الرئيسية / دول العالم / أمريكا / الولايات المتحدة / الطفولة والأسرة وانحطاط الرأسمالية

الطفولة والأسرة وانحطاط الرأسمالية

أنطونيو بالمر
(النداء الاشتراكي ت.م.أ – الولايات المتحدة الأمريكية)
الأحد: 18 شتنبر 2016

من المفترض أن تكون الطفولة مرحلة بسيطة وسعيدة، ومرحلة تألق حياة الإنسان، وفقا لوجهة النظر البرجوازية التقليدية عن العالم، حيث آفاق المستقبل رحبة. الآباء الذين ينتمون إلى مرحلة ما يسمى “Baby Boomer” ( أي الذين ولدوا بين عامي 1946 و 1965) وبعد أن عاشوا هم أنفسهم مرحلة الازدهار النسبي لفترة ما بعد الحرب، يؤكدون بثقة لأطفالهم أنه يمكنهم أن يصيروا أي شيء يريدونه عندما يكبرون.

Photo: Peter Clark CC BY NC 2.0

لكن هذه الرغبة القوية في تحقيق مستقبل أفضل لأطفالهم تحولت إلى رماد بسبب الأزمة الرأسمالية. نحن نعيش الآن في عصر تراجع طويل الأمد، وللمرة الأولى منذ الكساد العظيم سيكون للجيل الجديد مستوى حياة أقل مما كان لآبائهم.

من بين الأشكال الواضحة التي يتجلى من خلالها المأزق التاريخي للنظام الرأسمالي هناك عدم وجود وظائف جيدة وانخفاض أجور الشباب الذين يدخلون سوق العمل. لكنه يعبر عن نفسه أيضا من خلال التفكك الواسع للعلاقات الإنسانية، بما في ذلك مؤسسة الأسرة النووية[1] البرجوازية، أي تلك الوحدات الاجتماعية المعزولة القائمة على الملكية الخاصة والنظام الأبوي التي يوكل لها المجتمع عبء العمل المنزلي وتربية الأطفال.

هذه المهام الضرورية لإنتاج الجيل الجديد، وبالتالي الحيوية لعموم المجتمع، كانت تنجز بشكل جماعي طيلة مئات الآلاف من السنين قبل ظهور المجتمع الطبقي. في ظل الرأسمالية تحد التوترات الهائلة وقيود روتين حياة الأجراء، أو ما يسميه ماركس “النشاط الحيوي” للعامل، من الوقت والطاقة المتاحين للاعتناء بالأطفال، وهو ما يحد بدوره من الاهتمام والتفاعل اللازم للنمو الجيد للأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة. وهكذا فإنه بالإضافة إلى استخلاصهم لفائض القيمة من عملنا، تحرمنا الرأسمالية من شيء أكثر جوهرية: تحرمنا من الوقت والطاقة والموارد المادية اللازمة للرعاية الكاملة للجيل القادم.

نشرت صحيفة واشنطن بوست مؤخرا قصتين حديثتين عن “مصلحة الإنسان” تتطرقان بالتفصيل لحياة طفل صغير، وتوفر تصورين متقابلين لهذه المسألة. تتطرق القصة الأولى لتنشئة طالب هندسة يبلغ 12 سنة من عمره، جيريمي شولر، أصغر شخص تم قبوله في جامعة كورنيل. عندما كان عمره 18 شهرا، تعلم جيريمي القراءة والكتابة باللغتين الإنجليزية والكورية، وبدأ يدرس أوليات الحساب عندما صار في الرابعة من عمره. عندما بلغ الثامنة، توقف عن الدراسة لمدة سنة للقيام بجولة في أوروبا مع والديه، وفي العاشرة من عمره حصل على درجة ممتازة في امتحان القبول في الجامعة (SAT)، وسجل نتائج أعلى من 99,6 % من الطلاب الذين خضعوا للاختبار في تلك السنة. منذ اليوم الأول لولادته تلقى جيريمي الرعاية المستمرة والاهتمام من أبويه واتبع تكوينه ليصبح مهندسا شابا مسارا واضحا: والدته لديها شهادة دكتوراه في هندسة الطيران، ووالده حصل أيضا على شهادة الهندسة في جامعة كورنيل.

بينما ركز المقال الأخر على طفل، لم يذكر اسمه، في السابعة من العمر، وجدته الشرطة أمام صيدلية في فرانكلين، أوهايو. كان الطفل يتضور جوعا إذ لم يأكل منذ عدة أيام وكان يحاول أن يبيع دميته الدب للحصول على المال لشراء الطعام. كانت الشخصية الرئيسية في هذا المقال هو ضابط الشرطة طيب القلب الذي التقطه واشترى له الطعام، قبل إلقاء القبض على والديه وانتزاع أربعة أطفال آخرين من عهدتهم. وتصف عدة فقرات من المقال كل تفاصيل الفوضى الموجودة في المنزل وكل قطعة قمامة والطعام الفاسد والصراصير والرائحة الكريهة. بعد سبع فقرات من الصور الحية، قام المقال بانعطافة سخيفة من خلال النقل عن رئيس الشرطة الذي أشاد بضباطه لأنهم «يعملون كل يوم على إطعام المشردين، وإطعام الأطفال… إنهم يعاملون الناس مثلما يعاملون أسرهم».

إن التباين في ظروف هاتين العائلتين هو وصف واضح للتناقض العميق للرأسمالية، حيث نجد توفر الإمكانيات الموضوعية الهائلة من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد الظروف اللاإنسانية التي يعاني منها الملايين. وعلى الرغم من وفرة الإمكانيات المادية في المجتمع، ما زال 16,2 مليون طفل يعانون من الجوع في الولايات المتحدة.

يعمل الغالبية العظمى من الآباء بصعوبة أكبر ولمدة أطول من أي وقت مضى، وفي كثير من الأحيان يعملون في وظائف متعددة فقط لتوفير حاجيات أطفالهم. ومع ذلك فإن الملايين منهم غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية. وفي أسفل السلم، يتم تعريف الإهمال المزمن بفشل الراعي عن تلبية الاحتياجات الأساسية للطفل مثل الرعاية والسكن والغذاء، والرعاية الصحية والملبس، وكذلك بعض الاحتياجات المادية والتربوية والعاطفية والأمن. في عام 2012 تم تسجيل 2,7 مليون حالة من مثل هذه الحالات في الولايات المتحدة.

وكما سبق لنا أن شرحنا في وثيقتنا منظورات الولايات المتحدة: «إن زيادة الفقر والبطالة والاقتطاعات في الخدمات الاجتماعية، والسجن الجماعي لأفقر فئات الطبقة العاملة، هي مرتبطة بالأزمة الحالية للرأسمالية. وهي المسؤولة إلى حد كبير عن تفكك مؤسسة الأسرة البرجوازية. ذكر مكتب الإحصاء الأمريكي في عام 2011 أن 40٪ من جميع المواليد الأحياء في الولايات المتحدة كانوا من أمهات عازبات، معرضون للفقر المدقع وارتفاع نسبة الانقطاع عن الدراسة والعنف. أفاد مكتب الإحصائيات لوزارة العدل في عام 2007 أن ما يقرب من 1,5 مليون طفل قاصر آباؤهم في السجن، ونصف هؤلاء الآباء هم المسؤولون الرئيسيون عن الدعم المالي لهؤلاء الأطفال».

في ظل الرأسمالية، تم نقل مسؤلية إنتاج الجيل الجديد إلى كاهل الأسرة الفردية، ووضعت المسؤولية على وجه التحديد على عاتق الأبوين. وعدم قدرة فئات متزايدة من السكان عن تلبية الاحتياجات الأساسية لأسرهم تعزى عادة إلى مسألة أخلاقية وفشل في الأبوة. إنها في الواقع انعكاس حقيقي لإفلاس بنية المجتمع البرجوازي والملكية الخاصة والإنتاج من أجل الربح في السوق، وعدم قدرتها على توفير الدعم للغالبية العظمى من السكان.

لقد شرح ماركس وإنجلز أن شكل الأسرة، ومعها العلاقات الاجتماعية التي يتربى في ظلها الأطفال، قد تغيرت على مر التاريخ، وفقا للتغيرات في بنية المجتمع. وعلى نقيض قرابة النسل الأمومي التي سادت خلال معظم التاريخ البشري، أدى ظهور المجتمع الطبقي والملكية الخاصة إلى تراتبية جديدة في بنية الأسرة. كانت الأسرة الأحادية الزواج ضرورية لإنشاء النسب الأبوي لكي يتمكن أصحاب الأملاك من نقل أملاكهم إلى أبنائهم.

عكست هيمنة الأب – باعتباره الشخصية المسيطرة في المنزل- العلاقات الاجتماعية الجديدة في المجتمع الذي صارت فيه، لأول مرة، طبقة حاكمة تخضع بقية المجتمع من خلال جهاز الدولة المسلح. في ظل الرأسمالية، خدم مطلب الطاعة في الأسرة التقليدية – من خلال تربية الطفل- في الإعداد المبكر للخضوع لأرباب العمل في المصنع.

لتطور الصناعة الحديثة، تحتاج الطبقة الرأسمالية إلى إمدادات وفيرة من العمال المحرومين من الملكية الذين يعتمدون حصريا على الأجرة، لكن القادرين على إعادة إنتاج أنفسهم كطبقة من خلال إنتاج الجيل القادم من العمال. وهكذا استندت الرأسمالية على الأسرة النووية كوحدة أسرية مكتفية ذاتيا على أساس أجرة العامل للقيام بالأعمال المنزلية اللازمة لإنتاج الجيل القادم من الأجراء، وضمان عودة العمال إلى المصنع كل يوم.

طبيعة الحياة في ظل الرأسمالية تمثل قيدا كبيرا على الوظائف الأساسية لتربية الأطفال، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث إجازة الأمومة مدفوعة الأجر نادرة. في مجتمع منظم من أجل جمع أقصى قدر من الأرباح للطبقة الرأسمالية، وتربية الأطفال ورعاية الأطفال والرعاية الصحية والتعليم ليست حقوقا وإنما سلعا معروضة للبيع. ولهذا السبب نناضل من أجل إجازة أمومة مدفوعة الأجر بالكامل للنساء الحوامل بعد الثلث الأول من الحمل وإجازة أبوة بأجر كامل لمدة تصل إلى سنتين بعد الولادة أو التبني.

خلافا للوحدات المعزولة (والمتنافرة) من الأسر النووية البرجوازية – والتي تعتبر كل أسرة منفصلة عن بعضها البعض، مع مصالح خاصة منفصلة، والتي تناط للآباء والأمهات مسؤولية توفير وحماية المصالح الحصرية الخاصة بوحدة عائلتها- تمثل الاشتراكية العودة إلى العلاقات الإنسانية الجماعية الأكثر طبيعية، لكن على مستوى أعلى بما لا يقاس. سوف يكون هناك وعي اجتماعي بأن لكل شخص بالغ المصلحة في تطور كل طفل.

سوف يضمن الانتشار غير المسبوق لمرافق رعاية الأطفال ذات جودة وبرامج ما بعد الانتهاء من المدرسة بيئة لتغذية وتربية وتعلم الأطفال وتحفيزهم فكريا، وسيتم توفير جميع الموارد اللازمة للتنمية القصوى. مثل هذه البرامج، بالإضافة إلى خدمة المصابن العامة والمطاعم المدعومة التي تقدم غذاء صحيا ذو جودة ستساعد النساء العاملات على تحرير أنفسهن من العبودية المنزلية، في حين سيتم نقل مسؤوليات رعاية وتنشئة الجيل القادم إلى المجتمع ككل. إن التعلم مدى الحياة والرعاية الصحية الشاملة وتقليص أسبوع العمل إلى حد كبير ستضع الأساس لهذا النوع من الحياة التي هي اليوم مخصصة لأقلية صغيرة من السكان.

في مجتمع قائم على التخطيط الديمقراطي لتلبية الاحتياجات البشرية، سيختفي التخلي عن الأطفال. لن يكون من الغريب السماع بوجود أطفال عباقرة، أو بطفل في 12 من عمره تم قبوله في مؤسسة للتعليم العالي، والتي، على عكس جامعات آيفي ليج[2] اليوم، ستكون عمومية وسيتم نشرها على نطاق واسع، ومتاحة للجميع مجانا.

تبين قصة جيريمي شولر الإمكانيات البيولوجية الهائلة عندما يتم رعاية الأطفال منذ البداية، وتمكينهم من بيئة حيث يمكنهم تحقيق إمكاناتهم الكاملة. بعد التحرر من قيود المجتمع الطبقي، سيستوعب ملايين الأطفال المعرفة بمعدل مذهل، وستفتح أمام الإمكانات البشرية آفاق لا يمكن تصورها الآن.

هوامش:

[1] الأسرة النووية هي الأسرة البرجوازية النموذجية، التي تتكون من الأبوين والأبناء (في الغالب اثنين)، عكس الأسرة الممتدة. (المترجم)

[2]جامعات آيفي ليج هي جمعية و مؤتمر الرياضة للرابطة الوطنية للرياضة لثماني جامعات خاصة في شمال شرق الولايات المتحدة: جامعة براون (رود ايلاند)، جامعة كولومبيا (نيويورك)، جامعة كورنيل (نيويورك)، كلية دارتموث (نيو هامبشير)، جامعة هارفارد (ماساتشوستس)، جامعة ولاية بنسلفانيا (بنسلفانيا)، جامعة برينستون (نيو جيرسي) وجامعة ييل (كونيتيكت). ولكن اسم ” آيفي ليج” لا يقتصر على الجانب الرياضي، ولكن يجمع بين الفلسفة التربوية والامتياز الأكاديمي للثماني جامعات التي يتكون منها، و المعروفة بـ “الثمانية القديمة”. وعلاوة على ذلك، اسمها يأتي من اللبلاب (الإنجليزية آيفي)، وهو نبات متسلق و يغطي جدران هذه الجامعات، ذات النمط البريطاني التي تقع في المنطقة الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة وتحيط بها دلالات النخبوية والتميز الأكاديمي. المترجم.

عنوان النص بالإنجليزية:

Childhood, Family, and the Decline of Capitalism