لقد تأكدت صحة هذا المقال الذي نشر في يونيو 2023 من جميع النواحي. فمنذ كتابته، حطمت الديون العالمية أرقامًا قياسية جديدة، واستمرت الاقتصادات الأمريكية والصينية في التباطؤ، ودُمرت الصناعة الأوروبية.
لقد نجح الرأسماليون إلى حد ما في كبح جماح معدلات التضخم. ولكن كما يتنبأ هذا المقال، فإن الأداة القاسية المتمثلة في رفع أسعار الفائدة قد دفعت الاقتصاد إلى الاقتراب من الركود، بالرغم من التوقعات بـ”الهبوط الناعم”. ففي الولايات المتحدة، لم يفلح القرار الأخير بخفض أسعار الفائدة إلا في فتح باب جديد للمضاربة إلى جانب إمكانية ارتفاع التضخم مرة أخرى.
تشير كل الدلائل إلى توجه الرأسمالية نحو الركود. ولا نستطيع أن نقول على وجه التحديد ما هي طبيعة نقطة التحول التي سوف تبلغها، ولكن من المؤكد أنها سوف تبلغ نقطة تحول. ومن أجل الاستعداد لذلك، نوصي جميع الشيوعيين بقراءة المقال التالي.
تُظهر آخر الأخبار أن الاقتصاد يتجه مرة أخرى نحو الأسوأ. فمنطقة اليورو في حالة ركود، والصين تتباطأ بشكل حاد، والولايات المتحدة تتأرجح على حافة الهاوية. هناك أزمة اقتصادية أخرى في الطريق.
يسأل ملايين العمال أنفسهم: لماذا تبدو الرأسمالية في أزمة دائمة؟
لقد مضى الآن 16 عامًا منذ بداية انهيار 2007-2008، وقد أعقبت الأزمة أزمة أخرى خلال هذه الفترة بكاملها. حتى إن المعلقين والاقتصاديين صاغوا مصطلحًا جديدًا: الأزمة الدائمة “permacrisis”، في سبيل محاولة وصف حالة عدم اليقين المستمرة التي يجد العالم نفسه فيها.
إن هذه مجرد طريقة أخرى من أجل صياغة ما وصفه تروتسكي، قبل 90 عامًا، بأنه أزمة عضوية للرأسمالية: أي حالة أزمة مطولة لا تستطع فيها الرأسمالية أن تجد توازنًا جديدًا.
ومن أجل فهم كيف وصلنا إلى هنا، يجدر بنا أن نتفحص السنوات العدة الماضية، وما الذي مهد الطريق إلى الأزمة التي نجد أنفسنا فيها اليوم. فبالنظر إلى تلك الفترة يمكننا أن نرى كيف أن جميع الإجراءات التي اتخذتها الحكومات والبنوك المركزية من أجل الخروج من الأزمات السابقة مهدت الطريق لصعوبات جديدة وأعمق.
أزمة الرهن العقاري
لقد بدأت ما يسمى بأزمة الرهن العقاري في أبريل عام 2007، عندما تقدمت شركة “New Century Financial”، أكبر مقرض عقاري في الولايات المتحدة، بطلب للإفلاس، مع هبوط سوق الإسكان إلى القاع.
وقد كانت الرهون العقارية غير المضمونة وشبيهاتها اختراعًا رائعًا للمضاربين الماليين. فقد أقرضوا 1.3 تريليون دولار لزبائن “غير مضمونين”، أي الأشخاص الذين لا يقدرون على الدفع. وقد استمر هذا في النجاح بشكل معقول، ما دامت أسعار المساكن آخذة في الارتفاع باستمرار، لأن البنوك تستطيع دائمًا استرداد الأموال المستحقة لها من بيع المنازل عن طريق عمليات الرهن العقاري. غير أنه عندما بدأت أسعار المساكن في الانخفاض في أوائل عام 2007، انحسرت هذه الأسعار بسرعة شديدة لأن البنوك لم تعد قادرة على استرداد الأموال المستحقة لها.
لجعل الأمور أسوأ، وبعبقرية فذة، فقد ربطوا هذه الرهونات بالرهونات العادية وبيعها في شكل ما يسمى بالتزامات الديون المضمونة (CDOs). وكان القصد من ذلك هو نشر المخاطر، ومن ثم الحد من سقوط المؤسسات المحددة التي تقوم بالإقراض. في الواقع هم فقط يوزعون خسائرهم في جميع أنحاء القطاع المصرفي بطريقة غير منضبطة وغير واضحة.
وعندما جاء عام 2007 لم يكن أحد يعرف حقًا من كان يتحمل أي دَين. لم يعرف أحد من الذي تعرض لهذه الرهون العقارية عالية المخاطر. فجأة، لم يثق أحد في أي بنك، ولم يثق أي بنك في أي بنك آخر. تجمد القطاع المصرفي برمته حيث بدأت المؤسسات في الانهيار واحدة تلو الأخرى. وأصبح هذا التجمد يعرف باسم “أزمة الائتمان”، حيث توقفت البنوك عن إقراض بعضها البعض، كما توقفت عن إقراض الشركات والعمال.
في نهاية المطاف، فقط مئات المليارات من الدولارات من طرف الدولة هي التي استطاعت أن تنقذ البنوك. كان القطاع المصرفي بكامله مضمونًا من جانب الدولة، وتم إنقاذ كل البنوك المتعثرة، باستثناء واحد أو اثنين. وقد وصل إجمالي المبلغ الذي أقرضته الدولة إلى البنوك إلى عشرات التريليونات من الدولارات، بالرغم من سداد مبلغ هائل من تلك المساعدات مع استقرار الأسواق، تبقى “مجرد” 500 مليار دولار حتى الآن.
في ذلك الوقت، أبدى رئيس الاحتياطي الفيدرالي بن بارنانكي قلقه في جلسات خاصة بشأن “رد الفعل الشعبوي” إزاء سياسة الإنقاذ الضخمة تلك. ورغم إن هذا لم يحدث على الفور لكنه حدث فعلًا، سواء في هيئة حركة حزب الشاي الرجعية، أو حركة احتلوا وول ستريت المناهضة للرأسمالية.
وبالرغم من خطة الإنقاذ تلك، فقد أدت أزمة الائتمان إلى انخفاض حاد في الناتج المحلي الإجمالي العالمي. على سبيل المثال: انخفض الاقتصاد الأمريكي بما يزيد قليلًا عن 4% في سنة واحدة، وانخفض الاقتصاد الألماني بنحو 6%، والاقتصاد العالمي ككل بما يزيد قليلًا عن 1%.
كان هذا أول ركود عالمي منذ ثلاثينيات القرن الماضي. لقد كان بمثابة صدمة، ليس فقط للمعلقين الاقتصاديين الذين اعتقدوا أنهم قضوا دورة الازدهار والكساد، ولكن أيضًا للعمال الذين شهد العديد منهم أول أزمة خطيرة لهم في حياتهم.
كانت هذه أول أزمة اقتصادية خطيرة منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت بالفعل في تلك المرحلة الأسوأ منذ الثلاثينيات القرن العشرين. لقد أحدثت تحولًا كاملًا في الوضع السياسي والاقتصادي في العالم. ولا توجد أي علامة على أي تعافٍ حقيقي حتى يومنا هذا. بل على العكس تمامًا: يبدو أن الأمور تزداد سوءً.
جذور الأزمة
إن النظام الرأسمالي غير مخطط بشكل عقلاني. إنه نظام فوضوي يخضع البشر في ظله بالكامل لأهواء السوق. الأمر مختلف تمامًا عن المجتمعات الإقطاعية، على سبيل المثال، حيث كانت تتخذ الكوارث شكل الأمراض وسوء الأحوال الجوية والحروب.
لقد شرح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي الأزمات الرأسمالية على النحو التالي:
“ويكفي أن نذكر الأزمات التجارية التي بعودتها الدورية تعرض وجود المجتمع البرجوازي بأسره للمحاكمة، وفي كل مرة كانت أكثر تهديدًا. ففي هذه الأزمات لا يتم تدمير جزء كبير من المنتجات الموجودة فقط بشكل دوري، ولكن أيضًا يتم تدمير جزء من قوى الإنتاج التي تم إنشاؤها سابقًا. وفي هذه الأزمات يندلع وباء كان سيبدو في جميع العصور السابقة عبثًا – وباء الإفراط في الإنتاج. إن المجتمع يجد نفسه فجأة في حالة من الهمجية المؤقتة. يبدو كما لو إن مجاعة أو حرب دمار شاملة قد قطعت إمداد كل وسائل العيش. يبدو كما لو إن الصناعة والتجارة قد دمروا. ولماذا؟ لأن هناك الكثير من الحضارة، والكثير من وسائل العيش، والكثير من الصناعة، والكثير من التجارة.”
إن هذه سمة ملفتة للنظر في الرأسمالية: الدخول في أزمة لأن هناك الكثير من الإنتاج، والكثير من التجارة، والكثير من الصناعة، وما إلى ذلك. وتتكرر أزمة فائض الإنتاج باستمرار في ظل الرأسمالية. وبالرغم من كل تمنيات البرجوازية والمدافعين عنها في اليسار فلا مفر منها في ظل هذا النظام. كما يقول ماركس وإنجلز:
“إن المجتمع البرجوازي الحديث، بعلاقاته في الإنتاج والتبادل والملكية، وهو المجتمع الذي ابتدع مثل هذه الوسائل الضخمة للإنتاج والتبادل، مثل الساحر الذي لم يعد قادرًا على السيطرة على قوى العالم السفلي الذي استدعاها بواسطة تعويذته.”
هذه هي طبيعة الرأسمالية. إنه مجتمع تنشأ فيه قوى إنتاجية رائعة، لكن لا أحد قادر على السيطرة عليها. إن القوة الوحيدة القادرة على السيطرة على هذه القوى هي الطبقة العاملة بخطة عقلانية. لكن طالما بقيت وسائل الإنتاج في أيدي الرأسماليين فلن يتحقق هذا أبدًا.
بدلًا من ذلك، لدينا نظام اقتصادي تحاول فيه البرجوازية السيطرة على الأسواق وتنظيمها. إنهم يتخذون إجراءات لحل المشاكل، وهذه الإجراءات بدورها تؤدي إلى مشاكل أكبر بكثير. كان هذا هو المسار منذ سبعينيات القرن الماضي.
لقد تم التحضير لأزمة 2007-2009 بالطرق التي استخدمها الرأسماليون للخروج من أزمة سبعينيات القرن الماضي. فطوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانوا يهاجمون باستمرار ظروف العمل، بما في ذلك تقويض الأجور وتسريع وتيرة العمل. لقد تعرضت دولة الرفاه للهجوم. وكل هذا من أجل زيادة الأرباح على حساب الطبقة العاملة.
بينما في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت الحصة من الناتج المحلي الإجمالي التي تخصص للعمال في شكل أجور أو إنفاق اجتماعي (الإنفاق على الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية والتعليم…إلخ) آخذة في الارتفاع، إلا أنها بدأت في الانخفاض منذ حينها. لذلك، ففي حين كانت إنتاجية العمال في ازدياد، بسبب الاستثمارات الجديدة في الآلات والضغط المتزايد في العمل، فإن الأموال التي حصل عليها العمال ظلت راكدة.
هذا هو جوهر أزمة فائض الإنتاج. لم يتمكن العمال من إعادة شراء المنتجات التي ينتجونها.
ومع ذلك، فإن هناك طرق ووسائل للتغلب على هذه المشكلة، على الأقل لبعض الوقت. يمكن للرأسماليين استثمار أرباحهم، ولكن هذا لن يؤدي إلا إلى إنتاج المزيد من المنتجات وزيادة الإنتاجية بشكل أكبر، وبذلك تفاقم أزمة فائض الإنتاج لاحقًا.
إن الطريقة الأخرى للتحايل على المشكلة هي إقراض العمال، أي زيادة القدرة الشرائية بشكل مصطنع. ما لم يستطع العمال الحصول عليه بأجورهم يمكنهم الآن اقتراضه. لقد خفضت البنوك المركزية على مدى حقبة تاريخية كاملة أسعار الفائدة من أجل جعل الاقتراض أرخص. من ارتفاع 19% في عام 1981، وصل معدل الفائدة لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أدنى مستوى له في 30 عامًا إلى معدل 3% في عام 1993، وانخفض مجددًا إلى معدل 1% في عام 2003.
ولقد أدت الحكومات مهمتها بتحرير أسواق الائتمان. فقد طُلِب من البنوك أن يكون لديها قدر أقل من المال في متناول يدها لكل قرض تمنحه (أي أنها أصبحت أكثر “استغلالًا”، 1988-2004)، كما أزيلت القيود المفروضة على توسع البنوك في مجال الخدمات المصرفية الاستثمارية والتأمينية (في التسعينيات)، وأزيلت اللوائح التي تحظر الفوائد غير المعقولة (في السبعينيات)، والأمر الحاسم في كيفية تطور الأمور في عام 2007 هو أن لوائح عام 1982 أزالت القيود المفروضة على أنواع مختلفة من الرهن العقاري، ومن ثم تمكين سوق الرهن العقاري الثانوي. ويمكن الاطلاع على تفاصيل هذا في تقرير “A Short History of Financial Deregulation in the United States” الصادر عن مركز البحوث الاقتصادية والسياسية.
لقد ارتفعت ديون الأسر نسبة مئوية من الدخل المتاح في الولايات المتحدة من 65% في عام 1983 إلى 90% في عام 2000، ثم إلى 130% بحلول عام 2007. وكان هذا غير مستدام على الإطلاق، بشكل خاص مع أسعار الفائدة 5% التي وصلتها بحلول عام 2007. كما بلغت مدفوعات خدمة ديون الأسر 13% من الدخل المتاح. وقد انكشف كل ذلك في الانهيار المالي. وكان رفع أسعار الفائدة في الفترة 2004-2006 (من 1 إلى 5.25%) من أجل احتواء التضخم سببًا في جعل الدين الجديد المتراكم غير مستدام.
لم يقتصر هذا الوضع على الولايات المتحدة بل كان ظاهرة عالمية. وقد روج للأسواق ذاتية التنظيم والائتمان باعتبارهما الطريق إلى الأمام في جميع أنحاء العالم. نتيجة لذلك، فقد ارتفع إجمالي الدين العالمي (المستحق على الأسر والشركات والحكومات) نسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 110% في عام 1970 إلى 195% في عام 2007، أي ما يقرب من الضعف، وبحلول عام 2021 ارتفع إلى 247%.
كل هذا الدين يظهر تناقضًا جوهريًا في النظام الرأسمالي، وهو أن العمال لا يستطيعون شراء جميع المنتجات التي ينتجونها. لذلك، يجب إقراضهم المال لكي يستمروا في الاستهلاك. لكن القروض، على عكس الأجور، يجب سدادها، وبفوائد. لذلك، ينتهي بك الأمر حتمًا في وضع تلتهم فيه القوة الاستهلاكية للطبقة العاملة، ليس فقط نتيجة للأرباح التي تذهب إلى أرباب الأعمال، ولكن أيضًا بسبب دفع الفوائد، وسداد جميع الديون المتراكمة بالفعل.
من حيث الجوهر، لا يحل تراكم الديون مشكلة فائض الإنتاج، بل يؤجل المشكلة فحسب – وفي أثناء ذلك يجعلها أكبر بكثير، كما ظهر مرارًا وتكرارًا.
جبال ديون الدولة
لقد كان الحل الذي توصلت إليه البرجوازية في 2008-2009 ذو شقين. أولًا، أغرقوا البنوك بأموال الحكومات والبنوك المركزية. ثانيًا، فتحوا قيود ميزانيات الحكومة.
لقد أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 800 مليار دولار، وهو أمر غير مسبوق حتى ذلك الوقت. وقد خصص الاتحاد الأوروبي 200 مليار يورو، واليابان 153 مليار دولار، وهلم جرا. ومع ذلك، فإن هذا لم ينعكس على زيادة الإنفاق على إعانات البطالة، بجانب الإعانات الأخرى للفقراء. لقد كان التأثير المشترك هو العجز الحكومي الهائل، الذي ارتفع في العديد من الاقتصادات الكبرى إلى أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد كانت الصين مثالًا توضيحيًا بشكل خاص. فقد بلغت قيمة التحفيز الحكومي الصيني 586 مليار دولار، ولكن في اقتصاد أصغر بكثير من اقتصاد الولايات المتحدة. وللحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد الصيني، أنفقت الحكومة المركزية والحكومات المحلية مبالغ ضخمة من المال. لقد أدى ذلك إلى انفجار ديون الدولة، حتى مع استمرار نمو الاقتصاد بمعدل سريع. ففي السنوات الـ11 التي أعقبت عام 2008، زاد الدين الوطني بأكثر من الضعف مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي من 27.2% في عام 2008 إلى 57.2% في عام 2019.
عمومًا، ارتفع الدين العام في جميع أنحاء العالم من 61.2% في عام 2007 إلى 76.9% في عام 2010 (IMF Global Debt Monitor، 2022).
لقد وصلت هذه السياسة إلى حدودها بسرعة. ففي ربيع عام 2010، تم تخفيض تصنيف السندات الحكومية اليونانية إلى “غير مرغوب فيها”، واضطرت الحكومة إلى اللجوء للترويكا (المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) لطلب الإنقاذ. وقد أدت إجراءات التقشف الصارمة التي طالبت بها الترويكا إلى تدمير الاقتصاد اليوناني والطبقة العاملة، كما أدت إلى موجات من الحركات الجماهيرية.
كان هذا إيذانًا ببداية منعطف جديد، حيث شددت الحكومات في جميع أنحاء أوروبا على وجه الخصوص قيودها المالية لدرء التخلف عن السداد على نطاق واسع.
لكن الاقتصاد لم يتعافى بأي حال من الأحوال، وكان على البنوك المركزية محاولة منع جبل الديون من الانهيار: أولًا عن طريق خفض أسعار الفائدة إلى الصفر. وبعد ذلك، بمجرد عدم إمكانية خفض سعر الفائدة أكثر من هذا، عن طريق ضخ مبالغ ضخمة من المال في أسواق السندات.
أُطلق على هذه السياسة اسم “التيسير الكمي”، وكان هدفها هو خفض تكاليف الاقتراض للمستهلكين والشركات، والأهم من هذا للحكومات – بالرغم من أن الطبقة السائدة لن تعترف بهذا علنًا. ما زالوا يرغبون في الحفاظ على الوهم القائل بأن السياسة المالية والنقدية كانت مستقلة، وأن البنك المركزي لا يتحمل العجز الهائل المستمر، لا سيما في الولايات المتحدة.
ثم، بالطبع، في عام 2020 جاء كوفيد-19. كانت هذه صدمة كبيرة للنظام. فنفس التدابير التي تم تبنيها في 2009-2012 عادت الآن، ولكن بشكل أكثر تسميمًا. لم يعد يكفي 0.8 تريليون دولار. الآن برنامج التحفيز الأمريكي يبلغ 5 تريليون دولار!
واقترح الاتحاد الأوروبي، الذي كان مترددًا في السابق في إنفاق مبالغ ضخمة، برنامجًا بقيمة 750 مليار يورو. إضافة إلى ذلك، يمول البنك المركزي الأوروبي الآن نصف ديون حكومات الاتحاد الأوروبي، ولا سيما ديون إيطاليا وفرنسا.
لقد خلقت البنوك المركزية المزيد من الأموال لإقراض أي شخص يرغب في الاستدانة، وسرعان ما تم تخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر.
وهكذا، تم الحفاظ على الاقتصاد الرأسمالي واقفًا على قدميه بواسطة الإنفاق الحكومي الهائل، وباستخدام الائتمان المقدم من البنك المركزي. كان هذا يعني فعليًا، كما هو الحال في كثير من الأحيان في الماضي، أن البنك المركزي كان يطبع الأموال لتمويل الإنفاق الحكومي. وفي حالة الولايات المتحدة، فقد وضعت آلاف الدولارات في الحسابات البنكية للعمال. ومثل مرات عدة في الماضي، مهد هذا الطريق للتضخم.
لقد أدت أسعار الفائدة المنخفضة للغاية وأسواق الائتمان المليئة بالقروض الرخيصة من البنوك المركزية إلى جعل الاقتراض رخيصًا للغاية. ولكن الآن اضطرت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بشكل كبير لمنع التضخم من الخروج عن نطاق السيطرة. وهذا يضع مسألة الديون والعجز الحكومي في مرحلة جديدة تمامًا.
إن اليابان تدفع 8% من ميزانيتها من أجل سداد فوائد ديونها البالغة 263% من إجمالي الناتج المحلي، وهذا بدون مستوى ارتفاع أسعار الفائدة الذي شهدناه في أماكن أخرى. كل زيادة بنقطة مئوية ستكلف اليابان 27 مليار دولار بحلول عام 2026 (وبمرور الوقت، بالطبع، سيتراكم هذا المبلغ).
ويبلغ إجمالي الدين العام للصين أكثر من 120% من الناتج المحلي الإجمالي، وسوف يرتفع إلى ما يقرب من 150% في السنوات الأربع المقبلة. وهذا يضعها في نفس مستوى فرنسا (118%) وإيطاليا (145%). ولولا المدخرات المحلية الهائلة التي تمتلكها الصين لكان قد أدى هذا بالفعل إلى أزمة.
وقد بلغ إجمالي الديون في الصين (بما في ذلك ديون الأسر والشركات، وكذلك الدين الحكومي) 295%، مقارنة بـ257% في الولايات المتحدة. ويعكس هذا المستوى المتزايد باستمرار من الديون الموقف غير القابل للاستدامة الذي يعيشه الاقتصاد الصيني.
والآن ينظر خبراء الاقتصاد إلى معدلات النمو في الصين التي تتراوح بين 2% و3%، وليس 6% أو 7% أو 8% التي اعتاد عليها الجميع (بما في ذلك العمال الصينيون). وتضاف إلى الصعوبات التي تواجهها الصين سياسات الحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة وأوروبا ضدها، فضلًا عن المشاكل المرتبطة بشيخوخة السكان.
في الواقع، فإن شيخوخة السكان ليست مجرد مشكلة في الصين. إن هذه مشكلة متزايدة في الغرب، وكذلك في اليابان. إن العمل الزائد والأجور المنخفضة وتكاليف رعاية الأطفال المتزايدة تجبر الملايين من العمال الشباب على تأجيل تكوين أسرة، بينما تحاول الطبقة الرأسمالية الخروج من هذه الأزمة عن طريق الضغط على السكان في سن العمل أكثر.
يمكن حل هذه المسألة بسهولة تامة في ظل الاقتصاد المخطط، ولكن في ظل الرأسمالية في عصر الاضمحلال فإنه يقدم للبرجوازية إحساسًا بيوم القيامة الذي يلوح في الأفق.
وبحلول نهاية هذا العقد، من المتوقع أن ترتفع فاتورة الرعاية الصحية والمعاشات السنوية في البلدان الرأسمالية المتقدمة بما يعادل 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لمجلة الإيكونوميست. ولا شك أن هذا هو السبب وراء إصرار ماكرون على إصلاحات المعاشات التقاعدية، على سبيل المثال. فالرأسمالية ببساطة لم تعد قادرة على تحمل هذه الإصلاحات.
وقد نشرت مجلة الإيكونوميست مقالًا في وقت سابق من هذا الشهر بعنوان: “الحكومات تعيش في أرض خيالية مالية“، حيث وصفت فيها مدى عجز الميزانية الحالية غير المستدام. لكن لا يبدو أن أي حكومة مستعدة للتعامل معه. وخلصت إلى الاستنتاج:
“إن ترك الخيال المالي سيكون مؤلمًا، وستكون هناك بلا شك نية لتأجيل عملية سداد الديون إلى يوم آخر. لكن من الأفضل كثيرًا الخروج بحذر الآن من انتظار سقوط الوهم.”
إن المشكلة أكثر حدة خارج البلدان الرأسمالية المتقدمة، كما تناولنا هذا في مقالات أخرى. ولكن على وجه التحديد لأن هذه هي البلدان المتقدمة والإمبريالية، فإن ما يحدث هناك سيكون له تأثير كبير على العالم برمته.
إن أكبر اقتصاد في العالم، وهو اقتصاد الولايات المتحدة، يعاني أيضًا من أسوأ عجز ميزانية. إن المواجهة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول سقف الديون هي بالطبع فصل من الدراما السياسية التي تم التدرب عليها جيدًا، ولكن في كل مرة تتجدد فيها فإنها تظهر على نحو أكثر جدية. وتكمن وراء هذه الدراما مشكلة خطيرة حقًا، ولا يوجد لها حل بسيط.
من المتوقع أن يبلغ متوسط العجز الحكومي في الولايات المتحدة 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد المقبل. لكن إذا أبقوا على تخفيضات ترامب الضريبية (التي من المقرر أن تنتهي صلاحيتها)، وأبقوا على الإعانات الصناعية لبايدن، فسوف يصل العجز إلى 8%.
وإضافة إلى كل هذه المصاعب، يمول الضمان الاجتماعي حاليًا بواسطة صناديق الائتمان، ولكن من المتوقع أن تعجز هذه الصناديق عن سداد ديونها بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين. ونتيجة للديون الضخمة، فقد بلغت تكاليف الفوائد الآن 396 مليار دولار، وسوف ترتفع هذه التكاليف مع انتهاء صلاحية السندات الحكومية القديمة:
“بعد كل شيء، وكما يشير شوارتز [رئيس شركاء جوجنهايم]، فإن السبب الرئيسي وراء قدرة الحكومة الأميركية على تجاهل عبء الديون المتزايد في العقد الماضي هو أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية تعني إننا ‘تمكنا من تحمل نفقات أسعار الفائدة الثابتة لمدة 17 عامًا بينما ضاعفنا عجزنا ثلاث مرات. لقد انتهى هذا الآن’.”
في السنة المالية الماضية، كان متوسط المعدل الذي دفعته الحكومة الفيدرالية 2.1%، وظل عند هذا المستوى منذ عام 2011. واليوم، تباع سندات الخزانة بمعدل يتراوح بين 3.43% و5.18%، وهذا يعني أن أي عملية إعادة تمويل سوف يتعين أن تتم بمعدل أعلى كثيرًا.
ولم تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على هذا المستوى من الديون والعجز إلا لأنها الدولة الإمبريالية الأكثر قوة على هذا الكوكب. والواقع أن وضع الدولار باعتباره عملة احتياطية عالمية بحكم الأمر الواقع، وباعتباره العملة الرئيسية لتسوية الديون والتجارة الدولية، يمنح الولايات المتحدة القدرة على استخدام بنك الاحتياطي الفيدرالي لفرض الضرائب على العالم بفعالية. ولكن حتى هذا له حدوده، ومن بين هذه الحدود الانتشار المتزايد لاستخدام العملات البديلة مثل اليوان.
يجري التحضير لأزمة ضخمة، ولا يتم فعل الكثير لمنعها:
“يعتقد كيث هول، الذي كان مسؤولًا في أواخر عهد أوباما وحتى عهد ترامب، أن الأمر سيتطلب أزمة مالية لإجبارنا على التحرك. ‘ولكننا نتطلع الآن إلى تخفيضات قاسية للغاية من شأنها أن تؤدي بنا إلى ركود اقتصادي شديد، وذلك ببساطة لأنهم انتظروا لفترة طويلة للغاية’. ‘إن صناع القرار في الكونغرس والرئيس لا يأخذون الأمر على محمل الجد’.”
وبما أن قسمًا كبيرًا من الاقتصاد منذ أزمة 2008 ظل طافيًا بفضل الإنفاق الحكومي، فإن محاولة خفض العجز تهدد بدفع الاقتصاد إلى الركود. وبطبيعة الحال، إذا حاولت الحكومات الاستمرار في تأجيل اليوم الشرير، فإن الحساب، عندما يأتي، سوف يكون أسوأ كثيرًا.
دور البنك المركزي
لقد لعب البنك المركزي دورًا رئيسيًا في الاقتصاد الرأسمالي، لكنه أصبح أكثر حسمًا اليوم. تنتظر الأسواق العالمية كلمات الاحتياطي الفيدرالي، في محاولة لتحديد ما إذا كانت الأسعار سترتفع بمقدار 0 أو 0.25 أو 0.5 نقطة في مرحلة معينة في المستقبل. إن الاقتصاد، وملايين الوظائف بالتبعية، في أيدي عدد قليل من الاقتصاديين الذين يتوقف على كلمتهم مستقبل البشرية.
لقد كانت الحكمة المتصورة لفترة طويلة جدًا هي أن البنك المركزي يجب ألا يطبع النقود أبدًا بما يتجاوز حدود الإمكانات الإنتاجية للاقتصاد. إذا حاول البنك المركزي إنعاش الاقتصاد أو تمويل العجز الحكومي بطباعة النقود فإنه سيدفع الاقتصاد حتمًا إلى التضخم، أو حتى التضخم المفرط. تم تقنين هذا حتى في معاهدتي ماستريخت ولشبونة التي تحكم البنك المركزي الأوروبي، والتي منعت صراحة البنك المركزي الأوروبي من شراء سندات حكومات الدول الأعضاء “مباشرة”.
فمن وجهة نظر الطبقة الرأسمالية الألمانية يعد هذا بمثابة بوليصة تأمين ضد تكرار التضخم المفرط، وما تبعه من الحركات الثورية التي حدثت في ظل جمهورية فايمار.
في وقت من الأوقات، كان جميع الاقتصاديين مصرين على أن البنوك يجب أن تكون مستقلة، ويجب ألا تتدخل الحكومات في أعمالها، ناهينا عن تأميمها. لكن هذه الحكمة المتصورة تم إلقائها من النافذة. وحيثما وُضعت حواجز قانونية يتم التحايل عليها الآن.
بدأت البنوك المركزية بتخفيض أسعار الفائدة إلى الصفر عمليًا. حتى إن البعض جرب تحديد أسعار فائدة سلبية. ثم بدؤوا في دعم أسواق السندات، وشراء سندات الشركات لتقليل تكلفة الاقتراض على البنوك والشركات. تم شراء هذه السندات بأموال رقمية مطبوعة حديثًا.
في الأساس، إن التيسير الكمي يعني أن البنوك المركزية تخلق أموالًا جديدة، أي طباعة النقود، واستخدام هذه الأموال الجديدة في شراء السندات. هذا يضمن وجود تدفق مستمر للأموال إلى أسواق السندات، حيث تذهب الشركات والحكومات لاقتراض الأموال (عن طريق بيع السندات، وهو فعليًا سند ضمان مالي “IOU”). وهذا يعني إن البنوك المركزية تضمن أن تتمكن الشركات دائمًا من الحصول على ائتمان رخيص، لأن البنك المركزي كان يتحقق من توفيره، إذا لم يتقدم الآخرون بسعر منخفض بما فيه الكفاية.
ومع ذلك، حاولوا تجنب شراء السندات الحكومية. وقد سقط هذا الحاجز بحلول 2010-2012، وبدؤوا في شراء السندات الحكومية لضمان استمرار قدرة الحكومات على مواجهة العجز، وعدم الاضطرار إلى اللجوء إلى تدابير تقشف أكثر صرامة. بالطبع لم يشتروها “مباشرة” ولكن من الأسواق الثانوية، مما يعني أنهم ربما اتبعوا نص معاهدة لشبونة، لكنهم بالتأكيد لم يتبعوا روحها.
حتى هذا لم يكن كافيًا، حيث لم تستجب مستويات الاقتصاد والتضخم كما يتمنون، خاصة في أوروبا. ولذا بدؤوا في مناقشة إمكانية ما يسمى بـ”الرمي من طائرات الهليكوبتر”، مما يعني وضع الأموال مباشرة في الحسابات المصرفية للأفراد.
مؤخرًا أصدر صندوق النقد الدولي كشف حساب عن الفترة بداية من عام 2010، وتطرق إلى الائتمان الرخيص الناتج عنها. وتوصلوا في ورقة العمل إلى الاستنتاج التالي:
“إن استخدام سياسة نقدية مفرطة التيسير لفترات طويلة يساعد على بقاء شركات الزومبي، ويؤثر سلبًا على الشركات الأخرى السليمة بسبب سوء تخصيص الموارد وتقليص الحصص السوقية، مما يضر بالنمو الاقتصادي. وتشير هذه النتائج إلى ثمن المفاضلة بين إجراء سياسة نقدية من أجل مواجهة التقلبات الدورية من ناحية واستخدام سياسة نقدية توسعية لفترات طويلة من جهة أخرى، مما قد يؤدي إلى مزيج من أسعار الفائدة المنخفضة والنمو المنخفض وزيادة تأثير المخاطر المالية.”
وهذا يعني إن الطريقة التي أعادوا بها نفخ الفقاعة أخفقت في حل أي من التناقضات التي كانت تتراكم، بل وعوضًا أضعفت الاقتصاد العالمي للغاية.
وقد كانت هناك محاولات خلال الفترة من عام 2013 إلى عام 2014 لوقف شراء السندات، ولكنها توقفت بسبب ذعر الأسواق. وفقط بحلول أكتوبر عام 2014 تمكن الاحتياطي الفيدرالي من وقف سياسة شراء السندات. في هذا الوقت نما كشف الحساب من 900 مليار دولار إلى 4.5 تريليون دولار. وأصبح حوالي 10% من جميع الديون الحكومية مملوكة للاحتياطي الفيدرالي.
بينما في منطقة اليورو يمتلك البنك المركزي الأوروبي ما يقارب من 20% من الديون المجمعة لمختلف الحكومات. لم يتخلى البنك المركزي الأوروبي بشكل حقيقي عن برنامج شراء السندات حتى عام 2018، ولكنه عاد إليه في نهاية عام 2019 عندما تدهور الوضع الاقتصادي.
وقد نُفذت هذه التدابير مرة أخرى مع ظهور الجائحة المفاجئ، ولكن هذه المرة بسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع. ربما شعروا بالأمان بعد ما شهدوا ارتفاع ضئيل في معدل التضخم نتيجة الجولات السابقة لطباعة النقود، مما جعلهم أكثر ثقة -ورضا عن النفس- في اتباع نفس السياسات وبشكل أشد.
لكن الأهم من ذلك: بعد 11 عامًا من الأزمة، ومع تزايد السخط الهائل، وبعد أن شهدوا اندلاع حركات ثورية نتيجة لذلك، كانوا يحاولون يائسين تجنب الانكماش الحاد وإظهار قدرتهم على إدارة الوضع. بالطبع، فعلوا العكس تمامًا.
لقد أطلق البنك المركزي الأوروبي برنامج آخر لشراء السندات، مما أدى إلى زيادة كشف حسابه من 4.7 تريليون يورو إلى 8.6 تريليون يورو في غضون عامين. بينما أضاف الاحتياطي الفيدرالي -الذي هو دائمًا أسرع قليلًا- من أصولًا بقيمة 3 تريليون دولار في 3 أشهر، وبلغ ذروته عند 8.9 تريليون دولار بحلول مارس عام 2022. وأثناء هذا، كان البنك المركزي الأوروبي قد استحوذ على أصول تبلغ قيمتها 64% من إجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو، واستحوذ الاحتياطي الفيدرالي على ما يعادل 38% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. يمتلك البنك المركزي الأوروبي حوالي 40% من الديون الحكومية لحكومات منطقة اليورو، واحتفظ الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 21% من ديون الحكومة الأمريكية.
ما سبق يعني أن البنوك المركزية أمنت نسبة كبيرة من الاقتصاد، وكان لهذا تأثير. ففي الولايات المتحدة ارتفع حجم الأموال المتداولة في الاقتصاد (ماديًا وإلكترونيًا) بنسبة 28% بين أبريل عام 2020 ومايو عام 2021، لكن إجمالي الناتج المحلي قد ارتفع بنسبة 3% فقط. مما يعني أن كمية الأموال التي تدخل التداول فاقت بكثير مقدار القيمة الإضافية التي أضيفت فعليًا في الاقتصاد.
لكن هذه المرة، لم يقابل التوسع في الموازنات العامة للبنوك المركزية من جهة انخفاض في الإقراض من البنوك التجارية على الجهة الأخرى. كما إن العديد من العوامل التي منعت التضخم في السابق لم تعد موجودة. لقد تناولنا دور التضخم بالتفصيل في مقال سابق، لكن نتيجة هذه السياسات كانت إشعال معدلات التضخم على الحال الذي شهدناه خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية.
كل ما سبق أظهر للعيان وبشكل مخجل أوهام استقلالية البنك المركزي أثناء الجائحة. على العكس، كانت الحكومات والبنوك المركزية “تنسق” جهودها. بل ووضعت كل الأجراءات القانونية جانبًا من أجل إنقاذ الرأسمالية.
وفي الأزمة الأخيرة دُفعت البنوك المركزية لكي تنقذ البنوك المتعثرة. في مناورة من إدارة بايدن لجعل الأمر يبدو وكأن دافع الضرائب لن يضطر إلى دفع ثمن هذه الموجة الأخيرة من حزم الإنقاذ، ولكن لا أحد انطلى عليه هذا الأمر.
دُفع البنك المركزي للعب دور نشط بشكل متزايد لسببين. الأول هو عمق الأزمة التي أجبرت البنوك على اتخاذ إجراءات مؤلمة لم تكن مستساغة من قبل. والسبب الثاني هو الأزمة السياسية، والتي نشأت في حد ذاتها نتيجة الأزمة الاقتصادية.
فقد طلبت الطبقة السائدة من البنك المركزي التدخل ودعم المالية الحكومية في محاولة يائسة منها لدعم النظام والموازنات الحكومية، ومن ثم تمكين الحكومة من تأجيل ميعاد السداد النهائي.
ومع ذلك، فإنهم يضطرون إلى الاختيار بين عدد من الخيارات السيئة على حد سواء. لا يمكنهم إنقاذ النظام المصرفي والمالية الحكومية وكذلك محاربة التضخم في الوقت نفسه.
إذا رفعوا أسعار الفائدة فإنهم يغرقون مالية الحكومة، ومعها مجموعة كاملة من البنوك المثقلة بالديون والشركات “الزومبي” والأسر. وإذا أنقذوا البنوك فإنهم مضطرون على الحفاظ على دوران عجلة الائتمان، والتي يحاولون إبطائها برفع أسعار الفائدة. إنهم عالقون بين المطرقة والسندان.
التضخم الذي لن يختفي ببساطة
لقد أوضح تروتسكي في تقريره عن الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الأولى الدور الذي لعبته طباعة النقود في إطلاق عنان التضخم بعد الحرب:
“بالتزامن مع كل هذا نشأت نظم مالية جديدة أساسها الأوراق النقدية، والتي سميت أيضًا رأس المال. بالنسبة لهذه الأوراق النقدية والسندات الحكومية، فكلها تسمى رأس مال. بالرغم من أن رأس المال هذا يمثل من ناحية ذكرى ما تم تدميره، ومن ناحية أخرى الأمل فيما يمكن كسبه. لكنه لا يمثل رأس مال موجود فعلًا. ومع ذلك، فهو يعمل بمثابة رأس مال مثل النقود، وهذا يشوه شكل المجتمع والاقتصاد برمته. فكلما أصبح المجتمع أكثر فقرًا ظهر أكثر ثراءً، لإنه في نهاية الأمر مجرد رأس مال وهمي.” (p.108-9, ‘World Economy – Report’, Trotsky, 3rd Congress of Comintern, Riddel, To the Masses)
هذا وضع مشابه إلى حد بعيد لما نراه اليوم. لا تمثل الزيادة الضخمة في كمية الأموال التي ضختها البنوك المركزية خلال الجائحة قيمة حقيقية مقابل حجم الإنتاج الفعلي. إضافة إلى ذلك، فقد دفع الاضطراب الناجم عن الحرب في أوكرانيا السوق العالمية إلى حافة الهاوية.
وتظهر أحدث الأرقام أن التضخم ما يزال مرتفعًا برغم كل محاولات كبحه. حيث يبلغ معدل التضخم الأساسي في الولايات المتحدة -التي كانت أقل تأثرًا بأزمة الطاقة من أوروبا ولكنها كانت أكثر تأثرًا بالإجراءات الوبائية- حوالي 5%. بينما بلغ التضخم في منطقة اليورو معدلًا أعلى قليلًا بنسبة 7%، وما يزال عند 9% في بريطانيا.
الحقيقة إن أسعار الفائدة عادت إلى المستويات التي شوهدت لآخر مرة في عام 2007 تقريبًا إلا إنها تبدو عاجزة وحدها على ترويض التضخم بالشكل الكافي. وهذا يصيب الرأسماليين ببالغ القلق على الوضع الاقتصادي.
إن المشكلة التي يواجهونها هي إنه من أجل خفض التضخم يتعين عليهم إبطاء وتيرة الاقتصاد. أي إن عليهم أن يفعلوا عكس ما فعلوه في الفترة السابقة. بدلًا من خفض أسعار الفائدة فإنهم بحاجة إلى رفعها. وبدلًا من جعل الناس أكثر قدرة على الاستهلاك فإنهم بحاجة إلى جعلهم أفقر. وبالتالي، فإنهم يفرضون التقشف على العمال والحكومات والشركات.
ولكن هذه ليست معادلة حسابية بسيطة، حيث يؤدي معدل الفائدة “أ%” إلى معدل التضخم “ب%” ونمو اقتصادي “ج%”. بل إن الوضع برمته صعب التنبؤ به:
“كما قال أجاي راجادياكشا، رئيس الأبحاث في بنك باركليز، فقد أقر الاحتياطي الفيدرالي إن عملية السيطرة على التضخم ستتضمن الكثير من الآلام. ‘هم يريدون تقليل الوظائف. يريدون كسر بعض البيض. إنهم لا يريدون أزمة مصرفية واسعة النطاق لأن انهيار الطلب عندها سيكون بشكل لا خطي وسيطول مداه. ولكن انكماش الائتمان؟ نعم.'”
من الواضح إن رفع أسعار الفائدة سيؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد ويخلق ضغطًا هبوطيًا على التضخم، لكن مقدار وسرعة هذا غير معروف إطلاقًا. إن القلق الحقيقي ليس في ربعين سنويين من الركود. بل أن هذا السيناريو جزءً فعلًا من توقعات الاحتياطي الفيدرالي. بل الخوف هو أن يتسببوا في انكماش على غرار ما حدث عام 2009، أو ما هو أسوأ من ذلك.
كما قال كارستن برزيسكي، الخبير الاقتصادي في بنك “ING”: “أي زيادة أخرى في سعر الفائدة يقابلها زيادة خطر كسر شيئًا ما”.
إن البنك المركزي يضطر إلى مراقبة الآثار التي ترتبت على خطواته السابقة بحذر لكي يعرف ماذا عليه أن يفعل الآن. إن تأثير رفع أسعار الفائدة بطيء ويستغرق عدة أشهر وأحيانًا سنوات ليأخذ فعاليته الكاملة في النظام. خاصة إنه عادة ما يكون للرهون العقارية معدلات فائدة ثابتة لفترة معينة من الوقت، كما هو الحال بالنسبة إلى سندات الحكومة والشركات، حيث سيدفع الناس هذه القروض العقارية بكمية معينة من المدخرات…إلخ.
نحن نعرف إن هذه المعدلات سيكون لها تأثير مدمر على الموازنات الحكومية والأسر والشركات. ما لا نعرفه هو مدى سرعة حدوث ذلك، أو إلى أي مدى سيكون مدمرًا. كم من العائلات ستفقد منازلها؟ أو عدد العمال الذين سيفقدون وظائفهم؟ وإلى أي مدى ستخفض الحكومات الإنفاق؟ لا أحد يعرف هذا مسبقًا. لكننا سوف نكتشف هذا عمليًا في الأشهر والسنوات القادمة.
وما يزيد الوضع سوءً هو أن البنوك المركزية لديها اختيارات محدودة لمحاربة التضخم. لقد قدرت صحيفة فاينانشيال تايمز في مقال في وقت سابق من هذا العام أن 40% من التضخم ينتج عن نقص العرض و40% بسبب “فائض” الطلب. وهذا يعني إن الأموال الإضافية المتداولة في الاقتصاد ليست سوى جزء من القصة، كما أوضحنا سابقًا. ولو كانت هي المشكلة الوحيدة لحققت البنوك المركزية نجاحًا أكبر بكثير في مكافحة التضخم الحالي، لكنها ليست كذلك.
تستطيع البنوك المركزية التأثير فقط على جانب الطلب من المعادلة. أي أنها قادرة على جعل العمال والشركات والحكومات أفقر، ومن ثم تقلل الضغط التضخمي. لكنهم غير قادرين على التأثير على العرض، أي الإنتاجية وسلاسل التوريد وما إلى ذلك.
لذلك، عندما تستمر تكلفة الإنتاج في الزيادة – بسبب السياسات الحمائية أو مشاكل سلاسل التوريد أو الحروب أو تغير المناخ – فإن كل ما يستطيع البنك المركزي فعله هو محاولة تقليل مقدار الأموال التي يتعين على العمال استهلاكها، ومن ثم استبعاد الفقراء من أسواق معينة، مثل أسواق العقارات ومنتجات اللحوم، مما يجبرهم على العيش على بدائل أرخص، أو العيش بدونها تمامًا. كل ما بمقدورهم فعله هو فرض التقشف على الطبقة العاملة والحكومات والشركات.
ولأن رأس المال ملك الرأسماليين فإن البنك المركزي لا يستطيع رفع مستوى الاستثمار من أجل تقليل الاختناقات، أو من أجل رفع الإنتاجية، ومن ثم وضع ضغطًا هبوطيًا على التضخم. بل على العكس من ذلك، تستمر التكاليف الخاصة بجانب العرض في السوق في الارتفاع بسبب السياسات الحمائية والحروب وتغير المناخ وزيادة الإنفاق العسكري.
وهذا يعني أنه يجب على البنوك المركزية أن تضغط بقوة أكبر على مكابح الاقتصاد. وقد ينتهي بهم الأمر بالحصول على أسوأ ما في العالمين: التضخم والركود في نفس الوقت. وتمثل أزمة القطاع المصرفي التي حدثت في الشهر السابق أول تحذير عن مستوى الضغط الذي يتعرض له الاقتصاد الآن.
أزمة القطاع المصرفي
إن بدء الأزمة المصرفية الأخيرة من بنك وادي السيليكون (SVB) ليس من قبيل المصادفة. فقد عانى قطاع تكنولوجيا المعلومات من عواقب انخفاض عائدات الإعلانات بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، وكان معظم عملاء بنك وادي السيليكون “SVB” من قطاع تكنولوجيا المعلومات. وقد أثبتت الأيام أن الازدهار الكثيف الذي شهده قطاع تكنولوجيا المعلومات خلال الجائحة كان مؤقتًا، ومع تحول الاقتصاد إلى أنماطه الطبيعية انخفضت الإيرادات. وأثر هذا بشكل مباشر على ودائع البنك التي كانت تمول هذا القطاع بشكل أساسي.
إن ما ضاعف مشاكل البنك (كما هو الحال في كثير من البنوك المتعثرة) هو اعتماده الاقتراض قصير المدى والإقراض طويل المدى. أي إن المودعين يمكنهم سحب أموالهم في أي وقت، لكن البنك كان قد أقرض هذه الأموال للخزانة الأمريكية في شكل سندات بمدد تتراوح بين 10 إلى 20 عام.
كان هذا أمر إعتياديًا قبل عامين عندما كان بإمكان البنك بمنتهى البساطة بيع هذه السندات لتغطية الودائع. لكن الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة فاجأ البنك. فإذا أرادو بيع هذه السندات سيتعين عليهم تخفيض قيمتها ليعكسو حقيقة أن سنداتهم ذات معدل فائدة أقل بكثير مما كان متاحًا إذا اشتريت سندات حكومية حديثة الإصدار. لتجنب هذه المشكلة حاولوا إصدار أسهم جديدة، وهذه الخطوة كانت القشة الأخيرة التي تسببت في حالة من الذعر بين المودعين.
حدث أمر مماثل مع بنك “Signature”، الذي كان لديه الكثير من العملاء في مجال العقارات التجارية. كما واجه بنك “First Republic”، أخر بنك تعرض للانهيار، مشكلة مماثلة حيث أقرض العملاء على فترات طويلة جدًا وبأسعار فائدة منخفضة للغاية. لكن الآن، أصبح سوق الرهن العقاري مختلفًا تمامًا عما كان عليه من قبل. لذلك، إذا حاولوا بيع هذه الرهون العقارية، سوف يتعين عليهم تحمل تكلفة الفرق وهي خسارة كبيرة. وعندما بدأ المودعون في سحب أموالهم، لم يعد بإمكان البنك الاستمرار باعتبار هذه الرهون العقارية مساوية لقيمتها التي كانت عليها قبل ارتفاع سعر الفائدة.
لقد قدر أربعة أكاديميين في ورقة بحثية حديثة أنه إذا أعادت البنوك الأمريكية تعديل دفاترها وفقًا للقيمة الحالية للأصول التي تملكها فإنه يجب عليهم شطب أصول بقيمة 2.2 تريليون دولار. وهي كمية هائلة من رأس المال الوهمي تعادل 1/10 من اقتصاد الولايات المتحدة. بالطبع، طالما استمر المودعين في الاحتفاظ بأموالهم في البنوك فإن هذا الوهم يمكن أن يستمر.
من المفترض أن تخفف المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) -والتي أنشئت بعد الهلع المصرفي الذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي- من مثل هذه المخاطر عن طريق ضمان جميع الودائع التي تصل إلى 250 ألف دولار. ولكن بالنسبة للأثرياء والشركات فإن هذا لا يكفي لأن لديهم مبالغ أكبر بكثير في البنوك. وللمفارقة تبين ظاهرة الهلع المصرفي مدى قلق الطبقة الرأسمالية بشأن استقرار نظامها.
الطريقة التي تعاملوا بها مع الأزمة لها عدة تداعيات مهمة:
- ساد الاحتكار في القطاع المصرفي بشكل كبير. مما دفع العديد من الودائع للهروب من البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم إلى البنوك الكبرى. إضافة إلى ذلك توسلت الحكومة ومؤسسة التأمين الفيدرالية (FDIC) بالبنوك الكبرى لتسلم عملاء البنوك الصغيرة، وعرضت عليهم إعانات ضخمة مقابل ذلك. وتجلت هذه التداعيات أيضًا في عملية دمج البنكين الرئيسيين في سويسرا “Credit Suisse” و”UBS”، هذا يعني أنه لم يتبق سوى بنك واحد كبير.
- إنهم بالطبع يزيدون ثرواتهم أكثر. تستفيد العديد من البنوك بشكل كبير من الوضع الجديد. وقد حقق بنك “HSBC” على سبيل المثال أرباحًا قياسية بلغت 12.9 مليار دولار، ويمكنه توقع أرباحًا أخرى بقيمة 1.5 مليار دولار، من استحواذه على شركة “SVB UK” مقابل جنيه واحد.
- وقد استنزفت عمليات الإنقاذ التي نفذتها المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) المساهمين، لذلك فإن المساهمين الذين اعتقدوا في السابق أن استثماراتهم في البنوك آمنة نسبيًا، يهربون الآن باستثماراتهم من البنوك متوسطة الحجم. وهذا بدوره يزيد احتكار البنوك الكبيرة.
- من أجل إنعاش خزانتهم سترفع المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع (FDIC) من أقساط التأمين للبنوك الكبرى، مما يجعل أزمة البنوك الصغيرة أزمة محتملة الحدوث للبنوك الكبرى أيضًا.
- تحول الاحتياطي الفيدرالي، مرة أخرى، إلى المقرض الأخير. وهو يضمن الآن جميع الودائع في جميع البنوك، ويعرض أخذ الأصول بقيمتها الدفترية بدلًا من قيمتها السوقية. وهذا يعني أنه مع استمرار الأزمة المصرفية فإن الخسائر سوف تتراكم في الاحتياطي الفيدرالي.
بعبارة أخرى، في أثناء محاولات البرجوازية لتخفيف حدة الأزمة المصرفية يعدون لأنفسهم مشاكل جديدة.
نهاية العولمة
إن إحدى أكثر المسائل الحاسمة التي يجب على البرجوازية مواجهتها هي سياسات الحمائية والتجارة الحرة. وقد أوضح لينين إن الحدود الضيقة والمحدودة للسوق الوطنية تقوض قوى الإنتاج. لذلك، اضطرت كل البلدان الرأسمالية بمجرد أن تطورت قوى الإنتاج عندها إلى درجة معينة إلى محاولة التغلب على هذا العائق. لذلك عندما تطورت قوى الإنتاج خلال القرن العشرين تطورت بمحاذاتها التجارة العالمية بشكل أسرع بكثير.
كان هذا هو الحال بشكل خاص في النصف الثاني من القرن العشرين عندما تمكنت السوق العالمية من اختراق كل ركن من أركان الكوكب. وكما أشرنا، في منتصف التسعينيات، كانت عواقب ذلك مهولة:
“لقد أدى تكثيف التقسيم العالمي للعمل وخفض الحواجز الجمركية ونمو التجارة، خاصة بين البلدان الرأسمالية المتقدمة، إلى تحفيز اقتصادات الدول القومية بشكل هائل. كان هذا يتناقض بشكل كامل مع حالة تفكك الاقتصاد العالمي في الفترة ما بين الحربين عندما أدت السياسات الحمائية والتخفيضات التنافسية في تحويل الركود إلى كساد عالمي.” (مرحلة جديدة في الثورة العالمية)
لقد أبقت العولمة التضخم منخفضًا طوال فترة تاريخية كاملة. وقد غذت أجهزة الكمبيوتر والهواتف والتلفزيونات الرخيصة نسبيًا وغيرها الإحساس العام بين العمال أنهم أفضل حالًا من قبل. وفي الوقت نفسه، أتاحت معدلات الفائدة المنخفضة أيضًا شراء المنازل وغيرها، مع أنها أصبحت أكثر تكلفة مقارنة بالأجور. وبهذه الطريقة كان من الممكن الحفاظ على انخفاض الأجور وازدياد الأرباح والتمتع ببعض الاستقرار السياسي في نفس الوقت.
لكن الآن تحول الوضع إلى نقيضه. لقد صرح الرئيس التنفيذي لشركة “BlackRock” قائلًا: “وضع الغزو الروسي لأوكرانيا حدًا للعولمة التي عايشناها خلال العقود الثلاثة الماضية”. ما يشير إليه هو انفتاح أوروبا الشرقية، ولا سيما روسيا والصين، على السوق العالمية. الآن، ينقسم هذا السوق العالمي الجديد إلى كتل ومجالات نفوذ مختلفة، وهو المحتوى الحقيقي وراء مصطلحي “تكوين صداقات” و”إعادة التشكيل”. هذه عبارات ملطفة للكلمة التي لا يريدون استخدامها: الحمائية.
ليس من الصعب رؤية النتيجة الملموسة لهذا. فقد بُني بحر الصين الشرقي لكي يكون مركز عالمي للتصنيع على مدى عقود. حيث تلعب الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان دورًا أساسيًا في سلاسل التوريد. ومن الصعب للغاية فصل الصين، وكذلك تايوان، عن شبكة الموردين. لا يوجد بلد واحد وحده قادرًا على أن يحل محل الصين، لذلك تبحث الشركات عن بناء القدرة الإنتاجية في عدد من البلدان المختلفة. كما قالت صحيفة وول ستريت جورنال: “يعكس التنويع الذي يسميه بعض الخبراء تعدد مصادر التوريد حقيقة جديدة صارخة: لقد أصبح العالم مكانًا أكثر تعقيدًا بكثير بالنسبة للأعمال التجارية مما كان عليه قبل عقد من الزمان.”
في حين كانت الإمبريالية الأميركية قبل 20 أو 30 عامًا هي الضامن للتجارة الحرة والأسواق المفتوحة، فقد أصبحت في طليعة الاتجاه الحمائي: “أميركا أولًا”، كما قال ترامب. ومع ذلك، فإن ترامب لا يفعل سوى تقديم مجموعة من السياسات المشتركة بين الحزبين في الولايات المتحدة بطريقة أكثر فظاظة.
ففي خطابها الأخير، أوضحت ممثلة التجارة الأمريكية كاثرين تاي كيف كانت سياسة إدارتها (أي سياسة بايدن) قطيعة مع الماضي: “لفترة طويلة، ركزت سياساتنا التجارية على الليبرالية ورفع الكفاءة وخفض التكاليف”. بعبارة أخرى، كانت الحكومات الأمريكية تضغط لفترة طويلة من أجل التجارة الحرة، الآن هم يسيرون في الاتجاه العكسي.
لم يبق بايدن على عقوبات ترامب ضد الصين فحسب، لكنه فرض أيضًا قيودًا إضافية عليها، لا سيما ضد صناعة الموصلات الكهربائية. كما استمر بايدن في منع تعيين قضاة جدد في المحكمة العليا لمنظمة التجارة العالمية، مطالبًا بتطبيق “إصلاحات” على منظمة التجارة العالمية، أي مجال أوسع للولايات المتحدة لإدخال تدابير حمائية. في نفس الوقت، تستأنف حكومة الولايات المتحدة ضد كل قرار يتعارض معها أمام نفس المحكمة مصيبة منظمة التجارة العالمية بكاملها بالشلل.
علاوة على ذلك، أقر بايدن قانون خفض التضخم الذي يقدم للشركات الأمريكية مزيد من الإعانات. لا يستهدف هذا القانون الصين فقط بل كذلك أوروبا واليابان. هذا يطرح السؤال: ماذا يعني “الصديق” في سياسة “تكوين وتجميع الصداقات”؟ حيث في نفس الوقت الذي تعاني فيه الصناعات الأوروبية من أزمة شديدة بسبب العقوبات المفروضة على روسيا، يرش بايدن الملح على الجرح بدعمه السلع الأمريكية الصنع على حساب “حلفائه” الأوروبيين. بالطبع لم يكن القادة الأوروبيون سعداء بهذا القانون، ودعا ماكرون على سبيل المثال إلى حزمة مساعدات “اشتروا الأوروبي” ردًا على ذلك.
لقد حذر صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير من أن ما يسمى بسياسة “تجميع الأصدقاء”، أو تقسيم الاقتصاد العالمي إلى مجالين نفوذ، من شأنه أن يقلل النمو السنوي للاقتصاد العالمي بمقدار 2%. في الوقت نفسه، يتوقعون أن يبلغ النمو العالمي 2.8% فقط هذا العام.
إن عكس اتجاه عجلة العولمة سوف يكون مكلفًا للغاية، وسوف يدفع الاقتصاد العالمي الثمن على هيئة ارتفاع الأسعار وانخفاض النمو. إن النجاحات التي تحققت في 50 إلى 70 سنة الماضية، والتي تغلب خلالها الرأسماليون جزئيًا على حدود الدول القومية والسوق الوطنية الضيقة، يتم الآن عكسها.
ثم هناك التغير المناخي…
يجب أن نضيف مسألة البيئة والمناخ إلى كل المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تواجهها الرأسمالية. نحن أمام أزمة تزداد سوءً كلما انتظروا وقتًا أطول للتعامل معها، وهم يؤجلون التعامل معها منذ عقود.
تتخذ الآن إلى حد ما خطوات من أجل الانتقال إلى الطاقة المتجددة. ولكنه انتقال بطيء للغاية فيما يتعلق بالتغير المناخي، في حين إنه من وجهة نظر الاقتصاد الرأسمالي سريع للغاية. إن الاستثمارات التي تضخ في هذا المجال تتسبب في نقص في المواد الخام وزيادة التكاليف مما يؤدي إلى مزيد من التضخم.
وقد اقترح معهد ماكينزي العالمي إن الاقتصاد يحتاج إلى استثمارات إضافية بقيمة 3.5 تريليون دولار كل عام في الصناعات ذات الصلة بالتغير المناخي لتحقيق هدف صفر انبعاث كربوني بحلول عام 2050. ويمثل هذا زيادة بنسبة 61%. وسوف يتعين إعادة توجيه تريليون دولار إضافي من ما يطلق عليها الاستثمارات “عالية الانبعاثات” إلى الاستثمارات “منخفضة الانبعاثات”.
كما أعلنوا إضافة إلى ذلك أن هذه الـ3.5 تريليون دولار لا تمثل سوى نصف أرباح الشركات العالمية. إذا أخذنا هذه الأرقام في ظاهرها، فهذا يعني أنه إذا تخلت الشركات عن نصف أرباحها فقط يمكننا تحقيق هدف صفر انبعاث. تخيلوا إذن ما الذي يمكننا تحقيقه إذا تم استثمار جميع الأرباح وليس نصفها فقط.
لكن الأمر برمته هو حلم كاذب. لن تتنازل الشركات عن نصف أرباحها، وبالتأكيد ليس في الوقت المناسب. بل إنه يصعب تصديق أنهم سيعيدون تخصيص تريليون دولار من الاستثمارات من القطاعات عالية الانبعاثات إلى منخفضة الانبعاثات.
إن الأرقام التي قدمها معهد ماكينزي العالمي لا تظهر الفرص المتاحة في ظل الرأسمالية بقدر ما تظهر حقيقة توفر الأموال اللازمة للتحول الأخضر، كما تظهر أيضًا إن الشركات الكبرى تستولي على هذه الأموال لتحقيق أرباح خاصة بها. وتكشف الأرقام إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج تشكل الحاجز الحاسم أمام معالجة تغير المناخ.
في الوقت نفسه، فإن تكلفة التعامل مع الكوارث الطبيعية والتحول إلى محاصيل جديدة، بالإضافة إلى الإجراءات التحويلية الأخرى، تزيد من تكلفة كل شيء. وهذا له تأثير بالفعل. على سبيل المثال، فقد أثرت كوارث الطقس في نيوزيلندا على قرار البنك المركزي الأخير برفع أسعار الفائدة، وهذا علامة على ما يمكن أن نشهده في المستقبل:
قال نيك توفلي كبير الاقتصاديين في “ASB”: “إن تأثيرات كوارث الطقس سوف تصعب مهمة البنك الاحتياطي النيوزلندي في كبح التضخم”.
وبعد ما سممت شركات المياه في بريطانيا الأنهار والبحار ها هي تحذر الآن من أن بريطانيا ستواجه نقصًا حادًا في المياه خلال عقد من الزمن بسبب التغير المناخي. وقد شهد شمال إيطاليا الشهر الماضي فيضانات هائلة بعد مدة طويلة من الجفاف. هذا بالطبع سوف يتسبب في أضرار في الاقتصاد وتعطيله.
إن المناخ هو مثال واضح على كيفية وصول الرأسمالية إلى طريق مسدود. فهي عاجزة عن التعامل مع أهم القضايا التي تواجه البشرية. إن الموارد موجودة والعلم موجود، لكن الرأسمالية تقف حاجزًا. فهي لا تقدم القليل فقط بل تقدمه متأخرًا للغاية.
الأزمة الدائمة: الوضع الطبيعي الجديد
دائمًا ما يأتي الاقتصاديون بعبارات طنانة جديدة. وكانت الكلمة الطنانة لعام 2022 هي الأزمة الدائمة “permacrisis”، كما تُعرف في قاموس كولينز. وقد علق أليكس بيكروفت العضو المنتدب لـ”Collins Learning” على الكلمة الجديدة بالآتي:
“من المفهوم أن يشعر الناس إننا نعيش في ظل حالة من عدم اليقين والقلق، هذا بعدما عانوا من الاضطرابات الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والجائحة والطقس القاسي والحرب في أوكرانيا وعدم الاستقرار السياسي وضغط الطاقة وأزمة تكلفة المعيشة.”
نجحت الكلمة الجديدة في التعبير عن الإحساس العميق بالعجز والتشاؤم الذي تشعر به الطبقة الرأسمالية تجاه الوضع السياسي والاقتصادي الجديد.
وقد ظهرت الكلمة نفسها في مقال نشره مركز السياسة الأوروبية في عام 2021، حيث توصل الكتاب بشكل تجريبي تمامًا إلى نفس الاستنتاجات التي توصل إليها الماركسيون منذ فترة. فكتبوا: “سيظل العالم الذي نعيش فيه يتسم بمستويات عالية من عدم اليقين والهشاشة وعدم القدرة على التنبؤ”. وهم يجادلون بأن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتغير للتكيف مع التحدي الشديد المتمثل في “عصر الأزمة الدائمة”.
كما أكدت كريستين لاغارد هذا الإحساس في خطابها الذي ألقته أمام قادة الأعمال في أبريل من العام الماضي:
“يقول البعض إننا نعيش في عصر ‘الأزمة الدائمة’، حيث ننتقل من حالة طوارئ إلى أخرى، ففي فترة قصيرة تزيد قليلًا عن عقد من الزمان واجهنا أكبر أزمة مالية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وأسوأ جائحة منذ عام 1919، والآن أخطر أزمة جيوسياسية في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة.”
ولخص نيل تورنبول، وهو أكاديمي في جامعة نوتنغهام ترنت، ما يشير إليه المصطلح في مقال كتبه في نوفمبر الماضي:
“تشير ‘الأزمة الدائمة’ ليس فقط إلى فقدان الثقة في التقدم، ولكن أيضًا إلى واقعية جديدة فيما يتصل بما يمكن للناس التعامل معه وما يمكن تحقيقه. لقد أصبحت أزماتنا معقدة وعميقة الجذور لدرجة تتجاوز قدرتنا على فهمها. فأي قرار نتخذه لمعالجتها يحمل معه خطر حقيقي بزيادة الأمور سوءً. وهكذا فإننا أمام استنتاج مقلق. لم تعد أزماتنا مشكلة عابرة بل إنها أصبحت حقيقة عنيدة.”
بالنسبة للرأسماليين تظهر كل أزمة جديدة بوصفها أزمة فريدة. أزمة غير ألوفة لا علاقة لها بكل الأزمات الأخرى. وبطبيعة الحال، لا أحد منهم مستعد لاستخلاص الاستنتاج الواضح للعيان: إن المشكلة ليست هذه الأزمة أو تلك فحسب، بل هي أزمة النظام برمته. إن البرجوازية، والمعلقين والأكاديميين والصحفيين الذين يخدمونهم، ليس لديهم أي مصلحة في استكشاف أو كشف الترابط بين حلقات الأزمة المتداخلة.
لكن في الواقع، إن هذه “الأزمة الدائمة”، أو “الأزمات المتعددة” كما يُطلق عليها أيضًا، هي مجرد طريقة أخرى للتعبير عن أزمة الرأسمالية، ولكن بطريقة غامضة. دون توضيح الأسباب، لقد استنتجوا بشكل صحيح إننا نعيش في فترة أزمة واضطراب دائمين.
أزمة عضوية للرأسمالية
ليست هذه هي المرة الأولى التي شهدت فيها البشرية أزمة مماثلة. فقد كانت الفترة بين عامي 1914 و1945 برمتها فترة أزمة عميقة، فترة ثورة وثورة مضادة. وعندما تكشفت هذه الأزمة في السنوات الأولى بعد الحرب العالمية الأولى أثارت الكثير من النقاشات في الأممية الشيوعية، لأنها -في وقتها- كانت تطورًا جديدًا.
قبل ذلك، لقد وصف ماركس وإنجلز بشكل صحيح أزمات الرأسمالية المتكررة كما في المقطع التالي من كتاب “ضد دوهرينغ”:
“تستمر حالة الركود سنوات. ويجري تبديد وإتلاف كميات ضخمة من قوى الإنتاج والمنتجات إلى أن يتم تسويق كميات البضائع المكدسة بأسعار مخفضة بهذا القدر أو ذاك، ويعود الإنتاج والتبادل إلى الحركة أخيرًا بالتدريج. وتتسارع هذه الحركة شيئًا فشيئًا، ثم تتحول إلى هرولة، فتتحول الهرولة الصناعية إلى ركض سريع، ثم يفسح هذا الركض المجال إلى اندفاع مسعور يشبه سباق الحواجز، ويشمل الصناعة والتجارة والائتمان والمضاربة، لكي يهوى في الاخير من جديد، وبعد وثبات مستديمة، في هاوية الإفلاس. ويتكرر الحال على هذا المنوال على الدوام.”
وبطريقتهم المعهودة في استخلاص جميع الاستنتاجات الخاطئة من هذه الكتابات، عندما اندلعت الأزمة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وجد الاشتراكيون الديمقراطيون عزاءهم في حقيقة مفادها إنه حتى لو كانت هناك أزمة فسوف يتبعها انتعاش، وبالتالي لم تكن هناك حاجة كبيرة للإطاحة بالرأسمالية. وقد ذهب وزير المالية الألماني، الاشتراكي الديمقراطي رودولف هيلفردينغ، إلى حد المطالبة بالتقشف، على أساس أنه يجب السماح للأزمة بأن تأخذ مجراها.
وقد اعترض تروتسكي على هذا التفسير الميكانيكي الجاف لما كتبه ماركس مشيرًا إلى إرتباط هذا بالأفكار الإصلاحية. فكتب:
“إن مفهوم التطور التلقائي الخطي هو أهم ما يميز الإصلاحية. بالطبع سيعاد التوازن الرأسمالي، ولكن فقط إذا لم تتدخل التعبيرات الاجتماعية للصراع الطبقي في هذه اللعبة القاسية.” (p.124, ‘World Economy – Report’, Trotsky, 3rd Congress of Comintern, Riddel, To the Masses)
بالفعل يمكن حل الأزمات في ظل الرأسمالية بسهولة أكبر فقط إذا ارتضى العمال بهدوء مصيرهم المتمثل في التقشف وخفض الأجور والمجاعة والبؤس. لقد فهم هذا جون مينارد كينز الذي اشتهر بالدفاع عن نوع السياسات التي عارضها هيلفردينج. لقد جاد ضد الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد الذي قالوا: “على المدى الطويل نحن جميعًا في عداد الأموات”، وإن الأجور لا تميل إلى الانخفاض من نفسها لمجرد أنها تناسب معادلات الاقتصاديين. ففي نهاية المطاف، البشر ليسوا مجرد أرقام على ورقة، والعمال لن يقبلوا التجويع من أجل الحفاظ على النظام الرأسمالي.
يمكن أن تمر الأزمات الدورية العادية والقصيرة دون انقطاع جوهري، مع شد العمال الحزام مدة قصيرة، ثم العودة بعد ذلك إلى الوضع الطبيعي. لكن تروتسكي يشير إلى شيء أعمق من ذلك. فقد كانت أزمة عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، مثل الأزمة الحالية، ذات طابع مختلف.
لاحظ تروتسكي في المؤتمر الثالث للكومنترن:
“الصعود – الانحدار – الركود، على طول هذا المنحنى يوجد تقلبات تمثل أي تحسن في الاقتصاد أو شدة في الأزمة، لكنها لا تخبرنا ما إذا كانت الرأسمالية تتطور أم تتراجع. إن هذه التقلبات مثل نبضات قلب شخص حي تُظهر فقط أنه على قيد الحياة.” (p.121, ‘World Economy – Report’, Trotsky, 3rd Congress of Comintern, Riddel, To the Masses)
لكنه أصر على أنه بالرغم من الصعود والهبوط إلا أن الطابع العام لتلك الفترة كان الركود:
“لا يوجد أمام الاقتصاد الأوروبي إلا أن يتقلص وينكمش من أجل تحقيق درجة من الاتزان الداخلي. سوف ينخفض منحنى تطور قوى الانتاج من ارتفاعه الوهمي الحالي. وفي مثل هذه الظروف لا يمكن للانتعاش إلا أن يكون قصيرًا ومضاربيًا في المقام الأول. ستكون الأزمات طويلة وعميقة.” (p. 905, ‘World Situation and Tasks’, 3rd Congress of Comintern in Riddle, John, To the Masses)
لقد شرح تروتسكي أنه حتى لو كانت الحقبة العامة بها فترات ركود وانتعاش، صعود وهبوط، فإن الطابع العام للحقبة الحالية هو الركود والأزمة. لقد عاد تروتسكي إلى هذا الموضوع في ثلاثينيات القرن الماضي عندما وصف الوضع بأنه “أزمة عضوية”:
“صحيح إن الانتعاش الاقتصادي في العام الماضي قد أضعف إلى حد ما عمليات البحث النظري والنقد الاجتماعي. وبرزت الآمال في إعادة إرساء عملية النمو الاقتصادي التي أوقفتها الأزمة. ولكن اندلعت أزمة جديدة أسرع مما توقع المرء. لقد بدأت من مستوى أقل من أزمة عام 1929، وأخذت في التطور بوتيرة أسرع. هذا يدل على أنه ليس ركودًا عرضيًا ولا حتى كسادًا ظاهريًا ولكنه أزمة عضوية للنظام الرأسمالي برمته.” (My emphasis, ‘Trotsky Urges Backing for Pioneer Publishers’, 1937.)
إن هذا يصف تمامًا الموقف الذي نجد أنفسنا فيه اليوم، كما تناوله بالتفصيل الرفيق روب سويل في مقاله الذي نشر عام 2015. فبينما كان يعتقد البرجوازيون أنهم تجاوزوا لحظة الخطر، أطلت عليهم أزمة أخرى برأسها القبيح. هذا ما رأيناه منذ عام 2008. إن النظام الرأسمالي غير قادر على إيجاد توازن جديد.
“يجب أن تبدأ مرحلة جديدة من أجل إزالة التناقض بين هذه البنية الفوقية للثروة الوهمية والفقر الذي يكمن وراءها. سوف يستمر الجسم الاقتصادي في المستقبل في التمزق بسبب تشنجات من هذا النوع. وإجمالًا كما قلت سابقًا، يوضح لنا هذا صورة للكساد الاقتصادي العميق.” (p.127, ‘World Economy – Report’, Trotsky, 3rd Congress of Comintern, Riddel, To the Masses)
إن عمق الأزمة يظهر كيف تجاوزت الرأسمالية دورها التاريخي. إن قوى الإنتاج في حالة ثورة مفتوحة ضد القيود التي يفرضها عليها النظام الرأسمالي: الدولة القومية والملكية الخاصة. لم تعد الرأسمالية قادرة على تطوير قوى الإنتاج، ولم تعد قادرة على دفع البشرية إلى الأمام. بالنظر إلى كل هذا يمكننا القول إن كل ما ينتظرنا في ظل هذا النظام هو المزيد من الأزمات والبؤس.
الركود يلوح في الأفق
تظهر لنا أحدث البيانات الاقتصادية إن ركودًا جديدًا في الطريق:
● استمرت معدلات الانكماش الصناعي في شهر مايو في انكماش للشهر السابع على التوالي، وذلك وفقًا لبيانات معهد إدارة التوريد.
● انخفاض الطلب على القروض التجارية في منطقة اليورو بأسرع معدل منذ عام 2008.
● يتوقع 45% من الاقتصاديين ركود عالمي هذا العام.
● تتزايد القروض “المتعثرة بشكل خطير” في الولايات المتحدة بطريقة لم نشهدها منذ عام 2007.
● تشير أحدث البيانات بدخول منطقة اليورو في حالة ركود في أكتوبر من العام الماضي.
● في الوقت نفسه، ارتفع معدل التضخم في منطقة اليورو حتى وصل إلى نسبة 7% لأول مرة في ستة أشهر.
ومع رفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة إلى 3.5% هذا الأسبوع، فهذا يعني إننا سنواجه ركودًا عميقًا مصاحبًا للتضخم، أي سنرى أسوأ ما في العالمين. لكن الأمور ليست أفضل بكثير في الولايات المتحدة:
قال ديفيد هانت -الرئيس التنفيذي لمكتب إدارة أصول تقدر قيمتها 1.2 تريليون دولار في مؤسسة ‘PGIM’- للحاضرين في معهد ‘Milke’ أثناء مناقشتهم حزمة إنقاذ بنك ‘First Republic’: “هناك أسباب قليلة للراحة في مثل هذه الأيام.” ” فقد بدأنا نشهد تداعيات الأزمة على الاقتصاد الأمريكي. أولًا، سوف نشهد فرض مزيد من القيود على النظام المصرفي، لاسيما على العديد من المقرضين الإقليميين. أما ما سينتج عن هذا فهو المزيد من المعوقات على حركة أرصدة البنوك التي تغذي الاقتصاد. وأعتقد أننا سوف نشهد الآن تباطؤًا حقيقيًا في إجمالي معدلات الطلب”.
سوف يصبح الائتمان أكثر صعوبة، مما يعني أموالًا أقل للعمال لكي ينفقونها، ومزيد من التسريح من الشركات، وإتباع المزيد من سياسات التقشف في الموازنات الحكومية:
كما قالت كارين كارنيول تامبور، كبيرة مسؤولي الاستثمار في شركة ‘Bridgewater Associates’ العملاقة لصناديق التحوط: “الوضع الحالي يدفع إلى المزيد من خيبة الأمل، فالآن يجب على الأسواق أن تستوعب القيود الجديدة التي تكبل البنوك المركزية بالمقارنة مع آخر 30 أو 40 عامًا، حيث كان يمكنك بكل سهولة خفض الفائدة وطبع النقود بمجرد سماع أي حديث عن مشكلة صغيرة.”
إن كل التناقضات التي تراكمت على مدى العقود القليلة الماضية وكل محاولات إنعاش الإقتصاد وتأجيل اليوم المشؤوم تعود الآن على شكل أشباح من أجل مطاردة الطبقة البرجوازية. لقد استنفدت البرجوازية كل الأدوات التي بحوزتها من أجل تأجيل الأزمة -الواحدة تلو الأخرى-، ولم يعد بإمكانها فعل أي شيء من أجل تفادي المصير المحتوم.
هل ستكون أزمة دائمة؟
عند مواجهة أزمة عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، طُرح السؤال عما إذا كانت تلك هي الأزمة “الأخيرة” للرأسمالية. رد تروتسكي على هذا الطرح بأنه لا يوجد شيء من هذا القبيل، وإن الرأسمالية ليس لديها عدد محدد مسبقًا من الأزمات. فقط يمكن للطبقة العاملة وضع حد للنظام:
“تعاني الرأسمالية سكرات الموت، ولكن كما نعلم حتى في موتها لها دوراتها أيضًا، لكن هذه الدورات يفضح تدهورها ومرضها. وحدها الثورة البروليتارية يمكنها أن تضع حدًا لأزمة النظام الرأسمالي.” (Once Again, Whither France?, Trotsky, 1935)
يمثل الشعور العميق بالتشاؤم، وحتى اليأس، الذي يسيطر على العالم اليوم في كل شيء من الاقتصاديين إلى الثقافة، علامة على أن النظام الرأسمالي لا يستطيع أن يجد مخرجًا. فنجد أنفسنا عالقين في الجو بين ما كان وما يمكن أن يكون، بين الاحتمالات الهائلة التي يمكن أن تنفتح بفضل قوى الإنتاج التي أوجدتها الرأسمالية وواقع نظام غير قادر تمامًا على الاستفادة منها.
لكن هذا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. فعند نقطة معينة يجب حل هذا الوضع العالق بطريقة أو بأخرى. في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي احتاجت الرأسمالية إلى حربين عالميتين، و20 عامًا من الاضطرابات الاقتصادية بينهما لكي تجد مخرجًا من الأزمة. ولكن ثمن هذا المخرج كان خسائر بشرية هائلة، لقد قتل أكثر من 100 مليون شخص ودمرت قارة بكاملها. ما الثمن الذي تحتاجه الرأسمالية هذه المرة؟
لقد جادلت روزا لوكسمبورغ في كراس “جونيوس” الذي كتبته في السجن خلال الحرب العالمية الأولى بأننا أمام أحد الخيارين:
“إما انتصار الإمبريالية وانهيار كل حضارة، كما حدث في روما القديمة: انخفاض السكان والخراب والانحطاط – مقبرة عظيمة. أو انتصار الاشتراكية، مما يعني وجوب النضال النشط الواعي للبروليتاريا العالمية ضد الإمبريالية وأسلوبها في الحرب.”
واليوم، مع الدمار البيئي وعمق الأزمة الاقتصادية والسياسية، من الممكن تمامًا ألا تنجو الحضارة من محاولة الرأسمالية استعادة توازنها مرة أخرى.
إن الجيل الحالي هو الذي سيقرر المسار الذي سوف نسلكه. ومهمة الشيوعيين هي تمهيد الطريق للبشرية للقفزة التالية إلى الأمام.
نيكلاس ألبين سفينسون
يونيو/حزيران 2023
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: