بعد أسابيع على فوز اليسار بأكبر عدد من المقاعد في الجمعية خلال الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، وصلت المفاوضات الداخلية داخل الجبهة الشعبية الجديدة إلى طريق مسدود.
إن الانقسام بين الجناحين اليساري واليميني داخل الجبهة الشعبية الجديدة يمنع الاتفاق على مرشح لمنصب رئيس الوزراء. في حين يقوم ماكرون واليمين المتطرف بمغازلة العناصر الأكثر محافظة داخل الجبهة من أجل استبعاد حزب فرنسا الأبية، وعرقلة برنامج الجبهة الشعبية الجديدة، والحصول على الأغلبية المطلقة. وحده النضال الكفاحي خارج البرلمان الذي يمكنه أن يحل هذا المأزق!
دعونا نلخص الموقف. تقدم الحزب الاشتراكي باقتراح مطالبة ماكرون بتعيين لورانس توبيانا، وهي دبلوماسية مستقلة معنية بالمناخ، في منصب رئيسة للوزراء، بموافقة حزب الخضر والحزب الشيوعي. وباعتبارها بيروقراطية محترفة، اقترحت “التواصل مع الجهات الفاعلة الأخرى في الجبهة الجمهورية” -أي الماكرونيين- “لمناقشة برنامج طوارئ جمهوري”، سيكون برنامجا مختلفا تماما عن برنامج الجبهة الشعبيةالجديدة.
لهذا جاء رفض حزب فرنسا الأبية، الذي يقول إنه يريد التمسك “بالبرنامج بأكمله”. واقترح للمنصب هوغيت بيلو، رئيسة المجلس الإقليمي في ريونيون (والتي ليست عضوا في حزب فرنسا الأبية). لكن الحزب الاشتراكي رفض بشكل قاطع هذه المحاولة لتقديم “مرشح متوافق عليه”. وفي وقت لاحق، تخلت كل من بيلو وتوبيانا رسميا عن ترشيحهما.
الانقسام داخل الجبهة الشعبية الجديدة
هناك تباعد صارخ بين يسار ويمين الجبهة الشعبية الجديدة ، والممثلين على التوالي بحزب فرنسا الأبية من جهة والحزب الاشتراكي من جهة أخرى. ويعمل زعماء من الحزب الشيوعي الفرنسي والخضر، وكذلك شخصيات مرتبطة بحزب فرنسا الأبية مثل فرانسوا روفين، والأمينة العامة للاتحاد العام للشغل، صوفي بينيه، وآخرون، على التقليل من أهمية هذا التباعد السياسي وإدانة “الحجج القائمة على الأنا”. وبذلك يسعون قبل كل شيء إلى إخفاء حقيقة أنهم يميلون بوضوح نحو اليمين، أي نحو الموقف الانتهازي الذي تدافع عنه قيادة الحزب الاشتراكي: التخلي عن برنامج الجبهة الشعبية الجديدة لصالح برنامج أكثر يمينية “متفاوض عليه” مع الماكرونيين.
ما هي السياسة التي قد تنتهجها أغلبية برلمانية مكونة من الجبهة الشعبية الجديدة والماكرونيين؟ فرانسوا روفين (الذي انشق للتو عن حزب فرنسا الأبية في اتجاه اليمين) يؤكد بحماس أن تلك الحكومة قد تنفذ على الأقل جزءا من التدابير التقدمية الموجودة في برنامج الجبهة الشعبية الجديدة. هل هذا صحيح؟ لا يمكننا أن نستبعد تماما أن تنفذ مثل تلك الحكومة تدابير معينة في برنامج الجبهة الشعبية الجديدة -أي التدابير الأكثر رمزية والأقل إيلاما للبرجوازية. لكن هذا لن يكون سوى غطاء لتمرير كل شيء آخر: الجزء الأكبر من سياسة الحكومة، التي ستكون عبارة عن رزمة رجعية من الاقتطاعات والتقشف.
ففي سياق ركود الاقتصاد الفرنسي وتراجع حساباته العامة، لن يكون الماكرونيون، الذين يتلقون أوامرهم من منظمة أرباب العمل Medef، على استعداد للتراجع عما فعلوه على مدى السنوات السبع الماضية. ومن خلال المشاركة في هذا النوع من الائتلاف الحكومي، سوف تفقد الجبهة الشعبية الجديدة بشكل سريع مصداقيتها تماما بين ناخبيها.
من غير المرجح أن يثني مثل هذا المنظور، في حد ذاته، قادة الحزب الاشتراكي عن الشروع في هذا المسار. إذ أن الدور الأساسي للاشتراكيين الديمقراطيين، تاريخيا، هو على وجه التحديد خيانة تطلعات الطبقة العاملة من خلال الحكم نيابة عن البرجوازية. هذا ما فعله فرانسوا هولاند بين عامي 2012 و 2017؛ وهذا ما فعله ليونيل جوسبان وفرانسوا ميتران من قبله.
أما بالنسبة لزعماء الحزب الشيوعي الفرنسي والخضر، فقد شاركوا في العديد من تلك الحكومات “اليسارية” التي لعبت خيانتها دورا مركزيا في الصعود الانتخابي للتجمع الوطني ولوبان. ومن خلال الحكم على تصريحاتهم في الأسابيع الأخيرة، يبدو أنهم على استعداد لتكرار تلك التجربة.
هل ستكون هناك مساومة؟
ومع ذلك، يبدو أن قادة حزب فرنسا الأبية، على الأقل في هذه المرحلة، ليسوا مستعدين للتضحية بالنفوذ النسبي، الذي راكموه منذ عام 2016، على مذبح ائتلاف حكومي مع الماكرونيين. يقول ميلنشون إن هذا الائتلاف من شأنه أن يجعل مارين لوبان تكسب “عشر نقاط دفعة واحدة”. لا جدال في ذلك؛ وسوف يخسر حزب فرنسا الأبية النقاط التي ستكسبها الجبهة الوطنية.
هل سينطلق الحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي الفرنسي بمفردهم -بدون حزب فرنسا الأبية- في مفاوضات مفتوحة مع الماكرونيين بهدف تشكيل الحكومة المقبلة؟ من الممكن تماما أن يحدث ذلك، ولكن من الواضح أنهم مترددون، في هذه المرحلة، في اتخاذ هذا القرار.
وهناك أسباب وجيهة لذلك التردد. فمن ناحية، ومن وجهة نظر الحسابات البرلمانية البسيطة، سيتعين استبدال نواب فرنسا الأبية، البالغ عددهم 72، بعدد مماثل من النواب من اليمين، وهكذا سيصبح الحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي الفرنسي أقلية داخل الائتلاف الحكومي. وسوف يتم تقليصهم إلى وضع “الضامنين اليساريين” لحكومة ماكرون، وهو احتمال لا يروق لهؤلاء الانتهازيين على الأرجح.
ولكن من ناحية أخرى، يمكننا أن نفترض أنهم فكروا في الأمر بجدية لبضع دقائق، وبعد هذا الجهد الاستثنائي، صادفوا الحقيقة الواضحة التالية: إن التحالف بين الحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي الفرنسي مع الماكرونيين، دون مشاركة حزب فرنسا الأبية، من شأنه أن يؤدي إلى تعزيز حركة جان لوك ميلنشون، والتي ستظهر حينها باعتبارها المعارضة اليسارية الوحيدة.
وهذا ما يخشاه قادة الحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي الفرنسي ويريدون تجنبه، خاصة وأن الانتخابات التشريعية الجديدة ستكون على جدول الأعمال قريبا، ناهيك عن إمكانية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
حدود الإصلاحيين اليساريين
كيف سيتطور كل هذا على مدى الأسابيع والأشهر المقبلة؟ من الصعب التكهن ولن ندخل هنا في التخمينات. لا يمكن استبعاد أي شيء، بما في ذلك استسلام قادة حزب فرنسا الأبية. تعني الأزمة السياسية الحالية أن كل أنواع الائتلافات ممكنة. لكن الأزمة تعني أيضا أن كل من تلك الائتلافات ستكون أكثر هشاشة من الأخرى، وقد تتعاقب في ما بينها بوتيرة غير مسبوقة.
في 19 يوليوز، خلال مقابلة أجراها مع قناة BFM TV، صاغ ميلنشون موقفه بوضوح تام: يجب على حزب الجبهة الشعبية الجديدة تشكيل الحكومة، وتأكيد نيته تنفيذ “البرنامج بأكمله”، ومن ثم دفع اليمين واليمين المتطرف للتصويت على مقترح الرقابة. وبعد ذلك، تابع ميلنشون، سيتم توجيه اللوم إلى أي ائتلاف حكومي آخر، حتى يضطر ماكرون نفسه، عاجلا أم آجلا، إلى الاستقالة.
يظهر هذا الموقف وضوحا أكبر من مواقف القادة المترددين للحزب الاشتراكي والخضر والحزب الشيوعي الفرنسي. وبصرف النظر عن تشكيل (أو عدم تشكيل) حكومة حزب الجبهة الشعبية الجديدة، فمن الصحيح أن الأزمة الحالية قد تؤدي إلى استقالة ماكرون.
ومع ذلك، فإن ما يميز موقف ميلنشون، قبل كل شيء، هو سلبيته التامة، بحيث لا يتجاوز حدود الجمعية الوطنية. فطوال تلك المقابلة، التي استمرت 30 دقيقة، لم يدع ميلنشون في أي وقت المنظمات العمالية إلى الاستعداد للنضالات خارج البرلمان. هذا هو العيب الرئيسي في موقفه، وموقف قادة حزب فرنسا الأبية بشكل عام.
دعونا نتذكر أنه في حين خرجت الجبهة الشعبية الجديدة منتصرة في السابع من يوليوز، فإن اليمين واليمين المتطرف -من الماكرونيين إلى حزب التجمع الوطني- هم الذين يهيمنون عدديا على الجمعية الوطنية. ومن غير المستغرب أن تعلن هذه الأحزاب البرجوازية أنها لا تنوي السماح للجبهة الشعبية الجديدة بالحكم لتنفيذ برنامجها. وقد أثبتوا ذلك أيضا بإعادة انتخاب الماكرونية، يائيل براون بيفيت، رئيسة للجمعية.
لا مزيد من المناورات: نحن بحاجة إلى الفعل!
لا يمكن للعمال والشباب أن يتوقعوا أي خير من الجمعية الوطنية الجديدة؛ عليهم ألا يثقوا إلا في قوتهم الخاصة. وحدها التحركات الاجتماعية الكبيرة والمظاهرات والإضرابات الجماهيرية هي التي ستفتح آفاق انتزاع تحسينات جدية في ظروف معيشتنا وعملنا ودراستنا. لم يعد محور النضال في الساحة البرلمانية، بل أصبح في الشوارع وأماكن العمل والأحياء العمالية.
لعل زعماء حزب فرنسا الأبية سينتهي بهم الأمر، عاجلا أم آجلا، إلى الاعتراف بهذا الوضع. لكنهم في الوقت الحالي يكتفون بالمناورات البرلمانية. وكما أوضحنا مؤخرا، فإننا “نلمس هنا الحدود الكلاسيكية ـالتي لاحظناها ألف مرةـ لزعماء الإصلاحية اليسارية. و لأنهم إصلاحيون بالتحديد، وليسوا ثوريين، فإنهم عاجزون عضويا عن القطيعة مع الإصلاحيين اليمينيين، الذين هم بدورهم ليست لديهم أية نية في القطيعة مع البرجوازية”.
فإذا ما دعا زعماء حزب فرنسا الأبية العمال والشباب إلى الاستعداد لنضالات اجتماعية كبرى، بدلا من لعبة القط والفأر مع الإصلاحيين اليمينيين، مثل أوليفييه فور من الحزب الاشتراكي وأمثاله، فإن ذلك من شأنه أن يعجل بحدوث انقسام في الجبهة الشعبية الجديدة لصالح اليسار. لكن زعماء حزب فرنسا الأبية يريدون تجنب مثل هذا الانقسام. والنتيجة هي ارتباك تام “بين اليسار”، والذي سوف يكون المستفيد الرئيسي منه، مرة أخرى، هو حزب التجمع الوطني.
وفي هذا السياق، لا ينبغي للعمال والشباب أن ينتظروا بطريقة سلبية لمعرفة بأي نكهة سيتم تقديمهم بها لأرباب العمل. يجب على المناضلين النقابيين، على وجه الخصوص، أن يمارسوا الضغط على قياداتهم لتطوير خطة معركة هجومية مسلحة ببرنامج جذري.
أما بالنسبة لمناضلي حزب فرنسا الأبية، فيجب عليهم أن يطالبوا قادتهم بوقف مناوراتهم البرلمانية والتوجه إلى الحركة العمالية لبناء جبهة نضال حقيقية. وأخيرا، ندعو كل أولئك الذين يفهمون الحاجة إلى وضع حد للنظام الرأسمالي نفسه إلى الانضمام إلينا وبناء حزب شيوعي حقيقي معنا.
جيروم ميتيلوس
23 يوليو/تموز 2024
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: