراطية العمالية في مستوى تلك التي سادت في روسيا ما بين 1917-1923.
بسبب عدم قدرة العصبويين على تطبيق الماركسية و”الفلسفة الماركسية” بطريقة ملموسة رموا بأنفسهم في تناقضات مضحكة. وهكذا أعلنوا أن ما قام في أوروبا الشرقية في 1945-1947 هي أنظمة رأسمالية الدولة – في حين أن روسيا، التي احتلت شرق أوروبا بالجيش الأحمر، “دولة عمالية منحطة”.
وعندما قطع تيتو مع ستالين تحولت يوغوسلافيا بين عشية وضحاها من كونها لأسباب غامضة “رأسمالية الدولة”، فأصبحت دولة عمالية سليمة أفضل حتى من روسيا عام 1917! لكن هذا لم يمنع هذه العصب من أن تعلن في نفس الوقت أن أوروبا الشرقية دول رأسمالية. وظلت الصين نظام “رأسمالية الدولة” من وجهة نظرهم حتى عام 1951 أو 1953. ثم تحولت في ظروف غامضة من كونها “رأسمالية الدولة”، إلى دولة “عمالية سليمة”!
كل هذا التشويش والارتباك النظري لم يصاحبه أي تفسير من طرف أي من تلك التيارات البرجوازية الصغيرة التي تدعي الماركسية. زعمت إحدى العصب أن كوبا دولة بونابارتية برجوازية صغيرة بينما وصفت الصين بأنها دولة عمالية سليمة نسبيا وأنه لا حاجة لثورة سياسية فيها. لم يكن أي واحد من هذه التيارات قادرا على تحليل قوى وسيرورات المرحلة التي رأى فيها العالم المستعمر صورة كاريكاتورية عن الثورة الدائمة وحيث ظهرت دول عمالية مشوهة. لم يفهم أي تيار من بينهم معنى “الثورة الثقافية” الصينية. حيث أشاد بعضهم بها باعتبارها النسخة الثانية من ‘كومونة باريس ‘! ومؤخرا فقط –وبعد نحو 30 عاما- خلص البعض على مضض إلى أن الثورة الصينية كانت مشوهة منذ البداية. بينما تيارنا شرح السيرورة حتى قبل انتصار ماو.
جميع الظروف الموضوعية للثورة الاشتراكية تنضج الآن في أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذه السيرورة، مع ذلك، سوف تكون طويلة بسبب ضعف القوى الماركسية الحقيقية. إن تأخر اندلاع الثورة في الغرب، وطول أمدها الآن، هو ما أعطى مجالا لصعود هذه الأنظمة في البلدان المستعمرة سابقا. أن العلاقات في تلك البلدان تصل مستويات عالية من التوتر في ظل التجويع الذي تعانيه أغلبية الجماهير المحرومة من كل شيء. وطفيلية الملاكين العقاريين والرأسماليين، المستندين إلى الإمبريالية، وبذخهم الوقح يغذي كل التناقضات في هذه المجتمعات بقوة الانفجار. إن ضعف الإمبريالية هذا، وتعفن وانحلال الملاكين العقاريين والرأسماليين الفاضح، هو ما يجعل من الممكن تطور أنظمة بونابارتية بروليتارية. من خلال الاستفادة من تمردات جماهير الفلاحين والبرجوازية الصغرى وحتى العمال، يمكن لنخبة من الضباط والمثقفين الخ، أن تصعد إلى السلطة، كما هو الحال في إثيوبيا، وتمتلك سلطة كبيرة بين يديها على أساس الدعم من طرف العمال والفلاحين. ويمكنها أن تصنع أجهزة بوليسية مخابراتية متقنة لإسكات كل من يعترض على امتيازاتها.
إن الفلاحين، بحكم طبيعتهم الطبقية كأناس لا يوحدهم الإنتاج، هم بالتالي أداة مثالية في يد الأنظمة البونابارتية البرجوازية أو البونابارتية البروليتارية. إنها طبقة يمكنها بطبيعتها أن تتعرض للتلاعب بها وخداعها؛ طبقة تتطلع إلى “القيصر كأب للشعب”، أو إلى الزعيم ماو المقدس. والبرجوازية الصغيرة المدينية أيضا لديها هذه الصفات؛ ففي ألمانيا وإيطاليا نظرت إلى هتلر وموسوليني باعتبارهما “قادة”. وحدها البروليتاريا من تدافع بحزم عن الديمقراطية الحقيقية، أي: الديمقراطية العمالية والدولة العمالية، التي هي النظام الوحيد حيث يمكن لها أن تمارس حكمها المباشر.
لقد أوضح تيارنا هذه السيرورات وتوقعها. لا يوجد أمام العالم المستعمر أية إمكانية حقيقية للمضي قدما في ظل الرأسمالية. هذا، بالإضافة إلى تأخر الثورة البروليتارية في البلدان الصناعية المتقدمة، هو الأمر الذي أدى إلى صعود هذه الأنظمة التي تخطوا عشر خطوات إلى الأمام وخمس خطوات الى الوراء. إنها أنظمة يمكنها – على الأقل لفترة من الزمن في الغالب – تطوير القوى المنتجة بسرعة، على أساس البونابارتية البروليتارية. إنها تنجز في البلدان المتخلفة الدور التاريخي الذي أنجزته البرجوازية في البلدان الرأسمالية في الماضي.
يكمن كل جوهر نظرية تروتسكي حول الثورة الدائمة في فكرة أن البرجوازية في المستعمرات وبرجوازية البلدان المتخلفة غير قادرة على تنفيذ مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية. والسبب في هذا هو صلاتها مع الملاكين العقاريين والإمبرياليين. البنوك لديها رهونات على الأرض، والصناعيون يمتلكون عقارات في البادية، والملاكون العقاريون يستثمرون في الصناعة، وجميعهم مشتبكون معا ومرتبطون مع الإمبريالية في شبكة من المصالح معادية للتغيير.
في ظل هذه الظروف تقع مهمة تنفيذ الثورة الديمقراطية البرجوازية على كاهل البروليتاريا. لكن البروليتاريا، بعد أن تحسم السلطة على رأس الفلاحين وغالبية الأمة، لن تتوقف عند إنجاز المهام الديمقراطية البرجوازية، أي: مصادرة الملاكين العقاريين وتوحيد الأمة وطرد الإمبرياليين. إنها ستنتقل إلى إنجاز المهام الاشتراكية، أي: نزع ملكية البرجوازية وإقامة دولة عمالية.
لكن المهام الاشتراكية لا يمكن أن تنجز في بلد واحد، وخاصة في بلد متخلف مستعمر. سيتوجب على الثورة أن تنتشر إلى البلدان الأكثر تقدما. وهذا معنى المصطلح الذي يطلق على هذه السيرورة. الثورة الدائمة تبدأ باعتبارها ثورة برجوازية، لتصير ثورة اشتراكية، وتنتهي ثورة أممية.
صحيح أنه نظرا لتطور البيروقراطية الستالينية والانحطاط الإصلاحي للأحزاب الشيوعية، وضعت صعوبات استثنائية في طريق البروليتاريا سواء في الدول المتقدمة أو المتخلفة. لكن مأزق الملاكين العقاريين والرأسماليين في ما يسمى بالعالم الثالث قد تفاقم خلال العقود التي تلت اندلاع الحرب العالمية الثانية. مرت البلدان الرأسمالية الصناعية لفترة من الزمن من تطور نسبي للقوى المنتجة بمجرد ما تم توفرت الشروط السياسية المسبقة لذلك بفعل خيانة الستالينية والإصلاحية بعيد الحرب العالمية الثانية.
لكن وفي حين ارتفعت مستويات المعيشة في الغرب، من الناحية المطلقة على الأقل، فإن “العالم الثالث'” ومع استثناءات قليلة، شهد انخفاضا في مستويات المعيشة المتدنية أصلا. انحطاط العلاقات القديمة تحت ضغط السوق العالمية، الذي لا يرحم، استمر على قدم وساق. وصار وجود فائض كبير من السكان الفقراء المعدمين والمتسولين والحثالة وباء منتشرا في العالم المستعمر. ليس هناك من مخرج من هذا الوضع على أساس العلاقات القديمة. في فيتنام ولاوس وكمبوديا وبورما وسوريا وأنغولا وموزامبيق وعدن وبينين وإثيوبيا، ثم كوبا والصين كنموذجين لهم (واللذان بدورهما يتخذان نموذج أوروبا الشرقية كمنارة تبين لهما الطريق) حدث تحول في العلاقات الاجتماعية.
يعود هذا إلى نضج شروط الثورة الاشتراكية في العالم الرأسمالي إلى حد التعفن. لكن كل التاريخ يبين أنه حيثما تعجز الطبقة التقدمية الجديدة، لسبب أو لآخر، عن القيام بمهمتها في تغيير المجتمع، فإن هذا يتم غالبا (بطريقة رجعية، ربما) من قبل طبقات أو فئات أخرى. وهكذا ففي اليابان تحولت قطاعات كبيرة من الإقطاعيين إلى رأسماليين وفي ألمانيا – كما اعترف ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي- قام الملاكون العقاريون (اليونكرز) من بروسيا الشرقية بزعامة بسمارك والنظام الملكي، بمهمة التوحيد القومي لألمانيا- وهي مهمة من مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية.
سلطة جذابة
كما سبق لماركس أن أوضح منذ زمن بعيد ليس هناك من وصفة عابرة للزمان. فمن الضروري أن نأخذ الواقع الموضوعي المادي كما هو ثم نعمل على شرحه. هذا هو أسلوب “الفلسفة الماركسية”. لكن ليس من الضروري فقط معرفة الواقع الموضوعي كما هو، بل من الضروري أيضا شرح السيرورة التي جاءت به الى حيز الوجود، والتناقضات التي تشمل ذلك، وقانون الحركة الاجتماعية الذي يمثله والسيرورات المستقبلية للتناقضات والتغيير الذي سوف يحدث عليه. عملية ميلاده، وتطوره، وانحطاطه والتغيرات التي سوف تدمره.
في ظل ظروف انحطاط الرأسمالية والملكية العقارية في البلدان المستعمرة، تتفاقم كل التناقضات الاجتماعية إلى أقصى الحدود. وتصل التوترات الاجتماعية إلى مستوى لا يطاق. وبالتالي يتم استبدال الديمقراطية البرجوازية في بلد تلو الآخر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بديكتاتوريات بونابارتية برجوازية أو ديكتاتوريات بونابارتية بروليتارية.
لم تسر أي من البلدان المستعمرة سابقا، المذكورة أعلاه، على نموذج الثورة الاشتراكية. ونفس الشيء يقال عن بلدان أوروبا الشرقية التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
لقد أوضح المعلمون الماركسيون الكبار في كثير من الأحيان أنه بمجرد تأسيس قاعدة من قواعد الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الرئيسية، سيوجه ذلك نداءا لا يقاوم إلى بقية العالم، وسيؤدي إلى تحول اشتراكي غير مؤلم ودون صراع. حتى البرجوازية ستعترف بتفوق الديمقراطية العمالية، علاوة على التأثير الذي سيكون لذلك على الطبقة العاملة العالمية. ماركس نفسه كان يعتقد أنه سيتم اجتذاب المناطق المتخلفة من العالم، وحتى البلدان المتخلفة من أوروبا، من طرف البلدان الصناعية المتقدمة كمغناطيس وكنموذج للاشتراكية. لينين وتروتسكي تصورا أن الثورة الاشتراكية ستجري في بعض البلدان المتخلفة فقط بفضل الدور الريادي للبروليتاريا وبمشاركتها. ستقود البروليتاريا جماهير البرجوازية الصغيرة، وخاصة الفلاحين، إلى الإطاحة بالملاكين العقاريين والرأسمالية ومن ثم ستربط العمال بالطبقة العاملة الأممية وبمهام الثورة العالمية.
إن النظام الديكتاتوري البونابارتي الشمولي السائد في روسيا، الذي هو دولة عمالية مشوهة تماما، ينفر العمال في البلدان الرأسمالية المتقدمة. هذا لأنه لم يبق شيء من تقاليد وتراث ثورة أكتوبر ما عدا القضاء على الاقطاعية والرأسمالية، ومخطط الإنتاج، بالإضافة إلى احتكار التجارة الخارجية، وإن بطريقة ملتوية ومشوهة بيروقراطيا.
لكن وعلى الرغم من ذلك فإن الإنجازات العظيمة للثورة، والتقدم في الإنتاجية، وقضائها على التخلف وجعلها لروسيا في موقع القوة الصناعية الثانية في العالم، لها قوة جاذبية هائلة بالنسبة للجماهير في البلدان المستعمرة. (ومما يعزز هذا أيضا مثال الثورة الصينية التي حولت الصين في غضون أقل من ربع قرن إلى قوة جبارة). في معظم البلدان المستعمرة، حيث ما تزال الأنظمة البرجوازية موجودة، ليست الديمقراطية البرجوازية سوى شعارات جوفاء تستبدل في العديد من المرات بسياسة الحضر وإعلان الطوارئ بل وحتى بالأحكام العرفية.
وبالتالي فإن غياب الديمقراطية العمالية في هذه الدول البونابارتية البروليتارية ليست عائقا أمام جذب الجماهير. بل هي سمة جذابة إيجابية بقدر ما يتعلق الأمر بضباط الجيش. إن حل المشاكل الأكثر إلحاحا من قبيل الغذاء والكساء والمأوى تضغط بشكل أكبر على أذهان الجماهير في البدان المستعمرة.
إثيوبيا
لهذا بدوره تأثير هائل في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. تحبل الأنظمة البرجوازية البونابارتية في البلدان المستعمرة بتناقضات رهيبة. مشاكلها غير قابلة للحل. تنفق مبالغ كبيرة على التسلح، مما يؤدي إلى تفاقم الفقر بين الجماهير. إنها أنظمة غير مستقرة بطبيعتها. وتستفز كراهية العمال والبرجوازية الصغيرة، والطلاب والفلاحين. بل حتى البرجوازية الضعيفة التي تمثلها تدخل في تصادم معها.
هذه هي التربة الاجتماعية حيث تنتعش المؤامرات والمؤامرات المضادة بين صفوف الجيش. إن الجيش (أو القوات المسلحة) يكون دائما على صورة المجتمع وليس مستقلا عنه. وحيثما يسيطر الجيش على السلطة، فإن ذلك يشير إلى وجود أزمة في المجتمع وإلى وجود نظام أزمة.
تأتي كتل وجماعات مختلفة أو حتى أفراد في قيادة الجيش لتعكس التكتلات والمكونات الطبقية أو الطبقات في المجتمع. إنهم لا يمثلون أنفسهم بل يعكسون بدقة المصالح المتناقضة لمختلف الطبقات في المجتمع.
في ظل ظروف الأزمة الاجتماعية يتغير الناس. ينطبق هذا على الطبقات وحتى على الأفراد. وقد شرح ماركس أنه مع انحطاط الإقطاع التحق قسم من الإقطاعيين بصفوف البرجوازية في الثورة البرجوازية. وهناك قسم من البرجوازية، وخاصة المثقفون البرجوازيون، يمكن لهم أيضا أن يتبنوا وجهة نظر البروليتاريا.
ليست هناك من فكرة فلسفية أكثر عقما وشكلية وعداء للجدل وإغراقا في المثالية في تاريخ الحركة من تلك التي يتبناها هؤلاء الذين يزعمون أنه بما أن كاسترو بدأ كفاحه الثوري كزعيم ديمقراطي برجوازي متبنيا لأفكار وأهداف ديمقراطية برجوازية فإنه لا بد أن يبقى ديمقراطيا برجوازيا إلى الأبد. إنهم ينسون أن ماركس وإنجلز أنفسهما قد بدءا كديمقراطيان برجوازيان وقطعا بشكل حاسم مع البرجوازية وأصبحا قائدين للبروليتاريا.
في ظل ظروف الأزمة الرأسمالية في البرتغال[2]، الذي هو بلد شبه مستعمر، تطورت الغالبية العظمى من فئة الضباط المستائين بسبب عقود من الدكتاتورية والحروب التي لا تنتهي في أفريقيا، والتي أدركوا أنهم لا يستطيعون كسبها، في اتجاه الثورة و”الاشتراكية”. وحده تيارنا من تمكن من شرح هذه السيرورة.
أعطى هذا دفعة لحركة الطبقة العاملة، والتي أثرت بدورها على الجيش. لم يؤثر هذا فقط في قواعد الجيش، والرتب الدنيا من الضباط، بل وحتى على بعض الأدميرالات والجنرالات الذين كانوا يرغبون بإخلاص في حل مشاكل المجتمع والشعب البرتغاليين.
كان هذا شيئا يبدو مستحيلا في الثورات السابقة. حيث أن 99% من الضباط ساندوا فرانكو في الحرب الاهلية الاسبانية.
صحيح أن خيانة الإصلاحيين والستالينيين للثورة البرتغالية منعتها من أن تصل إلى نهايتها، فحدثت ردة رجعية. وتم تطهير الجيش مرارا وتكرارا ليصبح أداة مأمونة في يد البرجوازية.
لكن مسألة إلى أي مدى نجحت البرجوازية في ذلك؟ ما تزال تحتاج الى الاختبار في أتون الثورة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
لكن ما أثبتته تجربة البرتغال هو الحاجة إلى امتلاك فهم وتفسير جدليين حقا للأحداث التي جرت في عصرنا الحالي. فإذا كان مثل هذا ممكنا في مجتمع شبه مستعمر لكنه رأسمالي امبريالي كالبرتغال، فكم يمكن حدوث سيرورات مماثلة على نطاق أوسع من ذلك بكثير في البلدان المستقلة حديثا في أفريقيا وآسيا؟
لقد أكدت الأحداث في إثيوبيا بشكل تام الأطروحات التي دافعنا عنها. هناك كانت المجاعة، التي تسبب فيها هيلا سيلاسي والنبلاء الاقطاعيون، هي آخر ما يمكن حتى لفئة الضباط أن يتساهلوا معه. دفعت اللامبالاة الاجرامية التي تعامل بها الإمبراطور وطبقة الملاكين العقاريين مع المجاعة وموت مئات الآلاف وربما حتى الملايين بسبب الجوع، بالإضافة إلى التناقضات الاجتماعية التي تراكمت في بلد متخلف تحت ضغط من الإمبريالية، بالفئات المتوسطة من الضباط إلى تنظيم انقلاب عسكري.
هذا بدوره أيقظ حركة الطبقة العاملة القليلة العدد في أديس أبابا والطلاب والفئات البورجوازية الصغرى في العاصمة وفي البلدات. كما أنه ايقظ الفلاحين أيضا في حركة جبارة للسيطرة على الأرض. وهكذا تحولت “الإمبراطورية” التي استمرت 1000 سنة وبنيتها الطبقية إلى غبار.
إن الأزمة داخل الجيش ومحاولات الثورة المضادة والدفعة الإضافية التي قدمها هذا لحرب العصابات في اريتريا، وحرب العصابات في أوغندا، بمساعدة التدخل المباشر من طرف الصومال، وانتفاضات قبيلة غالا وغيرها من القبائل، شكلت حافزا للثورة.
وكان لحركة الطبقات بدورها تأثير على المجلس العسكري الحاكم الجديد. لقد أدت إلى حدوث انقسامات ومؤامرات فردية وجماعية بين صفوف الضباط. لقد عكس هذا صراع الطبقات في إثيوبيا والحرب الأهلية المتنامية في البلاد كلها. ومهما كانت الأهواء الفردية للضباط، فإنها تعكس (كما هو الحال في سوريا) – ويجب أن تعكس- الصراع الطبقي الجاري في المجتمع. ولا يكاد يوجد من يتمنى العودة إلى النظام القديم.
لقد تم رفض النظام الإمبراطوري شبه الإقطاعي من قبل الجزء الأكبر من فئة الضباط. لكن كانت هناك اختلافات في ما يتعلق بالمدى الذي يجب الوصول اليه، مما انتهى بنزاعات مسلحة وإعدامات. يعكس هذا، بطريقة مشوهة ربما، صراع الطبقات في إثيوبيا.
انتهى الصراع بفوز العقيد منجستو. كانت الأراضي قد تم تقسيمها بالفعل بين الفلاحين وتأميم الصناعة بدون تعويض للامبرياليين والرأسماليين المحليين (على الرغم بالطبع من أن التعويض ليس بالضرورة هو العامل الحاسم).
خرج العقيد منجستو منتصرا من هذا الصراع كديكتاتور بونابارتي تحت تأثير الحروب والحروب الأهلية. ومن أجل الحصول على الدعم الجماهيري، اضطر منجستو، الضابط السامي في جيش الإمبراطور سابقا، إلى مواصلة الطريق حتى آخره. فقد أعلن نفسه “ماركسيا لينينيا” (ربما من دون قراءة ولو كلمة واحدة لماركس أو لينين) وقام بإنشاء نظام ديكتاتوري شمولي يقوم على الحزب الواحد “الماركسي اللينيني”، على شاكلة موسكو أو بكين. تمت مصادرة الملاكين العقاريين والرأسماليين ولم يعد للبلدان الامبريالية تأثير حقيقي على السيرورات التي تجري في اثيوبيا.
إن السيرورة في هذه الحالة واضحة. بل لعلها أكثر وضوحا مما كانت عليه في موزامبيق وأنغولا أو عدن سابقا، وهذا دون صراع مباشر ضد الاحتلال الامبريالي.
الامبرياليون يعانون من الضعف وغير قادرين عن التدخل مباشرة بالوسائل العسكرية، ولا يمكنهم سوى المشاهدة بحقد عاجز.
لكن مما لا شك فيه فتيار Militant (المناضل) هو الوحيد الذي توقع هذه الاحتمالات مسبقا للعديد من البلدان في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. لقد تم إنجاز الثورة، أو بالأحرى المهام الأولية للثورة، في البلدان المتخلفة بواسطة الأنظمة المذكورة أعلاه. فقد تم القضاء على الملاكين العقاريين وتم تدمير الرأسمالية وضرب هيمنة الإمبريالية.
وهكذا فقد كان للأصل البرجوازي لقيادة حركة حرب العصابات في كوبا أهمية ثانوية. كان الشيء الأهم هو محاولة الامبريالية اتخاذ إجراءات لإعادة كوبا مرة أخرى إلى الوضع الاستعماري الجديد مما أدى إلى قطع كاسترو للعلاقات مع الإمبريالية الأمريكية.
إن أوجه التشابه الاجتماعية والاقتصادية هي الحاسمة بالنسبة للماركسي في التقلبات الاجتماعية في هذه البلدان.
من أجل إنجاز ثورة مثل تلك التي شهدتها روسيا في أكتوبر 1917 يتطلب الأمر الوعي والعمل والفهم والمشاركة النشطة من طرف البروليتاريا نفسها في عملية إسقاط الرأسمالية والملاكين العقاريين. يتطلب الأمر أجهزة ومؤسسات يمكن من خلالها للبروليتاريا أن تتحرك، أي: السوفييتات، ولجان المعارك والنقابات العمالية، الخ. وبعد انتصار سلطة العمال يصير من الممكن ممارسة الرقابة والتدقيق بواسطة أجهزة سلطة العمال تلك.
إن مثل تلك اللجان والمنظمات التقليدية مؤسسات لا غنى عنها في ثورة اشتراكية بالمعنى الصحيح. إنها تشكل وسائل لتدريب العمال على فن إدارة الدولة، وتطوير التضامن بين العمال وتطوير وعيهم. وبعد الإطاحة بسلطة الرأسمال تصير وسائل للسلطة العمالية، وأجهزة الدولة الجديدة: دولة الديمقراطية العمالية.
لكن أينما تمت الإطاحة بالنظام، بدعم من العمال والفلاحين بالتأكيد لكن دون رقابتهم الفعلية – كما هو الحال في أوروبا الشرقية والصين وكوبا وسوريا وإثيوبيا – فمن الواضح أن النتيجة لا بد أن تكون مختلفة. إن المثقفين البرجوازيين الصغار وضباط الجيش وزعماء حرب العصابات يستخدمون العمال والفلاحين وقودا للمدافع، ومجرد قاعدة دعم، يستعملونهم كذخيرة إذا جاز التعبير.
إن هدفهم، بوعي أو بغير وعي، ليس تحقيق السلطة للعمال والفلاحين، بل تحقيق السلطة لنخبتهم. نموذجهم في ذلك هو روسيا الستالينية. إن الثورة – أي التغيير في علاقات الملكية – تبدأ حيث انتهت الثورة الروسية، روسيا الستالينية سنوات 1945- 1949 أو روسيا الستالينية لعام 1978. إنهم متشابهون من حيث الجوهر: دولة الحزب الواحد الشمولية حيث البروليتاريا عاجزة ومذررة، مع جهاز للتحكم في الدولة من قبل المسؤولين. قادة جيش حرب العصابات، الذين يفرضون الانضباط بيد من حديد، وصلوا إلى السلطة بدعم من الجماهير بلا شك، لكن دون وجود أجهزة لممارسة سلطة العمال مستقلة عن الدولة. وأيضا تغيب كل حقوق وسلطات العمال والفلاحين، التي يحققها وجود السوفييت وأجهزة السلطة العمالية.
إن مثل أجهزة العمال الديمقراطية هذه، التي لا غنى عنها لدولة عمالية سليمة، من شأنها أن تمثل عقبة هائلة في وجه الانتقال إلى نظام بونابارتي بروليتاري. لقد شكلت عائقا هائلا أمام البيروقراطية الستالينية في روسيا، والتي اضطرت إلى خوض صراع شاق ضدها، بل وحتى حرب أهلية من جانب واحد، لمحو آخر بقايا الديموقراطية العمالية، التي وقفت في طريق حكمها المطلق وديكتاتوريتها. وقد انعكس ذلك من خلال ديكتاتورية الرجل الواحد ستالين وخلفائه.
والشيء المهم هو أن هذا شكل نموذجا للـ “الاشتراكية” بالنسبة لماو وكاسترو ومنجستو ولجنرالات بورما وللجنرالات البعثيين “المسلمين” في سوريا.
الجيش والمثقفون
من المهم أن نرى أن ما تشترك فيه كل هذه القوى المختلفة ليس الفروقات الفردية الثانوية بل القوى الاجتماعية والقوى الطبقية التي تمثلها.
لقد قطع منجستو وكاسترو وجنرالات بورما مع أصولهم الطبقية ومزايا، أو عيوب، تعليمهم الجامعي البرجوازي وتصوراتهم البرجوازية. صحيح أنهم لم يتبنوا وجهة نظر البروليتاريا – كما فعل ماركس ولينين – لكنهم قبلوا “الاشتراكية” الأسهل بكثير التي تضمن حكمهم الفردي وحكم نخبتهم على ظهور الطبقة العاملة والفلاحين.
إن جميع الفروق الفردية يتم إلغاءها من طرف التغيرات الطبقية والاقتصادية الحاسمة التي أنجزوها في بلدانهم ومجتمعاتهم.
جميع العصب التي تطلق على نفسها اسم “الماركسية اللينينية” لم تفهم حتى ألف باء الماركسية كما شرحها مؤسسها وطورها لينين وتروتسكي. هذا شيء عجيب. إن تحرر الطبقة العاملة هو مهمة العمال أنفسهم. هذا ليس لأنه نوع من التكفير عن الذنب الذي يجب على العمال القيام به، أو لأنهم “أناس طيبون”. بل لأنه من دون هذا يصير من الحتمي أن تقوم أقلية صغيرة تحتكر الثقافة باستغلال ذلك الاحتكار– والشطط حتما في استغلاله- ضد مصالح العمال والفلاحين ومن أجل مصالحها الخاصة. وأيضا لأن تعبئة البروليتاريا، ونضالها الواعي من أجل السلطة، والنضال من أجل الديمقراطية العمالية، يغير البروليتاريا ويجعلها قادرة على انجاز مهمة بناء السلطة العمالية. ثم يصل هذا التأثير جزئيا إلى الفلاحين والبرجوازية الصغرى، التي تتبع البروليتاريا سواء في البلدان المتقدمة أو البلدان المتخلفة. هذه العملية لا تحدث بنضال حرب العصابات البرجوازية الصغيرة أو عندما تستولي فئة راديكالية من ضباط الجيش على السلطة.
وهكذا، تسيطر النخبة المثقفة وقادة الجيش في كل الثورات الاجتماعية والانقلابات، التي شهدتها البلدان المذكورة أعلاه، على الدولة بحزم بين يديها. إنهم يتمتعون بالدعم السلبي – أو النشط إلى هذا الحد أو ذاك- من طرف الجماهير. لكن ليست هناك حركة واعية منظمة للبروليتاريا. ليست حركة الفلاحين والبرجوازية الصغرى بديلا صالحا “للحركة الذاتية” للبروليتاريا.
من الملفت للنظر واقع أن العصب صارت تقبل بماو وبالثورة الصينية بعد أن صارا واقعا ووجدت في شارة ماو “الشيوعية” العذر لهذا الغرض. في الواقع إن ماو شيوعي سابق قطع علاقته مع البروليتاريا ووضع نفسه على رأس حرب الفلاحين.
وحقيقة انه في وقت لاحق تأرجح بين الطبقات بطريقة بونابارتية نموذجية، واستند على العمال لبعض الوقت، لا تغير شيئا. كما لا تغير شيئا حقيقة أن العصابة الحاكمة في بكين قد أطلقت على نظامها اسم “الاشتراكية” أو أحيانا دكتاتورية “البروليتاريا”. ليس هناك فرق جوهري اقتصاديا أو اجتماعيا بين أي من هذه الأنظمة. وهذا يعني أن الاختلافات الثانوية لا أهمية لها إذا ما قورنت مع التشابه في الجوهر.
خطأ لينين
ليس من قبيل الصدفة أيضا أن جميع العصب تستند إلى خطأ لينين في كتابه “ما العمل؟” حول أن البروليتاريا ليست قادرة من تلقاء نفسها على الوصول إلا إلى “وعي نقابي” وليس إلى “وعي اشتراكي”. في الواقع هذه ليست فكرة لينين بل فكرة كاوتسكي. وقد اكتشف لينين خطأه، وتعتبر مؤلفات لينين مثلها مثل مؤلفات ماركس وإنجلز وتروتسكي، إضافة إلى روزا لوكسمبورغ ومهرينغ، دحضا لهذه الفكرة. وفي كل مجلدات لينين الـ 55 التي تضم مؤلفاته لم يتكرر أبدا مرة أخرى هذا الخطأ. في الواقع ودون تمجيد البروليتاريا، كل مؤلفاته، كما هو حال جميع الماركسيين العظام، من أضخمها حتى أصغر مقالة، مشبعة بالإيمان وبالثقة في القوة الجبارة للبروليتاريا باعتبارها الطبقة الوحيدة التي من شأنها أن تقود الجنس البشري نحو الاشتراكية. وهذا الايمان يأتي بالطبع من المادية الجدلية لماركس.
في الواقع جميع هؤلاء السادة العصبويين يحتقرون في السر – وأحيانا ليس في السر تماما – الطبقة العاملة. وجدليا، في حين يتبنون بحماس هذه الفكرة الخاطئة عن الوعي النقابي، تجدهم في نفس الوقت يتعبدون في ضريح هوشي منه أو ماو أو كاسترو أو تيتو أو بعض الدكتاتوريين البونابارتيين البروليتاريين الآخرين. إنهم غير قادرين على فهم السيرورة التاريخية والظروف المؤقتة للازدهار الاقتصادي الذي أدى إلى هدوء طويل في الصراع الطبقي في الغرب واستمرار أزمة المجتمع في العالم المتخلف. كان هذا واحدا من عوامل الازدهار في الغرب وأدى حتما إلى ظهور وتطور الأنظمة البونابارتية البروليتارية في العالم المستعمر، والتي ساهمت فيه هيمنة الستالينية في روسيا وسيطرة الستالينية والإصلاحية في الحركة العمالية العالمية. وحدها الماركسية الحقيقية من تمكنت منذ البداية من شرح كل هذه الظواهر “الغريبة” من وجهة نظر الطبقة العاملة، وشرح الطبيعة الطبقية للمجتمع والأزمة الهيكلية للرأسمالية العالمية والتي تظهر في المقام الأول في الأطراف الأضعف والأكثر تخلفا.
جميع هذه الأنظمة البوناباترتية البروليتارية هي انحرافات مؤقتة على طريق الثورة العالمية. وسيتم استئصال هذا الورم المتمثل في الستالينية بسهولة عندما ستتمكن البروليتاريا القوية في إحدى البلدان المتقدمة من أخذ السلطة في الغرب أو عندما تعمل الطبقة العاملة في روسيا وأوروبا الشرقية على الإطاحة بالبيروقراطية.
لقد تتبعنا في عدد من مؤلفاتنا التناقضات التي تسقط فيها العصب بشأن مسألة معنى الدولة العمالية السليمة بتشوهات بيروقراطية، ومعنى دولة عمالية مشوهة. فعلى الرغم من أن كلاهما يستندان إلى ملكية الدولة، فإنهما مختلفتان اختلافا جوهريا من حيث بنيتهما الفوقية. لهذا السبب فإن الثورة السياسية ضرورية في حالة وجود دولة عمالية مشوهة لإقامة نظام “الديمقراطية العمالية”، أو “ديكتاتورية البروليتاريا” بمعناها السياسي وكذلك الاقتصادي. أما الدولة العمالية بتشوهات بيروقراطية من ناحية أخرى فهي دولة عمالية في ظل ظروف التخلف والعزلة، وما يزال في الإمكان إصلاحها من خلال استعادة الحزب والنقابة وديمقراطية الدولة، أي من خلال العودة إلى رقابة العمال والفلاحين، حيث ما تزال هذه المنظمات، وإن بشكل رمزي، موجودة تحت ضغط من العمال.
لقد انبطحت بعض العصب أمام كاسترو كزعيم ومنظم “لدولة عمالية سليمة”. بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث شبهوا “نضاله ضد البيروقراطية” بنضال تروتسكي ضد الستالينية. لقد ارتكبوا خطأ نشر صور لتروتسكي وكاسترو معا كمناضلين ضد البيروقراطية ومن أجل الديمقراطية الاشتراكية. وبالتالي أظهروا انهم لا يفهمون لا دور تروتسكي باعتباره مناضلا خالدا ضد البيروقراطية الستالينية ولا دور كاسترو باعتباره مجسدا للبيروقراطية الستالينية الكوبية.
إن الكلمات رخيصة. لم يكن “صراع كاسترو” ضد البيروقراطية الكوبية يختلف في جوهره عن صراع ستالين في بعض المناسبات ضد البيروقراطية الروسية. ستالين باعتباره ديكتاتورا بونابارتيا هاجم أحيانا “البيروقراطية” بالكلمات. وذهب أبعد من ذلك في مناسبات معينة واستند على العمال والفلاحين. حدث هذا عندما ذهب البيروقراطيون الجشعون بعيدا جدا في النصب والمضاربة ونهب الدولة وهددوا بتقويض أسس الدولة.
لقد اتخذ ستالين اجراءات حتى ضد كبار البيروقراطيين وبالتأكيد ضد قطاعات واسعة من الرتب الدنيا من البيروقراطية. وكان الهدف من وراء هذا هو الحفاظ على النظام الستاليني بتقديم بعض البيروقراطيين، وخاصة من الرتب الدنيا، أكباش فداء.
إن دور كاسترو في كوبا هو نفسه من حيث الجوهر. صحيح، أنه لعب دورا قياديا في حرب العصابات، وفي الإطاحة بباتيستا، وفي الحركة نحو طرد الإمبريالية، والإطاحة بالملاكين العقاريين والرأسمالية.
ستالين عاش الثورة البروليتارية وشهد وجود الديمقراطية العمالية، لكنه نفذ ثورة مضادة ضدها. لكن الثورة الكوبية نشأت منذ اليوم الأول مشوهة. لم تأخذ البروليتاريا الكوبية أبدا السلطة السياسية مباشرة على عكس البروليتاريا في روسيا. وحقيقة أنه حتى اليوم ما زال ربما الجزء الأكبر من الشعب الكوبي، والشعب الصيني أيضا، يدعم النظام في هذه المرحلة، لا تغير شيئا من حيث الأساس. إن قيود كاسترو ضد البيروقراطية، مثلها مثل قيود ستالين، ضرورية بالنسبة له للحفاظ على دور “الحكم البونابارتي” ودور “أب الشعب”.
والآن، عندما ينتقلون إلى التعامل مع النظام الحاكم في إثيوبيا، يعلن بعض المنبطحين أمام كاسترو أن منجستو – الذي يعتبر نظامه من حيث الجوهر نسخة للأنظمة السائدة في روسيا والصين وكوبا – حاكم “فاشستي”. لا يمكن استقبال هذا المثال عن التشويهات والألعاب الانتقائية البهلوانية إلا بعواصف من الضحك من قبل الماركسيين الحقيقيين.
رأسمالية الدولة؟
لماذا يكون نظام منجستو نظام “رأسمالية الدولة” ومختلفا عن الاخرين؟ لا يوجد أي تفسير لذلك. إنهم لا يعملون سوى على ترديد صدى حجج الطلاب الماويين اليسروايين المتطرفين في إثيوبيا. الماويون الاثيوبيون منسجمون على الأقل إذ يعلنون – كما هو حال الماويين في كل مكان – أن روسيا هي أيضا “رأسمالية الدولة”.
والدليل على الطابع “الفاشستي” لنظام منجستو، كما يزعمون، هو القمع الشرس والإعدامات وقمع الحقوق القومية والثورات الوطنية في إريتريا وأوغادين ذات الطابع المماثل لتلك التي في إثيوبيا، وتصفية الأقليات القومية الأخرى. إن سحق وحل النقابات العمالية المستقلة وكل المؤسسات الديمقراطية الوليدة للعمال والفلاحين مسألة مدانة بالتأكيد. وكذلك هي مدانة أيضا مسألة تركيز السلطة في أيدي زمرة المجلس العسكري وديكتاتورية منجستو.
لكن لا يملك المرء سوى أن يفرك عينيه استغرابا من ضحالة “ماركسية” هؤلاء الذين يسمون أنفسهم تروتسكيين. فكل جريمة ارتكبها منجستو في هذا الصدد، ارتكب ستالين أكثر منها مائة مرة! لقد وصل قمع المنظمات المستقلة للعمال إلى حالة الكمال على يد البروقراطية في روسيا. “النقابات” المزيفة موجودة وتشبه منظمات Arbeitfront النازية في ألمانيا. والحزب “الشيوعي” الروسي هو أداة البيروقراطية نفسها، وقد توقف منذ فترة طويلة عن أن يكون حزبا عماليا. وتم إنشاء معسكرات الاعتقال، أو “معسكرات العمل” كما يطلق عليها، و”المستشفيات” النفسية لجميع المنشقين سواء من اليمين أو اليسار.
كما بلغ القمع القومي للأقليات، وخصوصا ذات الأصول العمالية، إلى مستويات لم يصل إليها حتى في ظل القيصرية. وقد أنشأت آلة الحزب الواحد الشمولية دون السماح لوجود أية معارضة بين العمال والفلاحين والمثقفين. كما تم فرض قيود الستالينية على الفن والعلم والحكومة، دون السماح بأية مبادرة مستقلة أو فكر مستقل، وهو ما لم يكن له مثيل في التاريخ ما عدا، ربما، في ظل ألمانيا تحت حكم هتلر. وهذه صورة مشتركة، إلى هذا الحد أو ذاك، بين جميع الدول البونابارتية البروليتارية، بما في ذلك الصين وكوبا.
تعمل بعض العصب على التقاط توصيف نظام منجستو من عند الماويين. كما أنهم دعموا حرب العصابات الفلاحية البطولية في أوغادين وإريتريا، والتي كانت ستنتهي ربما، في حال انتصارها، إلى أن تشكل نسخة طبق الأصل من كوبا أو من إثيوبيا في ظل منجستو. من شأن ذلك أن يكون حتميا في ظل اقتصاد متخلف ومع قيادة قومية محدودة الأفق تبحث في مواردها الخاصة وحدها دون رؤية ضرورة ربط نضالها مع نضالات العمال من البلدان الرأسمالية المتقدمة. إننا في حالة اندلاع نضال من أجل الحقوق الوطنية لهذه الشعوب – وطالما لم يكن هناك تدخل مباشر للإمبريالية – سوف نقدم دعما نقديا لذلك النضال، كما قدمناه على سبيل المثال لنضال الشعب الأوكراني من أجل الاستقلال عن روسيا الستالينية. فمن شأن دولة أوكرانية اشتراكية سوفياتية مستقلة أن تمهد الطريق لبناء فدرالية للجمهوريات الاشتراكية السوفياتية حقيقية وطوعية لجميع شعوب الاتحاد السوفياتي. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الإطاحة بالبيروقراطية الستالينية الروسية من قبل الطبقة العاملة الروسية.
دعم الثورة
في إريتريا وأوغادين، كما هو الحال في إثيوبيا خلال المرحلة المقبلة، لن تصل الديمقراطية للأسف إلى المستوى المطلوب. هذا أمر لا مفر منه على أساس حرب الفلاحين، فضلا عن سيطرة الأيديولوجية الستالينية على قادتهم.
لكن وكما فعلنا في حالة فيتنام ولاوس وكمبوديا والصين أيضا – سوف نقدم دعمنا دون إغلاق أعيننا على حتمية صعود أنظمة ستالينية شمولية مهما كانت نتيجة الصراع.
بسبب طبيعة نضالهم كنضال قومي (وإن على أساس ملكية الدولة والقضاء على الاقطاعية والرأسمالية) وضيق أفق قيادتهم، لا الصوماليون ولا الاريتريون يمتلكون وسائل التأثير على الجنود الفلاحين الإثيوبيين وكسبهم. فهم أيضا قاموا بثورة وتأثروا بالفكرة القومية عن إثيوبيا المتحدة.
ليس لسياسة لينين البروليتارية البعيدة النظر – القائمة على الدفاع بحزم عن الحق البرجوازي الديمقراطي في تقرير المصير – أي مكان للأسف في سياسة الاثيوبيين. لكن لا توجد أيضا، على كلا طرفي الصراع، أي من السياسات الماركسية الأخرى – المركزية الديمقراطية في الحزب، والديمقراطية في السوفييتات والنقابات العمالية، الخ.
إن ما يحدد سياستنا بالدرجة الأولى هو مصالح الثورة البروليتارية الاشتراكية الأممية ومستقبلها. وهزيمة الإمبريالية والإطاحة بالملاكين العقاريين والرأسمالية في منطقة القرن الأفريقي خطوات كبيرة إلى الأمام.
هذا على الرغم من الصراع الدائر بين “الدول الاشتراكية” الذي يزرع البلبلة بين العمال الطليعيين والبروليتاريا عموما. إن تعقيد المشكلة والحاجة إلى الحفاظ على أفكارنا واضحة يظهران في الكيفية التي غيرت بها الإمبريالية والبيروقراطية الروسية والكوبية مواقعهما.
بالأمس دعم الإمبرياليون هيلا سيلاسي والنظام الاقطاعي والرأسمالية في إثيوبيا ضد الصومال وحركة حرب العصابات في اريتريا. بينما مولت روسيا وكوبا الدولة الصومالية وسلحتها ونظمتها ودعمت المتمردين في إريتريا بالأسلحة والأموال والمساعدة التقنية. احتلت إثيوبيا أهمية أكبر في نظرهم مع انهيار الإمبراطور، وما تلاه من إسقاط للنظام شبه الإقطاعي والرأسمالي. اثيوبيا لديها 35 مليون شخص مقابل ما يقرب من 2 أو 3 ملايين في كل من إريتريا والصومال.
استغل الرئيس الصومالي بري بشكل انتهازي الحرب الأهلية في إثيوبيا، التي نظمت من قبل قوى الثورة المضادة الملاكين العقاريين والرأسماليين، فأرسل قواته الى أوغادين. وأعرب عن أمله في تفكك وانهيار الثورة الاثيوبية. تصوره قومجي محدود الأفق وقصير النظر، ومهتم فقط ببناء “الصومال الكبرى”. مما لا شك فيه قام الإمبرياليون خلسة، ومن خلال الدول العربية الرجعية شبه الإقطاعية مثل المملكة العربية السعودية، بتقديم الدعم للصوماليين، مثلما يقدمون الآن الدعم للإريتريين على الرغم من الطابع الاجتماعي للحركة في إريتريا. إنهم يرغبون في إضعاف إثيوبيا وتوجيه ضربة ضد البيروقراطية الروسية.
البيروقراطية الروسية وكاسترو عملا على تغيير الأحصنة في منتصف الطريق، بعد فشل محاولة إقناع الحكام الصوماليين بالوصول إلى تسوية وإقامة فدرالية مشكلة من إريتريا والصومال وإثيوبيا. كانت الفدرالية ستكون بدون شك الحل الأمثل، بالنظر إلى طبيعة كل تلك الأنظمة إما كدول بونابارتية عمالية مشوهة، أو كدول في طور التشكل.
عندما رفض الصوماليون هذا الاقتراح غيرت البيروقراطية موقفها. وليس من المؤكد أن الإثيوبيين كانوا متفقين مع هذا الاقتراح أيضا. والآن هم يحاولون ان يتفاوضوا حول شكل من أشكال الاتفاق بين إريتريا وإثيوبيا. فإذا لم يقبل الإريتريون بشكل محدود من أشكال “الحكم الذاتي” فإنه يبدو مؤكدا أن كوبا وروسيا سيدعمان سحق محاولة إريتريا لتقرير المصير. وسوف يذرف الإمبرياليون، العاجزون عن التدخل مباشرة، دموع التماسيح على الحقوق القومية والديمقراطية للشعب الاريتري. (رغم أنهم بالأمس فقط حاولوا بوحشية قمع حقوق الشعب الفيتنامي).
لكن ما هو مضحك حقا بخصوص هذه الصراعات الدرامية هو موقف بعض العصب. إنهم يقولون رسميا إن روسيا (وهذا صحيح) دولة عمالية مشوهة، وكوبا (وهذا غير صحيح) دولة عمالية “سليمة” نسبيا. لكنهم لا يشرحون بأي حال من الأحوال كيف ولماذا تقدم دولة كوبا العمالية “السليمة” نسبيا أو دولة روسيا العمالية المشوهة مساعدة نشيطة للدولة “الفاشية” في إثيوبيا لتأسيس نفسها وقمع الحقوق القومية لشعب إريتريا الذي يحاول إقامة نظام “ماركسي” وشعب الصومال من الأوغادين والأقليات الأخرى.
إن الغالبية الساحقة من الفلاحين الإثيوبيين، وبفضل سياسة توزيع الأراضي، يدعمون، بدون شك، النظام الإثيوبي لعدم وجود بديل عنه.
بالطبع من الممكن نظريا أن تقوم دولة عمالية مشوهة، أو حتى دولة عمالية سليمة، بالتحالف مع دولة رجعية أو فاشية لغرض “الدفاع” ضد الدول الرأسمالية الأخرى. وقد فعلت روسيا الستالينية هذا في عام 1939 بتوقيعها اتفاق “عدم الاعتداء” مع ألمانيا في عهد هتلر.
لكن ما هي الضرورة الاستراتيجية التي دفعت بريجنيف وكاسترو إلى التحول من دعم الصومال وإريتريا إلى دعم غريمتهما “الفاشية”؟ سينظر حكام الدول العمالية المشوهة بعين الخوف لاحتمال ظهور دولة عمالية سليمة في البلدان الصناعية بسبب الهزات الاجتماعية التي سوف تثيرها في بلدانهم. لكنهم سيرحبون بتأسيس أنظمة اجتماعية على شاكلة أنظمتهم في البلدان المتخلفة والتابعة.
هذا سيقوي موقعهم على الصعيد الدولي ضد منافسيهم الإمبرياليين الرأسماليين. فالتناقض العالمي الأساسي بين الهياكل الاجتماعية لهذه البلدان وبين البلدان الرأسمالية ما يزال قائما.
الستالينية والفاشية
إثيوبيا بلد أكثر تخلفا من روسيا القيصرية أو حتى من الصين قبل الثورة، وتعيش ظروف الحرب الأهلية على كل الجبهات. مع وجود قيادة تتخذ من كوبا والصين نموذجا لها، ومن دون تدريب ثوري، انتقل ضباط الجيش نحو تبني المفاهيم الستالينية في مسار الثورة. لكن لا يمكننا رمي الطفل مع مياه الحمام. بل يجب علينا فصل النواة التقدمية الهائلة عن القشرة الرجعية. لقد تم القضاء على الاقطاعية والرأسمالية وسيكون لهذه الحقيقة الحاسمة آثار بعيدة على مستقبل الثورة الأفريقية في المرحلة القادمة.
ليس عبثا شرح تروتسكي لحزب العمال الاشتراكي الأمريكي أن النظام السياسي في روسيا كان فاشيا، إذا ما وضعنا جانبا ملكية الدولة للصناعة والأرض! لم يكن هناك شيء يميز نظام ستالين السياسي عن نظام هتلر باستثناء الحقيقة الحاسمة المتمثلة في أن أحدهما يدافع عن ملكية الدولة وفي أن امتيازاته تعتمد على تلك الملكية، في حين أن النظام الآخر يعتمد في امتيازاته وسلطته ومداخيله ومكانته على أساس الدفاع عن الملكية الخاصة. وقد كان هذا اختلافا جوهريا وحاسما! ليس هناك فرق في أساسيات البنية الاقتصادية والسياسية بين إثيوبيا والصين وسوريا وروسيا أو أي دولة من الدول العمالية المشوهة.
إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها الهند الصينية ساعدت مرة أخرى في إظهار التناقضات المثيرة للسخرية في سياسات جميع العصب. لقد أعطى تيارنا دعما مبدئيا لنضال حزب هوشي منه “الشيوعي” الفيتنامي وحركات حرب العصابات الفلاحية في لاوس وكمبوديا ضد الإمبريالية الأمريكية والعالمية وعملاؤهم المحليين.
لقد أيدنا ذلك الكفاح دون قيد أو شرط وبكل مبدئية. لقد أيدناه لأنه كان حربا من أجل التحرر من الاستعمار. وكنا سنؤيد مثل هذه الحرب حتى ولو كانت تحت قيادة برجوازية أو بورجوازية صغيرة لا تحارب إلا من أجل حق تقرير المصير القومي فقط. لكنها أصبحت بشكل حتمي حربا من أجل التحرر الاجتماعي وكذا التحرر الوطني، بمعنى النضال من أجل القضاء أيضا على الملاكين العقاريين والرأسمالية. وبدون هذا، لم يكن من الممكن خوض الكفاح لعشرات السنين ضد قوات عسكرية ساحقة.
ويظهر المدى الذي وصل إليه ابتعاد العصب عن الأسلوب الماركسي أو التروتسكي في المهاترات بين مجموعتين عصبويتين تنتميان إلى نفس التيار الأممي حول ما إذا كان الفيتناميون تروتسكيين “بشكل غير واع” ويعملون على أساس الثورة الدائمة.
لم يفهم أي من هؤلاء السادة الطبيعة الخاصة للمرحلة فيما يتعلق بتطور المناطق المستعمرة أو المستعمرة سابقا. كما أنهم لم يفهموا حتمية تشوه الثورة في ظل القيادات الستالينية المكشوفة – قيادة الأحزاب الشيوعية المزعومة – أو فئة الضباط الراديكاليين. لم يفهموا العواقب الحتمية عندما تصل ثورة تحررية إلى إنجاز مهمتها التقدمية و”النهائية” المتمثلة في القضاء على الرأسمالية والملاكين العقاريين في حين لا تكون القوة الرئيسية هي الطبقة العاملة بقيادة ماركسية.
عندما تكون القوة الرئيسية هي جيش الفلاحين الذي يستخدم تكتيكات الفلاحين الكلاسيكية المتمثلة في حرب العصابات، من المحتم أن يؤدي ذلك إلى “دولة عمالية مشوهة” حتى ولو لم يكن ذلك هو هدف القادة. وفي حالة وقوع انقلاب عسكري للضباط الشباب، المتحالفين مع “المثقفين” والطلاب، فإن النتائج تكون – لا محالة – هي نفسها.
يصير هذا حتميا أكثر بالنظر إلى الظروف العالمية المتمثلة في وجود دول بونابرتية عمالية قوية، كروسيا الستالينية وغيرها من البلدان. ومع وجود القوى الإمبريالية يصير من غير الممكن أن تكون هناك نتيجة أخرى.
بالطبع لو كانت هناك دول عمالية سليمة – في روسيا على سبيل المثال، أو واحدة من الدول الصناعية الكبرى في أوروبا أو اليابان- فإن النتائج والاحتمالات ستكون مختلفة تماما. كانت بروليتاريا الدول العمالية المتقدمة وشعبها سيقدمون العون والمساعدة إلى عمال الدول العمالية في البلدان المتخلفة، وربط الاقتصادات معا، وإرسال عشرات الآلاف من الفنيين إلى البلدان الصغيرة ومئات الآلاف منهم إلى البلدان الكبرى. سيعني هذا التصنيع السريع بالإضافة إلى الديموقراطية العمالية. هذا هو ما قصده لينين عندما قال إن إفريقيا يمكن أن تنتقل مباشرة من النظام القبلي إلى الشيوعية.
لكن وبالنظر إلى العلاقة الحالية للقوى الطبقية على الصعيد الأممي، ومع سيطرة الإصلاحية الكلاسيكية والإصلاحية الستالينية على الحركة العمالية في الدول المتقدمة، صارت مثل هذا الإمكانية في فيتنام وكمبوديا ولاوس مستبعدة.
مواجهات الهند الصينية
هذا هو السبب الذي جعل تيارنا يدعم بكل إخلاص الثورات الفيتنامية والهند الصينية وفي نفس الوقت يشرح للعمال والفلاحين في هذه البلدان أنه عليهم أن يدعموا بنشاط النضال والكفاح من أجل التحرر الاجتماعي والوطني، لكن هيمنة القيادة الستالينية على النضال يعني أنه في حين ستتحقق خطوة اجتماعية هائلة إلى الأمام مع انتصار حركة التحرر الوطني، سيتلوها استعباد جديد على يد البيروقراطية الستالينية الشمولية. بدون حزب ماركسي وبدون قيادة ماركسية سيكون هدف قيادة “الحزب الشيوعي” إقامة دولة على شاكلة ما يسمى بـ “الاشتراكية” السائدة في روسيا أو الصين.
نحن نناشد العمال الطليعيين في بريطانيا وأمريكا وفرنسا والعالم لدعم النضال من أجل التحرر الوطني والاجتماعي لشعوب الهند الصينية، لأنه يضعف الإمبريالية والرأسمالية العالمية. إن تحرير القوى المنتجة في هذه البلدان، من خلال الإطاحة بسيادة الرأسمال، سيكون ذا فائدة كبيرة على المدى البعيد بالنسبة لشعوب هذه البلدان، وكذلك بالنسبة للبروليتاريا العالمية.
لكننا أبدا لم نخدع أنفسنا أو نخدع العمال والفلاحين في العالم بخصوص الطبيعة الحتمية (علاقة القوى الطبقية) للأنظمة التي ستنشأ في هذه البلدان.
لقد توقعنا وحذرنا من حتمية نشوء أنظمة قومية ستالينية شمولية في تلك البلدان، لكن حتى نحن لم نتوقع المدى الذي ستصله في تشوهها.
إن الاشتباكات المسلحة بين كمبوديا وفيتنام هي إدانة ساحقة لكل تلك العصب ‘التروتسكية ” المزعومة في بريطانيا وأمميا، والتي لم تفهم الطبيعة الطبقية لتلك الأنظمة وطابعها الستاليني. لم تكن هناك أية مفاجأة بخصوص هذا بالنسبة لتيارنا. فقد أظهرت الاشتباكات الحدودية بين روسيا والصين عندما قتل عشرات الآلاف حجم الجرائم التي يمكن للبيروقراطيين القوميين أن يقترفوها.
لا يمكن لهذه البيروقراطية أن تنظر أبعد من حدود الدولة الوطنية. ويقف وراء هذه الاشتباكات في الهند الصينية تطلعات الفيتناميين لإنشاء فدرالية من “الدول الاشتراكية” في الهند- الصينية. من الواضح أن هذا سيكون له فائدة كبيرة لاقتصادات جميع تلك البلدان. لكن السبب الذي جعل الكمبوديين يقفون ضد إقامة مثل هذه الفدرالية هو أنه في ظل ظروف الاستبداد البونابارتي سيجدون انفسهم لا محالة تحت الهيمنة القومية والاضطهاد القومي من طرف البيروقراطية الفيتنامية. وبغض النظر عن النزعة القومية الشوفينية عند الستالينيين الكمبوديين، فإن ذلك سيكون أمرا لا مفر منه مثلما كان في الصين وروسيا الستالينيتين.
ولنفس السبب سيرفض الستالينيون الفيتناميون، بدورهم، الاتحاد مع الصين الستالينية. إنهم يعرفون، كما عرفت الأقليات في الصين، أنهم سيتعرضون للاضطهاد القومي من طرف البيروقراطية الصينية. ورغم أن ذلك الاتحاد سيكون من الناحية الاقتصادية ذا فائدة كبيرة، فإنهم لن يوافقوا عليه، مثلما لن توافق البيروقراطية الصينية على الاتحاد مع روسيا، على الرغم من أنه من الناحية الاقتصادية وحتى على صعيد موازين القوى السياسية العالمية، سيكون مفيدا بشكل هائل لشعوب واقتصادات كل تلك البلدان. إن ما يقف في طريق ذلك هو المصالح القومية الخاصة لبيروقراطيات جميع هذه البلدان.
وحدها الديمقراطية العمالية، بدون أية نزعة للتفوق أو التميز القومي، كما كان الحال في أيام لينين وتروتسكي، من يمكنها أن تمتلك مثل هذا البرنامج. لكن نظاما بونابارتيا، يستند إلى الامتيازات واللامساواة، عاجز عن مثل هذه السياسة: وتعتبر التجاوزات الشوفينية التي تقترفها روسيا والصين الستالينيتين دليلا على ذلك. إن الأنظمة البونابارتية الشمولية، بحكم طبيعتها، لا يمكنها أبدا أن تنظر أبعد من الأفق الضيق للدولة القومية. إن البيروقراطية أفقها قومي ضيق بسبب طبيعتها وامتيازاتها بالذات.
ولأنهم يستندون إلى الفلاحين والطلاب والمثقفين، دون هيمنة ومشاركة حاسمة من طرف الطبقة العاملة، فإنهم حتما قوميون ضيقو الأفق.
أفغانستان
لا يمكن للطبقة العاملة أن تضمن تحررها وهيمنتها على المجتمع إلا عن طريق التغلب على جميع أشكال الأحكام المسبقة التي تعود إلى الماضي: القومية والعنصرية والفئوية والجنسية أو غيرها. لكن وحدها الطبقة العاملة وليس غيرها – وفقط تحت قيادة ماركسية – القادرة على هذا الانجاز الفذ. لكن تحرر العمال يعني أيضا تحرر الطبقة البورجوازية الصغرى في المجتمع والتي يمكنها، في ظل قيادة الطبقة العاملة، وفقط في ظل هذه القيادة، أن تصير قادرة على التقدم إلى الأمام.
لا يمكن للبورجوازيين الصغار والمثقفين أن يتبنوا وجهة نظر البروليتاريا إلا بعد القطع تماما مع أصولهم وتصوراتهم الطبقية. لكن في ظل الظروف الحديثة من الصعب للغاية تحقق ذلك، حيث صار الماركسيون الحقيقيون، كما هو الحال في الأيام الأولى لماركس وإنجلز، مجرد أقلية صغيرة.
هذا هو الحال بصفة خاصة اليوم حيث الصراع لا يتم فقط في المجال الأيديولوجي بل حيث صارت المسألة العاجلة في بلد بعد الآخر هي إحداث تغيير في المجتمع. في هذه الحالة من السهل أن يسقط المثقفون تحت هيمنة الأفكار الستالينية المشوشة في أشكالها المختلفة.
وحدها حركة عمال قوية بقيادة ماركسية من يمكنها أن تجعل كسب هؤلاء المثقفين مسألة ممكنة.
هذا أمر صعب خصوصا في البلدان المستعمرة أو المستعمرة سابقا حيث المشاكل ملحة، وحيث تعيش الجماهير في شروط أقرب إلى الحيوانية، وحيث هناك أيضا عقبات هائلة أمام تحديث وتطوير المجتمع على أساس الأنظمة الرأسمالية وملكية الأرض شبه الإقطاعية.
من الأسهل بالنسبة للمثقفين والضباط الراديكاليين وحتى الموظفين والفئات العليا من المهنيين والأطباء والمحامين وهلم جرا، أن ينتقلوا إلى دعم البونابارتية الستالينية على دعم التيارات الماركسية الحقيقية لكن الصغيرة. ويصدق هذا بوجه خاص في معظم تلك البلدان حيث لا توجد الحركة “الماركسية” بوصفها تيارا منظما.
إن ما يسمى بـ ‘الماركسية اللينينية’ الروسية والصينية والإثيوبية تناسبهم تماما. انها تناسب كل أحكامهم المسبقة. إن “الاشتراكية” حيث تعيش نخبة المسؤولين في الدولة والحزب والصناعة والجيش في مستوى معيشة أعلى من الجماهير تبدو طبيعية تماما وعادية بالنسبة لهم. إن لهذا المجتمع حيث تصبح فيه هذه الفئات هي المهيمنة والحاكمة جاذبية هائلة بالنسبة لهم، خاصة حين يرون الخطوات الهائلة التي تحققها البلدان المتخلفة في مسيرتها القسرية نحو “الاشتراكية”.
وبالتالي فمن السهل بالنسبة إليهم تبرير موقفهم الطبقي. إنهم يكرهون الملاكين العقاريين والرأسماليين الفاسدين الذين تحت سيطرتهم صارت مجتمعاتهم إما تتفكك أو أنها تتطور ببطئ شديد. كما أنهم يحتقرون الجماهير المسحوقة من الفلاحين وحتى الطبقة العاملة الضعيفة.
إن هذه الفئة، وبصرف النظر عن وضعها الاقتصادي، مشبعه بغرور واهتمام كبيرين بأهميتها الخاصة في المجتمع. إنها مهوسة بالاكراميات والمناصب والسلطة والامتيازات، والدخل والمكانة الاجتماعية. وبالتالي فمن السهل في العالم الحديث أن نرى كيف يمكنها أن تتبنى “الاشتراكية” على نمط كوبا، على سبيل المثال.
في الفترة الماضية أكد مثال أفغانستان التحليل الذي قدمناه عن الثورة في المستعمرات. لقد تم تشكيل الحزب “الشيوعي” في هذا البلد المتخلف بشكل رهيب فقط خلال العقد الماضي أو نحو ذلك. ومثله مثل حزب البعث في سوريا، لم يجد أية صعوبة في تبني عقيدة “الإسلام” و”الشيوعية” معا. وقد فعل ذلك لأن الخرافات الدينية لها جذور عميقة بين الأغلبية الساحقة من الفلاحين، الذين 90% منهم أميون.
التحول الكامل
والآن في أفغانستان، كما هو الحال مع حزب البعث في سوريا، تحالف قادة الحزب الشيوعي مع الفئات الراديكالية الدنيا والمتوسطة من ضباط الجيش.
ان القضية المباشرة التي عجلت بحدوث الانقلاب هي المجاعة – كما هو الحال في إثيوبيا – واستحالة حلها من قبل النظام الآسيوي شبه الإقطاعي الفاسد. لقد شهدت أفغانستان العديد من الانقلابات في العقود الماضية مما أدى إلى وصول مختلف زعماء القبائل والمجموعات إلى السلطة. لم يؤد ذلك سوى إلى تغيير في القمة بينما ترك البنية الاجتماعية على حالها. فتطور نفس الفساد حتما، مما أدى، عندما أصبح الوضع لا يطاق بالنسبة إلى الجماهير، إلى المجاعة، أو بفعل المؤامرات الخارجية إلى حدوث انقلاب جديد. وهكذا اعتقلت العلاقات الاجتماعية في نفس الحلقة المفرغة ذاتها. يفتح هذا الانقلاب احتمالات السير في اتجاه جديد. لقد أصبح “الشيوعيون” في رئاسة الوزراء ومنصب الرئيس ولهم أيضا دور مهيمن في الحكومة. هذا يدل على الاتجاه الذي يرغب الضباط في الذهاب إليه. كان أحد أول الاجراءات التي اتخذها النظام الجديد هو الاستيلاء على أراضي الأسرة المالكة، والتي على الرغم من الاطاحة بها من قبل نظام داود[3]، كانت ما تزال تمتلك 20% من الأراضي في أفغانستان! هذه انطلاقة جديدة، وربما تكون بداية التحول الكامل للعلاقات الاجتماعية.
كما هو الحال في بولندا، حيث وصلت البيروقراطية الستالينية البولندية إلى اتفاق مع الكنيسة الكاثوليكية، يمكن لقيادة الحزب الشيوعي في أفغانستان، جنبا إلى جنب مع الضباط، أن يصلوا إلى اتفاق مع رجال الدين الاسلاميين. ولا تغير حقيقة أن تراقي، رئيس الوزراء الجديد، هو زعيم ما يسمى بالحزب الشيوعي أي شيء. إنه ينتهج نفس السياسة التي ينتهجها قادة حزب البعث السوريين.
في حالة أفغانستان هناك طريقان اثنان فقط ممكنان في هذه المرحلة. الطبقة العاملة ضئيلة. تريد قطاعات من المثقفين، وأغلبية الضباط وجزء كبير من الموظفين على ما يبدو، بناء دولة حضارية حديثة. والفلاحون يريدون الأرض.
لا يوجد هناك من مخرج على قاعدة الرأسمالية والملكية العقارية. ضباط الجيش يرغبون في السير على الطريق الذي اجتازته منغوليا. في الواقع إن هذه التغييرات الخاصة ممكنة فقط بسبب السياق الدولي. أزمة الإمبريالية والرأسمالية، ومأزق البلدان المتخلفة في العالم الثالث، ووجود ثورات بروليتارية في الغرب، هي عوامل قوية في ما تشهده أفغانستان.
إن الأنظمة الوحشية السائدة في باكستان وايران والهند ليست لديها جاذبية. ينجذب ضباط الجيش، والذين تدرب العديد منهم، إن لم يكن معظمهم، في روسيا، عندما يرون نتائج النظام الستاليني. لديه تأثير كبير على رجال القبائل في المناطق المتاخمة لروسيا عندما يرون التحديث في المناطق الروسية التي كانت تعرف سابقا مستويات منخفضة للمعيشة، ومستويات الأمية والجهل كبيرة مشابهة لتلك التي لديهم.
المقاربة الماركسية
إن التصنيع والقضاء النهائي على الأمية وتحقيق مؤشرات عالية بالمقارنة مع أفغانستان، لا بد أن تثير إعجاب تلك الفئات. وفي المقابل فإن التخلف والهمجية التي أغرق فيها النبلاء أفغانستان لا يمكن إلا أن يرعبا أفضل العناصر من بين المثقفين والمهنيين وحتى فئة الضباط. إنهم يرغبون في الخروج من الفقر والجهل والأوساخ التي تعاني منها بلادهم. والرأسماليون في الغرب، مع انتشار البطالة والركود الصناعي، لا يقدمون لهم شيئا. إنهم يرغبون في الخروج من الدائرة المفرغة لحكام القبائل والأنظمة العسكرية المختلفة التي لم تحدث أي تغيير جوهري.
الأزمة العالمية للرأسمالية تضرب المناطق المتخلفة من العالم بشكل أكثر قسوة، وتدفعهم إلى الاستنتاج بأن الرأسمالية لا تقدم أي مخرج.
نظام داود “الجمهوري” – الذي بالمناسبة كان مدعوما ومسنودا من موسكو – لم يغير شيئا. والانتفاضات والانقلابات، التي تؤدي فقط إلى مجرد تغييرات في السلالات الحاكمة من مختلف عشائر طبقة النبلاء خلال السنوات الخمسين الماضية كانت عقيمة تماما. لقد كانت النبالة وعلاقات ملكية الأرض التي كانت تستند إليها هي العقبة الرئيسية أمام التحديث.
في ظل هذه الظروف، إذا استند النظام الجديد على دعم الفلاحين وتحويل المجتمع، سيتم فتح الطريق في أفغانستان أمام بناء نظام مثل ذلك القائم في كوبا وسوريا أو روسيا. وسوف يحمل هذا، للمرة الأولى منذ قرون، المجتمع الأفغاني إلى الأمام نحو العالم الحديث. وإذا تم اكتمال التحول الاشتراكي يمكن أن يشكل ذلك ضربة جديدة للرأسمالية والاقطاعية في بقية بلدان آسيا الرأسمالية – الاقطاعية، وخاصة في منطقة جنوب آسيا. وسوف يكون لها آثار لا تحصى على الباتان والبلوش في باكستان، وسيكون لها تأثير مماثل على الشعوب الموجودة على حدود إيران. إن النظام المتعفن في باكستان سيواجه في السنوات القادمة تفككا كاملا. ويمكن لتجديد العلاقات الاجتماعية في أفغانستان أن يسهم في تسريع تفكك ذلك النظام.
وسوف يتأثر رجال القبائل بالسيرورة التي تجري عند إخوانهم على الجانب الآخر من الحدود. فعلى الحدود الشمالية الغربية لباكستان وبين البلوش هناك تحركات ثورية بالفعل، مع تطلع تلك الشعوب نحو الوحدة مع إخوانهم في أفغانستان. سوف يكون التأثير على شكل دوائر آخذة في الاتساع مع تداعيات يمكن أن ترى نتائجها في إيران وأبعد من ذلك، وأيضا في الهند.
هذا هو الطريق الذي سوف يسير عليه “الحزب الشيوعي”، الذي يتولى السلطة إلى جانب الضباط الراديكاليين. إن المعارضة من طرف القوى الرجعية في أفغانستان، وكما هو الحال في إثيوبيا، سوف تفرض عليهم في جميع الاحتمالات السير في هذا الاتجاه.
إذا ما تماطلوا، ربما تحت تأثير السفير الروسي والنظام الحاكم في روسيا، فإنهم سيمهدون الطريق أمام اندلاع ثورة مضادة شرسة يقوم بها النبلاء والملالي المهددون. وفي حال نجاح الثورة المضادة سوف تعيد إقامة النظام القديم على عظام مئات الآلاف من الفلاحين، ومذابح ضد الضباط الراديكاليين والإبادة التامة تقريبا للنخبة المثقفة. في الوقت الحالي، وإلى حين أن تكون هناك حركة للطبقة الطليعية الوحيدة التي في إمكانها أن تحقق الانتقال في اتجاه الاشتراكية في البلدان المتقدمة صناعيا – فإن التطور الأكثر تقدمية في أفغانستان يبدو هو عملية تثبيت لنظام بونابارتي بروليتاري.
وبينما لن نغلق أعيننا على التناقضات الجديدة التي سيتضمنها هذا، على أساس اقتصاد انتقالي لدولة عمالية، دون ديمقراطية عمالية، سوف ندعم نحن الماركسيون، بطريقة واقعية، ظهور مثل هذه الدولة والمزيد من إضعاف ليس فقط الإمبريالية والرأسمالية، بل أيضا الأنظمة المستندة على بقايا الإقطاع في البلدان الأكثر تخلفا.
تيد غرانت
يوليوز 1978
هوامش:
[1]: فولخينسيا باتيستا هو الدكتاتور الكوبي الذي كان مدعوما من قبل الولايات المتحدة، حكم كوبا في الفترة الممتدة من 1933 حتى الاطاحة به من قبل جيش العصابات التي قادها كاسترو عام 1959.
[2]: في 25 أبريل 1974، قامت حركة من ضباط القوات المسلحة بالإطاحة بديكتاتورية كايتانو في البرتغال، مما فتح أزمة ثورية.
[3]: جاء محمد داود إلى السلطة بعد الإطاحة بالنظام الملكي في عام 1973. وقد أطيح به من قبل المجلس الثوري للقوات المسلحة بتاريخ 27 أبريل 1978 وهو الانقلاب الذي أوصل نظام تراقي إلى السلطة.
عنوان النص بالإنجليزية: