يوم الاثنين 14 شتنبر 2015، كتب الرفيق روب سيويل، محرر جريدة النداء الاشتراكي (لسان حال الفرع البريطاني للتيار الماركسي الأممي)،هذا المقال الهام الذي يناقش فيه الأزمة الحالية للرأسمالية،وتزايد عدم المساواة في العالم اليوم،ويشرح إمكانية تغيير حياتنا على أساس التكنولوجيا الحديثة، ويوضح لماذا يجب عليك الانضمام إلى الكفاح من أجل التحويل الاشتراكي الثوري للمجتمع.
لماذا عليك أن تكون مناضلا اشتراكيا
لدينا القدرات العقلية التي تمكننا من الوصول إلى أبعد أنحاء نظامنا الشمسي وحتى اختراع السيارات ذاتية القيادة، ومع ذلك نحن عاجزون عن حل مشاكلنا اليومية.عجائب العلم الحديث مدهشة حقا، لكننا عاجزون عن توفير ما يكفي من المنازل لإنقاذ المشردين من العيش في الشارع، أو توفير فرص عمل لائق لشبابنا.
وهذه ليست مشاكل يواجهها بلد متخلف محروم من الموارد، إذ يعاني الناس من هذه الأزمة أيضا في غلاسكو ونيوكاسيل ولندن، وكذلك في ساو باولو والقاهرة.
أما من ناحية أخرى، فإن أمثال الملياردير (والرئيس الأمريكي المنتظر) دونالد ترامب، وأصدقائها لأثرياء في لندن وأماكن أخرى، يمتلكون القصور والشقق الجميلة والمجموعات الفنية القيمة واليخوت الفاخرة التي تبلغ كلفتها ملايين الدولارات، وأساطيل السيارات الفارهة والقدرة على السفر إلى جميع أنحاء العالم في الطائرات الخاصة. لديهم السائقون الخاصون والخدم رهن إشارتهم ومن يلبي طلباتهم في جميع الأوقات من النهار والليل.
لقد أصبح تركيز ذلك الكم الهائل من الثروة والسلطة في أيدي قليلة جدا مسألة تثير الدوار حقا. 85 فقط من هؤلاء المليارديرات يمتلكون فيما بينهم ثروة أكبر من تلك التي يمتلكها غالبية الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب.[1]
وفي حين يتناول الأغنياء أغلى الأطعمة وأفخر أنواع النبيذ في المطاعم الفخمة المخصصة لهم حصريا، هناك عدد متزايد من الآباء والأمهات من الطبقة العاملة المضطرين للتخلي عن حصصهم من الطعام لأطفالهم لكي لا يذهبوا إلى المدرسة جياعا. يضطر أغلبية العمال الآن إلى العمل لساعات طويلة وغير إنسانية (هذا إذا كانوا محظوظين بما فيه الكفاية للحصول على عمل) وذلك فقط لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وبينما يستمتع الأثرياء بالكماليات، نجد الكساح والسل قد عادا مرة أخرى إلى مدننا الغارقة في الفقر. مرحبا بكم في مجتمع القرن الواحد والعشرين!
دون سبب أو مبرر
في مجتمع الازدهار والكساد هذا الذي نعيش فيه، يتم إغلاق المصانع بشكل دوري أو “إيقافها”، ويتم إلقاء العمال إلى البطالة إذا لم تعد مهاراتهم مطلوبة. يقف العمال العاطلون أمام أبواب المصانع المعطلة. ويجبر الكثير منهم على العمل لوقت أقل مع خفض الأجور. كما لو أن البلد تعرض لنوع من الكوارث الطبيعية. الناس محتاجون، لكنهم لا يستطيعون شراء الأشياء التي يحتاجونها. أين هي العقلانية في كل هذا؟
يقول مبررو النظام الرأسمالي إنه ليس هناك بديل عن هذا “التدمير الدوري الخلاق”. فهذه هي الطريقة التي يعمل بها السوق، كما لو أن إغلاق المصانع وإلقاء الناس إلى الشوارع عاطلين عن العمل يشبه عملية قص بعض الأوراق الميتة من الشجرة. ويضيفون إن هذه هي الطبيعة البشرية. ويقولون لقد كان الوضع دائما هكذا (وهذا كذب)، وبالتالي سوف يبقى هكذا إلى الأبد.
لكن هل من الطبيعة البشرية أن نرى الناس يعيشون في شقق بئيسة أو مرميين في الشارع يكافحون من أجل البقاء، في حين أن هناك منازل تترك فارغة فقط من أجل المضاربات؟ هل الطبيعة البشرية هي أن نرى الناس يعانون من الجوع، في حين تدفع الأموال للمزارعين لكي يتوقفوا عن زراعة الأراضي وتركها خاملة؟ هل الطبيعة البشرية هي أن نرى الناس يموتون فقط لأنهم لا يستطيعون تحمل تكلفة شراء الأدوية؟ هل يجب علينا ببساطة قبول قدرنا في الحياة، كما يقال لنا مرارا وتكرارا؟
لماذا لا يمكننا التخطيط لحياتنا وتنظيمها حتى يستفيد الجميع من الثروة التي يتم خلقها، عوض احتكارها من طرف الأقلية؟ هناك ما يكفي من الناس المؤهلين وبجميع المهارات اللازمة لمعالجة المشكلة. يمكنهم حتى إرسال الصواريخ إلى كوكب بلوتو وأبعد، والقيام بالعديد من الأشياء العجيبة. ومن الواضح أن هناك ما يكفي من الطاقات البشرية، بمن في ذلك هؤلاء الموجودين حاليا في البطالة. إن بناء مساكن كافية للناس لكي يعيشوا ينبغي أن يكون مسألة بسيطة. لقد كنا نفعل ذلك منذ زمن بعيد.
لكن انتظر لحظة! إن ملاكي العقارات وشركات البناء الخاصة هم رجال أعمال، لذا فإنهم إذا لم يكونوا سيحققون أرباحا كبيرة ضخمة، فإنهم لن يبنوا منازل لأولئك الذين يحتاجون إليها. إن كل ما يهمهم هو كسب المال. فبدون ربح، لا منازل. في الواقع كل ما قل عدد المنازل، كلما زاد عدد المسجلين على قوائم الانتظار، كلما ارتفعت الأسعار، كلما زادت الأرباح التي يحققونها. في هذا العالم المقلوب رأسا على عقب، كلما تزايد الشقاء والمعاناة، كلما تضخمت الأرباح المحققة من وراء ذلك.
وبطبيعة الحال فإنهم لا يطرحون الأمر بهذه الطريقة، بل بدلا من ذلك يحاولون إخفاء ما يجري.
كازينو الرأسمالية
إن الرأسماليين، الذين يملكون كل شيء تقريبا، يهتمون بشيء واحد هو: كسب المال. إنهم في الواقع لا يعملون كثيرا، هذا إذا كانوا يعملون أصلا. معظم المستثمرين الأثرياء يستخدمون المدراء والمحاسبين لاستثمار أموالهم والاعتناء بها. لكن حتى لو كان هؤلاء الرأسماليون يعملون بجد، فإنهم لا ينتجون أي شيء ذا قيمة اجتماعية. إنهم يكسبون ثرواتهم من عمل الآخرين، يأكلون ويلبسون ويسكنون ولا يقدمون شيئا في المقابل.
ينتج العمال أكثر بكثير مما يتلقونه على شكل أجور، وهذا هو ما ينتج الربح. لا يحصل العمال سوى على ما يكفي بالكاد للإبقاء عليهم أحياء حتى ميعاد الأجرة التالية. هذا الاستغلال ليس شفافا مثلما كان عليه الحال، على سبيل المثال، في العصور الوسطى، عندما كان الأقنان مجبرين على العمل مجانا في أرض السيد، لكنه نفس الشيء في الجوهر. يراكم الرأسماليون المال بطرق متعددة، لكن كل ذلك يتأتى من حصولهم على عمل أكثر بمقابل أقل.
في القرون السابقة كان الرأسماليون في الواقع ينتجون الأشياء، أما اليوم فإنهم يريدون كسب المال دون عناء الإنتاج. وإذا نظرتم إلى قائمة الأثرياء التي تنشرها صحيفة Sunday Times ، سترون أن معظم الأغنياء يحصلون على أموالهم من الميراث والتأمين والخدمات المصرفية والخدمات المالية، وما شابه ذلك. القليل منهم من ينتج شيئا. إنهم يشترون ويبيعون العملات أو السندات، بل إنهم يتاجرون حتى في السندات غير المرغوب فيها (غير مرغوب فيها ليس بمعنى أنهم التقطوها من شاحنة النفايات أو ساحة الخردة، فهي سندات مالية تصدرها مؤسسات تعتبر ذات مخاطر عالية جدا، لأنها تشمل الديون المراوغة).
سوق الأسهم يشبه إلى حد كبير كازينو القمار. وللأسف مصير ملايين البشر معلق على رمي النرد من طرف أصحاب الملايير.
أصحاب الملايير لا يمكن أبدا أن يتعرضوا حقا للخسارة. والسر هو “المعاملات” وليس “الإنتاج”، وذلك ما يجعلهم يحققون أرباح ضخمة. يقومون بعمليات الاستيلاء أو الاستحواذ أو الشراء، سمها ما شئت، ذلك هو شغلهم. لا يهمهم ما هي الأشياء التي يشترونها أو يبيعونها، سواء كانت أسلحة للدمار الشامل أو أي شيء آخر. هم مستعدون لبيع أمهاتهم إذا كان ذلك سيحقق لهم الربح. وكما قال أحد المستثمرين الماليين: كل شيء يحدده “الجشع الذي يغلب على حياتنا التجارية”.
الرأسماليون: خالقو ثروة أم طفيليات؟
خذ على سبيل المثال الملياردير وارين بوفيه. لديه ثروة نقدية مقدارها 67 مليار دولار للاستثمار في عمليات “الاستحواذ”، أو شراء الشركات. وقد وصف ذلك بأنه مثل “قنص الفيلة”، وهي هواية قليل منا من يعرف شيئا عنها. لقد تمكن السيد بوفيه من تحويل شركة صغيرة للنسيج إلى أكبر تكتل في الولايات المتحدة، حيث بلغت قيمتها السوقية اليوم 354 مليار دولار أمريكي. لقد استغرق ذلك بالتأكيد الكثير من عمليات الشراء! وتدير الشركة عمليات تشمل شركات التأمين والإقراض والسكك الحديدية والصناعة التحويلية والطاقة، ولديها استثمارات في العديد من الشركات الكبيرة الأخرى. وقد مول الاندماج بين شركتي كرافت وهاينز وعملية استيلاء شركة برغر كينغ على شركة القهوة الكندية تيم هورتون. وكانت آخر عملية شراء له هي فان تويل، وهي شبكة لبيع السيارات في الولايات المتحدة والتي استحوذ عليها مقابل 4,1 مليار دولار.
قال السيد بوفيه في رسالته السنوية للمساهمين هذا العام: «مع اقتناء فان تويل، نملك الآن تسع شركات ونصف (شركة هاينز هي النصف) التي سيتم إدراجها في قائمة فورتشن 500، وهذا ما يترك 490 سمكة ونصف في البحر».
كيف يمكن للسيد بوفيه أن يحقق كل هذا المال بالصيد بمفرده لكثير من الشركات و”المصالح”؟ الرأسماليون القدامى، الذين لم يكونوا فقط يمتلكون شركاتهم، بل وكانوا يديرونها بأنفسهم، قد اختفوا تقريبا. أما اليوم فأشخاص مثل بوفيه يوظفون مديرين للعمل بدلا عنهم.
لكن الناس مثل السيد بوفيه يشتغلون بجد، أليس كذلك؟ فمع كل عمليات الاستيلاء هذه لا بد أنهم يعودون إلى المنزل منهكين نهاية اليوم. لكن السؤال هو: هل هذا العمل ضروري لمهمة إنتاج الثروة الحقيقية؟
وقد أجاب جون ستراتشي، وهو شيوعي وعضو عمالي في البرلمان خلال فترة ما بين الحربين، على هذا السؤال قبل أكثر من نصف قرن، حين قال: دعونا نتصور بلدا حيث تقوم على جميع الطرق محطات أداء (على الرغم من أن العناية بالطرق كانت تتم على حساب الشعب، كما هو الحال الآن). دعونا نفترض أن أصحاب تلك المحطات يسكنون فيها، وأنه عندما تمر المركبات على الطريق، يخرجون ويفتحون بواباتهم ويغلقونها، بينما يجمعون مبالغ كبيرة في الصفقة. من المؤكد أن الاقتصاديين في مثل هذا البلد سيقولون إن أصحاب هذه المحطات يستحقون كل قرش يحصلون عليه. وكانوا ليشيروا إلى حقيقة أنهم يعملون بجد، إذ يخرجون في جميع حالات الطقس لفتح وإغلاق بواباتهم، والسماح للسيارات بالمرور من خلالها.
سيقول الاقتصاديون إن كل ذلك النشاط، وحجم الرسوم التي يحققونها، إنما يثبت أن أصحاب الأعمال هؤلاء يعملون بجد في نشاط لا غنى عنه مطلقا. وعلى هذا النحو فإن البلد ليس بوسعه أن يستمر بدونهم إذا توقفنا عن دفع تلك الرسوم الكبيرة جدا إلى هؤلاء المواطنين المستحقين لها. وإذا ما سأل أحدهم عما إذا كانت حركة المرور ستستمر بشكل جيد، أو بشكل أفضل، لو لم تكن هناك أي رسوم على الإطلاق، فسيتم إخباره بعبارات لا لبس فيها بأنه عليه ألا يطرح مثل هذه الأسئلة الوقحة.
أن يعمل الشخص بجهد ويحقق ثروة لا يعني أن العمل الذي يقوم به نافع. هذا لا ينطبق فقط على عالم أصحاب محطات الأداء، بل ينطبق أيضا اليوم على مديري صناديق التحوط والمضاربين بالعملة وأصحاب البنوك، وغيرهم من أسماك القرش الاستثماريين؛ أي الرأسماليين الكبار بشكل عام.
كلهم يتشابهون، لديهم فقط طرق مختلفة لكسب المال. وقد وصف أحد المديرين التنفيذيين الأغنياء عصرنا بأنه «حقبة نكافئ خلالها أنفسنا بأموال الآخرين». إنهم يعيشون حياة ترف، يمتلكون جيشا من الخدم الذين يلبون لهم كل حاجاتهم مثل عبيد الماضي. عمل مئات الآلاف من العمال المهرة من كل القارات يستغل لتلبية احتياجات تلك الطفيليات.
فائض الإنتاج
لكن هناك مشكلة: فهم لا يمكنهم أن يستهلكوا شخصيا الكومة المتزايدة من الثروة، رغم كل ما يبتلعونه من كافيار وشمبانيا، فحتى هذا له حدوده. إذ لا يمكنهم أن يعيشوا في وقت واحد إلا في قصر واحد أو قيادة ليموزين واحدة. لذلك فإنهم يستثمرون معظم أموالهم لكسب المزيد من المال. ومن خلال استغلالهم لعمل الآخرين راكموا ثروات تتجاوز أحلام أي كان. يحتلون جميع المناصب العليا في الأعمال التجارية والدولة والسياسة. إنهم أعلى واحد في المائة في المجتمع، إنهم أعضاء الطبقة السائدة.
الغالبية العظمى من الأغنياء صاروا أغنياء، ليس بفضل العمل، بل بفضل ثروة الميراث. أما قصة تحول الفقراء إلى أغنياء فهي مجرد أسطورة.
يقال لنا: “اعمل بجد وفي يوم ما ستصير غنيا أنت أيضا”. قد يتمكن عدد قليل من الأفراد من الزحف خارج صفوف الطبقة العاملة وبعيدا عن الفقر. لكن وبالنظر إلى الطريقة التي تعمل بها الرأسمالية، فإنه يمكن للعمال أن يشتغلوا بكل الجد الذي في مقدورهم لكنهم سيظلون دائما عمالا. العمل الشاق لن يحسن وضعهم، بل فقط سيجعل أرباب العمل أكثر ثراء. واليوم، تتناقص باستمرار حصة الدخل الوطني التي تذهب إلى العمال، في حين ترتفع بسرعة الحصة التي تذهب إلى رأس المال.
عام 2013 حقق المدير التنفيذي الأمريكي المتوسط دخلا يساوي 295,9 مرة ضعف ما حققه العامل الأمريكي المتوسط، مقارنة بـ 20 مرة في عام 1965. وفي بريطانيا ارتفع متوسط دخل رب العمل إلى ما يقرب من 5 ملايين جنيه إسترليني – أكثر 183 مرة من دخل العامل، مقابل 160 مرة في عام 2010. وحصل العشرة الأوائل من بين أعلى المديرين التنفيذيين على أكثر من 156 مليون جنيه إسترليني. هذه هي النتيجة الحتمية للرأسمالية.
تعمل قوانين هذا النظام على أساس فوضى السوق وعبرها، كما أوضح ماركس منذ وقت بعيد. هذه القوانين تعمل وراء ظهر المجتمع، حيث يفكر كل واحد لنفسه، لكن لا أحد يفكر للجميع. ونتيجة لذلك فإن الأزمة متأصلة في النظام الرأسمالي. التناقض الرئيسي هو أن الطبقة العاملة لا تستطيع شراء كل الثروة التي تنتجها. وفائض الإنتاج أزمة متأصلة في النظام. لقد تمكنت الرأسمالية من التغلب على هذه المشكلة مؤقتا وبشكل متقطع وعشوائي من خلال الاستثمار، لكن هذا الحل بدوره وصل الآن إلى حدوده. فالمزيد والمزيد من القدرة الإنتاجية يعني المزيد من السلع المنتجة لسوق تتقلص. ومن هنا جاءت الأزمة الحالية.
الأتمتة والبطالة
لقد أصبحت البطالة الجماهيرية هي القاعدة. أكثر من 10٪ من البطالة تعتبر مشكلة، أما 5٪ فتعتبر “عمالة كاملة”! يرمى ملايين البشر، لا سيما الشباب، إلى الهامش وتهدر مواهبهم. وتضيع سنوات من قدرات ملايين الأشخاص على الإنتاج كل عام بسبب البطالة. إن النظام عالق في مأزق مغلق… والأمور تزداد سوءا. قدر تقرير أعدته مدرسة أوكسفورد مارتن، عام 2013، أن نصف الوظائف في الولايات المتحدة معرضة لخطر التلاشي في غضون عقد أو عقدين. تخيلوا ذلك: نصف الوظائف! ستضيع!
ويرتبط ذلك بإدخال الأتمتة على الإنتاج وانتشار الروبوتات. يا لها من إدانة لهذا النظام! إن التقدم الهائل للروبوتات يمكنه أن يفتح آفاقا واسعة للتحرر من الشقاء، لكنها في ظل الرأسمالية تخدم الغاية النقيض. تحل الآلات محل العمل، مما يجعل الناس “زائدين عن الحاجة”، في حين أن أولئك الذين ما يزالون في العمل يضطرون إلى الكدح بتوتر أكبر. لم تعد تعمل لتعيش، بل أنت تعيش لتعمل. الجميع غارقون في حلقة مفرغة تدور أسرع فأسرع. والبعض يعملون بالفعل حتى الموت[2]. في الماضي كان بإمكان شخص واحد أن يكسب ما يكفي لتوفير الحاجيات للأسرة بأكملها. أما الآن فيجب عمل اثنين أو أكثر، وكل منهم يشتغل عدة وظائف بدوام جزئي. وفي حين أن العمل يصير أصعب فأصعب، تصبح طبقة أصحاب الملايير أكثر فأكثر ثراء.
يقولون: “يجب علينا رفع إنتاجيتنا”، وهو ما يعني، بعبارة أخرى،نحن علينا تحقيق إنتاج أكبر بعدد أقل من العمال! وبطبيعة الحال هذا مربح جدا لأرباب العمل. عدد أقل من العمال ينتجون كمية أكبر من السلع، لكن من الذي سيشتري هذه السلع عندما يصير العمال عاطلين؟ الروبوتات والآلات الجديدة لا يمكنها شراء أو استهلاك الأشياء. فينتهي بنا المطاف مرة أخرى في أزمة فائض الإنتاج – إنه اقتصاد مستشفى المجانين.
ومن المفارقات أنه لدينا اليوم من وسائل توفير الوقت أكثر مما كان لدينا في أي وقت مضى، ومع ذلك فإنه ينتهي بنا المطاف بوقت فراغ أقل من أي وقت مضى. لو تم استخدام الأتمتة والروبوتات بشكل صحيح، لصار من الممكن التخلص من معظم العمل اليدوي وإلغاء عبء ساعات العمل الطويلة لنا جميعا. وبدلا من العمل لفترة أطول، كما هو الحال الآن، تخيلوا العمل ثلاث ساعات فقط في اليوم لمدة خمسة أيام في الأسبوع، مع الزيادة في الأجور! ولما لا نعمل 10 ساعات أو 5 أو حتى ساعة واحدة في الأسبوع؟
لا يوجد شيء يمنعنا، فالموارد متوفرة. لكن للقيام بذلك، سنحتاج إلى التأميم، ليس تأميم الورشات والمتاجر الصغيرة (التي سنساعدها على التخلص من قبضة كبار ملاكي الأراضي والبنوك)، بل تأميم تلك 150 من كبريات الشركات الاحتكارية التي تسيطر بشكل كلي على الاقتصاد، إضافة إلى البنوك والشركات المالية. لن نعوض تلك القطط السمان لأنها استنزفتنا لفترة طويلة جدا. وسنقوم بعد ذلك بوضع خطة ديمقراطية للإنتاج تستند إلى احتياجات الشعوب، وتسخير جميع الموارد لإنجاز هذه المهمة. إن الإنتاج لتلبية الحاجيات، وليس الجشع، سيؤدي إلى زيادة الإنتاج بنسبة 20٪ أو 25٪ كل عام! ويمكن استخدام تلك المليارات من الثروة الإضافية للشروع في برنامج لبناء المنازل وخفض الإيجارات إلى ما لا يزيد عن 2٪ من الدخل (بدلا من 50٪ اليوم)، وتطبيق أجر كريم للجميع، وتوفير الغاز والكهرباء مجانا، والنقل العمومي المجاني وهو ما من شأنه أن يقلل التلوث ويحسن صحتنا (ومن شأنه أن يقلص بشكل كبير من الضغط على الخدمات الصحية). سنقوم ببناء المزيد من المدارس والمستشفيات وجعل التعليم مجانيا للجميع، مع توفير المنح لأولئك الذين يرغبون في مواصلة دراستهم في الجامعة.
من أجل اقتصاد ديمقراطي وعقلاني التخطيط
بإمكان الاقتصاد الاشتراكي المخطط ليس فقط خفض يوم العمل، بل سيخفض أيضا من سن التقاعد. وقد أعطى الاقتصاد الروسي بعد عام 1917، على الرغم من البيروقراطية الستالينية الهمجية، لمحة عن الإمكانيات الهائلة التي يتضمنها الاقتصاد المخطط. فعلى سبيل المثال، خلال السنوات العشر من 1958 إلى 1968، تم بناء 100 مليون منزل في روسيا، وهو ما يعتبر أكثر من كل ما بني في أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة مجتمعين. تخيلوا ما الذي يمكن تحقيقه في ظل ديمقراطية عمالية حقيقية ومستوى أعلى من الثقافة والتقنية.
“آه، هذه فكرة مجنونة” يقول الرأسماليون. هذا صحيح، ففي ظل الرأسمالية نحن عاجزون عن القيام بهذه الأشياء الرائعة، فهي تتناقض مع فكرة الإنتاج من أجل الربح. لماذا إذن لا نتخلص من دافع الربح؟ يمكن لاستخدام الأتمتة ووقت الفراغ الذي توفره أن يعطي الناس الفرصة لتطوير أنفسهم على أكمل وجه. ولأول مرة سيتحرر الناس ليصيروا قادرين على المشاركة في إدارة الصناعة والمجتمع. وستزدهر الديمقراطية العمالية الحقيقية، المتحررة من المصرفيين والرأسماليين.
يقولون: “لكن العمال لا يستطيعون إدارة المجتمع”. فنسألهم نحن: لماذا لا؟ فالعمال هم الذين يقومون بكل العمل الحقيقي. يمكن للعمال أن يقولوا لكم ما هي بالضبط أفضل طريقة لتشغيل المصنع. ويمكنهم أن يديروه أفضل بكثير من أرباب العمل الحاليين. إنهم لا يقدمون أبدا مثل هذه الاقتراحات لرؤسائهم لأنهم سيتعرضون للطرد! “الكفاءة” اليوم تعني أفضل السبل لكسب المزيد من المال للرأسماليين، مع قيام عدد أقل من العمال بمزيد من العمل. أما في ظل مجتمع مخطط بشكل عقلاني، فإن الكفاءة ستعني فوائد ضخمة للجميع. وبطبيعة الحال إننا نرحب بمساعدة الفنيين ومحللي الكمبيوتر والمهندسين. ويمكن للعلماء أن يساعدوا في بناء عالم أفضل مع اختراعات جديدة يمكن أن توفر العمل وتقلص أسبوع العمل أكثر فأكثر.
وإذا تم التخطيط للإنتاج، فلن تكون هناك بطالة. وسيضمن لكل شخص عمل لائق بأجر مناسب. ومع زيادة الإنتاج تزداد الأجور.
في ظل الاقتصاد الاشتراكي المخطط سيتم التخلص من التبذير الهائل الذي يحدث تحت الرأسمالية. اليوم، على سبيل المثال، نجد نفقات الأسلحة، التي أصبحت عبئا رهيبا على كاهل المجتمع؛ هناك الآن 15.700 رأس نووي حربي على هذا الكوكب، وهو ما يكفي لتدمير الأرض عدة مرات. وتعتزم الحكومات إنفاق تريليون دولار على أسلحة الدمار الشامل في العقد المقبل. يا له من تبذير إجرامي! سيكون من الأفضل بكثير تحويل المصانع المنتجة للقنابل إلى إنتاج أشياء مفيدة اجتماعيا، وبالتالي رفع مستوى معيشتنا.
سنستخدم مواردنا ليس لخوض الحروب والصراعات، بل لنزيد من رفاه المجتمع. إن موهبة العلماء لن تضيع على بناء قنابل أكبر أو أسلحة دمار أكثر تطورا، بل ستستخدم استخداما مثمرا لخدمة الجميع.
من كل حسب قدرته؛ لكل حسب حاجته
يقول ستيف هيلتون، أحد أبرز المحللين السياسيين في حزب المحافظين: «تستحوذ على ديمقراطياتنا بشكل متزايد طبقة حاكمة تسعى إلى تأبيد امتيازاتها. وبغض النظر عمن هو الحزب الموجود في المنصب، فإن نفس الناس في السلطة. إنها ديمقراطية بالاسم فقط، تعمل بالنيابة عن نخبة صغيرة بغض النظر عن النتيجة الانتخابية». ها هي الحقيقة مباشرة من فم الحصان. الرأسمالية هي نظام للأغنياء، بالأغنياء وللأغنياء. وبدلا من ديكتاتورية أصحاب الأبناك والرأسماليين هذه، سيكون لدينا الحكم الديمقراطي للشعب العامل: مجتمع يديره العمال لصالح أنفسهم.
إن التخطيط الاشتراكي لمواردنا هو الطريق إلى الأمام. وحتى الرأسماليون الذين يبشرون بفضائل السوق لا يطبقون قوانين السوق في مصانعهم وشركاتهم. فهناك يتم التخطيط لكل شيء وصولا إلى أصغر التفاصيل، وذلك باستخدام أحدث التقنيات. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تنظيم الإنتاج في المصنع. لا يوجد مكان لنظام السوق هناك! كل ما نقوله هو أنه ينبغي أن يدار الاقتصاد برمته على أساس مخطط من هذا القبيل، بدلا من تركه لتقلبات قوى السوق العمياء. وبطبيعة الحال لا نعني بالتخطيط إملاءات المديرين غير المنتخبين، بل نعني المشاركة الديمقراطية للجميع.
ينبغي مصادرة وتأميم القطاعات الاقتصادية الرئيسية للمجتمع، أي المصارف والصناعات العملاقة، دون تعويض، وتسييرها تحت الرقابة الديمقراطية للعمال وإدارتهم. السلطة ستكون أخيرا في أيدي الناس العاديين. وهذا سيتيح لنا التخطيط الديمقراطي للاقتصاد، وأن نعيش أخيرا حياتنا على أكمل وجه. فالثقافة والفنون، التي بقيت حتى الآن حكرا على أقلية محظوظة، ستصير متاحة آنذاك لجميع الناس.
وفي نهاية المطاف، ومع توسع الإنتاجية، واستئصال آخر بقايا الرأسمالية، سوف يقوم المجتمع على مبدأ “من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته”. أو بعبارة أخرى مجتمع خال من الطبقات قائم على التضامن والانسجام وإرضاء احتياجات الجميع. ستنتهي مآسي الرأسمالية في النهاية في مزبلة التاريخ، ويمكننا أخيرا أن نتقدم إلى مستقبل جديد من السلام والازدهار للجميع.
لا تقف على الهامش، وانضم إلينا في هذه المعركة!
هوامش:
1: وقد أصدرت منظمة أوكسفام مؤخرا، 16 يناير 2017، تقريرا أوضحت فيه أن ثمانية (8) أشخاص من أغنى الأغنياء في العالم، يمتلكون معا ثروة تعادل ما يمتلكه 3,6 مليار إنسان على هذا الكوكب (اضغط هنا). المترجم.
2: بينما نحن بصدد ترجمة هذا المقال أصدر الموقع الالكتروني لصحيفة The guardian تقريرا عن صحفية شابة في اليابان توفيت بسبب العمل المفرط، وقالت الصحيفة في نفس التقرير إن سنة 2016 شهدت انتحار 2000 عامل ياباني بسبب الضغوط الناجمة عن العمل المفرط، بينما توفي عشرات آخرون بسكتات قلبية وسكتات دماغية وغيرها من الظروف التي يتسبب فيها قضاء وقت طويل في العمل. [يمكن قول نفس الشيء على أغلبية بلدان العالم: كوريا والصين ناهيك عن بلدان “العالم الثالث”] المترجم.