من الشائع في وسائل الإعلام الرأسمالية أن يتم تقديم الصراع الدائر في لبنان كصراع طائفي، لدينا في جانب المسيحيون الطيبون الحداثيون والمعتدلون، قوى الديموقراطية وحلفائهم السنيون العقلانيون، وفي الجانب الآخر لدينا المسلمون المتطرفون الذين يدعمون قائد حزب الله، نصر الله، الشرير الذي ليس سوى امتداد لإيران.
لكن هذا الموقف يخفي العديد من الأكاذيب وأنصاف الحقائق. أولا كون الصراع هو مجرد صراع بين الطوائف الدينية. تعترف الحكومة في الواقع بـ 17مجموعة دينية في البلد. وفي الوقت الذي من السهل تحديد معتقداتها المختلفة، فإنه من الأكثر صعوبة تحديد الحجم النسبي لمختلف المجموعات، لأنه ولأسباب سياسية لم يتم تنظيم أي إحصاء منذ 1932. ومن ثم فإن الحجم التقديري لأهم المجموعات إنما يتأسس على قاعدة معلومات جمعت سنوات الثمانينيات.
يشكل المسلمون حوالي 59,7% من الساكنة. يعتبر المسلمون السنيون الأصوليون القرآن، إضافة إلى تراث محمد، الأساس الوحيد للإيمان الإسلامي. ومنذ الانتداب الفرنسي أعطيت لهم سلطة أكبر من حجمهم الحقيقي. سنة 1986، قدر عدد المسلمين السنيين في لبنان بـ 595.000 (27% من الساكنة)، تعيش أغلبيتهم في المراكز الحضرية، وتنتمي الشريحة العليا من هذه المجموعة إلى الطبقة السائدة- كبار ملاكي الأراضي، وأصحاب الأبناك والتجار الأغنياء.
يحتل المسلمون الشيعة في لبنان الفئة الأدنى في المجتمع اللبناني ويتمركزون أساسا في ضواحي بيروت الفقيرة وجنوب لبنان. هم أساسا عمال وفلاحون. قدر عدد الشيعة في لبنان، سنة 1987، بـ 919.000 (41%).
الدروز طائفة إسلامية هرب أتباعها من مصر إلى لبنان، في القرن العاشر الميلادي، يقودهم معلم يدعى درازي. يمكن وصفهم كفئة عسكرية. كان الدروز سنة 1987، حوالي 7% من الساكنة (153.000)، أغلبهم مستقرون في المناطق القروية.
تشكل الطوائف المسيحية حوالي 39% من الساكنة. أهم طائفة هي المارونيين الذين ترتبط كنيستهم بالكنيسة الكاثوليكية الرومانية. المارونيون قرويون، بعضهم ملاكي أراضي، متفرقون في كل البلد. لقد احتل المارونيون تاريخيا مكانة الشريحة العليا في المجتمع اللبناني برعاية فرنسية ولديهم قوة سياسية أكبر من أي مجموعة أخرى. سنة 1986 قدر عددهم بـ 356.000، حوالي 16% من الساكنة.
وهناك أيضا الكاثوليك اليونانيين (72.000)، والكاثوليك الرومانيين الذين يشكلون أقل من 1% من الساكنة اللبنانية. ويشكل المسيحيون الأرثوذكس اليونانيون 5% من الساكنة.
هناك أيضا اليعاقبة، الذين يوصفون بكونهم أتباع الكنيسة الأرثوذكسية السورية. لم يكن هناك سنة 1987 سوى بضعة آلاف منهم في لبنان. هناك أيضا المسيحيون الأرثوذكس الأمريكيون، الذين فروا من تركيا خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. سنة 1987، استقروا أولا في بيروت والضواحي الشمالية.
هناك أيضا النستوريون أو الكنيسة الأسيرية، ما تبقى من حركة تعود إلى القرن الخامس، يعتقدون أن المسيح كان في الواقع شخصين مختلفين، أحدهما إنسان والآخر إلهي، عكس الفكرة التي تقول أن لديه طبيعتين مختلفتين متحدتين في شخص واحد.
ظهر البروتستانت في لبنان خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين نتيجة لنشاط البعثات، الإنجليزية والأمريكية بالدرجة الأولى. أغلبيتهم ينتمون إلى موظفي الطبقة الوسطى. يشكلون أقل من 1% من الساكنة ويعيشون أساسا في بيروت. هناك أيضا الكنيسة الأنجليكانية، التي ظهرت في القرن العشرين، نتيجة لنشاط البعثات، الأمريكية أساسا، تمثلهم مجموعات من قبيل المعمدانيين والمجالس الإلهية. عادة، ينتمي الأنجليكانيون إلى الطبقات الوسطى والفقيرة. يشكلون أقل من 1% من الساكنة ويعيشون أساسا في بيروت.
هكذا، يمكننا أن نرى التنوع الإثني والمزيج الديني الموجود في لبنان. كما استخدمت الظروف الاجتماعية الاقتصادية لخلق الانشقاقات بين المجموعات اللبنانية المختلفة. لكن الصراع، في الجوهر، هو صراع الغني ضد الفقير. يميل المسيحيون المتعلمون والنخبة السنية المسلمة إلى الهيمنة على الطبقة العليا والوسطى. يعتبر ثلث الساكنة فقراء، أغلبهم من المسلمين الشيعة. بعض حلفاء حزب الله المسيحيين، من قبيل الجنرال عون، ينتمون إلى بيروقراطية الدولة، لكنهم يخشون تقسيم لبنان من طرف الفالانج
في الواقع لقد تم خلق لبنان بطريقة تجعله يمتلك هذا التوازن العرقي الهش. لقد بني على أساس القاعدة القديمة والمجربة “فرق تسد”. وجد الإمبرياليون أنفسهم مجبرين على التخلي عن السيطرة الاستعمارية المباشرة على المنطقة وفي حالة لبنان عملوا على ضمان أنه من خلال هذا التوازن العرقي سيبقى من الممكن دائما السيطرة على البلد من الخارج. تعبر الطبقات الاجتماعية عن مطالبها من خلال التعابير الطائفية الدينية. ومن ثم فإنه لا يمكن اعتبار الانقسام في لبنان، كمجرد مسألة معتقدات، إنها في جذورها قضية طبقية.
الكذبة الثانية هي أن بيير جميل، الذي اغتيل الشهر الماضي، كان زعيما لحزب يدعم الديموقراطية. إن الفالانج (حزب الكتائب)، حزب يميني تأسس في البداية كحركة شبابية، سنة 1936، من طرف جميل الجد، بيير جميل. بنى بيير جميل الجد الحزب على نموذج الحركات الفاشستية الأوروبية، بعد زيارته للألعاب الأولمبية في برلين، حيث أعجب بتنظيم الحزب النازي. الاسم الرسمي لحزب الكتائب هو “الحزب الاشتراكي الديموقراطي” وهو مدعوم أساسا من طرف المسيحيين المارونيين. إنه حزب معروف بتاريخه الدموي وبأنه كان حليفا لإسرائيل لمدة طويلة. يدعم هدف تحويل لبنان إلى “دولة مسيحية”. وإلى حدود الآن لا زال أعضاء الحزب يحيون بعضهم البعض بالتحية الفاشستية. سنوات السبعينات، نظم الفالانج جناحا مسلحا، الذي كان يقوده، سنة 1976، بشير جميل، أب بيير جميل، الذي أثار الحرب الأهلية والمدعوم من طرف إسرائيل.
ثالث الأكاذيب التي تنشرها وسائل الإعلام الرأسمالية هي أن المسؤول عن اغتيال جميل هو حزب الله، سوريا وإيران. إنها مصرة على ذلك، بالرغم من واقع أن اغتياله يخدم بوضوح التحالف الموالي لأمريكا. تحتاج إدارة بوش والحكومة الإسرائيلية إلى النفوذ السياسي. هذا لأن سوريا وإيران يعرضون المساعدة في العراق، والقوى الموالية للحكومة تمتلك شعبية أقل كثيرا من تلك التي يتمتع بها حزب الله. آخر شيء قد يحتاجه حزب الله، الذي يمكنه إسقاط الحكومة عبر التعبئة والمظاهرات الجماهيرية، هو اندلاع حرب أهلية قد تمكن إسرائيل والغرب من التدخل إلى جانب الحكومة، تحت مبرر الدفاع عن الحكومة المنتخبة ديموقراطيا.
يوم الجمعة، 24 نوفمبر، دعا زعماء الطبقة الرأسمالية إلى إغلاق جميع الأعمال لمدة يومين، دعما لحكومة السنيورة. إلا أنه، وكما صرحت الجريدة اللبنانية، الدايلي ستار، خلال اليوم الموالي: « واصلت أغلب الأعمال في العاصمة اللبنانية نشاطها العادي يوم الجمعة، متجاهلة دعوة مشتركة للمجموعات الاقتصادية الرئيسية إلى إضراب من يومين في كل القطاعات التجارية (ليساندرا أوهرستروم، الدايلي ستار، السبت 25 نوفمبر 2006).
ليس هذا فقط، بل إن عدد الأشخاص الذين شاركوا في المظاهرة التي دعا إليها الائتلاف الموالي للإمبريالية، كان، حسب تقديرات وسائل الإعلام البورجوازية نفسها، 200.000. إذا ما قارنا هذا بالمظاهرات الحاشدة الموالية لسوريا التي تجاوزت 1,5 مليون شخص سنة 2005، يتبين لنا بوضوح أن موازين القوى في الواقع مختلة ضد الحكومة الموالية للإمبريالية.
المظاهرات التي قرر حزب الله تنظيمها لإجبار الحكومة على الاستقالة، ألغيت بعد اغتيال جميل. لكن حزب الله يخطط للمضي قدما في التعبئة. وقد صرح، محمد رعد، زعيم كتلة حزب الله في البرلمان “الوفاء للمقاومة”، للصحافة قائلا أن « اغتيال جميل شكل صدمة لجميع اللبنانيين وقد أجبر الحزب على تأجيل احتجاجاته. لقد أبطأت التطورات الأخيرة من تحركاتنا الجماهيرية لإسقاط الحكومة، لكننا لن ننهيها أبدا». وعندها أضاف: « إذا لم تتحقق شراكة سياسية حقيقية فإننا سنتشبث باحتجاجاتنا السلمية والديموقراطية من أجل إسقاط الحكومة.»
نقلت صحيفة السفير عن مصادر مقربة من زعيم التيار الوطني الحر، ميشيل عون، حليف حزب الله، أنه قال: « يمكن أن تبدأ الاحتجاجات أوائل الأسبوع المقبل». قال عون خلال مؤتمر صحفي عقد بعد لقاء للتيار الوطني الحر لنقاش حادث اغتيال جميل، أنه سيواصل مع حلفائه في التعبئة لإجبار حكومة السنيورة على الاستقالة.
كانت هناك مظاهرات من مئات الشيعة في الضواحي الجنوبية لبيروت. كانوا يحتجون على شتائم وجهت لزعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، خلال جنازة جميل.
إلا أن نصر الله نفسه دعا المحتجين إلى التفرق. إن الظروف مواتية لحزب الله وحلفائه لتزعم حركة الجماهير وإسقاط الحكومة. لكن السؤال الذي يطرح هو: هل سيقومون بذلك؟ أو أنهم سيمكنون “تحالف 13 آذار” (مارس) من الهدنة التي ستعطيه إمكانية إعادة تجميع قواته؟
وفيما يتعلق بالادعاء بأن إيران تبحث عن مواجهة مع الغرب، صرح الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، أن إيران مستعدة لتقديم يد المساعدة للولايات المتحدة وبريطانيا في العراق، لكن شريطة تعهدهما بتغيير موقفهما وسحب قواتهما. كان هذا التصريح ردا على الدعوات المتزايدة الموجهة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا بالتوجه نحو سوريا وإيران للمساعدة على تهدئة الأوضاع في العراق.
من جهتها صرحت الحكومة الأمريكية أن الولايات المتحدة مستعدة “من حيث المبدأ” لنقاش الأوضاع في العراق مع إيران، لكن ليس من الواضح إن كانت مثل هذه النقاشات ستحدث.
ومن بين الأكاذيب الشائعة الأخرى هي أن إسرائيل لا تعمل سوى على حماية نفسها من الإرهاب. في الواقع، كان للحركة الصهيونية، منذ بداياتها الأولى، مخططات لتقسيم لبنان وخلق دولة مسيحية دمية في يدها.
أكد هرتزل، أب الحركة الصهيونية، في دولة اليهود، أن الصهاينة سيدعمون الإمبرياليين إذا ما أعطت القوى العظمى فلسطين لحركته وضمنت وجودها. « سنشكل حينذاك جزءا من حصن أوروبا ضد آسيا، جبهة متقدمة للحضارة ضد الهمجية. سيتوجب علينا كدولة محايدة أن نبقى على علاقة مع كل أوروبا، التي سيكون عليها ضمان وجودنا». (ثيدور هرتزل، دولة اليهود: محاولة في حل حديث للمسألة اليهودية، ص. 30)
الحدود المقترحة للدولة الصهيونية قدمت رسميا، من طرف المنظمة الصهيونية، إلى مؤتمر باريس للسلام سنة 1922، حيث اجتمع الإمبرياليون المنتصرون لتقسيم الغنيمة. وقد تضمنت الخريطة، إضافة إلى كل فلسطين التي تحت الانتداب، جنوب لبنان حتى نهر الليطاني ومرتفعات الجولان، ومنطقة شرق نهر الأردن الذي يجري من الشمال إلى الجنوب بشكل مواز لطريق الحجاز.
اثنان من المصادر الهامة للمخططات الصهيونية بخصوص لبنان هي مذكرات موشي شاريت، الذي كان رئيس وزراء إسرائيل في 1954- 1955 والذي كان يعتبر “صهيونيا معتدلا”، وكتاب ليفيا روكاش إرهاب إسرائيل المقدس: دراسة مبنية على أساس المذكرات الشخصية لموشي شاريت، وغيرها من الوثائق. في هذا المؤلف الأخير وجدنا بعض المعلومات الهامة، ومن المفيد الاستشهاد بشكل مطول من مذكرات شاريت:
« بعدها انتقل [بن غوريون] إلى مسألة أخرى. قال أن هذا هو الوقت لدفع لبنان، أي المارونيين داخل البلد، للمطالبة بإنشاء دولة مسيحية. قلت أن هذا غير معقول. لأن المارونيين منقسمون. أنصار النزعة الانفصالية المسيحية قواهم هزيلة ولن يجرؤا على فعل أي شيء. لبنان مسيحي سيعني تخليهم عن صور، طرابلس والبقاع. ليس هناك من قوة يمكنها أن تعيد لبنان إلى حجمه السابق للحرب العالمية الأولى، وذلك أساسا لأنه آنذاك سوف يفقد علة وجوده الاقتصادية. كان رد فعل بن غوريون عنيفا. بدأ يسرد المبررات التاريخية لبناء لبنان خاص بالمسيحيين. إذا ما تحقق مثل هذا التطور، فإن القوى المسيحية لن تجرأ على معارضته. قلت أنه لا يوجد من هو قادر على خلق مثل هذا الوضع، وأنه إذا ما عملنا على دفع وتشجيع ذلك بطريقتنا فإننا سندخل أنفسنا في مغامرة ستلحق بنا العار. عندها اندلعت عاصفة من الشتائم ضد انعدام الشجاعة لدي وضيق أفقي. كان من المفترض فينا أن نرسل مبعوثين وأموال. قلت أنه لا يوجد هناك مال. كان الجواب هو أنه ليس هناك شيء من هذا القبيل. يجب الحصول على المال، إذا لم يكن من الخزينة العامة فمن عند الوكالة اليهودية! لتحقيق مثل هذا المشروع من الممكن صرف مائة، ألف، نصف مليون أو مليون دولار. وعندما سيتحقق هذا سيحدث تغيير حاسم في الشرق الأوسط، وستنفتح مرحلة جديدة. كنت قد تعبت من الصراع ضد العاصفة. (27 فبراير 1954)».
في اليوم الموالي بعث بن غوريون إلى شاريت الرسالة التالية:
« إلى رئيس الوزراء موشي شاريت،
سديه بوكر، 27 فبراير، 1954
« بعد انسحابي من الحكومة قررت مع نفسي التخلي عن التدخل والتعبير عن موقفي حول الشؤون السياسية لكي لا أصعب عمل الحكومة بأي شكل من الأشكال. لو أنكم لم تستدعوني ثلاثتكم، أنت ولافون وديان، فلم أكن لأعبر عن موقفي بخصوص ما يتم عمله أو ما يجب عمله. لكن بما أنكم استدعيتموني، اعتبرت أنه من واجبي الاستجابة لرغبتكم، وخاصة رغبتك أنت باعتبارك رئيس الوزراء. ومن ثم أسمح لنفسي بالعودة إلى قضية لم توافق عليها أنت، وأناقشها مرة أخرى، وهي قضية لبنان.
من الواضح أن لبنان هو أضعف نقطة في الرابطة العربية. الأقليات في الدول العربية الأخرى جميعها مسلمة، ماعدا الأقباط. لكن مصر هي الدولة العربية الأكثر تراصا وصلابة والأغلبية هناك تشكل كتلة صلبة واحدة، عرقا واحدا، دينا واحدا ولغة واحدة، والأقلية المسيحية لا تؤثر بشكل جدي على وحدتهم السياسية والقومية. ليس مثل المسيحيين في لبنان. إنهم يشكلون أغلبية في لبنان التاريخي ولهذه الأغلبية تقاليد وثقافة تختلف عن تقاليد وثقافة باقي مكونات الرابطة. حتى في الحدود الأوسع (كان هذا هو أسوء خطأ ارتكبته فرنسا عندما وسعت حدود لبنان)، ليس المسلمون أحرارا في القيام بما يحلو لهم، حتى وإن كانوا أغلبية هناك (ولست أدري إن كانوا حقا أغلبية) بسبب الخوف من المسيحيين. ومن ثم فإن خلق دولة مسيحية هو عمل طبيعي, لديه جذور تاريخية وسيجد الدعم بين أوسع الدوائر في العالم المسيحي، لا سواء منه الكاثوليكي أو البروتستانتي…
د. ب. غ (27 فبراير 1954)»
ورد عليه شاريت، بعد بضعة أسابيع، بما يلي:
« السيد دافيد بن غوريون، 18 مارس، 1954، سديه بوكر
« حسب علمي، لا توجد في لبنان اليوم أية حركة تسعى لتحويل البلد إلى دولة مسيحية تحت حكم الطائفة المارونية…
هذا ليس غريبا. إن تحويل لبنان إلى دولة مسيحية نتيجة لمبادرة خارجية مسألة غير ممكنة التحقيق اليوم…أنا لا أستبعد إمكانية تحقيق هذا الهدف في أعقاب موجة من الصدمات التي ستجتاح الشرق الأوسط… ستدمر التجمعات الحالية وتشكل أخرى جديدة. لكن في لبنان الحالي، بأبعاده الترابية والديموغرافية الحالية وعلاقاته الدولية، ليس من المتوقع حدوث أي نوع من تلك المبادرات.
« المسيحيون لا يشكلون الأغلبية في لبنان. ولا هم كتلة موحدة، لا من الناحية السياسية ولا الطائفية. تميل الأقلية الأرثوذكسية في لبنان إلى التماهي مع نظيرتها في سوريا. لن تكون مستعدة للذهاب إلى الحرب من أجل لبنان مسيحي، سيكون أصغر من لبنان الحالي، ومنفصل عن الرابطة العربية. على العكس من ذلك، من المحتمل ألا يعارضوا أن يصبح لبنان موحدا مع سوريا، بما أن هذا سيساهم في تقوية طائفتهم والطائفة الأرثوذكسية في كل المنطقة… في الواقع، يوجد مسيحيون أرثوذكس في سوريا أكثر مما يوجد في لبنان، والأرثوذكس في سوريا ولبنان هم أكثر عددا من المارونيين…
«… هناك أيضا مبررات اقتصادية حاسمة ضدها. نحن لا نناقش المسألة سنة 1920/21… بل بعد ذلك بثلاثين سنة. فلقد اندمج جبل لبنان، خلال تلك الفترة في وحدة بنيوية واحدة، مع الجانب الساحلي لصور وصيدا ووادي بعلبك ومدينة طرابلس. لقد صاروا متداخلين من الناحية التجارية والاقتصادية ولا يمكن الفصل بينهم. لم يكن جبل لبنان وحدة مكتفية بنفسها حتى قبل الحرب العالمية الأولى… إلحاق المناطق الثلاثة إضافة إلى مدينة بيروت بالدولة اللبنانية جعل من الممكن خلق اقتصاد متوازن. إن العودة إلى الماضي سوف لن تعني عملية جراحية فقط، بل ستعني أيضا تقسيما للبنان سيؤدي إلى القضاء عليه…
« بعد قول كل هذا، [يجب أن أضيف] أنا لم أكن لأعارض، بل على العكس كنت، بالتأكيد، سأؤيد فكرة الدعم النشيط لأي تحريض بين الطائفة المارونية يهدف إلى تقوية التيارات الانفصالية بينها، حتى ولو لم تكن هناك أية حظوظ حقيقية في بلوغ الأهداف، كنت سأعتبر من الإيجابي مجرد وجود مثل ذلك التحريض والاضطراب الذي يمكنه أن يسببه، والمشاكل التي كان سيخلقها للرابطة، وما سيؤدي إليه من لفت الانتباه عن التعقيدات العربية- الإسرائيلية. لكن ما الذي في مقدوري فعله عندما يكون مثل هذا التحريض منعدما؟… في ظل الظروف الحالية، أخشى أن يتم اعتبار أية محاولة من جانبنا غباء وسطحية أو أسوء من ذلك مغامرة بحياة الآخرين ووجودهم واستعدادية للتضحية بممتلكاتهم الأساسية من أجل مكاسب تكتيكية مؤقتة لإسرائيل.
« إضافة إلى ذلك، إذا لم يبقى هذا المخطط سرا وصار معروفا فذلك خطر ولا يمكن التقليل من شأن الضرر الذي يمكن أن نتعرض له، في ظل الأوضاع الشرق أوسطية… لن يتم تعويض ذلك حتى ولو بنجاح محتمل للعملية نفسها…
م. ش (18 مارس 1954)»
آنذاك لم يتمكن بن غوريون من إقناع شاريت. فالظروف لم تكن ناضجة للقيام بمحاولة من ذلك القبيل. لكن الفكرة لم تستبعد أبدا وبقيت في أذهان القادة الصهاينة كمنظور. وقد جاء الوقت لتطبيقها عمليا سنة 1978 خلال الحرب الأهلية حيث شنت “عملية الليطاني”.
لقد تم خلق إسرائيل مقابل ثمن فادح. فالفلسطينيون طردوا من أراضيهم، ورمي بهم في مخيمات اللاجئين في المنطقة. وهكذا جاءت إسرائيل إلى الوجود كدولة حرب دائمة تقريبا ضد جيرانها العرب. اعتبرت إسرائيل قاعدة متقدمة للإمبريالية الغربية، “حليفا مأمونا” يمكنه حراسة هذه المنطقة الغنية بالبترول. ولقد لعبت طيلة عقود هذا الدور بنجاح كبير. وكجزء من هذه المهمة كانت محاولة الحصول على نظام “صديق”، واحد على الأقل، في حدودها الشمالية بلبنان. لكن تحقيق ذلك كان صعبا. إذ وبسبب تشكيلته العرقية المعقدة لا يمكن للبنان أن يكون بلدا مستقرا تحت سيطرة نخبة مسيحية. إذ سيندلع الصراع الطبقي مرات ومرات على شكل صراع عرقي بسبب غياب قيادة عمالية اشتراكية واضحة، يمكنها أن تمر عبر الانقسامات العرقية.
تواصل إسرائيل اليوم التدخل في الشؤون الداخلية للبنان. لقد كان هدف القصف الذي قامت به خلال هذا الصيف هو بوضوح تفجير حرب أهلية، إعادة إشعال نار المواجهات العرقية داخل البلد. بعد طرد سوريا، التي كانت في الواقع عامل استقرار، من البلد ظهر حزب الله بصورة أقوى مما قبل. وبما أنهم يستندون إلى الشرائح الأكثر فقرا في المجتمع اللبناني، ليس لدى قادة حزب الله لتبرير وجودهم سوى تقديم أنفسهم كتهديد دائم لإسرائيل وعبر توجيه طاقاتهم ضد هؤلاء الذين ينظر إليهم داخل لبنان كمؤيدين للإمبريالية الأمريكية ومن ثم إسرائيل. لقد حاولت إسرائيل خلال هذا الصيف دفع المسيحيين إلى محاربة حزب الله، وهكذا كانت ستؤدي بشكل غير مباشر إلى إشعال حرب طبقية أيضا.
لكن لسوء حظ الطبقة السائدة الصهيونية، خرجت إسرائيل منهزمة من الحرب. لا يمكنها من الآن فصاعدا أن تلعب دور الشرطي الموثوق في قدراته من وجهة نظر الإمبرياليين. إنها في الواقع عامل اضطراب، لكنها لا تملك سوى أوراق لعب قليلة مقارنة مع الماضي. تعارض إسرائيل بوضوح تدخل إيران وسوريا في إيجاد حل للمأزق الذي خلقته الإمبريالية الأمريكية والبريطانية في العراق. إن تدخل سوريا في العراق سوف يؤدي أيضا إلى تقوية موقفها في لبنان، حيث لديها تاريخيا نفوذ على حزب الله. سوف يؤدي هذا إلى تقويض عمل السنوات الماضية، الذي كان يهدف إلى إبعاد النفوذ السوري عن لبنان.
نرى هنا تناقض المصالح بين حاجيات الطبقة السائدة الصهيونية في إسرائيل وحاجيات الإمبريالية عموما. هذا الاختلاف موجود أيضا داخل الطبقة السائدة الأمريكية نفسها. الطغمة المحيطة ببوش ضغطت من أجل اجتياح العراق، لكنه صار يتضح أكثر فأكثر، مع كل يوم يمر، أن ذلك كان كارثة فادحة للإمبريالية الأمريكية.
هكذا يتبين لنا التأثير المباشر للصراعات الدولية على الشؤون السياسية الداخلية لبلد صغير مثل لبنان. وطالما بقيت الرأسمالية قائمة سوف تبقى هناك مصالح اقتصادية قوية يجب الدفاع عنها في المنطقة. إن الذين يدفعون الثمن الباهظ هم في النهاية الجماهير العاملة اللبنانية، من كل المجموعات العرقية، والفلسطينيون الذين يواصلون الانسحاق تحت ثقل ظروف اجتماعية واقتصادية رهيبة، والجماهير العربية عموما.
الجانب الآخر من المسألة هو، طبعا، الوضع الذي يواجهه الشعب العامل في إسرائيل. إنهم يعانون أيضا. ففي الوقت الذي يتم تجريدهم من جميع حقوقهم، يطلب منهم مواصلة خوض حروب لا يمكنهم كسبها، والعيش في ما صار تدريجيا سجنا كبيرا محاطا بقوى معادية. ليست هذه هي جنة اليهود الآمنة التي حلم بها العديدون.
ليس هناك من حل لكل هذا ما دامت إسرائيل محكومة من طرف البورجوازيين الصهاينة الرجعيين وما دامت البلدان العربية محكومة من طرف نخب محلية رجعية أيضا، كل همهم ملئ جيوبهم على حساب شعوبهم.
إن مشاكل بلد صغير من قبيل لبنان لا يمكن حلها، في آخر المطاف، إلا على صعيد الصراع الطبقي الأممي، صراع لا يمكنه أن ينتهي إلا بإسقاط جميع تلك الأنظمة المتعفنة.
يوسي شوارتز
الأربعاء: 06 دجنبر 2006
عنوان النص بالإنجليزية: