تجلس الطبقة السائدة الأمريكية فوق بركان مجتمعي ذي أبعاد هائلة. ونظرا للأزمة العضوية لنظامهم، فإنه لم يعد بإمكان الرأسماليين الحفاظ على أي مظهر من مظاهر التوازن الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي. وبعد ما يقرب من عامين من الاضطراب الاقتصادي غير المسبوق، صار عدد كبير من الأمريكيين يعتقدون أن الاقتصاد هو القضية الأكثر إلحاحا التي تواجه البلاد.
ارتفع معدل التضخم خلال الاثني عشر شهرا الماضية بنسبة 6.2٪، وتبخرت أموال التحفيز، وصار ملايين الأمريكيين مضطرين مرة أخرى إلى استخدام بطاقات ائتمانهم لتغطية نفقاتهم. لقد بلغت ديون الأسر رقما قياسيا عند 15.24 تريليون دولار، بزيادة 1.9٪ خلال ثلاثة أشهر فقط. لا عجب إذن أن 15٪ من الأمريكيين فقط هم من يوافقون بشدة على ما يقوم به بايدن، وذلك مقابل 34٪ في أبريل.
بعد قضائه لشهور فقط في الإدارة، بدأ يتردد بالفعل حديث عن “رئيس ضعيف” و”رئاسة فاشلة”. وبعيدا عن شعارات “التحول” و”أهون الشرين” فإن جو بايدن قد قدم مرة أخرى نفس الشيء. هذه هي الكارثة التي تطبع السياسة في الولايات المتحدة. قالت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا فإن الولايات المتحدة “في حالة فوضى وطنية قوضت شعبية السيد بايدن وأثارت رد فعل عنيف ضد الديمقراطيين مما قد يكلفهم سيطرتهم على الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي التي ستجري العام المقبل”. ووفقا لأحد سكان فلوريدا، البالغ من العمر 65 عاما، والذي تم استجوابه في المقال فإن: “نظامنا السياسي فاشل بشكل كامل تقريبا. ولا أرى أنه يتحسن على الإطلاق”.
لقد نفد الصبر الشعبي بعد عقود من لعبة التناوب السياسي بين حزبين. إن الطبقة العاملة الأمريكية براغماتية قبل كل شيء، وعندما يتعلق الأمر بشعبية الرئيس، فإن الدليل على وجود الحلوى هو دائما أكلها. إما أن تقوم بتوفير الحلول أو لا تقوم بذلك. وبايدن لم يوفر أي حلول رغم وعوده الكثيرة بإنهاء الجائحة والعودة إلى الحياة الطبيعية والازدهار.
لكن وعلى الرغم من هذيان قناة فوكس نيوز، فإن الخطأ لا يقع على عاتق بايدن كفرد. إن أزمة إدارته هي في النهاية إحدى أعراض أزمة النظام المريض المفلس الذي يمثله هو وحزبه، أي: الرأسمالية. والمفارقة هي أنه في خضم أزمة الطاقة الإنتاجية الزائدة -التي هي إفراط في إنتاجية وسائل الإنتاج- توجد في الوقت نفسه أزمة نقص الإنتاج في العديد من الصناعات، بسبب أوجه القصور العامة للنظام القائم على الربح والذي لا يمكنه التنسيق المنطقي بين جميع الأجزاء المتحركة.
كان باراك أوباما قد حصل، على الرغم من إخفاقاته وخياناته، على شهر عسل مطول وأعيد انتخابه لولاية ثانية. كان ذلك لأسباب مختلفة، بما في ذلك حقيقة انعدام أي بديل أفضل. لكن اليوم يوجد شبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة خارج مسرح بايدن. قد يكون ترامب زبالة بشرية وملياردير رجعيا وعدوا للنساء وعنصريا، لكن يُنظر إليه على أنه مجازف وجريء وعدواني يزدري كلا الحزبين.
وهذه الصفات تبتعد بسنوات ضوئية عن الموقف الانهزامي لقادة الحركة العمالية وما يسمى بـ”اليسار”. إذ أنه يلهم الثقة القتالية لقسم كبير من العمال البيض، النقابيين منهم وغير النقابيين. في منطقة حزام الصدأ والمناطق الريفية، يشعر ملايين الديمقراطيين السابقين بالغضب الشديد وبتخلي الليبراليين الرأسماليين عنهم. وباستعمال شعارات مثل “نحن الشعب غاضبون”، نجح اليمين المتطرف في استغلال ذلك الغضب وفي الوقت نفسه طمس الخط الفاصل بين الطبقة العاملة وبين البرجوازية الصغيرة المسعورة.
أما بالنسبة إلى “الاشتراكيين”، الليبراليين الإصلاحيين، في الكونغرس، فهم أيضا يطمسون الخط الطبقي ولا يثقون في الطبقة العاملة أو بإمكانية حدوث تغيير جوهري في فترة حياتنا. ونتيجة للأعذار الجبانة التي يقدمونها لبايدن والديمقراطيين والحدود المتأصلة في الرأسمالية، لا يعملون سوى على تشويه سمعة كلمة “اشتراكية”. تحول الوعي الطبقي ليس مسألة بسيطة وآلية، بل هي سيرورة متناقضة وديناميكية. فإذا فشل من يسمون بـ”الاشتراكيين” في تقديم مخرج من الأزمة، سوف يتأرجح البندول حتما، وإن مؤقتا، في الاتجاه الآخر. إن الطبيعة تمقت الفراغ، والفراغ السياسي الموجود في الوقت الحالي يملأه اليمين المتطرف.
ومع ذلك فإن وضع “الترامبية مقابل الليبرالية” هو موقف خاطئ يجب رفضه لصالح التحليل الطبقي. كلا الحزبين الرئيسيين يمثلان مصالح الرأسماليين وليس مصالح العمال. فالليبراليون، المرتبطون بطبيعتهم بالرأسمالية، لا يستطيعون تلبية احتياجات العمال. ولهذا السبب نفسه فإن الديماغوجية اليمينية الشعبوية لترامب لا يمكنها بدورها حل مشاكلهم على المدى الطويل. إن الطريقة الوحيدة لكسر قبضة ترامب على أذهان الملايين من الأمريكيين اليائسين والمرتبكين هي طرح برنامج جريء وحزب مكافح يتعامل مع مطالب الأغلبية على أساس طبقي مستقل.
لكن ومع عدم وجود بديل عمالي قابل للتطبيق وجاهز لملء الفراغ، قد تكون هناك حاجة إلى المرور مجددا من فصل دراسي آخر في “مدرسة دونالد ترامب”، بعد “مدرسة الديمقراطيين” الحالية، لكي تتضح الحاجة إلى الاستقلال الطبقي أمام عيون الملايين. وإذا عاد ترامب، أو أي مخلوق مشابه له، إلى البيت الأبيض، فيمكننا أن نتوقع فترة من الاحتجاجات القوية والحركات الجماهيرية والانفجارات الاجتماعية، مما سيوفر العديد من الفرص لبناء قوى الماركسية الثورية.
لقد بدأ الشباب على وجه الخصوص في التخلي بأعداد كبيرة عن الأحزاب الرئيسية. ففي ولاية فرجينيا فقط 10٪ من الناخبين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما من كلفوا أنفسهم عناء التصويت في انتخابات حاكم الولاية الأخيرة، مع حدوث انهيار مماثل في كاليفورنيا أيضا. 24٪ فقط من الناخبين، ممن هم دون سن الثلاثين، يعتبرون بايدن “أمينا وجديرا بالثقة”. وعلى الرغم من أنه من المستحيل التنبؤ بالمسار الذي ستتخذه السيرورة فإن القضايا الطبقية ستصعد، عاجلا أم آجلا، إلى الواجهة، وسيتم التخلي بشكل جماهيري عن كلا الحزبين، وسيظهر حزب عمالي جماهيري جديد.
بعد منعهم من إحداث تغيير ذي مغزى على الجبهة السياسية، انتقل مئات الآلاف من العمال الأمريكيين إلى الاضرابات أو وافقوا على الإضراب في أكبر موجة من الإضرابات الصناعية منذ سنوات. من شركة جون دير إلى كيلوغز ونابيسكو وكايزر بيرمننت وهوليوود؛ ومن الممرضين إلى عمال مناجم الفحم والنجارين والمدرسين وعمال الصلب والنقل وعمال الصرف الصحي؛ ومن نيويورك إلى كاليفورنيا إلى ألاباما وأوريغون ومينيسوتا وإلينوي وكونيتيكت ووست فيرجينيا ونورث كارولينا، وما أبعد… وكل هذا ليس سوى الجزء الظاهر من جبل جليد النضال، حيث تجبر الأزمة البنيوية للرأسمالية العمال على الاتحاد معا للدفاع عن حياتهم وسبل العيش.
إن روح الكفاح والتضحية التي تتمتع بها الطبقة العاملة الأمريكية هي مصدر إلهام، لكن كيف يمكن للعمال ألا يكتفوا بالنضال فقط، بل أن ينتصروا أيضا؟ إن بناء جسور التضامن بين أوسع فئات الطبقة العاملة عنصر أساسي للتغلب على هجوم أرباب العمل، لكن الشرط الأول للإضراب الناجح هو الاعتراف بأن مصالح أرباب العمل ومصالح العمال متعارضة بشكل تناحري. وكل شيء آخر ينبع من هذه الحقيقة الأساسية. وحدها أساليب النضال الطبقي الكفاحية التي توقف الإنتاج بشكل فعال هي التي يمكنها أن تحقق انتصارات جدية للعمال. متاريس الاعلام واحترام أوامر المحكمة، التي تسمح للإنتاج بالاستمرار من خلال استخدام الإدارة وكاسري الاضرابات، لا تحقق النجاح للإضرابات.
تشكل القيادة العمالية الحالية، لسوء الحظ، عائقا موضوعيا أمام تنظيم هجوم عمالي واسع ومنتصر. إن جذوة الروح الكفاحية الثورية للرواد الأوائل للحركة العمالية الأمريكية لم تشتعل أبدا في قلوب هؤلاء المدافعين المحترفين عن التعاون الطبقي اليوم. فإلى جانب تشاؤمهم الكلبي وايمانهم الغبي بالقوانين، هم مشبعون برهبة شبه خرافية تجاه قوة الرأسماليين، التي يُزعم أنه لا يمكن التغلب عليها، وقوانينهم وسياسييهم.
يلعب الخمول والسلطة الملازمة للقيادة دورا أيضا. ومع ذلك فربما يكون العنصر الأكثر حسما في هذه الشبكة المعقدة للسيطرة على العمال هو خضوع النقابات للحزب الديمقراطي. إذ من خلال تقييد العمال بأحد حزبي الطبقة السائدة، يتم التحكم في بقاء غضب العمال ضمن حدود آمنة للرأسمالية. لعقود من الزمان تآمر أرباب العمل والقادة العماليون لحرمان الطبقة العاملة من تعبير سياسي مستقل خاص بها. لكن الخبرة معلم قاس وفعال. لقد قطع ملايين العمال بالفعل مع هذه اللعبة الخبيثة. لكن وبسبب عدم وجود بديل قابل للتطبيق، فقد وقع الكثيرون في فخ الترامبية المسموم، إلا أنهم سيتعلمون في النهاية أن هذا طريق مسدود أيضا.
هل يعني الدور الذي تلعبه القيادة العمالية واليسارية الحالية أننا لسنا بحاجة إلى نقابات أو قادة أو أحزاب سياسية؟ كلا على الاطلاق. إن ما نحتاجه هو نقابات للنضال الطبقي، وقادة للنضال الطبقي، وحزب سياسي جماهيري للنضال الطبقي. نحن بحاجة إلى نقابات ملتزمة بشل الإنتاج إذا اضطررنا إلى الإضراب، وقادة يجمعون بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي، وحزب مكافح يعمل على أساس الاستقلال الطبقي المطلق والديمقراطية الداخلية النابضة بالحياة.
نحن نقف على عتبة بداية نهضة عمالية مع إمكانية قلب معايير الصراع الطبقي التي اضطررنا لتحملها خلال العقود القليلة الماضية. ومع ذلك فإنه لا يمكن للطبقة العاملة أن تخترق المأزق المجتمعي الحالي إلا من خلال القطع مع جريمة “التحالفات” العابرة للطبقات في أماكن العمل وفي الحياة السياسية. إن النصر يتطلب أفكارا واضحة وتنظيما ومثابرة. إن التيار الماركسي الأممي يقوم ببناء النواة الأولى للقيادة الثورية المستقبلية وإدخال هذه الأفكار إلى النقابات والحركات الجماهيرية في جميع أنحاء البلاد. ونحن ندعوكم إلى الانضمام إلينا في هذه المهمة.
17 نوفمبر/تشرين الثاني 2021
ترجم عن النص الأصلي: